fbpx
قلم وميدان

قلم وميدان: المبادرة في العمل الثوري

قلم وميدان، مارس 2016، بقلم، محمد فتحي النادي

تمر الحالة الثورية في مصر بمنعطف خطير؛ حيث تعمل آلة القمع الباطشة دون توانٍ في تجفيف منابع الثورة. تساندها آلة إعلامية جبارة سخرت كل إمكاناتها في تغييب وعي الشعب، والعمل على شيطنة الثورة، وأنها فوضى تهدم الدولة، وأنها تابعة لأعداء خارجيين متربصين بهذا البلد. هذا الجو المشحون أهدر كرامة ودم من يقف في وجه الاستبداد طالبًا الكرامة والحرية. وجعل أبناء الشعب وأطيافه بأسهم بينهم شديدًا؛ فالجار يبلغ عن جاره الذي لم يفعل فيه سوءًا، والصديق يفارق صديقه، والأقارب تتباعد.

هذا الجو العام والسياق الذي تحياه مصر يضاعف من الأعباء الملقاة على كواهل طالبي التغيير. فهذا التدافع بين من يقبل بالثورة ويؤمن بها وبين من يرفضها سنة كونية ماضية لازمة لم تتخلف قط على مر العصور والأزمان.

الكل يحاول إثبات وجهة نظره، والعمل على تثبيت أركانها، ولأجل ذلك قد يسعى البعض لإثبات وجهة نظره بأية طريقة مشروعة أو غير مشروعة. وهؤلاء هم من لا مبادئ لهم ولا قيمًا حاكمة. وهناك من يسلك الطرق المشروعة؛ لأنه صاحب هدف نبيل وغاية شريفة سامية.

الأنبياء ثوّار

والناظر لتاريخ الأنبياء يرى أنهم كانوا ثورًا على عادات بالية وأخلاق فاسدة وتشريعات ما أنزل الله بها من سلطان.

أراد الأنبياء -بوحي من الله- أن يصلحوا مجتمعاتهم من الآفات التي عصفت بها، وأن يعيدوا الكرامة الإنسانية لأقوامهم بعد أن داسها الكبراء والسادة الذين أكلوا حقوقهم.

هؤلاء السادة بحثوا عن ملذاتهم وشهواتهم، وملؤوا جيوبهم وخزائنهم بالأموال من حلٍّ وحرمة، وبخلوا بها على عباد الله. هؤلاء السادة بحثوا عن الديانات التي تمكّن لهم، وتحافظ على مكاسبهم وامتيازاتهم.

أحاطوا الكهنة والسدنة بالرعاية والعطاء، هؤلاء السدنة الذين كانوا في معيتهم ويعملون على تأكيد سيادتهم وعدم الخروج عليهم، أو المطالبة ببعض الحقوق لعبيدهم أو المستضعفين من أقوامهم.

لذلك تحالف السدنة والسادة ضد من دعا إلى تغيير هذا الوضع والثورة عليه.

فقام الأنبياء بدور الثوار وتدرجوا مع أقوامهم فدعوهم للتغيير والثورة على ما ورثوه ودرجوا عليه، فآمن بالتغيير بعضهم، ورفضه الباقون.

ثم كانت الصراعات بينهما…

يغلب الفريق الذي ارتبط بمصالحه وسطوته حينًا، وعمل طوال الوقت بإعلامه وأمواله ضد التمدد الذي يحدثه الفريق الجديد الثائر على الموروثات البالية والأخلاق الفاسدة والسلطة الغاشمة.

لكن الصبر والإعداد والعناية الإلهية المصاحبة للمؤمنين بالتغيير كانت من أكبر عناصر النصر.

المبادرة

وكانت المبادرة خصيصة لأزمة للأنبياء وأتباعهم. فقد كان يمكن أن يقول الأنبياء عند نزول الوحي عليهم: كيف لي أن أجابه هؤلاء الأقوام؟ كيف لي -وأنا وحدي- أن أغير هذا العالم؟ هل سيستمع قومي إلي؟ هل يمكن أن يقتلوني؟

هذه الأسئلة وغيرها قد تقعد بصاحبها عن العمل، ولكننا وجدنا غير ذلك. وجدنا أن الإيمان صنع المعجزات. الإيمان بالله… الإيمان بالقدرة على إحداث التغيير المطلوب… الإيمان بالأتباع الذين ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل معتقدهم… الأتباع على طريق الأنبياء. رأى الأتباع ما قام به أنبياؤهم من فاعلية وذاتية وإيجابية في الحركة لنشر دين الله في الأرض، وما يسلتزمه من إعادة الكرامة الإنسانية، والتحرر من كل شيء إلا العبودية لله، فساروا على طريقهم من الأخذ بزمام المبادرة…

مبادرة الطفيل بن عمرو الدوسي

هذا السيد المطاع في قومه ذهب إلى الحج بمكة، فقابله أهلها وألقوا عليه كذبهم وافتراءهم على النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ودينه وأتباعه، وما زالوا به حتى وضع في أذنه قطنًا كي لا يسمع حديث النبي له الذي كان يستقبل الوفود بموسم الحج…

ولكن يأبى الله إلا أن يذهب هو بقدمه إلى النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-  ويسمع منه بعض كلامه، فيرى أنه خير كلام، ثم قال: “يا محمد! إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأخبرته بما قالوا، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فاعرض عليّ دينك، فعرض عليّ الإسلام فأسلمت.

ثم قلت: إني أرجع إلى دوس، وأنا فيهم مطاع، وأدعوهم إلى الإسلام لعل الله أن يهديهم، فادع الله أن يجعل لي آية”(1).

فعندما دخل الإيمان قلب “الطفيل” لم يبخل بالهداية على قومه، فأحب لهم الخير كما أحبه لنفسه، ولم ينتظر توجيهًا من النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-  له بالذهاب إلى قومه ودعوتهم، بل فعل ذلك بمبادرة منه، وبدافع ذاتي، وقد أبوا عليه الطاعة والإيمان، فما زال بهم سنين طويلة حتى أتى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد الخندق بثمانين بيتًا من دوس… وبعد فتح مكة طلب من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يبعثه إلى ذي الكفين، وهو صنم عمرو بن حممة، حتى يحرقه. فقال له -صلى الله عليه وآله وسلم: “أجل، فاخرج إليه”(2). فالمبادرة عنده لم تكن وليدة موقف، ولكنها منهج حياة.

مبادرة الحباب بن المنذر

أذاقت قريش المسلمين العذاب ألوانًا، وها هم المسلمون قد انحازوا إلى بلد ينصرهم كي يقيموا دولتهم، فينحاز إليهم كل مسلم.

لكن قريش رأت في ذلك تهديدًا مباشرًا لهم ولتجارتهم، وعندما أراد المسلمون أن يستعيدوا بعضًا من حقوقهم بمهاجمة قافلة تجارية لقريش فر أبو سفيان ونجا بأموال قريش.

لكن قريشًا رأت في ذلك إعلانًا للحرب عليهم، فأرادت تأديب المسلمين، وأتت بخيلها ورجلها إلى المدينة، فكان اللقاء الأول، فجمع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أصحابه كي يستشيرهم في المنزل الذي نزلوه. فقال الحباب بن المنذر: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.

قال: فإن هذا ليس بمنزل. انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم؛ فإني عالم بها وبقُلُبها(3)، بها قُليب قد عرفت عذوبة مائه وماء كثير لا ينزح، ثم نبني عليها حوضًا ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل، ونغوِّر ما سواها من القُلُب.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم: يا حباب أشرت بالرأي.

فنهض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ففعل كل ذلك”(4).

كان يمكن للحباب أن يهوّن من رأيه؛ إذ كيف يتكلم في حضور الكبار، ولكنه لم يفعل، وأشار على الرسول برأي كان من أسباب النصر للمسلمين والهزيمة المنكرة لقريش.

مبادرة سلمان الفارسي

كانت الحروب سجالاً بين المؤمنين والمشركين، مرة للمسلمين ومرة عليهم، حتى كانت غزوة الأحزاب التي رمى العرب المسلمين فيها عن قوس واحدة، وقد كان رسول الله يكثر مشاورة أصحابه في الحرب، فقال: “أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها علينا، أم نكون قريبًا ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟

فاختلفوا، فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف.

فقال قائل: ندع المدينة خلوفًا(5)!

فقال سلمان: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك -يا رسول الله- أن نخندق؟

فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة”(6).

هذا الرأي الألمعي من سلمان كسر قريشًا وهجومها الكاسح على المدينة، وأبطل ما كانوا يخططون له من استئصال شأفة المسلمين.

مبادرة أبي بصير

كان من بنود المعاهدة الموقعة بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقريش في الحديبية أن يرد إليهم من قدم إليه من المسلمين. في ظاهرها السوء، وانتصار لإرادة قريش على إرادة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم، لكنها أصبحت بعد ذلك وبالاً على قريش، حتى سعوا في إلغائها.

والسبب في ذلك مبادرة أبي بصير لتحرير نفسه مما حلّ به، وألا يحمّل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مشكلته، ورأى أنه يسعه ما لا يسع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم، وكما قيل: يسع الأفراد ما لا يسع الجماعات، ويسع المعارضة ما لا يسعها وهي في سدة الحكم.

وكان أبو بصير من ثقيف فأتى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مسلمًا مهاجرًا، فبعثوا من يطلبه من رسول الله، فدفعه إليهم. كيف يسلّم الرسول مسلمًا للمشركين كي يفتنوه في دينه؟ إنها قاصمة الظهور، ولكن المعاهدات ملزمة، والمصلحة العامة تقتضي المحافظة على الهدنة.

فاحتال أبو بصير حتى تمكن من تحرير نفسه، فقال عنه رسول الله: “ويل أمه مِسْعر حرب، لو كان معه أحد”، “فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حيث قدموا فلم يكن طلبهم أحد ولم ترسل قريش كما أرسلوا في أبي بصير، حتى كانوا بين العيص، وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سِيف البحر لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وانفلت “أبو جندل بن سهيل بن عمرو” في سبعين راكبًا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهري قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش، فقطعوا به ماداتهم من طريق الشام، وكان أبو بصير زعموا وهو في مكانه ذلك يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم، وجهينة، وطوائف من الناس، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون.

فأرسلت قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أبا سفيان بن حرب يسألون ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل بن سهيل، ومن معه فقدموا عليه، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه، فإن هؤلاء والركب قد فتحوا علينا بابًا لا يصلح إقراره.

وكتب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحد مر بهم من قريش وعيرانها”(7).

فانظر إلى أبي بصير كيف لم يستسلم للأسر، ولم يرض أن يحمّل الرسول مشكلته، فاختار حلاًّ لا يحرج النبي، وأخذ في النكاية بقريش حتى ضجوا واستغاثوا، فكان فعل أبي بصير في صالح المسلمين. وكانت مبادرته للخلاص من الأسر سببًا في الرجوع عن بعض البنود مع الإبقاء على المعاهدة قائمة. وبدلاً من أن تذل قريش أنوف المسلمين ببعض البنود كانت هذه البنود بسبب أبي بصير وإخوانه هي التي أرغمت أنوفهم.

وأخيرًا…

فإن على القادة أن تستمع لكلام الأتباع، وأن تشركهم في القضايا المصيرية، فرب رأي غاب عن القيادة كان يجول في رءوس بعض الأتباع يكون به النصر الكبير. وعلى الأتباع أن يبحثوا عن المخارج إذا وجدوا أن القيادات مكبلة ببعض المعيقات. وفي هذه الآونة تحتاج الثورة إلى العمل المبدع والذاتي؛ وألا يستقل أحد رأيه وعمله.

عدد مجلة قلم وميدان ـ مارس 2016

———————————-

الهامش

(1) سير أعلام النبلاء، (1/345).

(2) السابق، (1/346).

(3) أي: آبارها.

(4) مغازي الواقدي، (1/53-54).

(5) أي: ليس بها أحد. [انظر: الصحاح، مادة (خلف)].

(6) مغازي الواقدي، (2/445).

(7) دلائل النبوة، (4/172-175) باختصار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close