fbpx
ترجمات

فورين بوليسي: صندوق النقد ومصر ـ الدعم على حساب الفقراء

نشرت مجلة فورين بوليسي في ١٤ فبراير مقالاً لتيموثي كالداس، الباحث المختص بالسياسات في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، وهو مؤسسة بحثية أمريكية غير ربحية وغير حزبية، تحت عنوان: “لدى صندوق النقد الدولي كثرة مفرطة من الاقتصاديين، من أجل تحقيق مصلحته الخاصة”، حيث يرى الباحث أنه في ضوء الأزمة التي يرزح تحت نيرها الاقتصاد المصري والنهج الذي اتبعه صندوق النقد الدولي في برامج الإقراض التي قدمها لمصر، فإن الصندوق في حاجة ماسّة إلى إجراء “إصلاحات هيكلية عميقة” يقوم بها بنفسه ولنفسه، شريطة أن يقوم بذلك على وجه السرعة، وإلا فإن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يقوم بإفقار بلدٍ آخر، بدلاً من تقديم يد العون له. وقد جاء مقال تيموثي كالداس على النحو التالي:

لقد مضت ست سنوات كاملة منذ أن أطلق صندوق النقد الدولي أول برنامج قروض له في مصر في عهد الجنرال عبد الفتاح السيسي. ثم ما لبث الصندوق أن قام بتنفيذ برنامج قرض ثانٍ؛ وهو الآن على وشك البدء في تنفيذ برنامج قرض ثالث. ومن الواضح أن هناك شيئاً ما خاطئاً في مصر. لكن المشكلة الأعمق قد تكمن في صندوق النقد الدولي نفسه. إن إخفاقات صندوق النقد في مصر هي بمثابة رسالة تحذيرية، تسلط الضوء على أوجه القصور الصارخة في النهج الحالي الذي يتبعه صندوق النقد الدولي في التخطيط الاقتصادي.

لقد أمضى النظام المصري السنوات العديدة الماضية في استخدام إمكانية الاقتراض الخارجي بشكل موسّع في تمويل مجموعة واسعة من المشاريع العملاقة ومشاريع البنية التحتية غير المدروسة جيداً، والتي غالباً ما تم التعاقد بالأمر المباشر مع الشركات المملوكة للنظام، ولا سيما تلك الشركات التي يملكها الجيش، من أجل تنفيذها. وهكذا أصبحت الدولة المصرية مثقلة بكمية هائلة من الديون التي لا يمكن تحملها، حيث استهلك السداد المنتظم للفوائد وحدها حوالي نصف إيرادات الدولة. وفي نفس الوقت، كانت الشركات المملوكة للنظام معفاة بشكل عام من ضرائب الشركات وضريبة القيمة المضافة وكذلك رسوم الجمارك، مما أدى إلى حرمان الدولة من مصادر الإيرادات التي هي في أمسِّ الحاجة إليها.

في الواقع، كانت هناك حالات من التربح غير المشروع تتم بشكل صارخ ومضرّ للغاية بالصحة المالية للبلاد، حتى إن برنامج صندوق النقد الدولي الجديد بدأ بفرض قيودٍ محددة على الحكومة عند الدخول في مشاريع جديدة. وبدأ البرنامج الجديد أخيراً في التطرق إلى موضوعات مثل شفافية الإدارة والمصادر الاقتصادية المسيَّسة التي تقف وراء المشاكل الاقتصادية طويلة الأمد والمتنامية في مصر، بما في ذلك الإمبراطورية الاقتصادية المتوسعة للجيش المصري. لكن المشكلة تكمن في أنه في الوقت الذي استغرقه صندوق النقد الدولي حتى يبدأ في الاستجابة الجادة لهذه القضايا الصارخة، كان النظام المصري (في عهد السيسي) قد زاد الدين الخارجي لمصر بأكثر من 100 مليار دولار، عما كان عليه من قبل.

ولم يحدث هذا كله رغماً عن صندوق النقد الدولي، بل كان في الحقيقة بمباركته. فقد تم تسهيل قدرة مصر على اقتراض مثل هذه المبالغ الضخمة من خلال دعم الصندوق المستمر للنظام والثناء على إصلاحاته الاقتصادية، بدءاً من أول برنامج قروض سيئ التصميم قدمه الصندوق لمصر، والذي أعلن صندوق النقد الدولي بعدها أن مصر “أكملته بنجاح” في يوليو 2019. وعلى الرغم من المزاعم بنجاح مصر ذلك (في إتمام برنامج القرض الأول في عهد السيسي، عام 2016، والبالغ ١٢ مليار دولار أمريكي على ثلاث سنوات)، اضطرت البلاد إلى العودة إلى صندوق النقد في عام 2020 من أجل طلب ضخ نقدي آخر يصل إلى ما يقرب من 8 مليارات دولار في شكل تمويل إضافي. وقد جاء ذلك مع بدايات جائحة كوفيد -19، حيث فرّ المستثمرون في الديون المصرية من البلاد، بعد أن انتابهم الذعر، ونزحوا معهم حوالي 14 مليار دولار في خلال ستة أسابيع فقط. وفي ديسمبر الماضي، وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على برنامج قرض آخر لمصر، بقيمة 3 مليارات دولار من الصندوق و 14 مليار دولار أخرى، في شكل تمويل إضافي من شركاء مصر الدوليين والإقليميين. وفي وقت سابق من نفس العام، وتحديداً في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، غادر المستثمرون مصر فجأة بحوالي 20 مليار دولار. وفي العام الماضي، حذّرت كل من وكالة بلومبرج وبنك أوف أمريكا من أن مصر كانت من بين الدول الخمس الأكثر عُرضة لخطر التخلف عن السداد (الإفلاس).

وبالنسبة لمؤسسة مالية كبيرة تركز بشكل أساسي على تنفيذ برامج الدعم المالي التي تهدف إلى تحقيق حالة من “استقرار الاقتصاد الكلي”، فإن هذا يمثل قدراً كبيراً من الهشاشة في قصة النجاح المفترضة لصندوق النقد الدولي.

ويمكن للمرء أن يجادل بشكل منطقي بأن كلاً من جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا كانتا لحظات فريدة من نوعها على مدار التاريخ، أدت لإحداث صدمات استثنائية لم تكن خطأ أي من الحكومة المصرية أو صندوق النقد الدولي. وتكمن المشكلة في أن معظم الأهداف الأخرى لصندوق النقد الدولي في برنامج عام 2016 مع الحكومة المصرية كانت تظهر بالفعل علامات الفشل في عام 2019:

– كان الهدف الرئيسي للبرنامج هو تحقيق “نمو يقوده القطاع الخاص” في مصر. ومع ذلك، ففي الشهر الذي يسبق ذلك “النجاح” الذي أعلنه صندوق النقد الدولي، أظهرت استطلاعات مؤشر مديري المشتريات لبنك الإمارات دبي الوطني أن القطاع الخاص قد انكمش بالفعل. وفي الحقيقة، كان القطاع الخاص في مصر قد انكمش فعلاً لمدة 75 شهراً من 84 شهراً أو سبع سنوات.

– وكان من أهداف برنامج 2016 “خلق فرص عمل وزيادة نسب المشاركة في سوق العمل، لا سيما بين النساء والشباب”. لكن في الواقع، انخفضت المشاركة الإجمالية للقوى العاملة من 47% في عام 2016 إلى 42% بحلول عام 2019، وخلال ذلك الوقت، انخفضت نسبة الانخراط في القوى العاملة، خاصةً بين النساء والشباب، حيث انخفضت النسبة من 23% إلى 16% ومن 30% إلى 22% على التوالي.

– وكان صندوق النقد الدولي قد قال إن القرض الذي قدمه لمصر عام 2016 كان يستهدف تعزيز “النمو الشامل”. ولكن في عام 2016، بلغ معدَّل الفقر 27.8%، وارتفع إلى 29.7% في العام المالي (2019-2020)، وفقاً للإحصاءات الحكومية. وكان البنك الدولي قد قدَّر في عام 2019 أن 60% من المصريين يعيشون على حافة من خط الفقر أو تحته.

وفي اعتراف متأخر له بالمشكلات الهيكلية التي تُركت دون التطرق لمعالجتها، يبدو أن صندوق النقد الدولي في النهاية قد ذهب بعيداً عن التقليل من الأداء الضعيف للحكومة المصرية تجاه الصدمات الخارجية، مشيراً في تقرير البرنامج الأحدث إلى أن “اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا قد أدى إلى إبراز الضغوط التي كانت قائمة بالفعل من قبل”، مع الاعتراف بأن المشاكل المركزية التي تقوّض الاقتصاد المصري كانت موجودة بالفعل في مصر وليست بسبب الصدمات الخارجية. ومع ذلك، يأتي هذا الكلام بعد عدة سنوات من إشادة صندوق النقد الدولي ومساهميه بالأداء الاقتصادي لمصر، مما ساعد النظام على إثراء نفسه بشكل واضح مع تدمير الصحة المالية للدولة المصرية وإفقار السكان، الذين اضطروا إلى مواجهة نوبات متكررة من إجراءات التقشف، والتضخم المروّع الذي تجاوز في بعض الأحيان 30%، والانهيار المتكرر للعملة المحلية في البلاد.

وبالتأكيد يتحمل قادة مصر المسؤولية عن الأفعال التي قاموا بها ضد مصالح البلاد وشعبها، لكن صندوق النقد الدولي ومساهميه مسؤولون أيضاً عن الدور الذي لعبوه في التمكين لهؤلاء، وفي حالة بعض المساهمين، الاستفادة من هذه الديون المدمرة التي غذت صرعة الإنفاق التي تفشت في البلاد. ولم تكن أهداف جنرالات مصر من وراء هذا الإنفاق تنحصر في إثراء أنفسهم فقط، لكنهم أنفقوا تلك الأموال أيضاً لكسب الأصدقاء في العواصم الرئيسية للعالم. فمنذ عام 2012 حتى عام 2021، قدمت مصر ما يُقدّر بحوالي 12.3 مليار يورو (حوالي 13.2 مليار دولار) من طلبات لمشتريات الأسلحة من فرنسا، أي ما يقرب من مبيعات الأسلحة التي قام بها الاتحاد الأوروبي بأكمله في نفس الفترة. وفي عام 2021، وهو عام قياسي بالنسبة لصادرات الأسلحة الألمانية، ذهب 46% من صادرات الأسلحة الألمانية إلى مصر.

ولذلك، ينبغي أن تكون هناك مساءلة حول ذلك في صندوق النقد الدولي. فإذا افترضنا أفضل ما في الصندوق، فهذا الأمر يعني أنه كان غير مؤهل وعلى غير جاهزية، إلى حد يُرثى له، من أجل تصميم برنامج إقراض لمصر في عام 2016. والحقيقة أن هذا البرنامج الثالث (الحالي) كان رائعاً لأنه تجرأ أخيراً على محاولة كبح جماح التربح غير المشروع الذي يديره النظام، ولكن من اللافت للنظر أيضاً أن الأمر استغرق ثلاثة برامج إقراض وأكثر من ست سنوات حتى أدرك الصندوق أخيراً أن ذلك كان ضرورياً. ويحتاج صندوق النقد الدولي إلى عدد أقل من الاقتصاديين وعدد أكبر بكثير من المتخصصين في أمور الدولة، والاقتصاديين السياسيين، وعلماء الاجتماع، والمؤرخين من أجل تصميم برامج الصندوق في المستقبل. حيث كان بإمكان أي اقتصادي سياسي يعمل في مصر تحديد العديد من هذه المخاطر، قبل وقت طويل من صرف الدفعة الأولى من قرض الصندوق في عام 2016.

إن الأدبيات الاقتصادية والسياسية الاقتصادية التي نُشرت عن مصر واسعة النطاق. فقد ظل الاقتصاديون السياسيون على مدى عقود يكتبون عن إشكاليات إمبراطورية الجيش الاقتصادية التي يجري ترسيخها في البلاد على نحو متزايد. وقد أشار كتاب نشره البنك الدولي منذ عام 2004 أن النساء في كل أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – ولكن بشكل خاص في مصر – يعتمدن على التوظيف في القطاع العام كمحرك لمعدلات مشاركتهن المتزايدة في القوى العاملة. وكما هو متوقع، فقد أدت الوصفة الروتينية لصندوق النقد الدولي في خفض فاتورة رواتب القطاع العام إلى انخفاض حاد في مشاركة المرأة في القوى العاملة. وكان ينبغي توقع هذا الخطر ومعالجته في أثناء تصميم البرنامج. لكن بدلاً من ذلك، تُركت مشاركة الإناث في القوى العاملة لتتجه نحو حالة من الانهيار الحاد ولم تظهر بعد أي علامة على التعافي من ذلك.

وتمثل التنمية تحدياً للعمل في ظل أفضل الظروف، ولكن تجاهل أو عدم إدراك تلك الأدبيات الموجودة بالفعل، والتي كان من المفترض أن تساعد مخططي صندوق النقد الدولي على توقع فشل برامجهم، هو أمر لا يمكن تبريره على الإطلاق.

إن أخذ الدروس من خلال التجربة أو ما يُسمّى ‘التعلم أثناء العمل’، بينما يقع ملايين المصريين في براثن الفقر ويتم إثقال بلادهم بالديون التي تُستخدم في تمويل مشاريع الزهو والغرور، مثل أطول برج في إفريقيا، وأطول خطوط المونوريل في العالم، وسلسلة من القصور الرئاسية الجديدة لرئيس البلاد المستبد الوحشي، هو أمر غير مقبول على الإطلاق. ويحتاج صندوق النقد الدولي بشدة، كما يرِد في الوصفات التي يقدمها في كثير من الأحيان، إلى القيام بنفسه بـ “إصلاحات هيكلية عميقة” لأركانه، على أن يقوم بهذه الإصلاحات على وجه السرعة؛ وإلا فإن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن يقوم بإفقار بلدٍ آخر، بينما يشير بأصابع الاتهام إلى قيادات تلك البلاد، وكأنه لم يشاركهم المسؤولية عما حدث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close