قراءة تحليلية لاحتجاجات الجلابية
انشغل الرأي العام بالداخل والخارج بالشأن المصري بعد أسبوع كامل من الاحتجاجات في عدد من المحافظات والقرى المصرية المطالِبةً برحيل السيسي ونظامه، احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية والأزمات السياسية والاقتصادية، وخاصة بعد البدء في تنفيذ قانون إزالة العقارات وهدم المنازل بحجة أنها شُيدت بدون ترخيص، خصوصاً على الأراضي الزراعية، والتي تشمل غالبية منازل البسطاء في المناطق الريفية وفي المناطق الحضرية العشوائية المحيطة بالمدن الكبرى.
وفي ظل مخاوف النظام من تلك الاحتجاجات استبقت أجهزة الأمن المصرية الأحداث بشن حملة اعتقالات واسعة شملت رموزا سياسية وعددا من النشطاء، خاصة في مدينة السويس، وشنت وسائل إعلام موالية للنظام هجوما حادا على دعوات التظاهر، واعتبرتها جزءا من مؤامرة خارجية تستهدف إسقاط الدولة المصرية.
لكن بالتزامن مع حملات الهجوم والتشويه للاحتجاجات كان هناك دعم قوي للمتظاهرين داخليا وخارجيا، الأمر الذي حفز العديد على النزول والمشاركة، وهذا ما شاهدناه على مدار أسبوع كامل على التوالي من التظاهرات المطالبة بتنحي السيسي عن الحكم.
دعم احتجاجات الجلابية
دعم داخلي
أعلنت حركة الاشتراكيين الثوريين في بيان لها تضامنها مع احتجاجات الجلاليب مؤكدة أنها تدعم كل احتجاج جماهيري ضد سياسات الإفقار والاضطهاد التي تمارسها السلطة، وأن الحق المطلق للجماهير في التعبير الاحتجاجي، وتؤكِّد رفضها لسياسات الملاحقات الأمنية والقمع والاعتقالات التي واجهت السلطة بها المتظاهرين، وتطالب بإطلاق سراح المعتقلين كافة ومحاسبة المسؤولين عن ضحايا قمع المظاهرات.
وبعد صمت طويل أعلن حزب الدستور في بيان له دعمه للمظاهرات الأخيرة، حيث قال إن “مصر شهدت في الأيام القليلة الماضية احتجاجات بقرى وضواحي العديد من المحافظات بالصعيد والوجه البحري لتعلن عن احتقان وغضب شديد لدي قطاع واسع من الشعب المصري، وأن “الشعب ضاق ذرعا بالسياسات والقرارات التي أثقلت كاهله في حين أن المواطن لم يكد يستفيق من الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا ليجد نفسه مطالَبا بأن يتحمل مسؤولية الحكومات السابقة التي تراخت في مواجهة فساد المحليات لسنوات طوال، وأن يقتطع من قوت يومه الذي بالكاد يتعيش به لكي يعوض الدولة عن أخطائها في السنوات الماضية”.
دعم خارجي
لم يخل المشهد من مشاركة الاحتجاجات في الخارج حيث نظم مصريون معارضون في الخارج مجموعة من الفعاليات الاحتجاجية للتعبير عن دعمهم وتضامنهم مع الحراك الاحتجاجي داخل مصر، وللمطالبة برحيل السيسي وأعلنت ائتلافات وتجمعات للمصريين بالخارج عن تنظيم 13 فعالية، تتنوع ما بين وقفة احتجاجية ومظاهرة لمساندة الحراك الثوري بمصر منذ بداية الاحتجاجات.
وكانت هناك وقفات احتجاجية في العاصمة الفرنسية باريس، كما كانت هناك وقفات احتجاجية بمدن ميلانو الإيطالية، وأمستردام الهولندية، وسيدني الأسترالية، ومدينة ميونخ الألمانية، وسراييفو بالبوسنة.
تحليل المشهد
هناك العديد من المشاهد اللافتة في احتجاجات الجلاليب والتي لها دلالات هامة عن دوافع المتظاهرين للمشاركة والمطالبة برحيل السيسي، نحاول أن نذكر أبرزها في هذه السطور:
إهانة واضحة
مشهد تمزيق صور السيسي ودهسها بالأقدام خلال التظاهرات الاحتجاجية، بل قام بعض المتظاهرين بإضرام النيران في صورة السيسي جنوبي البلاد، المشهد الذي من شأنه أن يعيد لنا بعضا من المشاهد القديمة في محافظة المحلة الكبرى عام 2008 بعد تمزيق صور الرئيس المخلوع حسني مبارك، الأمر الذي يؤكد بأن الكيل قد طفح بالمصريين وما عادوا يتحملون المعاناة المفروضة عليهم؛ وإذا استمر السيسي في سياساته المتبعه منذ انقلاب يوليو 2013 سيكون نهايته حتمية كما كانت نهاية مبارك.
دلالة مشاركة الأطفال
مشهد الأطفال المشاركين في الاحتجاجات والذين هتفوا ضد السيسي بل شاركوا في حرق صورة “السيسي” وداسوها بالأقدام يعد تطورا جديدا ولافتا وذا مغزى هام، فالأجيال القادمة ذاقت المرار منذ صغرها، ورغم صغر سنهم لم يعيروا اهتماما لقوات الأمن المنتشرة في كل مكان، بل أصروا على المشاركة.
قامت قوات الأمن المصرية بقتل 3 من متظاهري الجلاليب وهم: سامي وجدي سيد بشير (25 عاما)، ورضا محمد حامد (22 عاما)، ومحمد ناصر حمدي إسماعيل (13 عاما)؛ وأمر النائب العام المصري بإخلاء سبيل 68 طفلا كانت السلطات المصرية قد ألقت القبض عليهم لمشاركتهم في الاحتجاجات، الأمر الذي يوضح الشريحة العمرية التي تعي خطورة استمرار السيسي في الحكم.
أسبوع متواصل من الاحتجاجات
استمرار الحراك الشعبي طيلة أسبوع وحتى الآن رغم استمرار حملات الاعتقال والاستنفار الأمني الكبير في الميادين الرئيسية، حيث تم رصد أكثر من 50 قرية ومدينة في عدد من المحافظات المصرية مشاركة في الوقفات والمسيرات الاحتجاجية، الأمر الذي من شأنه أن يؤكد علي أن الاحتجاجات ذات مطالب شعبية ومن المتوقع تكرارها في الفترات القادمة.
الرد الشعبي على اقتراح الاستفتاء الشعبي
جاءت احتجاجات الجلاليب بعد شهر واحد من إعلان السيسي عن إمكانية إجراء استفتاء شعبي على استمرار بقائه في الحكم في حال عدم رضا الشعب المصري عن الإجراءات التي يتخذها، فجاءه الرد من بسطاء الشعب في شكل احتجاجات تطالب برحيله.
إفلاس الاعلام المصري
تكرار مشاهد التأييد للسيسي باتت محفوظة لدى الجمهور حتى من قبل العرض، فعلى مدار أكثر من سبع سنوات يقوم النظام بتكرار المشاهد نفسها دون تجديد أو ابتكار لإقناع الشعب أو إقناع العالم؛ وهنا نستطيع القول بأن النظام قد خسر كثيرا بعد رحيل المُخرج خالد يوسف والذي كانت له سابقه مبتكره في إخراج مثل هذه المشاهد.
ولا تخلو مناسبة إلا ويحذر السيسي من قنوات المعارضة المصرية بالخارج، واصفا إياها بأنها “قنوات مسيئة، تدمر وتخرب الشعوب”، على حد قوله، الأمر الذي يؤكد على أهمية دور الإعلام الثوري في الخارج، وخاصة في تغطية الاحتجاجات.
وبدوره لم يستطع الإعلام المصري تجاهل الاحتجاجات المطالبة بتنحي السيسي وسقوط النظام والذي فرضت نفسها على الساحة، فكانت الرسائل الإعلامية الموالية للنظام في مصر تحمل نفس المعاني بشكل مشابه يصل لحد التطابق، الأمر الذي يتضح جليا، وهو الالتزام برسائل الأجهزة الأمنية، وأبرز تلك الرسائل إظهار أن هناك احتجاجات ولكنها محدودة للغاية.
وتجاهلت برامج التوك شو فيديوهات الاحتجاجات التي خرجت مطالبة بتنحي السيسي، وركزت على اتهام قنوات المعارضة في الخارج بأنها تبالغ في الأحداث وأن الاحتجاجات موجودة في كل مكان في العالم، كما في فرنسا وغيرها من الدول. وتعد هذه محاولة مكشوفة من الاعلام المصري لتبسيط الأمور ولتهدئة الشارع المصري، وهو الدور نفسه الذي لعبه الإعلام المصري في عهد مبارك إبَّان ثورة يناير.
مظاهرات بأمر الحاكم
كعادة النظام في التغطية على مشاهد المظاهرات والاحتجاجات التي تطالب بإسقاط النظام، نشرت قناة ONTV التابعة لمجموعة إعلام المصريين المملوكة للمخابرات المصرية، مسيرات بالسيارات مؤيدة للسيسي، وسط حماية قوات الأمن، وتنظيم رجال المرور للموكب، وتم نشر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.
محاولات للتهدئة
وقد كانت هناك العديد من محاولات التهدئة خلال فترة الاحتجاجات التي استمرت أسبوعا متواصلا، ولا زالت مستمرة حتى الآن، سعيا لتهدئة الأمور؛ حيث أمر السيسي الحكومة بأن تواصل تقديم منحة قدرها 500 جنيه للعمالة غير المنتظمة لمدة 3 شهور أخرى حتى نهاية العام الجاري. وسبق تلك الخطوة صدور قرارات من رئيس الحكومة مصطفى مدبولي تقضي بتخفيض المبالغ المطلوبة من المواطنين لتجنب هدم منازلهم بدعوى مخالفاتها اشتراطات البناء، فضلا عن منحهم مهلة شهر إضافي للتصالح مع السلطات والقيام بدفع الغرامة المطلوبة لتجنب الهدم.
وأعلن حزب “مستقبل وطن”، الموالي للنظام الحاكم في مصر، كذلك تحمل تكاليف التصالح في مخالفات البناء لكافة الأسر غير القادرة في محافظة الأقصر.
وفي نفس التوقيت، أعلنت مبادرة “حياة كريمة” تخصيص (150 مليون جنيه) قيمة التصالح في مخالفات البناء بالمحافظات الآتية: (أسيوط، سوهاج، المنيا، قنا، الأقصر، الوادي الجديد، مطروح، البحيرة)، ومبادرة “حياة كريمة” هي مبادرة أطلقها عبد الفتاح السيسي في 2 يناير 2019، الأمر الذي يثير الشكوك حول جدية المبادرة.
واستمرارا في نهج التهدئة، ولكن تهدئة من نوع آخر، منح عبدالفتاح السيسي الجيش المصري حق استغلال المحاجر 30 عاماً، الأمر الذي يخالف المادة رقم 32 من الدستور المصري، “موارد الدولة الطبيعية من خامات المناجم والمحاجر والملاحات الواقعة في الأراضي المصرية هي ملك للشعب وللأجيال القادمة، وتلتزم الدولة بالحفاظ عليها”.
التبرير والتهديد
في أول تصريحات للسيسي بعد مظاهرات الجلاليب خلال كلمته في افتتاح مجمع التكسير الهيدروجيني، تحدث فيها عن الأوضاع الاقتصادية للبلاد، وعن إزالة الأبنية التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لنزول المصريين إلى الشارع، ولكنه اعتمد في كلمته على محورين رئيسيين وهما التبرير والتهديد، حيث برّر في كلمته قرارات إزالة الأبنية وقال: “لا تتصوروا أن نزيل الأبنية ونترك الناس، نقوم بإيواء الناس في أماكن تليق بهم، أي إزالة تتم من أجل المنفعة العامة لا تكون على حساب الناس”. وحذر من أن عدم اتخاذ القرارات الصعبة سيجعل البلاد تمر بظروف صعبة، محملا مسؤولية توقف مشاريع التنمية لثورة 25 يناير 2011، قائلا “هناك مشاريع توقفت نتيجة أحداث 2011 وحالة عدم الاستقرار”.
رسالة الشعب المصري
الخريطة الثورية للتظاهرات المصرية الأخيرة لها دلالات هامة على قياس مستوى غضب الفلاحين ضد نظام السيسي، فالريف المصري هو الأكثر تضررا من ممارسات نظام السيسي، والريف المصري هو الرقعة الأوسع في مصر وفوق كل هذا فإن مشاركة الريف المصري في الاحتجاجات بهذا الشكل ينذر بهبة شعبية كبيرة إن استمر النظام على نفس الممارسات التي كبّدت الفلاحين خسائر لا يمكن تحملها أكثر من ذلك.
احتجاجات الجلاليب تؤكد أن المظاهرات لا تزال ممكنة، بدون إعلام أو أحزاب أو نقابات أو أي تنظيم سياسي أو شعبي. فما حدث على مدار أسبوع يؤكد بأن الشعب البسيط الكادح يعي مطالبه ويعي حقوقه ويعي جيدا خطورة الأزمة التى تمر بها البلاد نتيجة سياسات السيسي ونظامه. الشعب المصري يرسل رسالة للسيسي وللعالم بأنه موجود، وأنه على مر العصور تنتهي الأنظمة وتبقى الشعوب.
احتجاجات