fbpx
الأزمة الأوكرانيةاوروبا وامريكاترجمات

فورين أفيرز: ألمانيا الجديدة – كيف يغيّر عدوان بوتين سياسة برلين

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية مقالاً لسودها ديفيد ويلب، نائبة مدير مكتب برلين لصندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، وتوماس كلاين-بروكهوف، مدير مكتب برلين لصندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، بعنوان: ” ألمانيا الجديدة – كيف يغيّر عدوان بوتين برلين”، عن آثار الغزو الروسي لأوكرانيا المباشرة على السياسة الخارجية الحذرة لألمانيا، حيث أدى ذلك بشكل مباشر إلى تخلي برلين عن سياستها التقليدية وتوجهت إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير تزامناً مع إرسال آلاف الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات إلى كييف. وقد جاء المقال على النحو التالي:

مرت ألمانيا في غضون أسبوع واحد بتحول جذري بارز، حيث تخلت عن سياستها الخارجية المترددة والحذرة وتبنت سياسة جديدة تركز على زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير. ودفعت صدمة غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا برلين أيضاً إلى إرسال آلاف الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات إلى كييف.

لقد قفزت الدولة التي دأب حلفاؤها على انتقادها على القيام بالقليل لأمن أوروبا إلى موقع الصدارة بين دول المجموعة الأوروبية في تولي دور قيادي في الأمن الأوروبي، ولكن بعد فوات الأوان.

وتسعى ألمانيا الآن إلى عزل روسيا ومعاقبتها بعد عقود من العمل على ترضيتها ومحاولة استيعابها. وبالإضافة إلى ذلك، فسوف تسعى ألمانيا جاهدة إلى العمل على استقلال مصادر الطاقة عن روسيا، وذلك من خلال إنشاء مصادر طاقة محلية جديدة تزامناً مع تخلصها من إمدادات الطاقة القادمة من روسيا.

قال المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز، في جلسة خاصة للبرلمان يوم الأحد، ٢٧ فبراير 2022: “من الواضح أنه يجب علينا الاستثمار بشكل أكبر بكثير في أمن بلادنا، من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا”. ومن خلال خطاب واحد، بشّر شولتز ببدء حقبة من التغيير الهائل لدولة دأبت على التماهي مع الوضع القائم على مدى ثلاثة عقود.

وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، “ربما في هذا اليوم، تترك ألمانيا وراءها شكلاً فريداً وخاصاً من أشكال ضبط النفس في السياسة الخارجية والأمنية الألمانية”. لقد أدى الإرث القبيح للعدوان العسكري الألماني خلال القرن العشرين إلى إنتاج عقلية تعتبر الحوار والتعددية الأدوات الأساسية للسياسة الخارجية، بل في كثير من الأحيان الأدوات الوحيدة لها.

وبرز الشعور المَرَضي بالخوف من الذات كعامل رئيسي وراء الشكوك الألمانية تجاه تفعيل القوة الصارمة. وكان الهدف من التحالفات التي دخلت فيها برلين هو السعي لاحتواء الآخرين تماماً كما كبحوا جماح الألمان من قبل، بحيث أصبح الهاجس الأكبر لدى ألمانيا هو الوقوع في شراك إغراءات متجددة نحو الأحادية المسلحة.

وقد قوبل الإعلان عن هذا التحول في السياسة الألمانية بهتافات وتصفيق حار من أعضاء الأحزاب الرئيسية في البرلمان. وأعلن زعيم المعارضة المحافظة في البرلمان الألماني فريدريك ميرز، مخاطباً بوتين بشكل مباشر، “لقد طفح الكيل وانتهت اللعبة “.

لم تنوِ حكومة يسار الوسط الجديدة في برلين أبداً التخلي عن نهج السياسة الخارجية للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والمتمثل في الموازنة بين الاحتياجات الأمنية والمصالح التجارية، أو التحول عن التوجه التي تبنته ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية من تجنب الصراعات العسكرية. لكن هجوم روسيا على أوكرانيا قد غير كل شيء بالنسبة لألمانيا. كتب المؤرخ فريتز ستيرن، الذي كان قد هرب من الهولوكوست عندما غادرت عائلته ألمانيا متوجهة إلى الولايات المتحدة في عام 1938، كتب ذات مرة عن “الألمانيات الخمسة” التي عرفها في حياته، وهي: ألمانيا فايمار، وألمانيا الرايخ الثالث النازي، وألمانيا الغربية ما بعد الحرب، وألمانيا الشرقية، وألمانيا الموحدة التي ظهرت بعد سقوط جدار برلين. وما يشهده العالم الآن هو ولادة ألمانيا السادسة، وهي دولة مستعدة لممارسة القوة العسكرية دفاعاً عن القيم الديمقراطية الليبرالية.

ما كانت عليه الأمور

على مدى الأيام القليلة الماضية، سقطت العديد من المحرمات السياسية القديمة على جانبي الطريق في وقت واحد. فقد تم وقف اعتماد خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي نورد ستريم 2 الذي اكتمل إنشاؤه في سبتمبر الماضي، وتم إرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا؛ وهما مجرد انعكاسين اثنين لسياسة الحكومة الألمانية الجديدة. والأهم من ذلك، أن ألمانيا قد أدركت فجأة حقيقة أن القوة الصارمة هي أداة ضرورية لحماية الديمقراطية وردع مستبدي هذه الأيام.

وعلى مدى عقود من الزمان، ظلت العقيدة الراسخة للسياسة الخارجية الألمانية بأنه لن يكون هناك سلام في القارة في حال استبعاد روسيا. وتضمنت هذه العقيدة فكرة أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل سيساعد في استقرار العلاقة بينهما. كما أدى ذلك إلى الصبر بلا حدود على الكرملين، حتى بعد خطاب بوتين العدواني في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007، عندما اتهم الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الأمن العالمي. واستمرت هذه العقيدة كذلك بعد غزو بوتين لجورجيا عام 2008 وحتى لأوكرانيا عام 2014.

وعلى الرغم من أن ألمانيا قادت الحملة الأوروبية لفرض عقوبات على روسيا بعد ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم وتوغلها في منطقة دونباس الأوكرانية، سرعان ما وازنت برلين هذه التحركات مع عرض بناء خط الغاز نورد ستريم 2 في عام 2015.

والآن، غيّر هجوم روسيا على أوكرانيا كل شيء بالنسبة لألمانيا

وحتى في مواجهة الضغوط من حلفاء الناتو وزعماء أوكرانيا، بدا من غير المعقول أن تتخلى ألمانيا عن معارضتها لإمدادات الأسلحة. وفي وقت سابق من هذا العام، أشارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك إلى الدروس المستفادة من التاريخ: إن إمداد منطقة قتلت فيها القوات الألمانية ملايين المواطنين خلال الحرب العالمية الثانية بالأسلحة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الشعور بالذنب، حسبما جادلت الوزيرة الألمانية في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير.

لكن حرب بوتين العدوانية غيرت كل شيء في غضون ساعات. إن حرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية (مثل القذائف الصاروخية) يعني التغاضي عن التمييز بين الجاني والضحية. وربما تكون روسيا قد ساعدت في هزيمة النازيين، لكنها الآن في الجانب الخطأ من التاريخ.

وقد أعلنت الحكومة الألمانية يوم الأحد الماضي (٢٧ فبراير) بعبارات لا لبس فيها أنها ستواجه بوتين وتدافع بقوة عن الليبرالية. وربما كان من قبيل النقد الذاتي عندما دعا شولتز إلى الدبلوماسية الألمانية “دون سذاجة”. لقد ولى التفاؤل بإقناع القوى التحريفية (الاسترجاعية) بمفهوم “التغيير من خلال التجارة” إلى غير رجعة. وطالما ظل بوتين على رأس السلطة في روسيا، فستظل أداة السياسة الخارجية هذه (التغيير من خلال التجارة) من مخلفات الماضي. وبدلاً من ذلك، فألمانيا عن بكرة أبيها تعمل على ردع بوتين في مسعاه إلى تغيير ميزان القوى في أوروبا.

تحول باهظ الثمن

سيكون هذا التغيير بالتأكيد مكلفاً لألمانيا، خاصة بالنسبة لقطاع الطاقة المعتمد على الاستيراد فيمن الخارج. ولكن كما قال وزير المالية كريستيان ليندنر – الذي ينتمي للحزب الديمقراطي الحر المحافظ اقتصادياً- للبرلمان، فإن هذه التكلفة سيتم النظر إليها على أنها “ثمن الحرية”. وأعلن شولتز أن ألمانيا ستصبح مستقلة عن الطاقة الروسية. وستقوم ألمانيا ببناء ميناءين للغاز الطبيعي المسال على الفور، وتخزين الاحتياطيات الوطنية من الفحم والغاز، والسعي إلى المزيد من عقود التسليم طويلة الأجل في سوق الطاقة الدولية، وزيادة تسريع إنتاج الطاقة المتجددة – أي ضمان “حرية الطاقة”، على حد تعبير وزير المالية كريستيان ليندنر.

وللتأكد من أن لديها طاقة كافية في الاحتياطي، قد تحتاج محطات الطاقة النووية المتبقية في ألمانيا إلى تظل نشطة ما بعد نهاية عام 2022، حيث كان من المفترض أن يتم إغلاقها في هذا الوقت كجزء من خروج ألمانيا من الطاقة النووية. سيعتمد الكثير من ذلك على ما إذا كانت روسيا سترد على ذلك بتخفيض إمداداتها من الغاز الطبيعي.

وستُلقي ألمانيا الآن الاتهام بالانتفاع المجاني من الإنفاق الأمني ​​على الآخرين. وعندما أعلن شولتز عن استثمار بقيمة 100 مليار يورو دُفعة واحدة في الجيش الألماني ونيته لجعل الإنفاق الدفاعي يتجاوز 2% من الناتج الاقتصادي الإجمالي – وهو الهدف المحدد للدول الأعضاء في الناتو – فاجأ مجتمع السياسة الخارجية والبلاد عامة و حتى العديد من أعضاء مجموعته البرلمانية الذين لم يكونوا مطلعين على هذا القرار المفاجئ. وأوضح شولتز أن ألمانيا لا تحتاج فقط إلى الطائرات التي تطير، والسفن التي تبحر، والجنود المجهزين تجهيزاً جيداً، ولكن إلى القوات المسلحة الحديثة بشكل كامل.

وطرح المستشار الألماني في خطابه الاحتمالات التي طالما كانت مثيرة للجدل من قبل، مثل استخدام الطائرات المسلحة بدون طيار والمشاركة في ترتيبات تقاسم الأسلحة النووية لحلف الناتو. حتى إن عملية شراء مقاتلات إف -35 الأمريكية الصنع قد عادت إلى الطاولة من جديد. في الوقت نفسه، أعاد المستشار الألماني الالتزام ببناء الطائرة المقاتلة من الجيل السادس، فيوتشر كومبات أير سيستيم (نظام القتال الجوي المستقبلي)، التي تطورها ألمانيا مع فرنسا وإسبانيا. كما أضاف وزير المالية ليندنر ليلة الثلاثاء (١ مارس)، أن ألمانيا ستهدف إلى تحويل جيشها “إلى أحد أقوى القوات المسلحة وأكثرها اقتداراً وأفضلها تجهيزاً على مستوى القارة”، وهو تصريح كان من الممكن أن يُكسبه لقب “مُسعِّر الحرب” قبل أيام فقط.

وفي اختيار رائع للكلمات، تعهد شولتز “بالدفاع عن كل متر مربع من أراضي الناتو مع حلفائنا” – في إشارة إلى تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالدفاع عن كل شبر من الحلف. إن تصريح شولتز القوي جدير بالملاحظة بشكل خاص من دولة تظهر فيها استطلاعات الرأي بعض التردد حول المادة 5، بند الدفاع المشترك في المعاهدة التأسيسية لحلف الناتو، والتي تنص على أن أي هجوم مسلحاً ضد دولة عضو واحدة في الحلف سيعتبر هجوماً ضدهم جميعاً. فياله من تغيير ذلك الذي يُحدثه هذا الأسبوع!!

دون سابق إعداد

لقد كان ينظر إلى شولتز، الذي تولى منصبه في ديسمبر 2021، لأول وهلة على أنه متردد وحتى ضعيف وذلك خلال الأسابيع القليلة الأولى له في الوظيفة. ولكن خطابه وقراراته الأساسية التي اتخذها مؤخراً بعثت حياة جديدة في حكومته. حيث يسد نهجه الحاسم الفجوة بين ألمانيا وشركائها، ويفتح أمامها العديد من فرص السياسة الخارجية الجديدة.

ففي غضون أسبوع، وضعت ألمانيا الشراكة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة على أسس جديدة. واعتبرت إدارة بايدن ألمانيا شريكاً لا غنى عنه في أوروبا، وهو أمر ضروري لإثبات مقولة أن التحالفات تقوي الولايات المتحدة دون أن تكون مجرد استنزاف للموارد.

لكن لم يكن الجميع يصدقون البيت الأبيض. ومع القليل من المساعدة من آثار ما فعله بوتين، تقوم ألمانيا الآن بإسكات كل منتقديها، وخاصة في الكونجرس الأمريكي، حيث كان تيد كروز، السناتور الجمهوري عن ولاية تكساس، يقود كتيبة من المشككين في موقف ألمانيا. ووفقاً لتقارير صحفية مبكرة، فإن الحكومة الفرنسية مبتهجة لأن ألمانيا يمكن أن تصبح الآن الشريك الأمني ​​الجاد الذي تسعى إليه منذ فترة طويلة.

لكن هذا القرار سيكون له آثاره الأكثر وضوحاً شرق برلين. حيث سيسمح لألمانيا بإصلاح علاقاتها مع دول البلطيق وحلفاء الناتو الآخرين على الجانب الشرقي، والذين كانوا قد بدأوا ينظرون إلى ألمانيا على أنها تتصف بالأنانية وفي بعض الأحيان تكون صديقاً وفياً لروسيا. ويمثل إرسال وحدات إضافية إلى ليتوانيا، ونشر القوات الألمانية على الأراضي السلوفاكية لأول مرة، وتوسيع نطاق الشرطة الجوية في رومانيا مجرد بداية لعملية طويلة من المرجح أن تشهد إرسال المزيد من القوات الألمانية إلى أوروبا الشرقية.

وقد يتسارع هذا الاتجاه عندما يقرر الناتو التخلي عن قانون التأسيس لحلف الناتو وروسيا لعام 1997، والذي يحد من انتشار القوات في الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية – وهو تطور يبدو أنه أمر لا مفر منه.

وأخيراً، ستشعر أوروبا بالارتياح تجاه القوة العسكرية الألمانية

بالتأكيد سيتطلب الأمر توضيح العديد من القرارات التي وصفها شولتز، بدءاً من خطة المشتريات الطارئة والاستعداد بالنسبة للقوات المسلحة الألمانية. ففي الوقت الحالي، لا تمتلك معظم الوحدات العسكرية الألمانية معداتها الخاصة ولكنها تحتاج إلى التسول والاستعارة من التشكيلات الأخرى عندما يتم تكليفهم بواجب ما في نطاق عمل الناتو في الخارج.

وسيسعى برنامج الطوارئ إلى تغيير هذا الموقف المحرج لأكبر اقتصاد في أوروبا. إن استراتيجية الأمن القومي التي كانت حكومة شولتز قد بدأت في صياغتها يجب أن يتم التخلي عنها وأن تبدأ استراتيجية جديدة من الصفر. وسيحتاج المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو، الذي هو أيضاً مطروح على الطاولة، إلى إعادة تقييم للتماهي مع الموقف الجديد لألمانيا.

ألمانيا الجديدة هذه، التي لم يعش المؤرخ فريتز ستيرن ليراها أو يضيفها إلى مجموعته من الإبداعات الجديدة، ستستخدم أكبر ميزانية دفاعية في أوروبا حتى الآن. ولكن في هذه المرة فقط، يرحب بها بل ويشجعها جميع جيرانها المباشرين والملاصقين لها. لا يقتصر الأمر على ألمانيا في التغير؛ ولكن تصور ألمانيا أيضاً يتغير. ففي عام 2011، قال رادوسلاف سيكورسكي، وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا، شيئاً بدا استثنائياً في ذلك الوقت: “من المحتمل أن أكون أول وزير خارجية بولندي في التاريخ يقول ذلك، ولكن هأنذا أقولها: إن خوفي من قوة ألمانيا أقل كثيراً من خوفي من بقاء ألمانيا في حالة من الخمول “.

لقد استغرق الأمر إحدى عشر عاماً أخرى، لكن غزو بوتين لأوكرانيا قد يمثل اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية تبدو أخيراً وهي تشعر بالارتياح تجاه القوة العسكرية الألمانية.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close