ترجماتتقارير

فورين أفيرز: تمرد حماس الجديد – كيف تُقحم الحركة المُحاصَرة إسرائيل أكثر في حربٍ خاسرة

نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في 26 أغسطس 2025 مقالاً بعنوان: “تمرد حماس الجديد – كيف تُقحم الحركة المُحاصَرة إسرائيل أكثر في حربٍ خاسرة” لـ “ليلى سورات”، الباحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات (CAREP) ومقره باريس، ومؤلفة كتاب “السياسة الخارجية لحماس: الأيديولوجيا، وصنع القرار، والهيمنة السياسية”.

تقول سورات إنه بعد ما يقرب من عامين من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تكاد تكون نقاط قوة حركة المقاومة الإسلامية – حماس، ونقاط ضعفها، على النقيض تماماً من نقاط قوة “إسرائيل”، ونقاط ضعفها. “فبينما تمتلك إسرائيل موارد عسكرية هائلة، إلا أنها تكافح لتوفير عشرات الآلاف من القوات الإضافية التي تحتاجها لغزوها الشامل لمدينة غزة؛ وفي المقابل، فإن حماس تواصل تجنيد مقاتلين جدد على الرغم من الخسائر الفادحة في صفوفها. ومع توسع حماس في عملياتها، تخسر إسرائيل المزيد من جنودها على الأرض، كما تواجه صعوبة متزايدة في حثّ جنود الاحتياط على القيام بأداء مقتضى واجباتهم.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

في الثامن عشر من أغسطس، وافقت حركة حماس على مقترح جديد لوقف إطلاق النار في غزة. هذه الصفقة التي قدمتها مصر وقطر مؤخراً والتي تُعتبر بمثابة صدىً متكرر لمقترحات سابقة كانت الولايات المتحدة قد صاغتها ودعمتها إسرائيل دون موافقة الحركة، دعت إلى إطلاق سراح عشرة من أصل 20 أسيراً إسرائيلياً على قيد الحياة مقابل هدنة لمدة 60 يوماً. وعلى عكس المقترحات السابقة، لم تطلب حماس أي تغييرات على الوثيقة وقبلتها في غضون ساعات. ولكن حتى الآن، لم تقبل إسرائيل المقترح. 

وبينما فسر العديد من المراقبين موافقة حماس الفورية على أنها قد تكون علامة ضعف، إن لم تكن ضرباً من اليأس. وفي هذه القراءة، يُرجع هؤلاء الأمر إلى اعتبار أنه بعد ما يقرب من عامين من القصف الإسرائيلي المتواصل وحصار غزة، واغتيال كبار قادة حماس، والهجمات المدمرة على حلفاء الحركة في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك إيران وحزب الله، فإنه لم يتبق أمام حماس سوى خيارات قليلة.

لكن قبول حماس السريع للاتفاق قد يكون حيلة استراتيجية بقدر ما هو علامة على الإكراه. فبعد ما يقرب من عامين من الحرب، تعرضت الحركة السياسية لضربات قاسية، وأصبحت سلطتها على قطاع غزة الذي مزقته الحرب ضعيفة. ومع ذلك، ورغم الدمار المتزايد في غزة، يُظهر مقاتلو حماس قوة كبيرة بشكل مستمر. ومنذ ربيع عام 2025، صعّدوا هجماتهم على القوات الإسرائيلية في جميع أنحاء القطاع، بما في ذلك هجوم واسع النطاق على قاعدة إسرائيلية في 20 أغسطس، وعمليات أخرى في يونيو ويوليو قُتل فيها العديد من الجنود الإسرائيليين. 

وفي الوقت نفسه، زادت حماس من تنسيقها مع الجماعات المسلحة الأخرى في غزة، وعزّزوا صفوفهم، حتى في ظل المجاعة واسعة النطاق التي يعاني منها السكان. ويكمن وراء صمود حماس التطور الحاصل في نهجها تجاه الحرب، مما زاد من المخاطر (على القوات الإسرائيلية)، وقد يجعل حملة “إسرائيل” الجديدة المثيرة للجدل للسيطرة على مدينة غزة كارثة عسكرية وإنسانية.

صدمة لم تكن بالحسبان

ولفهم استراتيجية حماس للبقاء، من الضروري تتبع تطور أهدافها. فعندما شنت الحركة هجماتها في السابع من أكتوبر من عام 2023، يبدو أن قيادة حماس في غزة قد افترضت أن العملية ستجذب حلفاء لها من جميع أنحاء المنطقة بسرعة وتدفع الفلسطينيين، وحتى الجماهير العربية، إلى انتفاضات جماعية. وفي جوهر الأمر، توقعت حماس تكراراً لما حدث في شهر مايو 2021، عندما أثارت مصادرة إسرائيل لمنازل فلسطينية في القدس الشرقية رد فعل جماعي غير مسبوق: حيث انتفض الفلسطينيون في جميع أنحاء الضفة الغربية وفي المدن الإسرائيلية، وأطلق حزب الله وجماعات حليفة أخرى صواريخ من لبنان وسوريا، وأطلقت حماس نفسها وابلاً كثيفاً من الصواريخ من غزة. وكان الهدف من هجوم السابع من أكتوبر تكرار هذا التوحيد بين الجبهتين ولكن على نطاق أوسع بكثير.

وبعد ما يقرب من 700 يوم من الحرب، فقد فشلت هذه الأهداف فشلاً ذريعاً. ففي أعقاب هجوم حماس الأحادي من غزة، لم يحشد الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 قواهم، بينما وجد الفلسطينيون في الضفة الغربية أنفسهم محاصرين بحملة قمع إسرائيلية مكثفة. وظل معظم حلفاء حماس الإقليميين على هامش الأحداث. وعلى الرغم من ترسانته الهائلة في جنوب لبنان، سعى حزب الله إلى احتواء الصراع بدلاً من توسيعه؛ ثم في سبتمبر 2024، استسلم الحزب بعد عملية تفجيرات أجهزة البيجر، وهي سلسلة تفجيرات متزامنة لأجهزة اتصال مفخّخة تابعة لحزب الله وقعت في يومي 17 و18 سبتمبر، واغتيال قياداته. وفي شهر ديسمبر، أدى سقوط نظام بشار الأسد إلى إغلاق طرق الإمداد العسكرية الحيوية للحزب.

وأدى انهيار هذه الجبهات الخارجية إلى تفاقم الصعوبات التي واجهتها حماس في قطاع غزة. فبعد كسر وقف إطلاق النار في مارس 2025، ركّزت إسرائيل في البداية على القصف الجوي، مع إبقاء التوغلات البرية محدودة للغاية. وأدى تناقص وتيرة القتال في المراكز الحضرية إلى حرمان حماس من أخذ زمام المبادرة، مما تركها في كثير من الأحيان في وضع حرج تجاه المجازر التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين من سكان غزة. وفي غضون ذلك، أعادت القوات الإسرائيلية احتلال أجزاء كبيرة من القطاع. وإلى جانب قطع إسرائيل لجميع المساعدات في مارس، زاد الهجوم الجديد بشكل كبير من محنة قطاع غزة، وبدأ بعض السكان في غزة في الاحتجاج علناً ضد حماس.

ثم بدأت قوات حماس في غزة بتغيير نهجها. ففي 20 أبريل، نصبت مجموعة صغيرة من المقاتلين كميناً من نفق في بيت حانون، وهي “منطقة عازلة” تسيطر عليها إسرائيل. باستخدام قذائف صاروخية وقنابل على جانب الطريق، حيث قلبوا مركبة عسكرية إسرائيلية، وقتلوا جندياً إسرائيلياً، وأصابوا عدة آخرين. ومنذ ذلك الحين، كثفت مجموعات المقاتلين من عمليات مماثلة في جميع أنحاء غزة. وفي 24 يونيو، قام مقاتلون من كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بقتل سبعة جنود إسرائيليين في خان يونس. وفي 7 يوليو، ومرة ​​أخرى في بيت حانون، هاجمت مجموعة من المقاتلين قافلة من الدبابات على بعد أمتار قليلة من الحدود، مما أسفر عن مقتل خمسة جنود وإصابة 14 آخرين. وفي 15 يوليو، في جيب جباليا الشمالي، قُتل ثلاثة جنود آخرين في كمين استهدف فريقاً هندسياً إسرائيلياً تم إرساله لفتح الطرق للقوات الإسرائيلية. وفي 22 يوليو، استهدفت عملية لحماس في دير البلح، وسط القطاع، قافلة عسكرية إسرائيلية ودبابة ميركافا. وفي الأسابيع الأخيرة، ازدادت حدة هذه الهجمات الضاغطة على القوات الإسرائيلية. وبحلول منتصف أغسطس، وعندما استأنف الجيش الإسرائيلي توغلاته في المناطق السكنية، تضاعفت عمليات حماس الهجومية شرق مدينة غزة، وخاصة في أحياء التفاح والزيتون والشجاعية. كما نشطت كتائب عز الدين القسام في جنوب القطاع، ويشهد على ذلك الهجوم غير المعتاد الذي شنته الكتائب في 20 أغسطس على معسكر عسكري إسرائيلي في خان يونس: حيث هاجم ما لا يقل عن 18 مقاتلاً القاعدة بقذائف صاروخية ورشاشات من مسافة قريبة. ومثل هذه العملية واسعة النطاق، التي خلص مسؤولون إسرائيليون إلى أنها ربما كانت محاولة لأسر جنود جدد، كانت ستتطلب تحضيراً وتنسيقاً واستخباراتياً كبيرين. في الواقع، تُعدّ هذه العمليات جزءاً من إعادة تقييم تكتيكي من قِبل حماس، التي سعت إلى تحويل أهداف الحرب الإسرائيلية الموسعة لصالحها. فعلى الرغم من الموارد العسكرية الإسرائيلية الأقوى بشكل ساحق، استفادت حماس من إمكانات الحرب غير المتكافئة وعزيمة مقاتليها الفريدة. فعندما بدأ الجنود الإسرائيليون بالحد من التوغلات البرية في المناطق الحضرية، بدأ مقاتلو حماس بالبحث عنهم واستهدافهم في “المناطق العازلة”. وكما أقرّ المسؤولون الإسرائيليون، استطاعت حماس التكيف وإعادة بناء قواتها في المناطق التي قال الجيش الإسرائيلي سابقاً أنه “طهرها”. والآن، ومع انطلاق الحكومة الإسرائيلية في الاستيلاء على أجزاء كبيرة من مدينة غزة والسيطرة عليها، يتعين على الجيش الإسرائيلي التعامل مع حرب عصابات حضرية في منطقة تحفظها حماس عن ظهر قلب. وقد تثبت هذه التكتيكات فعاليتها بشكل خاص في أطلال مدينة غزة المتشعبة، حيث يُعتقد أن حماس لا تزال تمتلك شبكة قوية، حيث تجنبت القوات الإسرائيلية حتى الآن في الغالب التوغلات الكبرى.

نوع مختلف من القوة

لقد أظهر مقاتلو حماس قوة مدهشة، حتى مع انقطاع الدعم الخارجي عن الحركة وتعرضها لضغوط متزايدة في قطاع غزة. ولطالما كانت قدرة حماس على تجديد قوتها البشرية سمة مميزة للحركة، التي تمكنت لسنوات من الحفاظ على موطئ قدم لها قوي للغاية في المجتمع الفلسطيني حتى بعد النكسات الشديدة؛ والحرب الحالية ليست استثناءً من ذلك. ولم يكن لخسارة عدد كبير من كبار القادة – بمن فيهم يحيى السنوار، القائد العام لحماس في غزة والعقل المدبر لهجمات 7 أكتوبر، ومحمد الضيف، قائد الجناح المسلح لحماس، ومروان عيسى، نائب قائد الجناح العسكري لحماس – تأثير واضح على قدرتها على القتال. ولا يزال إجمالي القوة البشرية لألوية حماس غير واضح. وكانت مصادر إسرائيلية قد زعمت في صيف عام 2024 أن حوالي 17,000 من مقاتلي الحركة قُتلوا منذ أكتوبر 2023، بمن فيهم “نصف قيادة” جيش حماس. ولكن اعتباراً من مايو 2025، قدر مسؤولو الاستخبارات الإسرائيلية أن 8,900 مقاتل فقط من حماس والجهاد الإسلامي قد قُتلوا، وفقاً لقاعدة بيانات سرية كشفت عنها مؤخراً صحيفة الجارديان البريطانية ومجلة +972، وهي مجلة إلكترونية للأخبار والرأي، تأسست في أغسطس 2010 من قبل مجموعة من أربعة كتاب إسرائيليين في تل أبيب. وخلص مسؤولو الاستخبارات الأمريكية في يناير إلى أن حماس ربما أضافت ما يصل إلى 15,000 مقاتل إضافي منذ بدء الحرب. ولا يميز المسؤولون في غزة والأمم المتحدة بين المدنيين والمقاتلين في إجمالي عدد القتلى، ولكن إذا كانت قاعدة البيانات الإسرائيلية صحيحة، فهذا يعني أن أكثر من 80 في المائة من 53,000 شخص يُعتقد أنهم قُتلوا حتى مايو 2025 كانوا مدنيين. ومن المفارقات أن التصعيد الإسرائيلي المستمر قد يغذي صمود حماس. وإلى حد ما، أدى اليأس المتزايد لمدنيي غزة إلى تغذية المعارضة العامة لحماس. فبعد أن فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على المساعدات في مارس، بدأ سكان غزة بتنظيم احتجاجات مناهضة لحماس في شمال القطاع، مطالبين بإدخال المساعدات فوراً وبتخلي حماس عن السلطة. وتراوح رد فعل حماس بين السماح بإظهار الاستياء وقمع المظاهرات. ورغم أن حماس واجهت دائماً معارضة شديدة لحكمها في غزة، إلا أن الاحتجاجات الشعبية كانت نادرة في السابق. ويبدو أن ظهورها في مارس كان رداً مباشراً على الوضع المتأزم في غزة في ظل قطع إسرائيل للمساعدات.

A group of tents in a city

AI-generated content may be incorrect.

كما شجعت حركة فتح، التي تسيطر على السلطة الفلسطينية في رام الله، معارضة حماس في القطاع، وحاولت استغلال غضب سكان غزة وتهيئة نفسها لحكم غزة بعد الحرب. وفي غضون ذلك، طوّرت إسرائيل استراتيجيتها الخاصة لتفتيت النسيج الاجتماعي للفلسطينيين، بما في ذلك دعم وتسليح ميليشيا معادية لحماس في رفح، يسيطر عليها ياسر أبو شباب، وهو مهرب مخدرات ذو نفوذ كان قد هرب من سجن حماس في أكتوبر 2023، وله علاقات أيضاً بحركة فتح. ووفقاً لمسؤولين في الأمم المتحدة وعمال إغاثة دوليين، فإن ميليشيا أبو شباب تنهب قوافل المساعدات. ويبدو أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى إيهام سكان غزة بأن حماس تسرق طعامهم – كما زعم المسؤولون الإسرائيليون منذ فترة طويلة، دون تقديم أدلة – وبث الفوضى. وبالنسبة لإسرائيل، فقد يكون هذا أيضاً وسيلة لفرض فكرة أنها تستطيع وضع رجالها في موقع السيطرة والسلطة في القطاع، استعداداً لما بعد الحرب في غزة. وبعد الكشف عن تسليح إسرائيل للميليشيا في أوائل يونيو، دافع نتنياهو علناً عن هذا الأمر، قائلاً: “ما الخطأ في هذا؟ إنه ينقذ أرواح جنود جيش الدفاع الإسرائيلي”.

ومع ذلك، فإن نهج “فرّق تسد” هذا، إلى جانب الهجمات المتواصلة على المدنيين، قد رسّخ أيضاً المقاومة بين سكان غزة العاديين، الذين يرون الآن أن إسرائيل تشن حرب إبادة. وفي جنوب غزة، تُعتبر ميليشيا أبو شباب مكروهة على نطاق واسع، وقد تبرأت عائلة أبو شباب بنفسها منه ودعت إلى قتله. وفي غضون ذلك، هناك مؤشرات، بما في ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، على أن أعداداً متزايدة من الشباب الفلسطينيين الذين لم يتلقوا تدريباً سابقاً قد انضموا إلى كتائب عز الدين القسام وقاموا بأعمال حرب عصابات. وعلى الرغم من أن القصف المكثف والتقسيم الإقليمي لقطاع غزة بأكمله تقريباً قد أضعف التنسيق بين مجموعات المقاتلين، الذين يتصرفون بشكل مستقل بشكل متزايد، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً تجاه قدرتهم على العمل.

وهناك عامل حاسم آخر في قدرة حماس على البقاء وهو شبكة أنفاقها الضخمة. فحتى الآن، وبعد أشهر من القصف المكثف واستخدام التقنيات المتقدمة، لم تتمكن القوات الإسرائيلية من تدمير أجزاء كبيرة من هذه المدينة الواقعة تحت الأرض، مما سمح لحماس بمواصلة إخفاء الرهائن والأسرى المتبقين، وحماية مقاتليها، وتوفير قواعد لمراقبة القوات الإسرائيلية ومهاجمتها. ويُبرز عجز إسرائيل عن السيطرة على أعماق الأرض الطبيعة غير المتكافئة للصراع، الذي يضع بشكل متزايد أنظمة أسلحة متطورة وباهظة الثمن، تم الحصول على العديد منها من دول غربية، في مواجهة صواريخ ومتفجرات وأنفاق محلية الصنع.

وأثارت الكمائن الأخيرة التي نصبها مقاتلو حماس مخاوف متزايدة لدى المسؤولين العسكريين الإسرائيليين من احتمال أسر المزيد من الجنود. ففي يوليو، نفّذ الجيش ما يُسمى بقاعدة توجيه هانيبال، الذي يُلزم الجيش باستخدام جميع الوسائل اللازمة لمنع أسر الجنود من قِبَل العدو، حتى لو أدى هذا الاستخدام للقوة إلى مقتلهم. وفي الواقع، فمن بين 205 رهائن وأسرى أُطلق سراحهم منذ بدء الحرب، لم يُفرج إلا عن ثمانية منهم نتيجة عمليات إنقاذ إسرائيلية-أمريكية وكان هؤلاء الستة في مبانٍ فوق الأرض، وليس في أنفاق تحت الأرض. وفي 8 يونيو، أدت عملية عسكرية إسرائيلية لإنقاذ أربعة رهائن من مبنى في مخيم النصيرات للاجئين وسط غزة إلى مذبحة راح ضحيتها 274 مدنياً، من بينهم 60 طفلاً. وأدى عجز إسرائيل عن تدمير أنفاق حماس إلى تزايد الجهود المبذولة لتدمير كل ما هو فوق الأرض في غزة. فمنذ أكتوبر 2023، بدأت إسرائيل في استهداف مخيمات النازحين والمدارس والمستشفيات، بهدف تأليب السكان ضد حماس وإجبارهم على الاستسلام. ورغم فشل هذا الهدف، ضاعفت الحكومة الإسرائيلية من هذه الاستراتيجية منذ استئناف الحرب في مارس، ففرضت قطعاً تاماً للمساعدات لمدة 11 أسبوعاً، ثم سيطرت فعلياً على إيصال المساعدات بدءاً من أواخر مايو من خلال إنشاء “مؤسسة غزة الإنسانية” (سيئة الذكر)، مما أدى إلى مقتل مئات الغزيين على يد القوات الإسرائيلية في نقاط توزيع المساعدات الإنسانية، والتي وصفها جندي من جيش الدفاع الإسرائيلي لصحيفة هآرتس الإسرائيلية في يونيو بأنها “ساحة قتل”.

لطالما أكدت حماس على البعد التضحوي في مشروعها التحريري، مما ساعدها على إعادة غزة إلى مركز القضية الفلسطينية. وعلى عكس نظرائهم في المناطق الفلسطينية الأخرى، فإن الغزيين مرتبطون بأرضهم في المقام الأول ليس بسبب وجودهم التاريخي هناك، ولكن بسبب مكانتها كمكان للجوء. وجميع الغزيين تقريباً هم من نسل لاجئي عام 1948، عندما طُرد حوالي 250 ألف فلسطيني إلى غزة من مدنهم وقراهم مع نشأة “إسرائيل”، وقد توارثوا قصصاً عن المجازر وعمليات التهجير الماضية. وترى حماس أن الحرب الحالية جزء من هذا التقليد في هذه المسيرة. وفي ضوء الحرمان الشديد والقتل الجماعي الذي لحق بسكان غزة المدنيين في الحرب الحالية، شبّه خالد مشعل، زعيم حماس في الخارج، غزة بالجزائر، حيث لم يتحقق استقلالها إلا بعد مقتل أكثر من مليون مدني.

معزولون، لكنهم ليسوا وحيدين

وعلى الرغم من أن قادة حماس كانوا يعولون على انضمام حلفائهم الإقليميين إليهم بعد 7 أكتوبر في الحرب، إلا إنهم منذ البداية اعتبروا أن حركة حماس في غزة مستقلة (في اتخاذ قراراتها). فلم تُطلع الحركة أعضاء المحور الآخرين على التخطيط المحدد وتفاصيل هجمات 7 أكتوبر، وكانت هي وحدها من أشعل الفتيل. وفي المقابل، اعتمدت كتائب حماس على علاقاتها مع جماعات مسلحة أخرى داخل غزة، بعضها كان قائماً بالفعل قبل 7 أكتوبر، وعزّزت من قدراتها. وكان من أهمها التفاهم طويل الأمد بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي. وكانت إسرائيل قد سعت في عام 2022 إلى دق إسفين بين الحركتين لبث الفرقة بينهما من خلال شن حملة مكثفة ضد حركة الجهاد الإسلامي حصرياً. وفي ذلك الوقت، بدت الاستراتيجية ناجحة، حيث بدا تلاشي حماس عن الأنظار، وخلص العديد من المسؤولين الإسرائيليين إلى أنها ضعيفة. وبالنظر إلى الماضي، فيبدو أن قرار حماس بالبقاء بعيداً عن مواجهة 2022 كان تقسيماً للعمل متفقاً عليه مع الجهاد الإسلامي، وهو ما منح حماس مزيداً من الحرية للاستعداد لهجمات 7 أكتوبر. ومنذ بدء الحرب، ظلت حماس متحالفة بشكل وثيق مع الجهاد الإسلامي، والتي استمرت حتى هذا الصيف في احتجاز أحد الأسرى الإسرائيليين المتبقين، روم براسلافسكي. كما ازداد التنسيق بين الأجنحة المسلحة للجماعات، بما في ذلك في عدد من الهجمات المشتركة الأخيرة في خان يونس. وقد تم تنظيم هذه الهجمات جزئياً من قبل غرفة العمليات المشتركة، وهي منظمة أنشأتها حماس والجهاد الإسلامي في عام 2006، لكنها ظهرت رسمياً بعد سنوات، خلال مسيرة العودة الكبرى عام 2018، وهي سلسلة من الاحتجاجات الشعبية التي قام بها سكان غزة على الحدود بين غزة وإسرائيل. واليوم، تجمع غرفة العمليات المشتركة 12 فصيلاً مسلحاً فلسطينياً – بما في ذلك سرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى، وكتائب أبو علي مصطفى، وكتائب المجاهدين، وكتائب عمر القاسم، إلى جانب حماس والجهاد الإسلامي – وأصبحت غرفة العمليات هذه هي المكان الذي تُتخذ فيه العديد من القرارات بشأن الحرب والمفاوضات. وفي الأسابيع الأخيرة، ظهرت دلائل على أن هذه الجبهة الأوسع قد تنهار. حيث دعا أعضاء غرفة العمليات المشتركة حماس إلى إنهاء الحرب. وخلال اجتماع مع رئيس المخابرات المصرية، انتقدت بعض هذه الفصائل أيضاً مماطلة حماس في التوصل إلى وقف إطلاق النار، وهو ما قد يفسر موافقة حماس الفورية على مقترح 18 أغسطس دون تعديلات. ومع ذلك، لم تُحدث هذه التصدعات في التحالف أي تغيير في عزم الكتائب على القتال. بل إن هناك إجماعاً بين الفصائل على استحالة التنازل أو الاستسلام.

ويرى أعضاء كتائب عز الدين القسام الأساسيون أن استمرار الهجمات على القوات الإسرائيلية هو وحده الكفيل بإجبار نتنياهو على الموافقة على وقف إطلاق نار جديد وإنهاء الحصار. ومن وجهة نظرهم، كان الضغط العسكري من حماس – بما في ذلك الانتكاسات الكبيرة التي مُنيت بها إسرائيل في رفح وجباليا في نوفمبر وديسمبر 2024، بالإضافة إلى هجمات السكاكين في كل من بيت لاهيا وبيت حانون التي تسببت في مقتل عدد من الجنود في يناير 2025 – هو ما دفع نتنياهو في النهاية إلى توقيع وقف إطلاق النار المدعوم من الولايات المتحدة في منتصف يناير. وتأمل كتائب عز الدين القسام، من خلال الاستمرار في شن عمليات كبيرة، في زيادة الضغط على نتنياهو، بما في ذلك من جيشه. ومن بين هذه الحالات مقتل خمسة جنود إسرائيليين في 7 يوليو في بيت حانون، مما دفع بعض الشخصيات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، من اليمين والمعارضة، إلى الضغط على الحكومة للسماح للجنود بالعودة إلى معسكراتهم وتسريع الجهود للتوصل إلى وقف إطلاق النار. 

بين حماس والموقف الصعب

بعد ما يقرب من عامين من الحرب، تكاد نقاط قوة حماس ونقاط ضعفها تتناقض مع نقاط قوة إسرائيل. فبينما تمتلك إسرائيل موارد عسكرية هائلة، إلا أنها تكافح لتوفير عشرات الآلاف من القوات الإضافية التي تحتاجها لغزوها الشامل لمدينة غزة، تواصل حماس، على الرغم من الخسائر الفادحة في صفوفها، تجنيد مقاتلين جدد. وفي غضون ذلك، ومع توسع حماس في عملياتها، تخسر إسرائيل المزيد من جنودها على الأرض. كما تواجه صعوبة متزايدة في حثّ جنود الاحتياط على أداء مقتضيات واجباتهم.

في الحقيقة، فإن اقتراح وقف إطلاق النار في 18 أغسطس ليس جديداً. فهو يستند على اقتراح سابق طرحه مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ستيف ويتكوف، يدعو إلى الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، ومثل وقف إطلاق النار في يناير، يسمح لإسرائيل باستئناف حربها على غزة في نهاية فترة الستين يوماً. وقد قبلت حماس نسخاً سابقة من هذا الاقتراح حتى قبل ردها على الاقتراح الجديد في 18 أغسطس. وقد تعامل نتنياهو مع مقترحات وقف إطلاق النار ليس على سبيل المفاوضات، بل كوسيلة لتحقيق ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالقوة. ففي أواخر أغسطس، دعا هو ومسؤولون حكوميون إسرائيليون آخرون إلى اتفاق “الكل أو لا شيء” الذي قال المفاوضون إنه غير قابل للتفاوض. ويحاول نتنياهو الآن دفع القوات الإسرائيلية إلى أنفاق مدينة غزة، على الرغم من المعارضة الشديدة من الجيش الإسرائيلي. حيث قال الجيش إن الاستيلاء على المدينة قد يستغرق أكثر من عام حتى يكتمل وسيكون خطيراً للغاية وأنه يفضل استخدام كل فرصة للتفاوض قبل القيام بمثل هذا الهجوم. وفي عام 2024، سعى نتنياهو والمؤسسة العسكرية إلى هزيمة حلفاء حماس الإقليميين، وخاصة حزب الله في لبنان. ولكن الآن، ومع استمرار فشل الجيش في تحقيق أهدافه المعلنة ضد حماس نفسها، فقد صعّد هجماته في لبنان وسوريا واليمن. ومن خلال الترويج لأفعاله على هذه الجبهات الأخرى، بما في ذلك ضد إيران في يونيو، فيمكن للحكومة التقليل من شأن الوضع الفعلي في غزة. حيث ظهرت على نحو متزايد فجوة هائلة بين صورة الصراع التي تحاول الحكومة الإسرائيلية نقلها والواقع على الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى