fbpx
كتب إليكترونية

كتاب الثورة – 13 الثورة المضادة

البعد الإقليمي وإسرائيل الكبرى

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تتحرك الثورة المضادة ـ إقليميا ـ في جانبها الأكبر والمهيمن متأثرة بالبعد العالمي، انطلاقا من أن الإقليم ـ بأكمله ـ متغير تابع ليس إلا، وهو ما تدركه أنظمته جيدا، ونؤكد أنها أنظمة يكاد لا يربطها رابط إلا التبعية للإمبراطورية الأمريكية، التي تتجلى طبيعتها غير المتماثلة في اختلاف المدار الذي يشغله كل نظام حول القطب الأمريكي الأوحد، وهكذا لا تملك الأنظمة الإقليمية إلا الحرص على أداء متطلبات مداراتها، وما عدا ذلك فهو أوهام ودعايات جوفاء، كما تحرص على استقرار المنظومة التي أفرزتها والتي يرتبط بقاؤها بها، ما يجعلها مجرد خفر للإمبراطورية وحراس لبيدرها.

ويبقى الجانب الأقل من الدوافع الإقليمية لأنظمة الثورة المضادة مرتبطا بهذه الأنظمة نفسها ـ غالبا بأشخاصها ـ وهو جانب يقتصر أثره على الكم وليس الكيف، كما أنه يعمل تحت سقف البعد العالمي لا يمكنه أن يتجاوزه ولا أن يختلف معه. وتربط خريطة البعد الإقليمي المحلي بالدولي، والتاريخي بالجغرافي، وتمثل التجلي الأكبر للثورة المضادة، تأكيدا لأن الثورة ـ على الأصل، والمضادة مرحلة منها ـ ثورة واحدة، بؤرتها الأساسية هي بلاد العرب، بفضل امتلاكها الخزان الأكبر من القدرة الثورية، والطاقة الأكبر من الدوافع، على الرغم من عدم امتلاكها الوعي الفردي، ولا التنظيم الجماهيري، ولا المؤسسة السياسية التي يمكن أن تكون محورا للتغير وقائدا للحراك، وهو ما يجعلنا ـ في نهاية المطاف ـ نقف دائما أمام انفجار ثوري فقير المحصول برغم سطوعه (1 ).

أما القدرة الثورية فتكمن في التركيبة السكانية لبلاد العرب، التي يغلب عليها الشباب، حيث إن (2 ): نسبة المسنين (الأكبر من 65 سنة) تدور حول 4%، بينما 70% أقل من 25 سنة، و”هم الأكثر تعليما ولديهم خبرات ومهارات لم تتح للأجيال السابقة خاصة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وهم الأكثر تفاعلا مع ثقافات العالم، والأكثر قدرة على الابتكار والإبداع، والأكثر طموحا وتطلعا للمستقبل”. وبشباب كهؤلاء من المنطقي أن تكون المنطقة العربية “خزان” القدرة الثورية، وللتأكيد يمكن المقارنة بالتركيبة السكانية في اسكتلندا، وهي عكس السكان العرب بالضبط، حيث كان 29.2% من السكان أقل من 25 سنة، و70.8% أكبر من 25 سنة، نصفهم، وأكثر، أكبر من 50 سنة، عشية الاستفتاء الشعبي الذي أجرته الحكومة الأسكتلندية يوم الخميس 18 من سبتمبر/أيلول 2014 والذي أسفر عن رفض الناخبين الاستقلال عن المملكة المتحدة بنسبة 55.42% مقابل 44.58 % أيدوا الاستقلال. وحسب استطلاع للرأي قام به اللورد أشكروفت فإن معظم كبار السن صوتوا برفض الانفصال (73% ممن هم أكبر من 65 سنة صوتوا بالرفض). هؤلاء “المسنون” ضيعوا حلم “وليام والاس”(3 ) ورفضوا أن يتسلموا ـ على طبق من فضة وبمجرد أن يقولوا نعم ـ وثيقة الاستقلال، الذي كافح من أجله أجدادهم لأجيال ومات من أجله من مات منهم، رفضوا ببساطة لأنهم فكروا في الرواتب التقاعدية والتأمين الصحي ولم يشغلهم مستقبل يعرفون أنهم لن يروه، ولا شعور وطني تخثر في عروقهم ليغريهم بالبقاء الآمن ويكفهم عن الخروج المغامر.

وإذا كانت غلبة الشباب تمثل “القدرة”، فإن التطلع إلى الانعتاق من: الفقر، والقهر، والإقصاء، والشعور العام بالمهانة الوطنية، وهشاشة الكيانات السياسية الواقعة تحت هيمنة الإمبراطورية الأمريكية والقائمة بدور “الخفير” لصالحها، يمثل “الدافع” الثوري. ونذكر بأن المنطقة العربية ـ إجمالا ـ هي أسوأ نواتج عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أدى انهيار الدولة الجامعة للمسلمين، ثم إنشاء الدول “القومية” الموالية للإمبراطورية الأمريكية إلى فرط عقد شعوبها التي كانت تعيش تحت مظلة دولية واحدة، فأصبحت أقطارا متخالفة. كما أن إنشاء الكيان الجامع لليهود جاء على حساب شعوب هذه المنطقة، وأرضها، ومقدساتها، وثرواتها، وأمنها، وحرياتها التي انتزعت قصدا، تأمينا للكيان الصهيوني، وحوصرت حتى لا يمكن انتزاعها مرة أخرى.

وبديهي أن “خفر الإمبراطورية” استشعروا الخطر مع الشرارة الأولى للحراك الثوري، مدركين ما لم يدركه المشاركون فيه من جوهره، وأنه الخطوة الأولى على طريق إسقاط عالمهم، ومعه أنظمتهم الشائخة وحدود كياناتهم المرتجلة.

وإذا كان الحراك الثوري، في انبثاقته الأولى، لم يتجاوز عتبة القرن السابع عشر، ولم يستوعب ما قاله “توماس هوبز” عن “فطرة المقاومة”، فإن الثورة المضادة نقلت المشهد ـ إقليميا ـ إلى أوائل القرن التاسع عشر، حيث أعاد تحالف الديكتاتوريات المتكلسة والعسكر مشهد “الحلف المقدس”، وهو اتحاد رجعي لملوك أوربا، أسسته في سنة 1815م روسيا القيصرية والنمسا وبروسيا لقمع الحركات الثورية في مختلف الدول، ولحماية الأنظمة الإقطاعية الملكية فيها. وبهذا فإن الثورة المضادة وبدلا من أن توقف عجلة التاريخ أو تديرها في الاتجاه العكسي، كما تريد وكما تحسب أنها تفعل، إذا بها تدير هذه العجلة إلى الأمام، وتجعلها أسرع من الحراك الثوري نفسه بقرنين من الزمان دفعة واحدة، كما أن خفر الإمبراطورية، إذ ذهبوا يجلبون لموقدهم بعض الحطب من بيدر الثورة، فإنهم تسببوا في إحراق آخر أوراقهم، واستهلاك ذخيرتهم، ليصبحوا أقل قدرة على الاستمرار، وأضعف كثيرا في مواجهة الموجة التالية من الحراك.

كانت المواجهات القمعية والعسكرية الأولية بين “الجنرال” و”الثوار” في بداية الحراك الثوري محض انتحار لجنرالات لا قدر لهم ولا قدرة، فقدوا حتى مساحة الاعتذار أو التبرير، فطول بقائهم في مناصبهم جعلهم مسؤولين بأثر رجعي عن الأزمات كلها، وانتقال الكيان الصهيوني من مرحلة “المواجهات العسكرية” إلى مرحلة “التنسيق الأمني” معهم هم أنفسهم، أفقدهم “المعركة” التي كانوا يبررون القمع بادعاء أن لا صوت يعلو فوق صوتها، كما أفقدهم القدرة على ادعاء البطولة. والتفاقم المستمر والمطرد للأزمات لم يمكنهم من تسويق أوهام قدرتهم على تجاوز هذه الأزمات أو حتى تخفيفها، وأصبح أفضل ما لديهم هو ادعاء أن الأمور لن تسوء أكثر، وحتى هذا الادعاء لم يعد رائجا.

ولم يكن لإقدام هؤلاء الجنرالات على قتل الثائرين بأنفسهم من معنى إلا استدعاء المزيد من الجماهير إلى ساحة الثورة، ما يهدد المنظومة الإقليمية كلها بالاكتساح، لهذا فإن “الثورة المضادة” التي قادتها منظومة “الثروة” لم يكن همها إنقاذ الجنرالات (وإن كانت أنقذتهم بأشخاصهم أو أنقذت لهم مناصبهم أيضا) بل إنقاذ دولة الجنرال نفسها، وكان استدعاء الأقليات هو الحل السحري، والأكثر أهمية أنه كان هو الحل المتاح.

باستثناء “معمر القذافي” الذي لم يكن الثوار وحدهم من يطلبون رأسه، بل كان هذا الرأس مطلوبا من قبل بعض قيادات الثورة المضادة، بينما نجحت الدكتاتوريات الرجعية، في إنقاذ رؤوس كل الجنرالات، قبل أن تعمل على إنقاذ مناصبهم أيضا، وأصبحت الرياض وأبو ظبي ملاذا آمنا لكل من ذهب إليهما بقصد البقاء، مثل “زين العابدين بن علي” أو “خرج على رجاء العودة” مثل “أحمد شفيق” الوريث المحتمل لحكم مصر، منذ أن كان “حسني مبارك”(4 ) في السلطة. وكذلك “علي عبد الله صالح” الذي تولت الرياض ترميمه ـ بالمعنى الحرفي ـ بدنيا وسياسيا، قبل أن يعلن مناصبتها العداء لتعلن ـ في المقابل ـ أنها مضطرة للقبول بإملاءاته، بينما تولت أبو ظبي ـ في سياق أكثر صراحة ـ أمر ابنه وأمواله، مع مشاركة السعودية في حرق ما تبقى من أرض في اليمن. والخلاصة أن “صالح” عاد بحصة في الحكم، متمردا على تعليمات الرياض، التي بات عليها أن تسلم بوجوده رقما صعبا، وأن تسعى إلى ألا تتورط علنا في صدام معه، في مسار انتهى بمقتله.

كانت منظومة “الثروة” تبني هياكل سياسية وإعلامية مرتجلة في ساحات “الثورة”، معتمدة على صلاتها، وصلات الجنرال، وصلات الإمبراطورية الأمريكية بأقليات الجنرال المتساندة في “تشغيل” هذه الهياكل على المدى القصير، الذي لم تكن تحتاج إلى أكثر منه، لنقل حطب الأقليات المتساندة بعيدا عن ساحة الثورة أولا، حتى لا تندمج مع “الأغلبية المستبعدة” في حراكها، وحتى تستخدم في إعادة إنتاج نظام الجنرال مرة أخرى، جنبا إلى جنب مع إعادة تأهيل ـ وتمويل ـ أدوات نظام الجنرال، من جيش وشرطة وقضاء وإعلام ودبلوماسية ودولاب إداري، لمنحها القدرة على الصمود في وجه مساعي الثورة للتغيير.

وهو تحول يبدو قريبا جدا مما عبر عنه “كارل ماركس” في كتابه “النضال الطبقي في فرنسا”، قائلا: “وعندما بلغت الأمور إلى حد أن انتصار الطبقة البرجوازية ذاته هز البرجوازية في جميع البلدان إلى درجة أنها ارتمت من جديد في أحضان الرجعية الملكية الإقطاعية التي كانت قد أسقطت للتو. لم يكن من الممكن في ظروف ذلك الوقت أن يخالجنا أي شك في أن المعركة الفاصلة الكبرى قد بدأت وأنه يجب السير بها إلى النهاية في سياق مرحلة ثورية طويلة وحافلة بالتقلبات، وأنه لا يمكن مع ذلك لهذه المعركة أن تنتهي إلا بانتصار البروليتاريا النهائي”.

***

إذا كان إسقاط الدولة الجامعة للمسلمين هو الشق الأول مما كان على الإقليم تجرعه من نتائج الحرب العالمية الأولى، فإن إقامة الكيان الجامع لليهود، بانتزاع قطعة من اللحم الحي للإقليم، كان هو “الجرعة الأخرى”، منذ “وعد بلفور” الرسالة التي لا يزيد طولها على بضعة أسطر، وعدد كلماتها مئة وسبع عشرة كلمة، والصحيح أنها تنتمي إلى الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” أكثر مما تنتمي إلى وزير الخارجية البريطاني “آرثر بلفور”، حيث إن “حاييم وايزمان” أحد كبار قادة الحركة الصهيونية، ورئيس الكيان الصهيوني فيما بعد، نجح في الاستفادة من جهود عدد من أعضاء إدارة الرئيس ويلسون الصهاينة، في إقناع الرئيس بالمشاركة في صياغة الوعد ودعم إصداره، وكان من أبرز الصهاينة في إدارة ويلسون: “لويس برانديس” و”إدوارد مانديل هاوس” اللذان حرصا على التحرك فيما يخص صياغة الوعد وتبنيه بهدوء، حتى لا يثيرا حفيظة “الأغيار”.

كان برانديس صديقا لويلسون، وقد عين بالإجماع رئيساً للجنة التنفيذية المؤقتة للشؤون الصهيونية من 1914 إلى 1918م، أي أنه كان زعيم الصهاينة في الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه عينه ويلسون في 1916 قاضياً في المحكمة العليا الأمريكية، ليصبح أول قيادي في الحركة الصهيونية يعين في هذا المنصب. وكان من أبرز التعديلات التي أجريت على مسودة الوعد في الولايات المتحدة، اعتماد تعبير “الشعب اليهودي” بدلا من “العرق اليهودي” لتجنب هدم الوعد كله بتساؤل بسيط يقول: ومن هو اليهودي؟ كما تمت إضافة العبارة الأخيرة من الوعد التي تنص على عدم تهديد حقوق اليهود السياسية ووضعهم السياسي في أي بلد آخر، قبل أن يعيدها ويلسون إلى بلفور، الذي أرسلها بدوره إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد في 2 من نوفمبر/تشرين الثاني 1917م.

وهكذا ساهمت الإدارة الأمريكية مساهمة فعالة في صياغة وتطبيق ما يعرف بوعد بلفور، وقمة التناقض أن الرئيس وودر ويلسون، الذي شارك مستترا في الصياغة والتنفيذ، هو نفسه الرئيس ويلسون، الذي أصدر إعلان ويلسون الشهير ذي النقاط الأربع عشرة، الخاصة بحقوق وحرية الشعوب، ومنها النقطة الثانية عشرة، التي تقول “لا بد من ضمان حياة آمنة أماناً لا يعتريه شك للشعوب الأخرى التابعة للحكم التركي وأيضاً فرصة كاملة للنمو الذاتي”. وهو كلام مؤداه الظاهر رعاية حق فلسطين في الاستقلال، الأمر الذي يتعارض كليا وأصوليا مع وعد بلفور في نصه وفي تطبيقه طوال قرن من الزمان. وعمليا فإن الإدارة الأمريكية ساعدت الحكومة البريطانية مساعدة فعالة في قمع الحراك الشعبي الفلسطيني، منذ “هبة القدس الكبرى” في العام 1929، وإلى أن انفردت واشنطن بعبء الجانب الأكبر من المشروع الصهيوني.

وبعد قرن من الحرب العالمية الأولى، بوعدها، وبتقسيمها الإقليم على أساس “سايكس بيكو”، فإن بريطانيا: التي كانت عظمى، والتي تخلت للإمبراطورية الأمريكية عن قيادة العالم الأنكلو ساكسوني، والتي غادرت الاتحاد الأوربي، تصر ـ برغم هذا التراجع والتخلي والإخفاق ـ على الاحتفال بمئوية وعد بلفور، بينما الولايات المتحدة تقود ـ صراحة وبمباركة رئيسها ـ أنظمة “الثورة المضادة” وهي تبذل أقصى ما تستطيع للمساعدة على الانتقال بالوعد من مرحلة “وطن قومي لليهود” إلى مرحلة “إسرائيل الكبرى”، ذلك العنوان الذي يمكن اختصار البعد الإقليمي للثورة المضادة فيه، بقدر ما يمكن اعتبار كتاب شيمون بيريز “الشرق الأوسط الجديد” هو الكتاب المقدس للثورة المضادة إقليميا، باعتباره الدليل الذي يحمل الملامح الأساسية للمنطقة، وقد خلع حكامها آخر ما اضطروا للاستخفاء وراءه من أقنعة، سواء قناع العروبة أم قناع الإسلام أم حتى قناع الدولة أو القبيلة، باذلين المال الذي انتهبوه والأرض التي اغتصبوا حكمها، لإقامة “إسرائيل الكبرى” التي يمكن اختصارها في أنها: حكومة صهيونية جامعة بطابع إقليمي وطموح عالمي، تتولى فيها “تل أبيب” الإدارة، وتمولها دول الثورة المضادة في الخليج، وتتكفل مصر بتقديم العمالة منخفضة الأجر، لتبيع “الشرق الأوسط” لسكانه وللعالم، بضمان تدفق الأرباح إلى تل أبيب، على نحو ما وضحه بيريز في كتابه قائلا: “هدفنا النهائي هو خلق أسرة إقليمية من الأمم ذات سوق مشتركة وهيئات مركزية مختارة ،علي غرار الجماعة الأوربية”(5 ).

وهو الهدف نفسه الذي سبق أن دعا إليه “تيودور هرتزل” معبرا عنه بكومنولث شرق أوسطي تكون السيادة فيه للدولة اليهودية (6 ). ولا يتصور الوصول إلى هذا الهدف إلا بعد الاطمئنان تماما إلى أنه لن يكون هناك من يصارع ولا من يقاوم المشروع الصهيوني، بمعنى أن تحقيق هذا الهدف رهن بإجبار المقاومة على الاستسلام، وضمان عدم تجددها، لهذا تضيق مجموعة الثورة المضادة نفسها ـ بامتداداتها الإقليمية والعالمية ـ الخناق على “حماس” وتجبرها على التخلي عن حكم “غزة”، بل ويصرح محمود عباس لوفد من أعضاء سابقين في الكنيست بأنه “لن يقبل بتعيين أي مسؤول من حماس لا يعترف علنا بإسرائيل في حكومة الوحدة الفلسطينية”(7 ).

ما يعني أن التبعية للمشروع الصهيوني هي شرط المرور للمشاركة في حكم فلسطين، وهو أمر يبدو متسقا مع المحيط العربي العام، الذي انتقل حكامه من مرحلة اللقاءات السرية مع الصهاينة، إلى مرحلة المفاخرة ومكايدة الأقران في سياق التسابق على أيهم الأقرب إلى “حِجْر” تل أبيب. أما ما كان من حروب وضحايا، فماض وانتهى و”النزاع العربي الإسرائيلي ليس أكثر حدة من النزاع بين الأوربيين في الحروب التي قادوها سابقا”(8 )، والتي قام الاتحاد الأوربي برغمها. وفي كل الأحوال، دعونا لا ننسى أن “إسرائيل” كانت، ومنذ الخطوات الأولى لإنشاء احتلالها الاستيطاني، هي “الشقيقة الكبرى” لأنظمة الثورة المضادة “العربية”.

ويقول بيريز: “لم أكن أنا الذي عمل على تغيير المسار من التصور التقليدي للدفاع الوطني القائم على أنظمة الأسلحة، إلى التصور الحديث القائم على الاتفاقيات السياسية ويضم عناصر أخرى مثل الأمن الدولي والاعتبارات الاقتصادية، فالواقع يؤكد أن العالم هو الذي شهد تغييرات كاسحة، وعملية التغيير إنما تجبرنا على استبدال مفاهيمنا القديمة بمواقف أقرب إلى الحقائق الجديدة”(9 ). هذا التغيير لا يعنى التحول، بمعنى تغيير المسار، بل التطور داخل المسار نفسه، وإذا فإن بيريز يقول هنا بوضوح إنه انتقل من المواجهة بأسلحة القتال إلى المواجهة بأدوات السياسة تواءما مع انتقال المشروع الصهيوني من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وفي المرحلتين معا لا دور للعرب إلا أنهم “أدوات” تهيمن عليهم الإمبراطورية الأمريكية وتقدمهم للصهاينة ليؤدوا ما هو مطلوب منهم من دون زيادة ولا نقصان.

ويؤكد بيريز أن “العرب لا يستطيعون هزيمة إسرائيل في أرض المعركة”(10 )، طارحا قيام حلف أمني إقليمي لتحقيق “الاستقرار السياسي” في مواجهة “الأصولية” مقترحا “قيام هيكل إقليمي منظم يخلق أطرا جديدة للمنطقة، ويوفر القدرة على النمو الاقتصادي والاجتماعي، مع إطفاء نيران التطرف الديني وتبريد رياح الثورة الساخنة”(11 ). ولاحظ الإشارة إلى “رياح الثورة الساخنة” في كتاب معاد للثورة صدر في العام 1993، أي قبل 18 سنة من “الربيع العربي”، ما يؤكد أن الثورة ظرف موضوعي تماما، ونتاج عوامل كانت ـ ومازالت ـ قائمة.

ثم لاحظ أن أنظمة الثورة المضادة لم تحمل تحذير بيريز من “رياح الثورة الساخنة” محمل الجد فحسب، بل إنها انخرطت ـ بمنتهى الإخلاص ـ في عضوية كيانه الإقليمي المقترح في مواجهة هذه الرياح، وهو “إسرائيل الكبرى” والذي يمكن العودة إلى يوليو/تموز 2012، لتحديد تاريخ تشكيل “فريق عمله” في مواجهة الثورة، التي فاجأت الجميع، برغم وضوح نذرها والتحذيرات التي سبقتها. ففي هذا التاريخ تم “الخلاص الغامض” من قيادات الاستخبارات الكبرى في المنطقة، ليحل محلهم آخرون، يعملون وفق منهج مختلف، مازال مستمرا. حيث قتل في تفجير مبنى الأمن القومي السوري 4 قيادات عسكرية كبرى، منهم: “آصف شوكت” (18/7/2012) زوج بشرى حافظ الأسد شقيقة بشار، ومدير الاستخبارات العسكرية السورية منذ العام 2005، وقائد سرية الاقتحام بالوحدات الخاصة في مذبحة حماة الشهيرة. الذي لحق به، بعد يومين “هشام بختيار” هو رئيس المخابرات السورية، متأثراً بجراحه التي أصيب بها في التفجير نفسه.

وفي 19/11/2012 أعلنت وفاة “اللواء عمر سليمان” المدير السابق للمخابرات العامة المصرية، ونائب “حسني مبارك” قبيل تنحيه، وذلك بمستشفى كليفلاند في الولايات المتحدة، نتيجة ما قيل إنه “تدهور صحته بشكل مفاجئ”. كما أعلن في اليوم نفسه، مقتل “بن عويز شامير” قائد جهاز المعلومات الخارجية في الشاباك الصهيوني، وذلك في لعاصمة النمساوية فينا. وأعلن أيضا إعفاء الأمير “مقرن بن عبدالعزيز” من رئاسة الاستخبارات العامة للمملكة العربية السعودية، التي تولاها منذ 22/10/2005، وخلفه فيها الأمير “بندر بن سلطان”. وهكذا نكون بصدد 72 ساعة، تغير فيها معظم طاقم الاستخبارات الذي عمل على الملف السوري، من مختلف دول المنطقة، وبعدها تغير منهج التعامل مع فصائل الثورة السورية، ليدمغ معظمها بالإرهاب، ويستدرج الباقي نحو فخ التحول إلى معارضة، أي جزءا من النظام، وفي النهاية تغير الموقف من الجزم بضرورة رحيل بشار، إلى القبول باستمراره وبقاء نظامه، مع اتهام حتى من يعارضه!

وبهذا يكون الكيان الصهيوني قد نجح في الحفاظ على أكبر حليف عسكري له في المنطقة، حسب وصف “جدعون ليفي” لبشار في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعد أسابيع من بدء الحراك في سوريا، والأكثر أهمية أن توقف دولاب الثورة في سوريا كان يعني أيضا توقفه في كل النقاط التي تحرك فيها من قبل، وأن هذه النقاط أصبحت محكومة بالسقوط في قبضة الثورة المضادة، خاصة مصر، التي كان بيريز يدرك أن مرور شرقه الأوسط يحتاج إلى سلبها قدراتها ومكانتها، وهو ما عبر عنه وفد تل أبيب إلى المؤتمر الاقتصادي بشأن الشرق الأوسط، الذي انعقد في الدار البيضاء عام 1994، والذي طلب من مصر تسليم قيادة الشرق الاوسط للكيان الصهيوني “بعد أن فشلت مصر في قيادة المنطقة” كما قال، ونسب إلى شيمون بيريز أنه قال: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن.

وفي السياق نفسه، قال بيريز في مقابلة نشرتها “فصلية الشرق الاوسط” في مارس/آذار 1995: “أعتقد أن جامعتهم (الجامعة العربية) يجب أن تتحول إلى جامعة الشرق الأوسط. نحن (الصهاينة) لن نصبح عربا، ولكن الجامعة يمكن أن تصبح شرق أوسطية، بعد أن أصبحت الجامعة العربية جزءا من الماضي”.

هكذا إذا ـ بكل وضوح ـ تم استدراج العرب من “ربيع الثورة” إلى تبعية “إسرائيل الكبرى”، تلك التبعية التي لم تولد في يوم وليلة، ولا أنبتتها الأرض إنباتا، لكنها تراكمت عبر قرن من الوعد وعقود أخرى قبله، طبقة فوق طبقة، بين شعوب تتلاعب بها أنظمة فرضت عليها فرضا، يقودها حكام برتبة “خفر” لدى الإمبراطورية الأمريكية، مهمتهم فرض التخلف والتبعية على المجتمعات العربية، عبر سحق الهوية وقمع الحرية والاستهانة بالعلم وإهدار الطاقات والثروات الطبيعية، حتى الثروة السكانية، التي تشكل الرقم الصعب في تحدي السيادة على الشرق الأوسط بين العرب والصهاينة، تعمد خفر الإمبراطوية إهدارها لصالح الكيان الصهيوني، خاصة في مصر، التي يطالبها الصهيوني بالتخلي له عن القيادة.

ففي العام 1962 قدم “جمال عبد الناصر” مشروع “الميثاق الوطني” الذي أعلن المبادرة من أجل تنظيم الأسرة، ومباشرة تم تأسيس الجمعية المصرية لتنظيم الأسرة وفي العام 1965 أنشئ المجلس الأعلي لتنظيم الأسرة، وكان تعداد مصر آنذاك أقل من 30 مليون نسمة (حسب أقرب تعداد رسمي أجري في العام 1966م) بمعدل كثافة سكانية حوالي 30 نسمة في كل كيلو متر مربع، وهو معدل يضع مصر في المرتبة 173 بين دول العالم، أي بين الدول قليلة الكثافة السكانية. ومنذ ذلك التاريخ تواصل سلطة العسكر في مصر العمل على وقف النمو السكاني، الذي يعتمد على الزيادة الطبيعية فقط، أي عدد المواليد، بينما تواصل النمو السكاني في الكيان الصهيوني، بالزيادة الطبيعية والهجرة معا، ليصل إلى 8.7 مليون نسمة تقريبا، أي 10 أضعاف عدد السكان في 1948م (وللمقارنة فإن سكان مصر في إحصاء العام 1947 كانوا 20 مليون نسمة، أي أنهم تضاعفوا خمس مرات فقط في الفترة نفسها). وفي السنوات العشر بين العامين 2040-2050 (أي مع معاناة أوربا الأعراض الحادة لنقص السكان) (12 )، فإن عدد سكان الكيان الصهيوني سيبلغ 15 مليون نسمة.

وحاليا فإنه يحتل المرتبة الرابعة عالميا فيما يتعلق بمعيار بنسبة الكثافة السكانية، حيث تبلغ النسبة العامة داخله 435 نسمة لكل كيلومتر مربع، لكن ولأن 90% من سكانه يعيشون ـ فعليا ـ على 10% من المساحة التي تبلغ 21 ألف كيلومتر تقريبا، فإن النسبة في الأماكن المكتظة حوالي 3900 نسمة لكل كيلومتر مربع (للمقارنة فإن الكثافة العامة في مصر تسجل أقل من الربع، نحو 100 نسمة للكيلو متر المربع، ونحو النصف في المناطق المكتظة، حيث يعيش 90% من السكان على 4% من المساحة بكثافة حوالي 2000 نسمة للكيلومتر المربع) ‎ وبرغم هذا فإن تل أبيب تواصل سياسات تشجيع الإنجاب والهجرة معا، لتتواصل الزيادة السكانية، التي يبلغ معدلها بين “الحريديم” 5% وهو من أعلى المعدلات في العالم.

وتواصل سلطة العسكر في مصر القضاء على النمو السكاني، لدرجة الدعوة إلى إستصدار تراخيص بالإنجاب، محذرة من وهم تسميه “الانفجار السكاني” بينما هو في الواقع فشل السلطة في توزيع السكان لإعمار الأرض، وهو الوهم الذي يقول عنه بيريز في كتابه “الانفجار السكاني يعتبر عامل الخطر الأكبر، حيث لا تتناسب معدلات التزايد السكاني مع معدلات الزيادة في الإنتاج الغذائي”(13 ).

وهو “لغو فارغ” لم يجعل بيريز يتخلى عن مباركة زيادة عدد سكان كيانه العنصري بكل طريقة، لغو يوجهه نحو العرب وحدهم، وخاصة مصر، التي عبر هو نفسه تطلعه لأن يسلبها القيادة، والتي قال عنها صاحبه “موشي ديان” من قبل مبررا إحجامه عن التوجه نحو القاهرة ـ التي كان الطريق إليها مفتوحا ـ في 5 من يونيو/ حزيران 1967، إنه ليس مجنونا حتى يلقي بجنوده في خضم شعب تعداده 30 مليون نسمة (آنذاك). ما يؤكد أن السكان قوة مهمة، يعمل الصهاينة على احتكارها إقليميا، لتظل بلادنا أرضا مفرغة من شعوبها، لا يسعى في أرجائها إلا الشيوخ، ولا يجلس على مقاعد حكمها إلا بقايا الأنظمة التي تحترق الآن قطعة قطعة، على طريقة الصاروخ متعدد المراحل، ويعني احتراق المرحلة الأخيرة أن الصاروخ فقد آخر ما لديه من قوة دفع، وانتهى دوره بالنسبة لمشغله، الذي لا يبالي بالصاروخ بل بالوصول إلى الهدف. أنظمة لا تدرك أن أسوأ ما في الإدارة بالأزمة هو أنها تحتاج إلى استمرار “الأزمة”، وإلا تنتهي القدرة على “الإدارة”، وأن الذين يبعثرون “مقدرات بلدهم” مقابل “وراثة حكمه” يصبحون مطالبين بالدفع دائما، ولن يجدوا ـ فيما يرثونه ـ ما يكفي للسداد المنتظم، وأن الأقساط المتأخرة ـ محملة بالفوائد ـ تكون باهظة جدا.

وهذا ما ينتظر أنظمة الثورة المضادة، وهي تسرع عوامل فنائها، وتتخلى مرحلة مرحلة عن أسباب بقائها، التي لا يبقى منها أي شيء بعد إعلان أنها ليست أكثر من “منتجات استعمارية” وتفاخرها بأن “تل أبيب” وليس غيرها هي “الشقيقة الكبرى”(14 )، بحكم كونها المنتج والأداة الاستعمارية الأكثر أهمية إقليمياً (15 ).


الهامش

1 “دولتان على أرض مصر، ومصر مجرد نموذج: إحداهما لم تسقطها الثورة، وربما لا تسقط أبدا، والأخرى لم تقم بعد. ما يجعلنا نعيد -بمرارة- ذلك التساؤل عن ظاهرة التناسب العكسي الدائم بين حجم الثورات وأصالتها في مصر من جهة ومحصولها الفوري من جهة أخرى. وهي ظاهرة قرأناها في دفتر أحوال ثورة 1919، التي لم تنتج -فورا- أثرا يذكر على بنية المجتمع. ثم رأيناها -أي الظاهرة- شديدة الوضوح بعد ثورة 25 يناير، الأهم في تاريخ مصر، والتي يرجح مجرى أحداثها حتى الآن أن وقتا طويلا سيمر قبل أن نرى أي تغيير حقيقي”. مقال “دولة لم تقم وأخرى لم تسقط” ـ محمد القدوسي ـ الجزيرة نت ـ مقالات رأي ـ مارس 2011م.

2 النسخة العربية من التقرير الإقليمي حول حالة السكان للعام 2013 التي تم إطلاقها في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.

3 سير وليام والاس (1270 – 23 من أغسطس/آب 1305 م) أو “وليام والاس حامي اسكتلندا” حسب الكتاب الذي وضعه عنه سير “جيم فيرغوسون” في العام 1938م. أحد الفرسان الذين قادوا المقاومة الاسكتلندية ضد إنكلترا حتى مقتله. اعتقله الانجليز قرب غلاسكو في 5 من أغسطس/آب 1305م، ونقلوه إلى إنكلترا، حيث تعرض لتعذيب وحشي، منه التعليق على المشنقة وإنزاله قبل أن يختنق، وربط قدميه بحصانين، ويديه بحصانين آخرين يعدوان في اتجاه معاكس، وكذلك خصيه وإخراج أحشائه من بطنه، وإحراقها أمامه، وبرغم هذا فإنه رفض أن يركع طلبا للرحمة، فقطع الإنكليز رأسه، وعلقوها على جسر لندن، أما الأطراف فوزعت على نيو كاسل وبرويك، وستيرلينغ، وأبردين.

4 شفيق هو المطالب الحقيقي بالعرش، والاحتياطي الاستراتيجي للحكم، أما “مبارك” فالكل يدرك أن صلاحيته انتهت حتى من قبل سقوطه، وأما ابنه “جمال” فيظل خيارا غير مرجح، كونه من خارج المنظومة ويؤدي إلى زعزعتها.

5 الشرق الأوسط الجديد، ص 62-63.

6 عمليا فإن مشروع “نيوم” الذي أطلقه ابن سلمان هو حجر الزاوية في “إسرائيل الكبرى” التي تبنى في “نيوم” على أرض العرب وبأموالهم.

7 هاآرتس ـ 30 من أكتوبر 2017م

8 الشرق الأوسط الجديد، ص73.

9 الشرق الأوسط الجديد، ص35.

10 الشرق الأوسط الجديد، ص41

11 الشرق الأوسط الجديد، ص63.

12 وبهذا فإن أوربا، التي كافحت للخلاص من اليهود منذ قرن، ربما تكون مضطرة لاستجداء عودتهم إليها!

13 الشرق الأوسط ـ ص142.

14 في 22 من نوفمبر 2018م تداولت عدة مواقع صحفية، منها موقعا قناة الجزيرة وروسيا اليوم تصريحا للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، جاء ضمن كلمة ألقاها من منتجعه بفلوريدا بمناسبة عيد الشكر، يقول فيه “لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة”. كما يهدد من يطالبون باتخاذ موقف جدي من “محمد بن سلمان” المتورط في جريمة اغتيال الكاتب الصحفي “جمال خاشقجي” بأن هذا يعني “خروج إسرائيل من المنطقة”.

15 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close