المعهد المصري للدراسات

قراءة إسرائيلية للربيع العربي في ذكراه الحادية عشر

مع مرور أحد عشر عاما على اندلاع الثورات العربية في 2011، ما زالت المنظومة الأمنية الإسرائيلية تبدي انشغالا بإعداد تقييمات متلاحقة لها، سواء ما تعلق بأسبابها، أم بعواملها، أم بحيثياتها، أم بيومياتها، أم بالمشاركين فيها، وأخيرا نجاح بعضها، وإخفاق بعضها الآخر، من خلال عدد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية المرتبطة بأجهزة الأمن والجيش.

السمات العامة

لاحظت الأوراق البحثية الصادرة عن الخبراء الإسرائيليين سمات عديدة للثورات العربية، على الأقل في بداياتها الأولى في مثل هذه الأيام من عام 2011، قبيل ما حل بها من إجهاض وانقلاب عليها، لم تكن الأصابع الإسرائيلية بعيدة عنها، ويمكن رصد أهم السمات التي رصدتها الأوساط الإسرائيلية للثورات العربية على النحو التالي:

  1. الثورات العربية بدون قيادة، ويصعب ذكر أسماء لقادتها، ولا توجد شخصية حضورها قوي تقودها.
  2. نشبت الثورات العربية بغير أيديولوجية منظمة، ومنذ أن جاء الإخوان المسلمون بدأت تُصبغ الثورة العربية بصبغة عقائدية تتمثل بـ”الإسلام السياسي”، على الرغم من أن كل دولة عربية عبارة عن فسيفساء طائفية ودينية واجتماعية واقتصادية مختلفة، مع تراث سياسي وتاريخي خاص.
  3. أهمية إدراك قوة الشبكات الاجتماعية، لأن الجماهير التي تستعملها لا يمكن إيقافها، حيث يشهد الشرق الأوسط والدول العربية تنامياً لشبكات اجتماعية أقوى من “فيس بوك والجزيرة”، فالمساجد التي يزورها العرب خمس مرات في اليوم، وجمعيات الرفاه والتربية والمساعدة والدعوة للإخوان المسلمين التي تدعم حاجات السكان الفقراء، حسمت الأمر في انتخابات بعض الدول التي شهدت الثورات في بداياتها الأولى، قبيل إجهاضها بفعل الثورات المضادة.

وقد تعددت الأوصاف التي أطلقها الإسرائيليون على أحداث الربيع العربي، وتركزت معظمها في تكرار مفردات: “الزلزال، والعاصفة، والبركان، والهزات”، لأنها هددت بإسقاط الأنظمة التي صمدت على مدى عقود من الزمن، وتسببت بالفعل في تهديد استقرار المنطقة بأكملها، على الأقل من وجهة النظر الإسرائيلية، التي دأبت على التحريض ضد الثورات منذ لحظاتها الأولى.

ولئن بدأت الاضطرابات في العالم العربي باسم الحداثة والعلمانية والديموقراطية، لكنها سرعان ما تصاعدت إلى انتفاضات واسعة النطاق، ومن ثم ثورات وحركات مقاومة تواصل زعزعة الاستقرار في المنطقة وبشكل متزايد، وأدت في نهاية الأمر إلى تمكين الأنظمة الإسلامية، قبل أن يتم الانقلاب عليهم، داخليا وخارجيا.

ومع مرور الوقت، واتساع رقعة الثورات العربية، توفر شبه إجماع في أوساط النخب الأمنية والسياسية الإسرائيلية بأنّ “الربيع العربي” يمثّل نقطة تحول استراتيجية تتطلب تغييراً في العقيدة الأمنية لـ”إسرائيل”، لأنه يمتلك مقومات موضوعية تمكِّنه من شقّ طريقه، و”تهدم المعبد الإسرائيلي على رؤوس أصحابه”.

لكن جنرال الاحتياط غيورا آيلاند رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، وأحد العقول الأمنية الإسرائيلية الأكثر قرباً من دوائر صنع القرار في تل أبيب، أصدر تحذيرات متتالية من أن الثورات العربية، ولئن لم تحدث انقلاباً كبيراً في صورة المشهد الإقليمي في المنطقة، على صعيد عدم حصول تغييرات جوهرية على العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية مع “إسرائيل”، بالرغم من التغيير التكتيكي المتمثل في اتساع عمليات تهريب السلاح والعمليات المعادية، لكن خطورتها الحقيقية، تمثل من تبعات امتداد هذه الثورات إلى دول الجوار الإسرائيلي، خصوصاً في الأردن، لأن ثورة ديموقراطية هناك ستدفع الأغلبية الفلسطينية للحكم، وتغير طبيعة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع مقترحات جديدة لتسويته.

في الوقت نفسه، لم يخفِ الإسرائيليون مخاوفهم بشأن تأثرهم سلباً بالثورات العربية بفعل سيطرة الحركات الإسلامية عليها، كونها الأكثر تنظيماً بين الفعاليات السياسية المشاركة في عملية التحول، كما أن ما يجري في العالم العربي يبعد احتمالات التسوية بين الفلسطينيين و”إسرائيل”، التي أضاعت، وما تزال، سلسلة فرص لإنهاء الصراع في العقود الأخيرة، وهنا يمكن وضع اليد على القواسم المشتركة للانقلابات التي أجهضت الثورات العربية، وحالة الدفء التي طرأت على علاقاتها مع “إسرائيل”، وتحديدا منذ انطلاق موجة التطبيع في 2020، والحديث عن صفقة القرن في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وأطلق الخبراء الأمنيون الإسرائيليون العنان لوصف ما يجري من حراك في المنطقة العربية بأنه “تسونامي” عربي وضع “إسرائيل” في بيئة غير مستقرة، ودعوا لمراقبة الوضع بأعين واعية، وتجهيز القوات والترتيبات الأمنية تحسباً لخرق المعاهدات، أو لحدوث تغيير في السلطة في الجانب العربي، وفقاً لقول المستشرق الإسرائيلي يوسي فيرتر.

ولم يتوان نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق سيلفان شالوم عن القول إن “الثورات العربية القائمة في المنطقة العربية بمنزلة كارثة على “إسرائيل”، لاسيما بعد تنحي قادة كبار موالين لها مثل مبارك وزين العابدين، وقد أتى الربيع العربي بقيادة عكس ذلك”، مع العلم أن التغيرات التي أتت بها الثورات المضادة ربما تدفع كثيرا من المواطنين العرب للترحم على بعض قادتهم الذين أودت بهم الثورات الأخيرة، بسبب سوء الأداء السياسي الداخلي والخارجي الذي انتهجه خلفاؤهم من القادة الجدد.

التأثير على “إسرائيل”:

حاول الإسرائيليون تحديد بعض الاتجاهات العريضة لتأثيرات الثورات العربية في المستقبل المنظور على مستقبل “إسرائيل”، قبيل الالتفاف عليها، يمكن تلخيصها في نقطتين رئيسيتين:

  1. النقطة الأولى: تراجع نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وضعف الدول المتحالفة مع الغرب في المنطقة، فضلاً عن تضاؤل قوة العرب لصالح سواهم، خاصة تركيا وإيران.
  2. النقطة الثانية: المشهد الإقليمي الجديد حمل معه مخاطر لا تعدُّ ولا تحصى لـ “إسرائيل”، وتجلت في:
  3. مزيد من عدم اليقين حول سلوك قادة الدول المجاورة تجاهها، وانشغالهم بتطورات بلدانهم الداخلية.
  4. زيادة الأنشطة المعادية في الجبهات المحيطة: شمالا مع لبنان وسوريا، جنوبا مع غزة واليمن، شرقا مع إيران والعراق.
  5. انخفاض قوة الردع الإسرائيلية، لاسيما بالنظر لنتائج العدوانات الأخيرة على غزة بين عامي 2012-2021.
  6. تنامي العزلة الإقليمية، والعمل على تجاوزها عبر إطلاق موجة التطبيع الأخيرة مع دول الخليج والمغرب والسودان.
  7. التهديدات المتصاعدة في شرق البحر المتوسط، خاصة مع تزايد النفوذ التركي في ليبيا، ووصول إيران إلى شواطئ المتوسط في سوريا.
  8. استمرار التحدي النووي الإيراني، وتوجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لاستئناف إنجاز اتفاق نووي جديد.

وفي الشق السياسي من تأثيرات الثورات العربية، فقد مثلت ضائقة استراتيجية لـ”إسرائيل”، قد تؤدي لتداعيات سياسية خطيرة تؤثر في الواقع الإسرائيلي بشكل مباشر، ومنها:

  1. ازدياد عزلة “إسرائيل” في المنطقة، بعد أنْ خسرت حليفها الأهم بانهيار حكم مبارك، رغم جهودها لتعويض خسارته.
  2. القلق من نتائج الصراع بين القوى الديموقراطية والإسلامية على قيادة الدول العربية في مرحلة ما بعد الثورات، وقد أبدت تل أبيب تخوفها من حسم هذا الصراع لصالح سيطرة الإسلاميين على الحكم، مما دفعها للتدخل، ولو عن بعد، لترجيح كفة فريق على آخر، وفق المصالح الإسرائيلية.
  3. فقدان الدور الإقليمي الذي لعبته مصر إبان عهد مبارك باعتباره “أحد أكبر أصدقاء “إسرائيل”، وخسارة التوازنات الدقيقة التي قادها في منطقة الشرق الأوسط، وصبت في النهاية لمصلحة “إسرائيل”، حسب رأي وزير الأمن الأسبق بنيامين بن إليعازر، رغم إظهار “إسرائيل” حرصها على استعادة مصر بعد الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي لدورها السياسي الإقليمي، بما ينسجم مع التوجهات الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، وهو ما اتضح جلياً بعد حرب غزة الأخيرة 2021، والدفع الأمريكي الإسرائيلي لعودة مصر لقيادة الملف الفلسطيني على حساب الدور القطري بالذات.
  4. تضييق الهامش الذي تتحرك فيه السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، مع توقعات بنشوء حكومات مختلفة في بعض الدول العربية، يكون للرأي العام الشعبي دور أكبر بتشكيل سياساتها.
  5. الخوف من التحول التدريجي لمصر، لتصبح دولة إقليمية قوية على الطراز التركي، مما يضع “إسرائيل” في مواجهة محور إقليمي يضم: إيران وتركيا ومصر.
  6. القلق من استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة العربية، وهو أهم من الديموقراطية بالنسبة لـ”إسرائيل”.
  7. الخوف من قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، على غرار الانتفاضتين الأولى والثانية، في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، مع اكتساب زخم جديد من الثورات العربية، ومواكبة إعلامية كبيرة توفرها فضائيات لم تتواجد إبّان الانتفاضة الأولى.

وفي ضوء التطورات المتلاحقة للثورات العربية، وضعت التحديات الأساسية أمام “إسرائيل” في مستويين:

  1. المستوى الأول: يتعلق بوضع مصر مباشرة، لأنه إذا قام في مصر نظام ديموقراطي معتدل، فإن الوضع الجديد يضع “إسرائيل” في مواجهة مشاكل صعبة، وأبسط طريقة للتعبير عن ذلك هو استبدال اليقين بالشك، أو بعدم اليقين.
  2. المستوى الثاني: يتعلق بالنتائج العامة على مستوى الشرق الأوسط، والخشية من تقويض الانتفاضات الشعبية لحالة الاستقرار في الدول التي لا تعادي “إسرائيل” كالأردن والسلطة الفلسطينية، ويقدّم أنصار هذه الرؤية نظرة متشائمة ليس فيها بصيص من الأمل، خاصة في ضوء الأزمات الاقتصادية التي تعصف بهما معاً.

المشكلة الاستراتيجية

تمثلت المشكلة الاستراتيجية لـ”إسرائيل” عقب هذه الثورات العربية في أنها وضعتها أمام ضائقة استراتيجية بعد أنْ صارت بدون أصدقاء في الشرق الأوسط، فقد سقط حكم مبارك، وانهار التحالف مع تركيا، وتعاظمت العزلة في المنطقة، وبدا ضعف أمريكا ظاهرا، لاسيما بعد الانسحاب من أفغانستان أواخر 2021، كل ذلك سيجبر “إسرائيل” للبحث عن حلفاء جدد.

وقد أشار الباحث الديبلوماسي الإسرائيلي إيتمار لافين أن التحولات الجارية في حينه لدى اندلاع الثورات العربية تطلبت من “إسرائيل” قدراً كبيراً من التأهب التكتيكي والاستراتيجي على صعد مختلفة، وربما تكون الإشارة الأقوى على مأزقها من الثورات العربية ما أعلنه الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز عن تشاؤمه من الوضع الدولي لـ”إسرائيل”، فلا أحد يعلم كيف ستنتهي الاحتجاجات التي يشهدها العالم العربي، لأن قوى إسلامية متطرفة في مصر وتونس صعدت للحكم، وعززت قوتها.

يتضح مما تقدّم، إن الاتجاه السائد في تحليلات الإسرائيليين شدّد على أن الثورات العربية تنذر بتغيير البيئة الاستراتيجية لـ”إسرائيل”، مما يوجب عليها الإقلاع عن الأحكام السابقة، حين كان الفكر السياسي الإسرائيلي أسير صورة رسمها للحراكات الشعبية العربية السابقة، وقدرة الأنظمة العربية في الغالب على كبحها، دون إدراك عمق التراكمات المتمثلة في التغيرات التي أصابت المجتمع العربي خلال الفترة من 1973 إلى الآن.

لكن الدرس الذي يجب أن تتعلمه “إسرائيل” من الثورات العربية أنه لا يمكن العودة للوراء مهما حدث، ومهما واجهت هذه الثورات من مصاعب، فالتجربة أثبتت أن الشعوب هي صاحبة القرار في النهاية، والمستقبل بيدها، ما يعني أن “إسرائيل” ملزمة بإحداث تغيّر في سياساتها على نحو جذري، فلم يعد ممكناً الاستمرار في السياسات السابقة، التي تقودها الحكومات الأكثر أكثر يمينية، سواء عهد بنيامين نتنياهو أو خليفته نفتالي بينيت.

الجدير بالذكر أن هذا الاتجاه كان في بداية الحراك العربي، لكن بعد مضي عام تقريباً، وبعد الانقلاب الذي حصل في مصر أواسط سنة 2013، حصل تغيير في هذا الأمر، فأصبح رجالات الأمن الإسرائيلي يرون أن التغيير الحاصل في المشهد المحيط بالكيان يصب في صالحه، لكونه أسفر عن تحول بعض الأنظمة العربية، خصوصاً في سورية، من أنظمة عربية تشكل في مكان ما تهديداً للكيان، إلى أنظمة مشغولة في ذاتها، ولملمة شتاتها.

إن تراجع تهديد الأنظمة العربية للكيان الإسرائيلي، خصوصاً إذا وصل الجيش المصري في التعامل مع شعبه إلى ما وصله الجيش السوري، يسقط من قائمة التهديدات الثلاثة الأهم فيها، وهي جيوش سوري ومصر والعراق، وعليه فإن البيئة الاستراتيجية للكيان تدفع أوساطه لوصفها بأنها أفضل مما كانت عليه قبل الحراك العربي.

لقد أيقنت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في وقت مبكر أن الشاب محمد بوعزيزي حرق نفسه في ولاية سيدي بوزيد التونسية احتجاجاً على أوضاعه الاقتصادية، وإهانة شرطية لكرامته بصفعه على وجهه لأنه تجرأ على المطالبة بحقوقه الإنسانية، فأطلق صرخته الغاضبة، لتدوّي في العالم العربي، وتعجّ الشوارع العربية بالمتظاهرين السّاعين لنيْل حقوقهم ومطالبهم.

فيما لم تمهل مصر حاكمها أكثر من 18 يوماً ليغادر الحكم، وحاكى شباب اليمن تجربة ميدان التحرير، وأذهلوا العالم بمدى تحضّرهم وسلمية ثورتهم، وفي ليبيا انطلق الثوار، في 17 شباط/ فبراير، لإقامة نظام بديل عن القذافي.

أما في سورية، فقد انطلقت الاحتجاجات من مدينة درعا التي تعاني من التهميش، ومن أكثر المناطق المصدّرة للعمالة من سورية إلى الخارج، وانطلقت الاحتجاجات رداً على اعتقال شباب وأطفال في سنّ التعليم الأساسي ما دون 15 عاماً، وعدم تجاوب الجهات الرسمية مع الأهالي في الإفراج عنهم.

لقد بات واضحاً أن هناك ارتباكاً أصاب الاستخبارات الإسرائيلية في تعاملها مع الواقع العربي المستجد، وتوصيفها له، ولم يرُقْ لها تسمية ما يجري في المنطقة العربية بـ”الربيع”، وتفضيلها لتسمية “الهزة”، وبعد سقوط ثلاثة أنظمة حكم في إفريقيا: تونس، ومصر، وليبيا، توقعت سقوط أنظمة أخرى، فأثر “الدومينو” قد يجتاز قناة السويس للضفة الأخرى من الشرق الأوسط، نحو الداخل الآسيوي، وإن التغيير الأسرع يحدث في اليمن، حيث أجبر الرئيس صالح على التخلي عن الحكم، دون أن يسلم السلطة لأحد بشكل كامل.

كما واجهت الاستخبارات الإسرائيلية مصاعب جديدة، فخبراؤها أجادوا تحليل مواقف الزعماء العرب، ودوائر القرار حولهم، وطبيعة تزودهم بأسلحة حديثة، ولكن منذ أن دخلت الشعوب إلى المعادلة، بات الجمهور العربي كتلة جديدة، قوة تختلف عن الطابع الذي تدار به الأمور في الشرق الأوسط، مما تطلب من “إسرائيل” تواضعاً استخبارياً، فالاستخبارات العسكرية وغيرها من الأجهزة لم تفلح في التكهن بالتوقيت الصائب للهزة الكبيرة.

وقد انشغلت مراكز البحث ودوائر صنع القرار الإسرائيلي بمحاولة الإجابة على سؤال مركزي مفاده: كيف يمكن لـ”إسرائيل” استغلال وتوظيف الاضطرابات الشرق أوسطية الحالية، بما يتيح لها الفرصة من أجل تحسين ظروف سيطرتها على المشهد السياسي في المنطقة؟ خصوصاً بعد أن رأت بأم العين كيف أن الحشود الجماهيرية في تونس ومصر سعت للإطاحة بنظام الرئيسين: التونسي زين العابدين، والمصري مبارك، واستطاعت أن تحقق ذلك، مما أدى لتفشي موجة اضطرابات في كافة أنحاء الشرق الأوسط.

تواضع التقديرات

لقد بات المطلوب من “إسرائيل” السعي بأسرع ما يمكن لتوجيه حركة هذه الأحداث للإطاحة بخصومها الموجودين في المنطقة، وفي الوقت نفسه ألّا تتخلى عن العواصم القريبة منها، لاسيما القاهرة، بالسعي للسيطرة عليها بتعزيز قوة حلفائها الموجودين، ودعم صعودهم، بحيث لا يؤثر التغيير سلباً على مصالحها فيها، والسعي لتوطيد قوة حلفاء واشنطن الشرق أوسطيين المهددين بالسقوط.

وأضحت التوصية الأكثر انتشاراً في “إسرائيل” أن عليها السعي لتعزيز موجة الفوضى المتفشية في الشرق الأوسط، بالتركيز على دعم الاضطرابات التي تستهدف دمشق، وصولاً لإضعاف قوتها، وقدراتها الداخلية والخارجية، بما يؤدي لتحويلها عاصمة هشة وضعيفة لا يكون بمقدورها سوى القبول بمشروع السلام الإسرائيلي، والسعي لفرضه وفقاً لمبدأ السلام بالقوة الذي يفرضه الطرف القوي، وهو “إسرائيل”.

وقد وضعت المحافل الأمنية الإسرائيلية خلاصات لتقدير موقفها الاستراتيجي من حالة الثورات العربية على النحو التالي:

  1. انعدام الاستقرار، وتبني مواقف ودية أقل من “إسرائيل”.
  2. إضعاف النفوذ الإيراني في سورية ولبنان، وتعزيز التحالف المناهض لها في الخليج العربي.
  3. إمكانية إيجاد حلول للنزاع الطويل مع سورية والفلسطينيين.
  4. انخفاض أهمية مصر وسورية، المنشغلتان بشؤونها الداخلية، وارتفاع التأثير الإقليمي لتركيا وإيران.
  5. الضغط على حزب الله، كفيل بأن يسمح بالوصول لتسويات أمنية أكثر استقراراً مع لبنان.

وقد انشغلت مراكز البحث الإسرائيلية منذ اليوم الأول لانطلاق الثورات العربية بدراسة التداعيات المحتملة على “إسرائيل”، التي لم تُخفِ خوفها من نجاح بعضها، واستمرارها في بعض الدول، عبر مؤتمرات عقدتها لتوصيف الثورات، بمشاركة واسعة لباحثين واستراتيجيين، وقادة عسكريين، وبعض صانعي القرار فيها.

وشرعت الأوساط الأمنية الإسرائيلية تطلق أوصافها على هذه الثورات التغييرية، التي باتت تسمى في الأدبيات العربية والغربية “ربيعاً عربياً”، فيما اختارت “إسرائيل” لها مصطلح “الشتاء الإسلامي”، لأنها وفقاً لعاموس يدلين رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، لم تكن نموذجاً ليبرالياً أو علمانياً؛ ولا تغييراً غير عنيف، أدى مفعوله كـ “أثر الدومينو” السريع كما حدث في شرق أوروبا، بل الحديث عن ظاهرة واضح أنها في الطريق لأن تُغير وجه الشرق الأوسط كله.

لقد تنقلت الرؤية الأمنية الإسرائيلية في تفسيراتها للثورات العربية بين المحاور التالية:

  1. جميع شروط قيام الثورات العربية موجودة منذ سنين كثيرة، ففي سنوات ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، سيطرت نظم مستبدة في مناطق كثيرة في العالم: شرق أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ورأى العالم تغييرات في دول شمولية كثيرة، وانتقالات لأنظمة حكم أكثر ديموقراطية، ونمواً اقتصادياً وتقدماً تقنياً، وسُئل هذا السؤال مرات كثيرة وهو: لماذا لم يَجرِ على العالم العربي شيء مشابه لهذا؟
  2. الثورات العربية بغير قيادة، مما صعب على أجهزة الأمن الإسرائيلية أن تذكر أسماء قادة ثوريين، ولا توجد شخصية ذات حضور قوي مثل لينين أو الخميني تقودها.
  3. نشبت الثورات العربية في تونس وليبيا وسورية واليمن ومصر بغير أيديولوجية منظمة، ومنذ أن جاء الإخوان المسلمون بدأت تُصبغ الثورة بصبغة عقائدية هي “الإسلام السياسي”.

وفي كل الدول التي اكتملت فيها الثورة، أو ما يزالون يتقاتلون فيها، يمتنعون عن ذكر مصدر السلطة السياسية: الشعب أم القرآن والسنّة، والأيديولوجية التي ستقود التغيير الاجتماعي، والمذهب الاقتصادي الذي سيُخلص دول الثورات العربية من أزماتها المزمنة: أهو اشتراكية، أم رأسمالية، أم النظام الإسلامي.

ولاحظت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مجموعتين من الدول لم تنضم لموجة التغيير والثورات، وهما:

  1. الممالك والإمارات: فلديها نفط كثير وموارد مالية لوقف الثورات، ومن لا تملك هذه الموارد الوفيرة كالمغرب والأردن، عرفت كيف تواجه الهبات الشعبية بصورة أفضل، ويبدو أن التأليف بين شرعية أكبر عند الجمهور وخطاب أفضل معه، وإدارة أصح للتوقعات، واستعمال الإصلاحات في الوقت، أوقف الربيع العربي خارج مجموعة بدا أنها معرضة للإصابة بها أكثر من غيرها، من ناحية تاريخية.
  2. الدول “التي كانت هناك”: التي عرفت في العشرين سنة الأخيرة حروباً أهلية وانقلابات في الحكم، وعدم استقرار سياسي، فمواطنوها يعرفون الثمن جيداً: القتل المتبادل، هدم البنى التحتية، ضرب الدولة والمؤسسات، الإضرار بالاقتصاد والنسيج الاجتماعي، فالعراقيون والجزائريون واللبنانيون، لا يسارعون في العودة إلى عدم اليقين وغياب الأمن اللذان يميزان فترات التغيير والثورات.

وعلى الرغم من وجود إجماع إسرائيلي على معارضة الثورات العربية، واعتبارها حالات من الفوضى، وانعدام الأمن الشخصي، لكن قلة خرجوا عن هذا الإجماع، ووضعوا ما رأوه إنجازات عربية، حددوها كما يلي:

  1. كسر حاجز الخوف: من خلال محاكمة مبارك، واعتبارها نقطة تحول، لأنها ثبتت مسؤولية الحاكم عن أعماله، أمام عدسات التلفزيون، وطبق المساواة أمام القانون، لأن زعماء آخرين اختلف مصيرهم عن مبارك، فالقذافي أعدم دون محاكمة، زين العابدين هرب من تونس، وعبد الله صالح خرج من اليمن.
  2. حصول ثورة إعلامية كبرى: إذ ظهرت صحف جديدة، تكتب وتنشر دون رقيب، ومدونات إلكترونية ومجموعات افتراضية، وأخذت تنمو وتزدهر محطات تلفزة تجارية مقابل قنوات التلفزيون الرسمية الموالية للسلطة، وبثت تقارير وتحقيقات وبرامج حوارية جادة يشارك فيها متحدثون باسم المعسكرات المختلفة، وهناك حرية كبيرة للتظاهر والاحتجاج، وحتى لسد الطرق والشوارع وخطوط سكك الحديد.
  3. الحكم بالسجن على وزراء لفترات طويلة: وازدادت الشكاوى من مواطنين بشأن الرشاوى والاعتقال التعسفي، ويلقى بعضها معالجة واهتماماً، وإن كان بطيئاً وغير ناجع، كما ألغيت حالات الطوارئ القائمة منذ عقود طويلة، وتمّ الإفراج عن غالبية السجناء السياسيين، بالرغم من استمرار الفساد الواسع في كل المستويات والمراتب، لأنه لم يجرِ تطهير جهاز الدولة البيروقراطي من العناصر الفاسدة.

أخيراً، فقد شكلت الثورات العربية لـ “إسرائيل” ضائقة استراتيجية في الشرق الأوسط، وهذا الموقف يعكس حال القلق الذي تعيشه، وهذه ضائقة تحدث عنها الخبير الأمني إيتمار إيخنر، وانعكست في علاقات “إسرائيل” المعقدة مع جميع الدول:

خلاصة

هناك الكثير من الشواهد التي تشير بما لا يدع مجالاً للشكّ أن العقبات التي واجهتها “إسرائيل” بسبب الثورات العربية، لم تتعلق فقط بالناحية اللوجيستية، بل بصورة أساسية شكلت إخفاقاً استخبارياً شمولياً في فهم الواقع العربي، وبات من الواضح أن المعطيات الميدانية تشير أنها لم تُجهّز نفسها لكل السيناريوهات، ولذلك خشيت المنظومة الأمنية الإسرائيلية عقب الثورات العربية من اهتزاز في تحالفاتها المركزية في الشرق الأوسط، بعد ضعف الأنظمة المحيطة بها أمام المجتمعات المدنية فيها، ومواجهة تحديات داخلية، في ضوء توصيف “إسرائيل” للربيع العربي بأنه فوضى وانهيار عناوين سياسية في المنطقة.

إسرائيل تحيي الذكرى الثامنة للثورات العربية

Exit mobile version