fbpx
دراسات

فقه الجهاد تجديد واجتهاد (7): حكم جهاد الغزو (القسم الأول)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

كثيرون هم أولئك الذين قالوا في زماننا هذا بأنّ الجهاد في الإسلام مقصورٌ على الدفع فقط، وأنّه لا وجود لما يسمى بجهاد الطلب والابتداء، وإنَّ كثيرا منهم لَذَوُو فضل وشرف وقدم في العلم راسخة، وكثيرة ووفيرة ولها وجاهة لا يستهان بها تلك الأدلة التي يسوقونها على صحة ما ذهبوا إليه، وتلك الإشكالات التي أثاروها في وجه الذين خالفوهم، ومع ذلك لا يسعد تَوَجُّهُهُمْ هذا بأدنى درجات الصحة والمشروعية، والحمد لله أنّنا من أمّة تفرق بعدل وإنصاف – في دائرة أهل الحق – بين القول وقائله، فلا يلزم من فساد القول وبطلانه ووجوب إطراحه في أقرب (مزبلة) التقليل من قيمة قائله أو الحطّ من شأنه.

ولقد قال بهذا القول رجال نحبهم ونواليهم ونشهد لهم بالعلم والأمانة على العلم والفتوى، من أمثال الإمام العلامة محمد أبو زهرة، وفضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاف، وغيرهما من الأكابر الفضلاء، ثم جاء من بعدهم أقوام قلدوهم وتوسعوا في تصريف أقوالهم وتحريف مقاصدهم، حتى صار الانحراف عن خط العلماء السابقين أصلا لا استثناء، وحتى أصاب أصحابَ الرأيِ الآخر الصحيح رهبةٌ وغربة ووحشة؛ فما عادوا يرفعون أصواتهم أو يجهرون بقولهم إلا على استحياء شديد.

وقد اتكأ أصحاب هذا الاتجاه على جملة من الآيات والأحاديث فسروها بغير ما فسرها به الأوائل، وفهموها على غير الوجه الذي فهمه السابقون، فقالوا: إن آيات القتال في القرآن الكريم جاءت في كثير من السور المكية والمدنية مُبَيِّنَةً السببَ الذي من أجله أُذِنَ في القتال، وهو يرجع إلى أحد أمرين: إما دفع الظلم، أو قطع الفتنة وحماية الدعوة، وذلك أن الكفار على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – سواء أكانوا من المشركين أم من أهل الكتاب – أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان العذاب فتنةً لهم وابتلاء؛ حتى يردوا من أسلم عن دينه، ويثبطوا من عزيمة من يريد الدخول في الإسلام، وغايتهم من هذه الفتن والمحن أن يُخمدوا الدعوة ويَسُدوا الطريق في وجه الدعاة، فأوجب الله على المسلمين أن يقاتلوا هؤلاء المعتدين دفعا لاعتدائهم وإزالة لعقباتهم حتى لا تكون فتنة ولا محنة، ولا يحول حائل بين المدعوين وإجابة الدعوة.

من هذه الآيات قول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[البقرة:190-193]، وفي سورة النساء: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾[النساء: 75]، وفي سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الأنفال: 39]، وفي الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾[الحج: 39، 40]([1]).

واستدلوا بالآيات الداعية إلى السلم مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[الأنفال: 61].، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[البقرة: 208]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[النساء: 94]، وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء: 90]، وقوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8]([2]).

ثم قالوا إن وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى الدين لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد الوجداني وهذا الأساس تُكَوّنُه الحجة لا السيف ولهذا يقول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256].ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس: 99]([3]).

وساقوا بعض الأحاديث التي ظنوا أنّها تنتج المدعى، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»([4])، فالرسول ينهي عن الرغبة في الحرب وتمنيها حتى مع العدو، ويسأل الله أن يديم نعمة السلم والسلام([5])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ»([6])

واحتجوا أيضا باتفاق جمهور المسلمين على أنه لا يحل قتل النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمنى ونحوهم لأنهم ليسوا من المقاتلة، ولو أن القتال كان للحمل على إجابة الدعوة وطريقا من طرقها حتى لا يوجد مخالف في الدين ما ساغ استثناء هؤلاء فاستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعا لعدوانه، ولو قيل إنهم استثنوا لأنهم لغيرهم تَبَعٌ فهذا إن سَلِمَ في الصبيان والنساء لا يَسْلَمُ في البواقي، وخاصة في الرهبان([7])، كما احتجوا بأن المسلمين لم يبدأوا عدوهم بالقتال إلا بعد دعوته إلى إحدى ثلاث خصال كما ورد في الحديث فلو كان الأصل الحرب ما خيروهم([8])، وأن الآيات القرآنية قررت أن الجدال قبل القتال وأن البيان قبل السنان، ولو كان لأصل الحرب ما تأخر القتال عن الجدال، ولا السنان عن البيان([9]).

وقالوا: إن من تتبع السيرة النبوية من بداية العهد المدني لعلم أن الجهاد لم يكن إلا لرد العدوان، واستمر على ذلك دائما لأن الكفار في كل الأقطار لم يتركوا الدعوة الإسلامية تحيا في أمان، وفي بعض الأحيان كان المسلمون يضطرون لاتخاذ الهجوم سبيلا للدفاع عن طريق الحرب الإجهاضية، واستمر الأمر على ذلك حتى كان عهد الاجتهاد، فتأثر العلماء بالواقع، فأخذوا الحكم من الواقع لا من دلالات النصوص القرآنية والنبوية([10]).

وأجابوا عن الآيات الداعية إلى قتال الناس كافّة والتي فيها عموم بأنّ هذا العموم مخصوص بالآيات التي ساقوها معللة بأسباب تقصر القتال على الدفع فقط، فه من قبيل حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، وكذلك الأمر في الأحاديث.

وقبل أن أستعرض الأدلة على بطلان هذا التوجه جملة، وعلى مشروعية جهاد الغزو والطلب والابتداء، ووجوبه عند الاستطاعة؛ أحب قبل ذلك أن أثير في وجوه القوم الإشكالات الضخمة التي غفلوا عنها، واللوازم القاصمة التي تجاهلوها، فلا ريب أنّ الحق سالم أبلج، وأنّ الباطل في اضطراب يتلجلج، فهل يصمد هذا التوجه أمام الإشكالات التي يثيرها واللوازم التي يفرضها؟ لننظر ..

أول سؤال وأبرز استشكال نستعرضه كالآتي: إذا سلمنا بأنّ الجهاد لم يشرع إلا لرد العدوان، وأنّه لا وجود في الشريعة لما يسمى بجهاد الطلب والغزو؛ فهل كان الصحابة ومَنْ بَعْدَهم من أهل القرون المفضلة الأولى يعلمون ذلك من شريعة الله؟ فإن كان الجواب بالنفي فقد انقلب الهرم ووقف على رأسه، وتبدل حال الشجرة فأضحت أغصانها ساربة في أعماق التربة وغدت جذورها ممتدة في جو السماء؛ إذْ كيف يخفى على الجيل الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه حكم شرعي كبير كهذا ثم لا يكتشفه إلا هؤلاء المتأخرون المتكلفون؟!

أمّا إن كانوا يعلمون ذلك فما بالهم قد أجمعوا عمليا وواقعيا على مخالفة حكم الله تعالى، وانطلقوا بفتوحهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حتى دانت الأرض المعلومة آنذاك كلُّها بالإسلام، عدا تلك البقعة النكدة في غرب أوربا، والتي تقود اليوم هذه الحرب المسعورة على فريضة الجهاد وعلى الشريعة كلها! أم تراهم استمروا في الدفاع حتى بلغوا أسوار الصين في شرق الأرض وشواطئ الأطلسي في غربها!

إنّ هذا الاتجاه يعطي دليل إدانة للتاريخ الإسلامي وللحضارة الإسلامية؛ فمن حق الأقليات من غير المسلمين أن يقولوا لنا: إذا كان الأمر على هذا النحو، وإذا كانت السماء لم تعطكم إذنًا بالغزو لإعلاء كلمة الله، وإذا كانت الشريعة التي تدعوننا أنتم للدخول تحت سلطانها توقفكم عند حدودكم وتمنعكم من الفتح باسم الدين؛ فَلِمَ غزوتم بلادنا، وهدمتم حضاراتنا؟ إنّكم تاريخيا وحضاريا مدانون، ودخلاء على هذه البلاد جميعها، وعندئذ سيكون لأمثال القزم الأجوف الموتور “سيد القمني” حجة عالية على الفاتح العظيم عمرو بن العاص، الذي فتح مصر دون أن تمثل أدنى تهديد لدولة الإسلام التي دانت لها الممالك في العراق والشام وعلت قبضتها فوق الأباطرة والأكاسرة.

أمّا السؤال الثاني فهو سؤال عموم الرسالة وعالمية الإسلام، فمن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة أنّ الإسلام رسالة عالمية، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى العالمين أجمعين، وهذا ما أجمعت عليه الأمة، ونقلته بالتواتر جيلا بعد جيل، واستوى في علمه الخاصة والعامة، وقد انطلق الخلفاء وخلفهم الصحابة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم بحركة الغزو هذه لتحقيق هذا المبدأ؛ فكيف كان بإمكان الأمة أن تقوم بهذا إذا لم يكن جهاد الغزو واجبا عليها؟ لقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسائل إلى الملوك وإلى كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي؛ فهل استجاب منهم أحد سوى النجاشي، وهل استطاع النجاشي إذ اختار الإسلام دينا أن يبشر به في مملكته؟ أم إنّ الأمّة يكفيها لكي تقوم بهذا الواجب أن ترسل بين الفينة والفينة رسالة إلى رؤساء الدول وملوك العالم ليلقوا بها في سلات القمامة ويستمروا في إضلال العباد وإبعادهم عن خالقهم جل وعلا؟!

سيقولون – وهم لا يستحون من سماجة ما يطرحون – إنّ الدعوة إلى الإسلام لا يلزم لها جهاد، وإنّ الله فتح بلادًا بالسنان وأخرى بالقرآن؛ فَلِمَ لا نتصور أنّه بالإمكان فتحها جميعا بالقرآن، وقد يتوقح البعض فيقول: إنّ المسيحية انتشرت وصارت أول ديانة في العالم دون الحاجة لفريضة القتال، إلى غير ذلك من الأقوال التي تبلغ من السماجة حدا تفوق به سماجة الصموغ التي تسك الآذان، فوالله ما يغني ولا يجدي البيان بدون السنان، كما لا يغني ولا يجدي الشجب في وجه من يحتلون الأوطان ويقهرون الإنسان، كل ذلك يعلمه ولا يجهله كل من له جَنَان، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان.

وإن بقي أنّ لهذه القاعدة الراسية المتينة استثناءات لا تزيدها إلا متانة ورسوخا، تمثلت هذه الاستثناءات في حالات نادرة في التاريخ بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فُتِحت فيها بلادٌ في الشرق الأقصى وراء الممالك التي تهاوت تحت مطارق الفتح الإسلاميّ، ولولا الدويّ الذي أحدثته الفتوح المتوالية، ولولا زئير الجهاد الإسلامي ما فتحت هكذا بهذه السهولة بمجرد البلاغ والبيان؛ فإنّ الشعوب ليست متروكة لما ترغب وتريد، وما لها من خيار حتى تنال حريتها، التي من أجلها شرع الجهاد.

ومن تلك الاستثناءات حركة المدّ الإسلاميّ الناتج عن تحرك فطرة الشعوب نحو الإسلام في كثير من بلدان العالم الآن، وهي مقابلة بحركة أشدّ وأعنف، وهي الإمبريالية العالمية التي تدور رحاها على العالم الإسلاميّ خاصة وحريم العالم الإسلاميّ عامّة، والهيمنة الغربية وبسط السيادة والنفوذ على الأمّة الإسلامية خاصة وعلى الأمم غير الغربية عامّة، مما نتج عنه وضعٌ غريبٌ مقلوب، وهو أن يُطَارَدَ الإسلامُ وكل من يدعو إليه في دياره، بينما تعطى مساحة من الحرية للإسلام وأهله في ديار الكفر؛ ليبقى الكل تحت السيطرة، وتتسع الحظيرة لتشمل القطعان كلها وتروض الساحة الإسلامية بهذه الطريقة الخبيثة.

فإذا وجدت الدعوة للإسلام داخل هذه الحظيرة ثُقْبًا تطل منه على الدنيا وتنفذ من خلاله إلى قلوب العباد؛ فلا يسع المسلمين تجاهله، كما لا يسع المنظرون منهم أن يقولوا للناس إنّ هذا الوضع هو الوضع الطبيعيّ الذي به تتحقق عالمية الإسلام وسيادة الشريعة وحرية الدعوة وإعلاء كلمة الله على كلمة الكفر، إنّ هذا الوضع جملة يعد استثناء لا أصلا، وحتى هذا الاستثناء يضمر ويضمحل كلما شعر الغرب المهيمن أنّ الأمر يوشك أن يخرج عن السيطرة، فالحقيقة أنّ الحرية التي يمنحها لنا الغرب في دياره تابعة لخطته التي يحجر بها الحرية في ديارنا، وحتى هذه الحرية عليها قيود كثيرة لا يعرفها إلا من عايشها، وأنّ السبب الأول في انتشار الإسلام هو عاملان قويان لا حيلة للنظم الغربية تجاههما، الأول القوة الذاتية في هذا الدين، والمتمثلة في موافقته للفطرة وتلبيته لنداء الإنسانية، الثاني: حالة الإفلاس التي أصابت الفكر الغربيّ كله فجعلته عاجزا عن تلبية حاجات الخلق ورغائب العباد.

أمّا الحرية الكاملة والدعم الكامل فهما لمراكز الأبحاث الكبرى ومؤسسات التبشير والاستشراق ووسائل الإعلام، تلك التي تمارس الإجرام ضد عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام وتاريخ وحضارة الإسلام؛ فتصد ملايين الخلق في الغرب والشرق، وآلاف الخلق في قلب الديار الإسلامية، تصدهم عن سبيل الله وتحول بينهم وبين الدخول في دين الله أو الالتزام بتعاليمه وأحكامه كما أراد الله، فهي لعبة كبرى وفتنة عظمى، والسبب الأول والأكبر – إن لم يكن الأوحد – هو غياب جهاد الغزو تحديدا.

أجل والله: ما يغني البيان عن السنان، ولو كان الأمر قاصرا على البيان لما خرجت الدعوة من الحجاز، ولا جاوزت تخوم القرن السابع الميلاديّ، ولكان غاية ميراثنا عن الأمة الإسلامية بقع من النور متناثرة في ظلام دامس عقيم، ولاطلع الله على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الإسلام، ركبوا رؤوس الجبال أو اندسوا في شعاب الصحاري البعيدة عن العمران البشريّ كله، لولا الغزو لما وجدنا مصريا أو تونسيا أو مغاربيا أو هنديا يتحدث اليوم عن الجهاد الإسلاميّ ويقول بعد أن يحمد الله ويثني عليه: إنّ الجهاد لم يشرع إلا لدفع العدوان، لولا الغزو الذي يتنكرون له اليوم ويوارون وجوههم منه لكان الصليب على صدر الواحد منهم يتمطى اليوم مثلما يتمطى هو على أريكته وهو يدعي هذا المدعى الساقط، فالحمد لله الذي أنقذنا بفتوح الإسلام، وأمسك به البشرية كلها من الهلكة العامة.

ولا أستبعد بعد ذلك أن يجد أحدهم في جوفه نخاعة فيمجها في وجوهنا؛ زاعما أنّ المسيحية انتشرت في أقطار العالم بالمحبة والتبشير، وأنّها صارت بذلك الديانة الأولى في العالم، فهو يجهل التاريخ – إذَنْ – أو يعلمه ولا يفهمه، فإنّ المسيحية لم تدخل قلب إنسان يسكن هذا الكوكب إلا بضغط الرغبة أو الرهبة، ولم تنتشر في صقع من الأصقاع إلا مع الحملات الصليبية التي بدأت بالكشوف الجغرافية وانتهت بالحركة الاستعمارية، ولا يخفى إلا على المساكين تحالف التبشير والاستعمار على مدى التاريخ المجرم للحضارة الغربية الآثمة، والعجيب في البيئة الغربية النكدة التي تجمع كل التناقضات أنّ الأنظمة التي لا تؤمن بدين تستعين بالمبشرين لتطويع المستعمرات، “إنّ اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها … وكثيرا ما كان الرجال العسكريون من الإنجليز خاصة يحضون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم”([11]).

أمّا الميلاد الكبير لهذه المسيحية الصليبية الطاغية فكان على يد قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وفرضها دينا رسميا في الممالك الرومانية؛ لمآرب سياسية تحدث فيها المفكرون الغربيون أنفسهم، وكان المقابل هو محو الديانة الأصلية في “مجمع نيقية” واعتماد ديانة بولس، “ومن الحقائق التاريخية الثابتة أن أثر قسطنطين كان حاسماً في هزيمة الآريوسيين في مجمع نيقية، ومع ذلك فلا شك أنه ما من مسيحيٍّ يستطيع أن يؤمن – دون مساس بعقيدته – بأن فكرة الثالوث إنما فرض قبولها بمرسوم إمبراطوري”([12]).[13]

لقراءة باقي الأجزاء الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس


الهامش

[1] ر: السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (80-81).

[2] انظر: السابق (ص84)، بحث مجالات العلاقات الدولية، د. وهبة الزحيلي ضمن كتاب التشريع الدولي في الإسلام (ص198).

[3] السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (ص81).

[4] متفق عليه: رواه البخاري ك الجهاد والسير باب كان النبى r إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس برقم”2760″(ج5ص2291)، ومسلم ك الجهاد والسير باب كاهية تمنى لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء برقم “3282” (ج5ص2274).

[5] مجالات العلاقات الدولية، د. وهبة الزحيلي، (ص198)، من كتاب التشريع الدولي في الإسلام.

[6] حسن: رواه أبوداود في السنن ك الملاحم باب في النهى عن تهييج الترك والحبشة برقم”3751″، والنسائي في الصغرى ك الجهاد باب غزو الترك والحبشة برقم”3143″، والبيهقى في الكبرى باب ما جاء في النهى عن الحبشة برقم”17115″.

[7] ر: السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف (ص81)، وأحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، د. إسماعيل كاظم العيساوي (ص35)، دار عمار الأردن ط1، 2000م.

[8] العلاقات الدولية في القرآن والسنة (ص263).

[9] السابق (ص264).

[10] انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، د. محمد أبو زهرة (ص53-55).

[11] التبشير والاستعمار في البلاد العربية – د. مصطفى الخالدي و د. عمر فروخ – منشورات المكتبة العربية – بيروت – ط 1953م صـــ34

[12] تطور الفكر السياسي جورج سباين ك2 ص 85-86 – ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 م

[13] الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close