fbpx
قلم وميدان

قلم وميدان: كيف امتلأت الميادين المصرية بالثوار؟

هاهو الشعب الكسول ينتفض، وهاهي الروح المستكينة تثور، وهاهم ” عيال ” الأمس – كما كان يُطلق عليهم – يقدمون أروع المثل في معاني الرجولة والقوامة والثبات والتحدي..ساعات قليلة نجح فيها المصريون في إعادة رسم صورتهم الذهنية لدى جميع شعوب العالم…

قبيل بزوغ فجر يوم الثلاثاء 25 يناير 2011، ماكان يتوقع أكثر المتفائلين أن يستجيب العشرات من الشباب لدعوات التظاهر التي أطلقتها بعض القوى والجماعات السياسية، اعتراضا على الأوضاع المزرية التي واجهتها البلاد، لكن الأمور جاءت على عكس ماكان يتوقع الخبراء والمحللون – المؤيدون والمعارضون – لهذه الانتفاضة الشعبية.

ففي وقت لايساوي في حساب الزمن لحظات فوجئ العالم أجمع بالفضائيات تنقل عبر شاشاتها جموع الشعب الغفيرة وقد خرجت من “بياتها الشتوي” الذي دام عقودا طويلة، لتتوجه صوب ميدان واحد، شعارهم واحد، أياديهم متشابكة، قلوبهم مترابطة، وحناجرهم تعزف نفس اللحن في ذات الوقت..لينتهي اليوم الأول من هذه الانتفاضة وقد تحولت أغلب ميادين مصر إلى قبلة يحج إليها كل المتعطشين لحياة كريمة.

هذه المشاهد المليونية المروعة التي فاقت كل التوقعات، دفعت العديد من علامات الاستفهام إلى أن تُطل برأسها تبحث عن إجابة..كيف امتلأت هذه الميادين بهذه الصورة في هذا الوقت القصير؟ وماهي الآليات التي دفعت الشعب إلى النزول في مظاهرات لم يعتد عليها طيلة عقود عدة، بالرغم من توفر مقومات ودوافع المشاركة منذ فترات طويلة؟

هذا ماتسعى “قلم وميدان” للوقوف عليه في هذه الاطلالة السريعة، لاسيما في ظل أوجه الشبه الكبيرة بين ماقبل يناير 2015 ويناير 2016…

الفشل السياسي والخروقات الحقوقية

بداية أشار الكاتب والمحلل السياسي – خالد الأصور-أن السنوات الخمس الأخيرة من حكم المخلوع حسني مبارك كانت حاشدة بالكثير من عوامل الثورة التي تراكمت على مدى الربع قرن السابق من حكمه، ولكن في هذه السنوات الخمس تبلورت وتصاعدت هذه العوامل وشكلت حجرا كبيرا كأنه ينحدر من جبل شاهق، أبرزها، انتهاكات الشرطة ضد المواطنين المصريين بشكل عام، والمعارضين بشكل خاص، والتوسع في الاشتباه والاعتقال، وارتفاع عد المعتقلين ليتجاوز الأربعين ألفا.

وكان الاعتداء على الشاب خالد سعيد وتعذيبه وقتله، وكذلك قتل جهاز أمن الدولة للشاب سيد بلال نتيجة التعذيب كان لهذا دور كبير في بلورة حركة احتجاج شعبية واسعة ضد هذه الانتهاكات.

وأضاف “الأصور” لـ ” قلم وميدان” أن من العوامل التي لعبت دورا مؤثرا في حشد الملايين للميادين، الفساد الذي رعته الدولة وأصبح له مؤسسة تحميه في كافة الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، واقترن الفساد بالسياسة، ولا سيما في قطاعات البترول والغاز والأراضي والممارسات الاحتكارية، وما ترتب عليها من فصل للعمال وتشريدهم ووقفات احتجاجية لم يتم الالتفات إليها، وارتفاع أسعار السلع كافة وخاصة الأساسية منها، وانهيار منظومة التعليم والصحة وإلقائها في ملعب القطاع الخاص الذي لا يقدر عليه إلا الأغنياء، ويضاف إلى ماسبق التزوير الفج للانتخابات البرلمانية التي جرت قبل ثلاثة أشهر فقط من ثورة يناير، والتي كانتعاملا مهما في تضاعف السخط الشعبي، حيث سيطر الحزب الوطني الحاكم على أكثر من 95 % من المقاعد بالتزوير.

وتابع : ويضاف إلى ما سبق من زخم أثار نقمة الشعب، حادث كنيسة القديسين المدبر أمنيا قبل ثلاثة أسابيع فقط من ثورة يناير، والذي راح ضحيته أكثر من 20 قبطيا في إطار محاولة الدولة تحجيم تأثير الكنيسة ورجال الأعمال الأقباط على قرارات الدولة، وإثارة الفتنة الطائفية أيضا ليكون النظام البوليسي باطشا بالجميع، وكانت ثورة تونس التي أطاحت بالديكتاتور زين العابدين بن على شرارة أخرى شعر منها الشعب المصري بالغيرة والحنق على الديكتاتور مبارك، فكانت ثورة 25 يناير، وكان شعارها الذي يختزل كل الأسباب السابقة الدافعة للثورة : عيش، حرية، كرامة إنسانية..

من جانبه يرى “د.حسام عقل”-رئيس المكتب السياسي لحزب البديل الحضارى-أن العامل الأهم كان فيالتقاء كل القوى والأحزاب والحركات السياسية والمجتمعية على فكرة واحدة وهي إسقاط نظام مبارك واستئناف الحالة المدنية وإبعاد كل هذه الشبكات المسمومة من الإجراءات والقوانين الاستثنائية التي كُبّلت بها مصر طيلة العقود الماضية.

وقال “عقل” إن من أبرز ما لفت نظره قبيل يناير 2011أن جميع البيانات والتصريحات الصادرة عن التكتلات السياسية والحركات المجتمعية الرافضة لنظام مبارك القمعي أكدت رغبتها في الالتقاء، وأنها جميعا يحدوها عزم كبير في إنهاء حكم الجنرالات ومحاسبتهم بعدالة ناجزة سريعة على كل الجرائم التي ارتكبوها في حق المصريين من انتهاك لكرامتهم وسلب حقوقهم وطمس هويتهم وإهدار أموالهم والإضرار بصحتهم.

وتابع -رئيس المكتب السياسي لحزب البديل الحضارى- أن هناك تشابها ملحوظا في المناخ العام قبيل يناير 2011 ويناير 2016 بالرغم من تغير المشهد، وهو مالمسه من خلال البيانات الصادرة عن الائتلافات الثورة المتعددة.

وفي إطار مقارنته بماحدث في 25 يناير 2011 والآن في 2016أشار “عقل” إلى أن هناك تطورا ملحوظا في تكتيك الفكر والأداء الثوري، يقوم في أساسه على تفتيت المجموع إلى أعداد صغيرة موزعة على الميادين والمحافظات، لحين انتظار اللحظة المناسبة التي تصاب فيها المنظومة الأمنية بالإعياء والتعب ثم يتم الحشد في ميدان موحد كبير يضم كافة الأطياف الثورية.

وهو ما اتفق معه الحقوقى جمال عيد-مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان- والذي أكد أن خريطة حقوق الإنسان في مصر قبل 25 يناير كانت تنبئ بثورة مدمرة، حيث وصلت معدلات الانتهاكات لحقوق المواطن داخل السجون والمعتقلات إلى الحد الذي فاق كل الحدود والتوقعات.

وأضاف “عيد” أن حادثة “خالد سعيد” لم تكن هي المحرك الأساسي للثورة، بل سبقتها أيقونات كثيرة تم تسجيلها وفضحها إعلاميا وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، منوها أن المناخ الحقوقي الراهن لايقل عما كان قبيل يناير 2011، مما ينبئ بتكرار نفس المشهد مرة أخرى.

تفعيل مواقع التواصل الاجتماعي

لعبت مواقع التواصل الاجتماعي ” فيس بوك – تويتر ” دورا بالغ الأثر في إحداث الحراك الثوري على أرض الواقع، وهو ما أشارت إليه “د.سميرة موسى”-أستاذ الإعلام بجامعة كفر الشيخ- والتي أكدت أن شبكات التواصل المجتمعي على الإنترنت كان لها دور محوري في ثورة 25 يناير، إذ حوّلت الثورة من مجرد احتجاجات فردية ضيقة قبيل يناير، إلى تنظيم قوي قام بدور التعبئة الأيديولوجية للثورة، فانقلبت من ثورة افتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى ثورة حقيقية على أرض ميدان التحرير.

وأضافت موسى لـ” قلم وميدان ” أن الإنترنت الذي أسقط مبارك، يعتبره الكثيرون من المتابعين للوضع أنه أصبح الآن سلاحا في يد الشعب، حيث حركت مواقع التواصل الاجتماعي الشباب وكونت منهم جيشا على الفيس بوك وتويتر، فمصر الدولة الأولى في الشرق الأوسط استخداما للفيس بوك، واشتهرت جملة تم تداولها على الإنترنت وهي “الثورة بدأت على الفيس بوك وأعطاها تويتر دافعة وقادها موظف على جوجل في إشارة إلى الناشط “وائل غنيم” الذي يشغل منصب مدير تسويق شركة جوجل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وفي نفس السياق أشار “د.أحمد سلامة”-أحد المشاركين في ثورة يناير- أن ” الفيس بوك ” و” تويتر ” كان لهما دورٌ محوريٌ في حشد المجتمع للنزول إلى الميادين، حيث تحولت صفحات مواقع التواصل إلى ساحات للنقاش وتبادل الآراء، كل يستعرض تجربته الشخصية مع النظام، ومعاناته من أجل لقمة العيش، فضلا عما يواجهه من ظلم وفساد وانتهاكات لآدميته على أيدي القائمين على أمور الوطن.

وأضاف سلامة لـ” قلم وميدان ” أن إنشاء الصفحات المجتمعية والمجموعات المتناسقة على الإنترنت كان له دروه في تعبئة الرأي العام ضد نظام مبارك، وهو مادفع الناس إلى النزول للميادين فور الاتفاق على موعد محدد بعدما وصلت بهم درجة الشحن المعنوي إلى الحد الأقصى.

خطاب إعلامي بمواصفات خاصة

أما فيما يتعلق بدور الإعلام في حشد الملايين للميادين، أكد الكاتب الصحفي “فتحي مجدي”-مدير تحرير جريدة المصريون- أن الإعلام لعب دورًا مهمًا في حشد المصريين خلال أيام ثورة 25يناير، حيث كان أسبق من غيره إلى ذلك، من خلال تناوله للسياسة الكارثية التي كان يدير بها نظام حسني مبارك البلاد في السنوات التي سبقت الثورة، ووصلت إلى ذروتها في عام 2010، بعد أن انصرف إلى تعزيز هيمنة الحزب الواحد، كما ظهر في تزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل شهور من اندلاع الثورة، فضلاً عن تصاعد رقعة الغضب الشعبي جراء انتهاكات الشرطة، وغض الطرف عنها.

وأضاف “مجدي” لـ “قلم وميدان” أن المثال الأبرز هنا قضية الشاب السكندري خالد سعيد، الذي قتلته الشرطة، وهو ما مهّد بشكل أساسي للثورة ونزول الملايين إلى الشوارع والميادين، من خلال الانتقادات اللاذعة للنظام وقتها، والتي تجسّدت في مقالات الرأي لبعض الكتاب في الصحف الخاصة، وفي تغطيات تلك الصحف للأوضاع آنذاك، مشيرا أنه لايمكن بأي حال أن ننكر الدور الذي لعبته المواقع الإخبارية، والتي كانت أكثر تحررًا من القيود المفروضة على الإصدارات الورقية، فضلاً عن الدور الذي قامت به الفضائيات، وإن كان أكثرها تأثيرًا يبث من خارج مصر، كما في حالة قناة “الجزيرة”، التي ساندت الثورة منذ اليوم الأول، وعلى مدار 18يومًا، من خلال تغطيات متواصلة على مدار 24ساعة، بالإضافة إلى “الإعلام البديل” المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي.

وأشار مدير تحرير “المصريون” أنه في المقابل حارب الإعلام الرسمي (الصحف الحكومية والتليفزيون الرسمي) الثورة بكل قوة، وعمل على شيطنة المشاركين فيها، قبل أن يحدث التحول في موقفه، بعد أن رجحت الكفة لصالح الثوار، منوها أن تسليط الإعلام الضوء على ما حدث بالسويس عشية 28يناير، والتي وصفتها وكالة “رويترز” في أحد تقاريرها بأنها “سيدي بوزيد مصر” حفّز المصريين على النزول في “جمعة الغضب”، وجعلهم أكثر جرأة من ذي قبل على الخروج إلى الشوارع والميادين، وقد كان الظهور المؤثر للناشط وائل غنيم على شاشة إحدى الفضائيات (مع منى الشاذلي في برنامج “العاشرة مساءً” على فضائية دريم”) بعد أيام من اندلاع الثورة للمرة الأولى منذ أُلقي القبض عليه لدى دخوله مصر نقطة فارقة في مسار الثورة وقتها، إذ أعاد الناس إلى الميادين بعد أن كان عدد لا بأس به قد انصرف عقب خطاب مبارك الشهير، واقتناع البعض بأن ما قاله كافٍ، فأعطى ظهوره الإعلامي قوة دفع حقيقية للثورة، وقد كان للتغطية الإعلامية المكثفة على مدار أيام الثورة دور كبير في ذلك أيضًا، حتى إن عملية الحشد من قبل الثوار في يوم “موقعة الجمل” من أجل مواجهة زحف البلطجية المدعومين من الشرطة كانت تتم من خلال نداءات عبر الفضائيات.

واختتم “مجدي” حديثه بأن المشهد يمكن أن يعاد بشكل أو بآخر لكن الأمر يحتاج إلى رؤية ناضجة، وتخطيط إعلامي جيد على أيدي خبراء الإعلام المتخصصين حتى نستعيد مشهد ماقبل 25 يناير 2011 مرة أخرى، لاسيما وأن الأجواء السياسية والحقوقية أكثر قسوة وفسادا مما كانت عليه آنذاك.

الاتصال الشخصي العنقودي

وفي سياق آخر كان للتواصل الشخصي بين المؤمنين بفكرة الثورة والقضاء على الفساد وبين ذويهم من الأقارب والجيران والمعارف دور هام ومؤثر في إحداث الحراك الذي قاد في نهاية الأمر إلى المشاركة في التظاهرات والنزول للميادين، وهو ما أكده كثير ممن شاركوا في الأيام الأولى لثورة 25يناير2011.

البداية مع “محمد عمر” طالب جامعي وشاب ثوري شارك منذ اللحظات الأولى للثورة، والذي أكد لـ”قلم وميدان” أنه كان دوما مايلتقي بأصدقائه من طلاب الجامعة والعاملين بالجهات الحكومية والخاصة نهاية كل أسبوع للحديث في أكثر من موضوع، تصب جميعها في إلقاء الضوء على الفساد الذي استشرى في جسد الوطن، والانتهاكات التي يواجهها المواطن ليل نهار من القائمين على أمور النظام لاسيما رجال أمن الدولة، ثم ينطلق كل واحد من الحضور ليجتمع بذويه في سلسلة لقاءات عنقودية متواصلة.

وأضاف عمر أنه كان يتلمّس استجابات سريعة وتفاعلاإيجابيا مع من يتحدث معهم، حيث كانوا يلتقون غيرهم من الأقارب أو الجيران في صورة منظمة مما كان له أبلغ الأثر في استجابتهم جميعا حين طُلب منهم النزول والمشاركة في تظاهرات الـ 25 من يناير 2011.

وهو نفس ما اكده “أحمد الدرعمي”-الداعية والخطيب- الذي كان يتمتع بمصداقية أهل قريته وثقة شبابها، وهو ما هيأ له الأجواء لإدارة العديد من الاجتماعات مع أهل بلدته لمناقشة العديد من القضايا التي تهم حياتهم ومستقبل أولادهم، وكيف أن نظام مبارك مارس أبشع صور الانتهاكات لحقوقهم، والاغتيال لأحلامهم المشروعة.

وأضاف الدرعمي لـ”قلم وميدان” أنه مساء يوم الاثنين 24 يناير 2011 وحين بلغت دعوات التظاهر ذروتها، اجتمع ببعض جيرانه وأقاربه وتواصل مع آخرين بشأن إمكانية المشاركة في تظاهرات الغد (25 يناير)، وفوجئ حين تلمس موافقة شبه إجماعية على النزول والمشاركة كل في محافظته، مما كان له أثر كبير في امتلاء الميادين في أقل من ساعات منذ انطلاقة الشرارة الأولى للثورة صبيحة يوم الثلاثاء 25 يناير.

عدد مجلة قلم وميدان ـ مارس 2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close