fbpx
قلم وميدان

قلم وميدان: على أبواب المعتقلات

في ذلك اليوم الذي يذهب فيه أهالي المعتقلين إلى ذويهم في السجون يعلمون أن ساعات الانتظار ستطول بين تفتيش وآخر حتى تنتهي بزيارة المُعتقل أو ربما لا يكلل ذلك بالنجاح، تلك الساعات الطويلة التي يمكث الأهالي فيها أمام السجن أو مكان الزيارة، تحمل تلك الأوقات ملامح عديدة للون آخر من الألم والقهر، وفي الوقت نفسه صمود تسطره الأهالي وخاصة النساء والأطفال فيكتبون به صفحات مشرقة لتلك الفترة شديدة القتامة في دفتر الوطن.

(1) من صاحب المحمول؟

في تلك الليلة شديدة البرودة، استيقظت “أم أحمد” قبل الفجر بقرابة ساعة وسط هواء لاسع تسرب من بين شرفات منزلها البسيط، لتذهب إلى ما تنتظره منذ ما يزيد عن شهر، تجهز الحقائب وتربط المتاع وتحضر متطلبات الرحلة، توقظ طفليها، أحدهما في منتصف المرحلة الابتدائية والآخر في الصف الثاني الإعدادي، ألبستهما الطيب من الثوب، صلوا الفجر وبدأوا رحلتهم المنتظرة، دون زوجها الذي أقعدته الإصابة بفيروس “سي” الذي لا يُعالج بالكفتة.

حملوا على عاتقهم الحقائب، ووصلوا إلى مقصد الرحلة، وهواء القاهرة البارد يعصف بما ظهر وما بطن من الجسد الذي ارتعش تأثرًا بسوء الطقس، ولا أمل في ظهور الشمس لتدفئة الجو.

طوابير ممتدة، وساعات انتظار طويلة، وإجراءات تفتيش مملة، إذا قد وصلت أمام السجن، حيث يمكث ابنها أحمد، منذ ما يزيد عن العام، يتحسس الحرية من خلف القضبان.

أحمد الطالب، بهندسة عين شمس، كان من بين 25 شخصًا صدقوا أو أجبروا على تصديق وعود قوات الأمن المحاصرة لمسجد الفتح بـ”الخروج الآمن” فخرجوا ليلاً قبل اقتحام المسجد ظهرًا، ولم يجدوا إلا البلطجية وسيارة الترحيلات في انتظارهم لتنقلهم إلى سجن “أبو زعبل” حيث تشبّعت أجسادهم من شدة الضرب كما تحكي والدته.

بعد تلك الواقعة بقرابة شهر، يحتفل أقارب أحمد في منزل الأسرة بمولود جديد على أنغام “تسلم الأيادي”، يهللون ويرقصون ويرفعون علامات النصر، غير مبالين بدماء قلب “أم أحمد” الجريح، التي تعيش في إحدى شقق المنزل.

الضغط النفسي يشتد عليها، فلا أحد يبالي بما تشعر به، وبمرور الأيام أضحى ابنها رقمًا في تعداد المعتقلين، لا أحد من أفراد العائلة – المؤيدة للسيسي- يسأل عليه، وبعد مرور قرابة العام لم تعد تتحمل، وقررت أن تترك تلك الشقة التي تملكها لتؤجرها، وتستأجر شقة أخرى، وإن كان إيجار الشقة الجديدة أغلى من إيجار شقتها التي تملكها.

تزامن ذلك الضغط النفسي، مع اشتداد المرض الجسدي على زوجها، الذي لم يعد يستطيع المواظبة على العمل على “التاكسي” الأبيض، لتتراكم أقساط التاكسي عليه وتبلغ ما يزيد عن 2500جنيه، فيتواصل مع أخيه تلفونيًّا فيرفض ويذهب إلى بيته، ويحاول أن يقلل المبلغ الذي يريد أن يقترضه ليصل إلى 500 جنيه، فيكرر رفضه لأنه سيحتاج المال لحجز المصيف، ويتكرر السيناريو مع أخته لترفض لأنها “قد ساعدت ابنها على شراء قطعة أرض مؤخرًا”، ليعود الرجل بألمي النفس والبدن، ويغلق عليه بابه وتنصهر دموع القهر والألم على وجهه.

لم تقف “أم أحمد” مكتوفة الأيدي، وقررت أن تعمل، فعملت كـ”عاملة” 12 ساعة يوميًّا، في إحدى المستشفيات الخاصة، تنظف وتمسح وتكنس، 6 أيام في الأسبوع، على أن تأخذ 500 جنيه شهريًّا، نعم 500 جنيه مرتبها الشهري، يجب أن تسد به الديون وتعالج زوجها المريض، وتسد حاجات طفليها، وتوفي متطلبات الزيارة، ناهيك عن ركوب “التوك توك” الذي قد تستغنى عنه صباحًا لتترجل ما يقرب من كيلومتر، ولكنها تستقله ليلاً بـ5 جنيهات.

أجبرها مسئولو العمل على أن تكون الإجازة الجمعة على غير رغبتها، فهي تريد أن تكون الإجازة في يوم غير الإجازة الرسمية حتى تتمكن من زيارة ابنها المعتقل فتركت مؤخرًا العمل.

“أحمد فلان الفلاني”، أخيرًا استمعت إلى اسم ابنها، لتقف في آخر طابور وآخر تفتيش قبل الزيارة، وعندما جاء دورها، أخبروها بأن “ابنها في التأديب وممنوع من الزيارة، كان ابنها قد تعرض إلى التأديب عندما اكتشف أحد المفتشين بالسجن، جهاز محمول داخل الزنزانة وطالبهم بالإفصاح عن صاحبه، مهددًا إياهم بالاستعانة بالقوات الخاصة لضربهم حتى يفصحوا عنه، وكان صاحب المحمول رجلاً مسنًا، وقبل أن يفي المفتش بتهديده قال “أحمد” إنه صاحب المحمول.

وحبُس انفراديًّا ثلاثة أيام ومُنع من الزيارة لمدة شهر، وقد جاءت أم أحمد بعد انتهاء الشهر، ولكنهم منعوه من الزيارة 15 يومًا أخرى، بحجة أنه كان من المفروض أن يقضي أسبوعًا كاملاً في الحبس الانفرادي، لتخرج “أم أحمد” من السجن، بعد مرور قرابة 8 ساعات داخله، دون زيارة ابنها!

(2) لكنه لم يجد ابنه وسط الجثث!

وفي يوم آخر، تجمهر العشرات من أهالي المعتقلين في أول طابور أمام السجن، يحملون أمتعة ذويهم المعتقلين بالداخل، يتبادلون أطراف الحديث عن قصصهم ومعاناتهم وآرائهم السياسية إبان انقلاب 3 يوليو.

يقف رجل متوسط العمر فوق الـ40 يدخن السيجارة متحدثًا عن تجربة فقدان ابنه:” ابني كان شغال هناك في مدينة نصر، وفجأة لما طوقوا الميدان وقفلوه ابني كان جوّه، ومعرفتش أوصله!”

يستكمل الأب قصته يوم فض رابعة14 أغسطس 2013:”ذهبت إلى مشرحة زينهم وجدت تريلات تحمل جثث الفض، أبحث بين رؤوس وجثامين القتلى عن ابني المفقود فلم أجده، وظللت 8 أيام متواصلة ابحث عنه في المستشفيات والأقسام والسجون حتى وجدته في هذا السجن ”

(3) زغردن فرحًا لخبر اعتقال أبنائهن

يُقاطعه الحاج رجب بحكاية ابنه الذي يدرس في السنة النهائية لكلية الدعوة وأصول الدين وتم اعتقاله وهو يراجع إجابته في أحد الامتحانات بعد الإنتهاء منها، ويتابع “رجب” فيما هو أشد وأقسى:”ابني أعطاني 12 رقما لأهالي زملائه كي يتم إخبارهم بأن أبنائهم معتقلون في هذا السجن”.

ومن البديهي أن يتبادر إلى القارئ أن وقع ذاك الخبر سلبي على الأهالي: “بزغاريد النساء وبهجة الآباء والصمت الذي يعبر عن فرحة عجز اللسان عن التعبير عنها، استقبل أهالي الـ12 معتقل هذا الخبر وفقا لـ”رجب”، فالأهالي قد فقدوا أبناءهم منذ مجزرة فض رابعة، وكادت تنغلق كل السبل أمامهم في إيجاد أبنائهم، حتى جاءهم الحاج رجب بعد قرابة عام من الفض بهذا الخبر.

“الحاج رجب” الذي غطى شعره الشيب فلا تجد شعرة سوداء في رأسه، قام بزيارة للـ12 معتقلا، قبل ذويهم الذين تفرقوا على محافظات مصر من الإسكندرية إلى الأقصر، ويفرق أيام الأسبوع على زيارة ابنه، وخاله الذي حُكم عليه بـ15 سنة، وابن أخيه الذي حكم عليه بـ10 سنوات.

من طابور لآخر وساعات الانتظار تمر وتطول، ومعاناة الأهالي تزداد بإجراءات أخذت ما يزيد عن الـ4 ساعات أغلبها في الشمس، ولم يبقَ على دخول الزيارة سوى خطوة أخيرة!!

(4) وتشبثت بثياب أبيها

هناك رأيت “أسماء”، تلك الطفلة التي جاءت من إحدى قرى “حلوان” لم يتعد عمرها الـ11 سنة، ببراءة وبساطة تلعب”أسماء” وتلهو، تجري وتمزح.. تقفز وتتزحلق على كراسي الانتظار التي حوّلتها إلى لعبة كالملاهي، وسجيتها النقية لم تفرق بين الأهالي والعساكر، ولم تفرق بين الميري والملكي، فتتردد بفستانها كالفراشة بين هذا المجند وذاك المواطن، فيبدو أن فرحتها باقتراب لحظة اللقاء مع والدها المعتقل قد غطت على كل شيء!

“مش إنت اللي ابنك اسمه حسن البنا؟ مفيش زيارة لابنك النهاردة يا حاج” هكذا رد المجند على والد حسن الذي جاء من أطفيح لزيارة ابنه ليرد:ر”أناعايز أكلم حد مسئول الكلام ده مردود عليه.. ياريت بس عشان الموضوع يتحسم بالزيارة أو من عدمها”.

اقتربت من والد حسن متسائلا”إيه المشكلة” ففهمت من كلامه أنه يزور ولده يوم الخميس أسبوعيا ويمنعونه من زيارته هذا الخميس بحجة زيارة أمه له يوم السبت، بالرغم من أن زيارتها كانت استثنائية ليس عليها حساب.

بعدما انتهت الزيارة التي استمرت حوالي 45 دقيقة خرج الأهالي من مكان الزيارة إلا أسماء، عندما علم “المأمور” بذلك وبّخ أم أسماء بشدة، ودخل غاضبا إلى هناك وأغلق الباب من ورائه، لتظهر علينا”أسماء” متشبثة بجسد والدها تتدلدل حافة قدميها على الأرض، تبكي….تنتحب.. تستغيث “باااااااباااااااا” تقطع آهاتها قلوب الأهالي، قبل أن يحترق عليها قلوب والديها، وتبوح عيون والدتها بدموع الحزن والقهر والألم التي فشلت في كتمانه في الفؤاد.

(5) زوجك لا يستحق الزيارة!

وفي يوم آخر، أخيرًا وصلت الأم للسجن مُنهكة من طريق طويل مكثت فيه ساعات، حامًلة طفلها على يد واليد الأخرى تحمل متطلبات الزيارة الثقيلة لزوجها المُعتقل خلف القضبان، “أنا بركب 6 مواصلات قبل ما آجي هنا.. بس مبرضاش أقول لزوجي كدة عشان ميزعلش” تركت الأم ابنتيها التوأم في السنوات الأولية من المرحلة الابتدائية عند أهل زوجها مؤيدي السيسي الذين نادرا ما يتحملونها فتضطر الأم لترك الفتيات مع صديقاتها، في حين تحمل معها طفلها الأصغر ومتطلبات الزيارة كما تحكي الأم.

شهور طويلة تقضيها الأم تزور فيها زوجها المعتقل ونادرًا بل يكاد ينعدم زيارة أهل الزوج له نظرًا لخلافاتهم السياسية معه، ” “فلان الفلاني” استمعت الأم لاسم زوجها من فرد الأمن الذي استأنف “ميستحقش الزيارة..عشان في حد زاره يوم كذا قبل أقل من أسبوع” يبدو أن أهل زوجها زاروه دون أن يخبروها هكذا توقعت الأم.

ولكن إن حدث ذلك فالأم تستحق زيارة زوجها لأن اليوم الذي ذكره فرد الأمن هو يوم زيارة “استثنائية” وهذا النوع من الزيارة تمنحه مصلحة السجون للزائرين في المناسبات ولا يحتسب ضمن أيام الزيارة العادية التي تتطلب فارقا زمنيا مُدته أسبوع، ومن منطلق تلك الحُجة السليمة حاولت الأم مرة تلو الأخرى للتأكيد أنها تستحق الزيارة وتحدثت مع فرد الشرطة ومن يحمل رُتبة أعلى هناك ولكن النتيجة واحدة “روّحي.زوجك لايستحق الزيارة”.

فقدت الأم الأمل إذًا من أن تزور زوجها بعد كل هذا العناء في المواصلات حاملةً متطلبات الزيارة وطفلها، والساعات الطويلة التي ضاعت في الطريق، تلك الساعات التي سبقها ساعات أخرى من التحضير إلى الزيارة وطهي الطعام وخلافه، فطلبت من أحد الزائرين الذي يمكث في نفس زنزانة زوجها أن يُدخل بمتطلبات الزيارة كي يُدخلها لزوجها.

“مين اللي مدخل حاجات غير حاجات اللي داخل يزوره؟” صاح أحد أفراد الأمن متسائلاً بغضب قاطعًا الزيارة، فرد الشاب الذي استجاب لطلب الأم “أيوة أنا”… “طيب حلو أهه انت بأة مش هتدخل حاجاتك لأخوك عشان اللي انت عملته ده” هدده فرد الأمن وبعد حديث متبادل بين الشاب وفرد الأمن قَبل الأخير بإدخال أغراض الزيارتين وتنازل عن تهديده، العجيب أنه في الوقت الذي كان الشاب يزور شقيقه وبقية الأهالي يزورون ذويهم، خرج بالفعل زوج الأم إلى الزيارة، ولكنه قضاها وحيدًا بعدما مُنعت زوجته من زيارته المُستحقة!!

عدد مجلة قلم وميدان ـ مارس 2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close