fbpx
قلم وميدان

قلم وميدان: الافتتاحية ـ أهبة الميدان

قلم وميدان، مارس 2016، فجر عاطف صحصاح

أهبة الميدان

تحدث “عباس العقاد” في “عبقرية خالد” رافضًا أن يكون جُلُّ ما حَمل المسلمين على الانتصارات والفتوحات بعد الإسلام هو العامل العقدي وحسب؛ فرغم أهميته جمع المسلمون معه أسباب النصر أو على الأقل اجتهدوا في تحصيلها، ومن بين أهم تلك الأسباب ما أسماه العقاد “أُهبة الميدان”، وتعني تلك الحال من الاستعداد الدائم للقتال، والتي كانت سائدة بين القبائل العربية تربصًا لأي اعتداء أو تحسبًا لمناورات أو مناوشات قريبة، يقول العقاد- بعد وصفه للبيئة البدوية-: “.. فحصل من ذلك- يقصد البدوي- على ملكَة مطبوعة يصح أن تسمى “حاسة الحرب” أو أهبة الميدان الخالد التي لا تفارقه في ليل ولا نهار، فلا تزال حياته في حيطة المدافع واستعداد المهاجم ويقظة القلب للنضال الذي يتعرض له بين مضطر مغتصب أو طائع مختار…”.

ويزيدنا “العقاد” شرحًا بعد استدلاله بإحدى الحروب التي خاضها العرب قبل الإسلام، فيقول: “وليس في وسْع عالم من علماء الحرب في زماننا هذا أن يأخذ عليهم خللاً في خطتهم لم يلتفتوا إليه أو يحصي عليهم وجهًا من وجوه التدبير قصروا فيه؛ لأن وجوه التدبير كلها فضول، بعد أن تستقيم للمقاتل: [أهبة الاستطلاع و(2) رسم الخطة و(3) تنظيم الجيش في مواقفه و(4) تنظيم الجيش في تحركاته و(5) إذكاء العزيمة في نفوسه و(6) إضعاف العزيمة في نفوس خصومه].. وهذه كلها هي صفوة لباب الحرب في العصر الحاضر وفي العصور الغابرة، وفي جميع العصور إلى آخر الزمان..”.

وحديث العقاد هذا يدفعنا إلى العروج على تلك المساحة التي تمارس من خلالها أعمال المقاومة أيًّا ما كانت، وهي المساحة التجهيزية قبل المعركة وأثناءها وبعدها.

وتوجد تلك المساحة التجهيزية في المؤسسات التي تدير المشهد، كما توجد في الأفراد.

ومساحة وجودها في إدارة العمل المقاوم إنما تتعلق بالرؤية والتخطيط وقراءة العدو والتحسب له من كل جانب، كما تتعلق بأهمية الجمع بين التخطيط لعمل في السياق قصير الأمد، والعمل الممتد طويل الأجل.

وفي الأطروحة العسكرية الصينية “فن الحرب” والتي كتبها سون تزوSun Tzuفي القرن السادس قبل الميلاد، والتي اعتُبرت لفترة طويلة مرجعًا كاملاًللإستراتيجيات والوسائل العسكرية.

يقول في الفصل المعنيّ بالتقديرات الأولية إن “القائد الذي يفوز في المعركة يقوم بعمل الكثير من الحسابات في مركز القيادة قبل بدء القتال، القائد الذي يخسر المعركة يقوم بعمل القليل من الحسابات سلفًا؛ لذا فالكثير من الحسابات تؤدي إلى النصر، والقليل منها يؤدي إلى الهزيمة، بناءً على درجة اهتمامك لهذه النقطة أستطيع أن أتنبأ من سيفوز ومن سينهزم..”.

ولأن معارك كثيرة من المتوقع لها امتداد الأجل فقد لزم على واضعي خطط التحرك التفكير من مداخل متعددة ومختلفة، وفي ذلك يقول “تزو”: “معين التكتيكات غير المباشرة- في حال تم تطبيقها بكفاءة- لا ينضب أبدًا، تمامًا مثل السماء والأرض، لا نهاية لها، مثل جريان الأنهار وفيضان العيون، مثل الشمس والقمر اللذين يغيبان فقط ليشرقا من جديد، مثل الفصول الأربعة، التي تمر فقط لتعود من جديد..”.

يضيف: “في المعركة ليس هناك أكثر من طريقتين للهجوم: مباشرة وغير مباشرة، ورغم ذلك فإن مزج هاتين الطريقتين ينتج عنه سلسلة لا نهائية من المناورات الممكنة، تؤدي كل من الطريقة المباشرة وغير المباشرة بدورها إلى الأخرى تمامًا، مثل التحرك في دائرة؛ حيث لا تصل أبدًا إلى نهاية، وبالتالي فمن ذا الذي يمكنه الوصول لحد نهاية الاحتمالات الممكنة لمزج هاتين الطريقتين معًا؟”.

وفي تلك الملاحظة الأخيرة إشارة واضحة إلى أهمية إعادة الاعتبار إلى عوالم التفكير الإبداعية، والتي لا تقتصر فقط على مستوى الأفراد، بل إن التخطيط المؤسسي غير التقليدي والذي يربط بين أشياء لم يكن من المتوقع الربط بينها؛ لهو ركيزة مهمة في مباغتة الطرف الآخر، وأخذه على حين غرة.

حياة ثورية

وإذا كان كل ما سبق يتعلق بالتخطيط المؤسسي على مستوى القيادة، فإن هناك “أهبة ميدان” أخرى هي في ظني من أهم عوامل كسر الانقلاب، خاصةً بعد أن دخلت الثورة المصرية عامها السادس على التوالي، وما تعرضت له في تلك السنوات من أحداث كان لها أكبر الأثر في إحداث حالة تغيرية في الكثير من القوى الفاعلة على المشهد، والتي في القلب منها يأتي الثوار على اختلاف ثغورهم وتخصصاتهم.

وتعني “أهبة الميدان” على المستوى الفردي ما تنطوي عليه سريرته ويحتويه قلبه وعقله من أطر مقصدية باعثة له على الحركة؛ فهي حالة الاستعداد للفعل الثوري، والجاهزية للانطلاق في اتجاه هذا المقصد.

وعلى هذا تكون المساحة النفسية أكبر مما يمكن أن يحتويه الفعل، فالأخير ربما لا يتعدى دقائق أو ساعات أو حتى أيام بحسب النشاط الثوري الذي يقوم به الفرد، أما الجاهزية فهي ترقب دائم وانتظار لهذا الفعل، وهو في حقيقته ترقب إيجابي يعمل معه الفرد على تدريب نفسه وتأهيلها على الأنشطة المزمع له القيام بها، كذلك هي حالة تفكير مستمرة تواقة؛ لأن تصنع تغييرًا حقيقيًّا، فتنطلق بحسب ما لها من إمكانية في المبادأة بالمقترحات أو القيام بنشاط ذاتي صوب الهدف.. أيضًا هي شباك ضيقة المسام لصيد الفرص واقتناصها، والتي لم يكن من اليسير التنبه لها إن لم يعش الفرد حياته الثورية متقدًا يقظًا..

وفي وضع ثوري زاد عن الخمس سنوات، يجد الفرد نفسه مضطرًّا في إطار تلك “الأهبة” لأن تندمج جٌل عوالم علاقاته الاجتماعية والمهنية فتكون شديدة الالتصاق بما يعتمل في نفسه من أمر، فيتخفف من أعباء قد تثنيه عما هو مقبل عليه، ويشد نفسه في وشائج لم يتوقعها يومًا ما.. لكنها الثورة، وما لها في نفس الفرد من حقوق في أبنية العلاقات والتفاعلات الاجتماعية.

إن الرباط على الثغر الثوري من أهم ضمانات استمرار الثورة، فخفوت الجذوة في نفوس الأفراد، وتحلل اهتماماتهم الحياتية من هذا المنطلق، وتهميش المقصد حتى يصير كظل باهت يؤدي لتسديد الخانات وكفى، أو نكوصه ليصير كمهمة وسط زحام الحياة، ودور من أعباء الفرد يأتي إليه بالإضافة فيُحمله تبعات عليه أن ينتهي منها.. إنما يعد هذا وأدًا للثورة دون وعي.

إن الفرصة أمام الفرد الثوري الآن في مصر كبيرة؛ ليس فقط كي يكسر الانقلاب بل كي ينتج منظومة جديدة من المعارف والعلوم الثورية إذا صح التعبير، فالثورات التي عرفتها البشرية في العصر الحديث هي اللحظات التغيرية في ذاتها هي ردات فعل الشعوب كي تقتلع فسادًا أو حكمًا غاشمًا، أما الثورة المصرية الآن فأمامها تحدٍّ لتقديم تجربة؛ مفادها أن الثورة هي المبدأ في حد ذاته؛ هي تلك المجموعة من الأفعال التي تتفكك وتحلل فتصير قيمًا حياتية متصلة، مجموعها يؤدي إلى لحظة الانتصار الظاهرة، ولكن بدون تلك اللحظة الأخيرة، فكل الممارسات والمعايشات التي يحياها الأفراد تمثل الثورة في ذاتها، تمثل نبل المقصد وقيمته، كما تمثل انقطاعًا وانحسارًا عن كل ما هو خارجها، وهو انكفاء لا يقطع الإنسان عن كينونته البشرية؛ وإنما يحبسه على فعل الغالي والنفيس من الأمور، ويوقد فكره وفؤاده اشتعالاً بمراتب العوالم القيمية العليا، وهذا التغيير الحقيقي في روح الأمة كفيل أن ينتج مستقبلاً مختلفًا حافلاً بمنظومة مبادئ جميعها متصل بالفعل والعمل والإبداع والحركة.

 

عدد مجلة قلم وميدان ـ مارس 2016

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close