الشرق الأوسطتقارير

كردستان العراق تحولات وآفاق

تمهيد:

خلال الفترة من 16-18 اكتوبر 2017 دخلت القوات العراقية مدعومة بالحشد الشعبي (المليشيات الشيعية المدعومة من إيران) الأراضي المتنازع عليها في شمال العراق، خاصة محافظة كركوك الغنية بالنفط والغارز الطبيعي، بين حكومة الإقليم في كردستان والحكومة المركزية، وكان ذلك تحولا كبيرا على صعيد المسألة الكردية في العراق والدول المجاورة وقضت -ولو على حين -على إحدى أكبر تحديات التي كانت تهدد العراق ككيان منذ الاحتلال الامريكي للعراق في 2003. نحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على اربعة محاور: مستقبل مسعود البارزاني كقائد للحركة الكردية، السيناريوهات المتوقعة في طبيعة العلاقة بين الاحزاب الكردية، التغييرات المتوقعة في طبيعة العلاقة بين أربيل وبغداد، وأخيرا التأثيرات الإقليمية لما حدث في كركوك.

ونعتقد أن عملية كركوك قد انهت وظيفة مسعود البارزاني كرئيس لإقليم كردستان ولكن سيظل يمارس نفوذه كقائد للحركة الكردية وتدير شؤون الإقليم من وراء الستار. كما أن فقدان كركوك 40% من أراضي كردستان وضع نهاية لحلم الكرد في الاستقلال ربما لعقود قادمة. وأن حكومة إقليم كردستان ستكون ضعيفة وربما مقسمة أيضا وتحاول حكومة بغداد فرض هيمنتها عليها وستكون هناك حالة عدم الاستقرار لحين تصل الحكومة المركزية والإقليم إلى حل توافقي وسيكون ذلك مرهونة بما تحدث في علاقات العراق بدول الجوار والصراع الامريكي- الإيراني في المنطقة.

أولاً: عمليات كركوك:

قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني في فيلق القدس، هو الذي خطط لتنفيذ عملية كركوك وتنفيذها في الفترة من 16 إلى 20 أكتوبر 2017 حيث زار إقليم كردستان العراق للقاء قادة أكراد، ثلاث مرات، على الأقل في تشرين الأول/اكتوبر الحالي. وقال نائب عن حزب “الاتحاد الوطني” إن سليماني التقى قادة في الحزب في مدينة السليمانية قبل يوم من إصدار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أمراً لقواته بالتقدم نحو كركوك، مشيراً إلى أن رسالة سليماني، كانت واضحة في هذا الشأن، ومفادها الانسحاب أو خسارة طهران كحليف استراتيجي.

ونقل النائب عن سليماني قوله لقيادات الحزب: “العبادي لديه كل القوى لإقليمية والغرب في صفه ولن يوقفه شيء عن إجباركم على العودة للجبال إذا ما قرر ذلك”1 ، وقال النائب المذكور إن الجنرال الإيراني أعاد للأذهان هجوماً كاسحاً شنّه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ضد انتفاضة الكرد في العام 1991، ما أجبر عشرات الالوف من الكرد على الفرار إلى الجبال. وهذا التهديد الصادر من سليماني قد ساعد على عقد صفقة سرية مع فرع من الاتحاد الوطني الكردستاني لتسليم كركوك مقابل ادارة مشتركة بين الكرد والحكومة المركزية. قدمت إيران دعما عسكريا حاسما لإجبار القوات الكردية على الاستسلام في كركوك، العراق، في 16 أكتوبر / تشرين الأول 2017. وشاركت القوات العسكرية من ثلاثة وكلاء إيرانيين رئيسيين في العراق في العملية: كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر. ولم تحاول إيران ابعاد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي علنا. وبدلا من ذلك سمحت إيران له بإرسال وحدات من قوات مكافحة الارهاب والشرطة الاتحادية حتى يظهر للعالم بان السلطة الفيدرالية في المركز تطبق قرار البرلمان العراقي في فرض القانون في كركوك، في حين وضعت إيران بهدوء وكلاءها للتأثير على كركوك في المستقبل 2 .

ولم يكن صدفة أن تستقر القوات الموالية لإيران قريبا من حقول النفط في المحافظة. اعطت الادارة الامريكية المستاءة من اصرار مسعود البارزاني على الاستفتاء رغم التحذيرات العديدة له، الضوء الاخضر وحتى بعض الدعم اللوجستي للقوات العراقية لدخول المناطق المتنازعة عليها من ضمنها كركوك 3 .

وهكذا اضطرت القوات الامريكية هنا كما كانت في المعارك ضد داعش في المدن العراقية الأخرى أن تقف مع قوات الجيش والمليشيات العراقية الموالية لإيران ضد خصوم حكومة السيد حيدر العبادي. وكما يبدو ان هناك رهان واضح من قبل ادارة ترامب على ان يقوم العبادي بطرد النفوذ الإيراني من العراق. ولكن العبادي يعتقد انه يتبع سياسة عدم الانحياز في الصراع بين ولايات المتحدة وإيران في الشرق الأوسط. اما الامريكان فيعتقدون انه في الظروف الحالية حيث لا يزال هناك خطر داعش على العراق أنه من غير المعقول الطلب من العبادي بالنأي عن إيران كليا 4 .

ثانياً: مستقبل برزاني في سياسة حكومة إقليم كردستان

انتخب مسعود البارزاني كرئيس للإقليم في برلمان الإقليم في عام 2005 ومن ثم اعيد انتخابه في عام 2009 من خلال الانتخابات المباشرة وتم تمديد ولايته في عام 2015 من خلال ترتيب سياسي بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. في 19 آب / أغسطس 2015 انتهت مدة رئاسته وأدى ذلك إلى أزمة شرعية رئاسية في الإقليم وقادت حركة التغيير الاحتجاجات الجماهيرية وعملية سحب الثقة منه في البرلمان ولكن لم يُوفق في ذلك وأدت الأزمة إلى غلق البرلمان الإقليمي لأكثر من عامين. وخلال حملة الاستفتاء، أكد البارزاني مرارا أنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى، وأن “رئاسته لحكومة إقليم كردستان هي أكبر خطأ في حياته”5 . وفي عام 2016، قال البارزاني: “في اليوم الذي سيكون لدينا كردستان مستقلة، سوف اتخلى عن موقعي كرئيس” 6 .

بعد عملية كركوك والخسائر التي لحقت بحكومة إقليم كردستان كان هناك شبه اجماع داخلي وخارجي بأن البارزاني كان مسؤولا عن ذلك. وعلاوة على ذلك، أرسل المسؤولون في بغداد والخارج، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، رسائل إلى الإقليم مفادها بأنهم غير مستعدين للتعامل مع البارزاني الذي أصر على اجراء الاستفتاء بمفرده وعلى الرغم من رغبة المجتمع الدولي. يبدو أن البارزاني استمع إلى تلك الرسائل التي كانت واضحة وبصوت عال، فأرسل في 29 تشرين الأول / أكتوبر 2017، رسالة إلى برلمان حكومة إقليم كردستان حيث طالب فيها بتوزيع صلاحياته بين حكومة إقليم كردستان والبرلمان.

وقال البارزاني في الرسالة نفسها “يجب أن يجتمع برلمان الإقليم في أقرب وقت ممكن لضمان عدم وجود فراغ قانوني في تنفيذ واجبات وصلاحيات رئيس المنطقة”. وتجدر الاشارة إلى أن المشرعين الكرد صوتوا بأغلبية ساحقة في 24 تشرين الاول / أكتوبر على تمديد فترة ولاية برلمان كردستان الحالية لمدة ثمانية أشهر أخرى. وفي كلمته الاخيرة كرئيس الإقليم، دافع البارزاني بقوة عن قراره بإجراء استفتاء في 25 أيلول / سبتمبر 2017، وقال: “لا يمكن محو نتائجه وان تطبيق نتائجه مرهونة بالمستقبل القريب”. وإن الهجوم العراقي على كركوك وغيرها من الأراضي الكردية المتنازعة عليها برهن على صحة موقفي بأن بغداد لم تعد تؤمن بالفيدرالية، وتحاول الالتفاف على الحقوق الكردية. “7 .

وأضاف البارزاني في خطاب الاستقالة إنه سيبقى كقائد للبيشمركة وسيكون في الجبهات للدفاع عن حقوق الكرد”. وفي 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2017، كان يزور القوات الكردية على الحدود الجديدة التي تفصلهم عن القوات العراقية والميليشيات الشيعية بالقرب من فيشخابور في دهوك، ومخمور في الموصل.

ويتوقع المحللون السياسيون أن يظل البارزاني يقود سياسة حكومة إقليم كردستان من وراء المشهد لعدة أسباب، ففي رسالته إلى برلمان حكومة إقليم كردستان لم يعترف بالهزيمة أو الاعتذار، وطلب من ابن أخيه وصهره نيجرفان البارزاني، رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان الحالي، أن يقود البلاد ويخرجه من الأزمة الحالية. علما أن نيجرفان البارزاني ليس لديه المؤهلات القيادية الشخصية للوقوف في وجه البارزاني والحد من نفوذه.

وتتحرك السلالة البارزانية وفق اسس النظام الصوفي الهرمي الديني (نقشبندية) حيث يتم فيه اطاعة أوامر الشيوخ وكبار القبيلة. كما أن مساعدي مسعود البارزاني المقربين لا يترددون في الافصاح بهذا الواقع. يقول هيمن، هورام كبير مستشار البارزاني. وسيبقى البارزاني في السياسة الكردية ويقود المجلس السياسي الاعلى في الإقليم … ولكنه اعتبارا من الاول من تشرين الثاني / نوفمبر لن يكون رئيسا للإقليم”8 .

ويقول أميد خوشناو، رئيس كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني في برلمان إقليم كردستان، إن استقالة البارزاني من رئاسة حكومة إقليم كردستان سوف يعطي “المزيد من الوقت له للعب دور اكبر في دعم جهود البيشمركة للدفاع عن الحقوق الكردية، وسيظل بكونه الشخص الوحيد القادر على ضمان الحقوق الكردية” 9 .

ثالثاً: مستقبل حكومة إقليم كردستان وعلاقات بغداد:

حين شعرت الحكومة المركزية بانهيار المقاومة الكردية ووجود انقسام سياسي حاد في الإقليم تراجعت من تفاهمات سرية سابقة مع بعض مسؤولي الاتحاد الوطني الكردستاني حول إدارة مشتركة في كركوك والمناطق المتنازع عليها10 .

أن سير الاحداث بعد عملية كركوك والتصريحات الصادرة من السيد حيدر العبادي كرئيس للوزراء والشخصيات الشيعية المتنفذة في بغداد والحصار الاقتصادي المفروض على الإقليم لا يوحي بأن العلاقة ستكون بين الإقليم والمركز علاقة سلمية ومستقرة.

ويصر العبادي على تعهد واضح وصريح من حكومة الإقليم بأنها قبلت قرار المحكمة للفيدرالية العراقية بأن الاستفتاء كان غير دستوري وتعد نتائجه باطلة. ويقول نيجرفان البارزاني إننا نحترم قرار المحكمة، ولكن لنا تحفظ عليها لأنها أحادية واستندت على أسس سياسية. وأضاف ليس الدستور العراقي قائمة مأكولات يختار منها العبادي ما يشاء ويتجاهل البقية 11 .

وعلاوة على ذلك، أصدر العبادي العديد من المراسيم لمحاكمة معظم المسؤولين الذين شاركوا في الاستفتاء. وتخطط الحكومة المركزية حاليا لإرسال 221 موظفا إلى إقليم كوردستان للسيطرة ولمراقبة المطارات ومنافذ العبور الدولية في المنطقة. وعلاوة على ذلك، تريد حكومة بغداد أن تجبر حكومة إقليم كردستان على تسليم ما تبقى من الحقول النفطية وجميع المداخيل الضريبية مقابل إرسال رواتب بعض موظفي حكومة الإقليم 12 .

كما يريد العبادي من حكومة الإقليم دفع تركيا وروسيا والشركات النفطية جميع الديون المستحقة عليها ومحاسبة المسؤولين في الإقليم الذين اختلسوا هذه الأموال، كما يريد أن يتم تقليص القوات العسكرية وقوات الأمن في إقليم كردستان وتسليم أسلحتها الثقيلة إلى بغداد 13 . فهذه شروط في تصورنا تعجيزية وانتقامية ويصر عليها العبادي لاعتبارات انتخابية في العراق ولكنّ الإقليم سيقاومه برغم الضعف الحالي لان تطبيقها يضر الإقليم في الصميم. ورغم أن الشارع الكردي مستاء جدا من حكومة الإقليم التي يهيمن عليها الفساد والمحسوبية وضعف الإدارة فإنه سيدافع عن مطالب حكومة الإقليم ويرفض الخضوع للحكومة المركزية التي تسيطر عليها في الغالب سياسيون شيعة. علما أن الحكومة في بغداد اصبحت حكومة مذهبية وقلّصت نفوذ الكرد والتركمان والعرب السنة في الجيش وقوات الأمن إلى أقل من 7٪ 14 .

يبدو ان حكومة الإقليم تراهن حاليا على التدخل الدولي خاصة الغربي لإقناع العبادي للعدول عن سياسته الحالية تجاه الإقليم. ففي 20 تشرين الأول / أكتوبر 2017، دعت الولايات المتحدة إلى إجراء مفاوضات مباشرة بين بغداد وأربيل لتفادي المزيد من القتال، ورحبت حكومة إقليم كردستان بمبادرة من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للحوار وطلبت من المجتمع الدولي المساعدة في بدء مثل هذه المحادثات بين الحكومتين. ومع ذلك، أصدرت محكمة عراقية في اليوم التالي مرسوما يقضي باعتقال كوسرت رسول علي، أمين عام الاتحاد الوطني الكردستاني ونائب رئيس حكومة إقليم كردستان على أساس أن أقوال السيد كوسرت كانت استفزازية وضد سلامة الجيش العراقي15 . بالإضافة إلى ذلك، أوضح العبادي أن أي مفاوضات لن تبدأ إذا لم تستند إلى التزام مسبق من حكومة إقليم كردستان بإعلان نتائج الاستفتاء لاغية وباطلة. ولن تتجرأ القيادة الكردية على اتخاذ خطوة كهذه. غير أن مسعود البارزاني أصدر في 25 تشرين الأول / أكتوبر 2017، أمراً بتجميد نتائج الاستفتاء وأعرب عن استعداده للتفاوض مع بغداد على أساس الدستور. لكن هذا لم يكن مقبولا لدى العبادي.

ولا أعتقد أن المفاوضات الجادة ستجري بين الطرفين إذا لم تتغير معادلة القوة العسكرية الحالية أو في غياب تدخل قوي من طرف ثالث، كما لا يشجع على ذلك الانقسام الحاصل بين القوى الرئيسية الكردية وخاصة العلاقات المتوترة بين الطرفيين الكرديين الرئيسيين الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب الديمقراطي الكردستاني. يسود حاليا في الإقليم حرب اعلامية وتبادل الاتهامات بين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني حول الاسباب التي ادت إلى فقدان المناطق الكردية المتنازعة عليها. كما أن هناك غليان شعبي ضد الادارة الكردية وتحولت في الفترة بين 19-30 من شهر كانون الاول إلى انتفاضة ضد جميع رموز السلطة وكان هناك إصابات عديدة بين المتظاهرين.

وتبع ذلك انسحاب حزب التغيير والجماعة الاسلامية من الحكومة الائتلافية الواسعة الاطراف. ويذهب بعض المحللين بان الاضطرابات الاخيرة مؤامرة إيرانية لإعطاء غطاء وحجة لحكومة المركز في التدخل في المحافظة وفصلها عن الإقليم كخطوة للقضاء على الإقليم. علما أن مكتب العبادي بدأ يستعمل في الآونة الاخيرة عبارة ” حكومة المحافظات الشمالية” بدلا من حكومة “إقليم كردستان” رغم ورود اسم الإقليم رسميا في الدستور العراقي 16 .

رابعاً: الوضع داخل الإقليم:

استنادا إلى ما ذكر اعلاه هناك عدة سيناريوات لمستقبل الإقليم في كردستان:

السيناريو الأول: تقسيم إقليم كردستان:

وذلك إلى منطقتين منفصلتين بين الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل والاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية. إن تحقق ذلك سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في الإقليم والعراق بطرق عديدة. وسيساعد إيران على التدخل والتلاعب بالمناطق التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني وإرساء سيطرتها على حكومة إقليم كردستان على حساب الولايات المتحدة وتركيا. لذلك سيكون هناك عودة إلى الفترة 1994-1998 من القتال بين الاطراف الكردية حول مناطق النفوذ والثروات الطبيعية والمالية.

من الجدير بالذكر أن بافل الطالباني النجل الاكبر لجلال الطالباني، وهيرو إبراهيم أحمد زوجة طالباني الراحل، هما الوحيدان اللذان يدعمان هذا الطرح. وقد اتهم بيان الحزب الديموقراطي الكردستاني، حول احداث كركوك “مسؤولي الاتحاد الوطني بإخلاء بعض المواقع الحساسة لقوات الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني دون مواجهة، وتركوا كوسرت رسول (قائد البيشمركة) وحده”، ورغم انتماء القيادي كوسرت رسول للاتحاد الوطني الكردستاني، إلا أنه ليس مواليًا لجناح بافيل طالباني، بل يوصف بالمقرب من البارزاني ومعه بعض القياديين الاخرين من الاتحاد الوطني.

وفي تسريب للاتفاق المبرم بين قاسم سليماني وبافيل طالباني، كشف بنوده النائب مسعود حيدر عن كتلة التغيير، أشار إلى أن هناك 9 محاور رئيسية له على رأسها تقسيم كردستان إلى إقليمين بدلًا من إقليم واحد، وتكفل الحكومة الاتحادية لكردستان (طالباني) المنتظرة بدفع رواتب الموظفين والعاملين، مقابل تسليم بافيل طالباني للمناطق الاستراتيجية للجيش العراقي وإعطاء آبار النفط للحكومة الاتحادية 17.

السيناريو الثاني: إنشاء حكومة الخلاص الوطني

وهذا ما طرحته حركة التغيير، وهي جماعة انقسمت عن الاتحاد الوطني الكردستاني في عام 2009، وعددها حاليا 25 عضوا في برلمان حكومة إقليم كردستان، والجماعة الإسلامية (كومل) التي تملك 6 مقاعد، والتحالف من أجل الديمقراطية والعدالة المشكل حديثا برئاسة برهم صالح، الذي كان نائب جلال الطالباني في الاتحاد الوطني وهو سياسي مخضرم وكان أيضا نائبا لرئيس الوزراء في العراق من 2004 إلى 2009، وأخيرا رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان من عام 2010 حتى عام 2012.

وفي معرض تعليقه على عملية كركوك، قال ريبوار كريم محمود المتحدث باسم جبهة التحالف الذي يرأسه برهم صالح، أن التطورات الأخيرة هي نتيجة لفشل سياسي النخبة الحاكمة في كردستان. ويدعو هذا السيناريو إلى تشكيل حكومة انتقالية جديدة لقيادة المفاوضات مع بغداد وتمهيد الطريق لأجراء انتخابات جديدة بعد ستة أشهر. وتكون قيادة الحكومة بوجوه جديدة وبرنامج اصلاحي لمحاربة الفساد. لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني، (38 مقعد في برلمان الإقليم) والاتحاد الوطني الكردستاني، (18 مقعداً) و حزب الاتحاد الإسلامي في كردستان ( 10 مقاعد) قد جادلوا ضده. وقال عارف طيفور، وهو قيادي من الحزب الديمقراطي الكردستاني، ان الوضع حرج للغاية ولا يسمح لتشكيل حكومة جديدة. وقال ان هذه العملية ستستغرق وقتا طويلا وستؤدي إلى مأزق سياسي. كما وصف السعدي بيرا، عضو المكتب السياسي في الاتحاد الوطني الكردستاني، فكرة الحكومة الانتقالية بكونها غير واقعية، ودعا حركة التغيير بالانضمام مجددا إلى الحكومة القائمة. ولهذه الأسباب، فإن هذا السيناريو أقل فرصة للتطبيق أيضا.

السيناريو الثالث: استمرار الحكومة:

ويقوم على استمرار الحكومة لمدة 8 أشهر، سواء انضم إليها كومل والتغيير أم لا، لأن الولايات المتحدة والعديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي أعلنوا تأييدهم له. من الجدير بالذكر ان عائلة البارزاني لها علاقة وطيدة بالدوائر الحكومية ولهم قوة عسكرية وولاء قبلي وامبراطورية مالية لا يمكن الاستغناء عنها. وقد دعت حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا مؤخرا جميع الجماعات الكردية إلى دعم حكومة نيجرفان البارزاني.

بالإضافة إلى ذلك نجد أن عملية كركوك وما أشيع عن تخاذل بعض القيادات داخل الاتحاد الوطني وفقدان كركوك التي كانت مركز قوة الاتحاد الوطني قد أضعف من قوة الأخير. وأن تصرفات المليشيات الشيعية المدعومة من إيران في كركوك ضد ما يعتبره الكرد رموز ومقدسات قومية18 ، قد يساهم في تقوية نفوذ حزب البارزاني وحزب العمال الكردستاني. علما أنه كان هناك اتفاق بين بغداد وبعض قيادات الاتحاد الوطني بمنح الاتحاد الوطني الكردستاني منصب محافظ كركوك بعد دخول القوات العراقية إلى المدينة وتسليم الملف الأمني إلى الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة المحلية القائمة التي أغلبها من الكرد. ولم ينفذ أي من هذه الوعود وهم الآن يعتزمون تعيين حاكم عربي سني 19 .

وتم تشكيل قيادة عمليات كركوك التي تُشرف عليها قوات الحشد وقوات مكافحة الارهاب التي يهيمن عليها الشيعة20 . وما لم تمارس الولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي ضغوطا على العبادي للتفاوض مع نيجرفان البارزاني لسحب الميليشيات الشيعية من الأراضي المتنازع عليها، ستكون هناك مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية المستمرة بين بغداد وأربيل.

وقد ذكر الحزب الديمقراطي الكردستاني إنه سيبدأ قريبا جهوده لاستعادة الأراضي المفقودة وسيطلق حرب عصابات واسعة الانتشار لتحقيق هذا الغرض21 . وهناك حاليا مواجهات عسكرية في كركوك بين قوات السلطة المركزية والحشد والقوات الكردية التي تسمي نفسها ب خوبخش” قوة المتطوعيين” وتتهم الحكومة حزب البارزاني بكونه وراء هذه الجماعة.

كما انتشرت مؤخراً قوة مسلحة تسمي نفسها أصحاب الرايات البيض في منطقة طوزخورماتو وجبال حمرين الوعرة التي تفصل المنطقة الكردية عن المناطق العربية. ويصف المراقبون للأوضاع بكون هؤلاء بقايا داعش وجماعة أنصار السنة ذات الولاء للشيخ نجم الدين فاتح كريكار الكردي، ويقدر عددهم بالمئات ويقومون بعمليات عسكرية ضد الحشد الشعبي. وتتهم السلطات العراقية هذه الجماعة بأنها ممولة ومدفوعة من قبل جهاز الامن الكردي التابع للبارزاني22 .

وبالتالي يمكن القول إنه ليس هناك انتصار لحكومة المركز في بغداد والقضاء على الحركة الكردية الداعية للاستقلال، ولكن هناك مكسب أمنى مؤقت، هو في تصوري عودة إلى المقاربة الأمنية في التعامل مع المسألة الكردية والتي أثبتت عقمها وفشلها في العقود الماضية.

وهنا أتفق مع “مينا العريبي” في تقييمها الفريد لما حدث ويحدث في كركوك. حيث كتبت: “كل فترة يمر العراق بأزمة نتصورها الأصعب والأكثر تعقيداً، من فاجعة سيطرة تنظيم داعش على نحو ثلث أراضي العراق، ……. إلى أزمة الفساد التي تنقل لنا كل عدة أسابيع فساداً يندر مثيله في العالم. واليوم نشهد أزمة جديدة مع استفتاء إقليم كردستان حول الاستقلال…الاستفتاء نفسه ليس المشكلة، فهو ليس ملزماً قانونياً، لا للعراق ولا حتى لإقليم كردستان. …… ولكنه دليل جديد على التراجع في العملية السياسية العراقية التي كانت من المفترض أن تكون مبنية على التوافق السياسي. وهنا، القيادات الكردية ليست بمفردها. القرارات أحادية الجانب والمبنية على التصعيد باتت تتصدر النهج العام في السياسة العراقية مع اقتراب انتهاء المعارك ضد «داعش». ولكن استفتاء إقليم كردستان له تبعات أوسع وأخطر على العراق والمنطقة، فهو أولاً يدل على تفكيك العقد السياسي بين القوى الرئيسية التي حكمت العراق منذ 2003، وهي الحزبان الكرديان والأحزاب الدينية الشيعية، من دون أن تتبلور تحالفات جديدة يمكن الارتكاز عليها لسير العملية السياسية خلال المرحلة المقبلة”. 23

خامساً: الأبعاد الإقليمية:

يبدو أن بسط سلطة حكومة بغداد على منطقة كردية واسعة وغنية بالنفط والغاز الطبيعي ستكون له تبعات إقليمية على علاقات العراق مع الدول الإقليمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية وإيران وتركيا. إن عملية كركوك هي بداية لمجموعة من المشكال بالنسبة للمنطقة. فهو قد يجر إلى تحركات تركية وإيرانية اقتصادية أو سياسية تجاه العراق- أو الأسوأ من ذلك عسكرية – يؤدي إلى تصعيد من الصعب تقدير تبعاته. فعندما تكون منطقة مثقلة بالسلاح وفيها مجموعات داخلية وخارجية لإشهار سلاحها وتريد انتهاز أي فرصة لزيادة الاضطرابات، عندها قد تكون العواقب وخيمة.

1ـ تركيا وأحداث كركوك:

بالنسبة لتركيا فعملية كركوك أثرت على بعض القضايا التي تخص هذا البلد مباشرة كالوجود التركماني في شمال العراق، ووجود حزب العمال الكردستاني في الإقليم والمصالح الاقتصادية التركية هناك. فإن عامل التركمان له جوانبه الوطنية التي لا يمكن الاستهانة بها في السياسة الخارجية التركية. وقد كانت كركوك قضية هامة بالنسبة لتركيا منذ تشكيل ميثاقي ميلي عام 1920 ولا يزال يشكل جزءا من الوعي الوطني التركي. وكانت تركيا تأخذ مسألة تكريد مدينة كركوك في الماضي كمسألة جدية وفي عام 2005 كتبت الخارجية التركية تقارير إلى كوفي عنان تطالبه كأمين عام الامم المتحدة بالتدخل لوقف الكرد من محاولة محو الهوية التركمانية للمدينة 24.

وبحسب بولنت أراس، “فإن فكرة الكرد الحاكمة في كركوك والسيطرة على احتياطاتها النفطية تلمس عصبا حساسا في الأوساط القومية التركية”25 . ونتيجة لذلك أثارت محاولة الكرد باتخاذ سياسة أحادية الجانب وتجاهل مشاعر التركمان وإعلان ضمهم كركوك إلى الإقليم بعد الاستفتاء مخاوف تركيا، فاتخذت موقفاً صارماً ضد الاستفتاء، وتضامنت مع العبادي في دخول القوات والحشد الشعبي إلى كركوك.

ويبدو من التصريحات العديدة للمسؤولين الأتراك أنه قد تبلورت عندهم قناعة بأن استقلال الإقليم سيؤدي حتما إلى الاتحاد مع الإقليم الكردي في شمال سوريا (روزاوا) ويشكل ذلك حزام خطر لعزل تركيا عن محيطها العربي، ويتحول هذا الكيان مع الوقت إلى قاعدة اسرائيلية-أمريكية. وكانت تركيا تعتقد أن الكيان الكردي المستقل سيُهدد وحدة الأراضي التركية في جنوب شرق تركيا حيث تتواجد كثافة سكانية كردية لا تقل عن 15 مليوناً. باختصار، شعرت تركيا بأنها أصبحت مهددة في وجودها.

وفي السابق كانت تركيا تدعم البارزاني في الإقليم وتعتبره الحليف الإقليمي ضد النفوذ الإيراني وحزب العمال الكردستاني. وفي محاولة منه لإقناع الحكومة التركية بالوقوف معها ضد البارزاني حاولت الحكومة العراقية اعطاء بعض الضمانات لهم. وعقدت عدة اجتماعات تنسيقية عسكرية وعلى مستويات عالية بين البلدين وتعهدت إدارة العبادي بالتنسيق مع تركيا لضرب وجود حزب العمال في الإقليم. ولكن النتيجة كانت عكس ذلك بعد سقوط سنجار، حيث سُمح لمقاتلي حزب العمال الكردستاني بالتمركز في المناطق التي اضطرت قوات البارزاني الانسحاب عنها. فبعد سيطرة المليشيات الشيعية على المنطقة الجبلية شمال غرب الموصل وسنجار والمحاذية للحدود السورية تم التوصل بينهم وبين حزب العمال إلى اتفاق وعمل ميداني مشترك في سنجار تولى على إثره فهد حميد العضو القيادي في الحزب المذكور منصب قائمقام سنجار26 .

إن هذا الاتفاق بين المليشيات الشيعية وحزب العمال له مدلولين: فإما أن العبادي كان غير صادق في وعوده مع الأتراك، وإما أن تلك المليشيات لا تخضع لسيطرته بل تتحرك حسب أجندة إيرانية في المنطقة.

ويسعى حزب العمال الكردستاني إلى الاستفادة من هزيمة قوات البارزاني والطالباني في كركوك وتطرح نفسها كبديل ثوري، وبدأ بالفعل في تسليح أتباعه وتنظيمهم في كركوك والسليمانية والمناطق الكردية خارج الإقليم. وكان وجود حزب العمال قبل عملية كركوك محدودا في المناطق التي تسيطر عليها البارزاني. وكان البارزاني عازما على طردهم من سنجار لكن الولايات المتحدة لم تشجعه على ذلك. فخلال عملية كركوك، لم يكن هناك أكثر من 12 مسلحا من حزب العمال الكردستاني في كركوك، وكانوا قد أحضروا قبل بضعة أشهر من قبل الاتحاد الوطني الكردستاني وإيران لإحراج موقف البارزاني تجاه تركيا. وأثناء هجوم القوات العراقية على كركوك قدموا عرضا للكاميرات لأغراض دعائية ومن ثم هربوا. وقبل أيام قليلة من الهجوم على كركوك صرح الجنرال جبار ياور الامين العام لوزارة البيشمركة لوكالة فرانس برس “لا توجد قوات في حزب العمال الكردستاني في كركوك لكن هناك بعض المتطوعين الذين يتعاطفون مع حزب العمال الكردستاني” 27 .

كما أعلنت قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل رسميا عن الحياد خلال عملية كركوك. ولكن المخابرات الإيرانية وأعضاء من الجبهة التركمانية المعادية لحكومة الإقليم أعطت اعدادا مبالغ فيها لوجود عناصر حزب العمال في كركوك للتأثير على الموقف التركي.

ودفعت تركيا ثمنا غاليا من الناحية الاقتصادية لمساندتها العبادي أيضا. كان الإقليم في المرتبة الثانية بعد الاتحاد الاوربي بالنسبة لتجارة تركيا الخارجية. وتقدر الاستثمارات التركية في الإقليم بمليارين دولار. وكما وقع الإقليم مع تركيا صفقة تجارية في مجال الطاقة ولمدة 50 عاما. ويبدو أن هذه الاستثمارات أصبحت الآن في مهب الريح إذا سقط الإقليم كليا تحت النفوذ الإيراني أو إذا استطاعت قوات الحكومة المركزية من السيطرة الكاملة على مصادر الطاقة في الإقليم. وعدت الحكومة العراقية ببناء خط نفط موازي لخط النفط المار بالإقليم لنقل النفط من كركوك إلى ميناء جيهان التركي عبر نقطة فيشخابور الحدودية.

ولكن حتى هذا التعهد محفوف بالمخاطر، وفي تصوري أن العبادي غير جاد في هذه الوعود، حتى إن كان جادا فهو غير قادر على تنفيذه لأن إيران والشارع الشيعي في العراق تشك في النوايا التركية في العراق. لنفرض بان الخط الانبوب الجديد سيبنى ويكتمل ولكنه أيضا من المفروض أن يمر بالإقليم وأن قوات البيشمركة تسيطر حاليا على قسم من المنطقة ويتطلب ذلك التنسيق مع الكرد في الجانبيين من الحدود والا سيتعرض الانبوب للإعمال التخريبية، ففي الجانب السوري تتواجد قوات وحدات الحماية العائدة لحزب الاتحاد الديمقراطي الموالي لحزب العمال الكردستاني وسيكون الانبوب معرض للتخريب من قبلهم. لذلك ان انجاز هذا الخط يتطلب دخول القوات العراقية إلى فيشخابور وحاولت تلك القوات ذلك في 20-21 من شهر اكتوبر الماضي ولكن تصدت لها قوات البيشمركة الكردية وكبدتها الخسائر الفادحة. ويعارض الامريكان ايضا دخول القوات العراقية إلى تلك المنطقة الحدودية المحاذية لسوريا. ويقال بأن الحكومة الامريكية تستخدم ذلك الشريط الحدودي البالغ 35 كم لنقل العتاد لقوات وحدات الحماية الكردية. لذلك لم يبق أمام تركيا إلا خيار التفاهم مع حكومة الإقليم أو احتلال تلك المنطقة داخل العراق. ويدعي العبادي أن الجانب التركي طلب منه فعلا السماح باحتلال المنطقة ولكنه رفض ذللك28 .

وكما أن العبادي سبق وأن عقد تفاهمات مع الشركات الإيرانية والغربية حول استثمار حقول النفط والغاز في كركوك . فبعد سقوط كركوك بثلاثة ايام فقط وصلت بعثة تقنية نفطية من شركة بريتش بتروليم البريطانية إلى الحقول المذكورة29 .

وقبل سقوط كركوك بشهرين توصلت إيران والعراق إلى تفاهم حول تصدير نفط كركوك إلى شمال غرب إيران عبر محافظة سليمانية. وفي 9 كانون الاول 2017 وقعت كل من تركيا وإيران على اتفاقية تنص على تبادل ما يصل إلى 60 الف برميل يوميا من النفط الخام من حقل كركوك في شمال العراق للنفط الإيراني. وقال عبد الجبار اللعيبي وزير النفط العراقي ان الاتفاق الذي وقعته الدولتان ينص على ان تقوم إيران بتسليم الموانئ الجنوبية للعراق وفي الخليج “نفط من نفس السمات وبنفس الكميات” التي ستحصل عليها من كركوك. علما بأنه سيكون ارسال هذا النفط بواسطة شاحنات صهريجية إلى منطقة كرمانشاه الحدودية حيث توجد مصفاة في إيران .وتعتزم الدولتان بناء خط انابيب لنقل النفط من كركوك ويمكن أن يحل هذا الخط محل الانبوب الحالي من كركوك عبر تركيا والبحر الأبيض المتوسط 30. وتؤكد المصادر الكردية في كركوك بان قادة الحشد الشعبي يرسلون يوميا 150 الف برميل اخر من نفط كركوك بالصهاريج إلى إيران من خلال التنسيق مع قادة الاتحاد الوطني في سليمانية 31. اذن يبدو لغاية الان بان إيران استطاعت من خلال عملية كركوك الاستحواذ على النفط الذي كان يرسله الإقليم إلى تركيا.

2ـ المكاسب الإيرانية في كركوك:

كانت إيران الدولة الاكثر اصرارا على افشال استفتاء الاستقلال في كردستان. حيث تشكل حكومة الإقليم حجرة عثرة مهمة أمام الجهود الإيرانية للهيمنة على العراق واستخدامها كجسر للوصول إلى حلفائها في سورية ولبنان. وإيران حريصة على ألا يتحول استقلال الإقليم إلى نموذج يقتدي به الكرد في إيران. وكما أن لإيران مطامع في حقول النفط والغاز في المناطق الكردية التي وقعت تحت سيطرة المليشيات الموالية لها في العراق.

وقد أشار قاسم سليماني في بيانه في 20 أكتوبر 2017، الذي أصدره بعد وقوع كركوك تحت سيطرة المليشيات بأن إيران “تعد احتياطيات النفط والغاز في إقليم كردستان مهمة بالنسبة لأمنها القومي ولن تسمح لها بالوقوع في أيدي العدو “32 . كما تعد حقول نفط والغاز في كركوك وعين زالة وتلك الموجودة في الإقليم عنصرا أساسيا ومهما بالنسبة لحسابات إيران المستقبلية من ناحية الطاقة.

كانت إيران قلقة من احتمال دخول كردستان المستقلة إلى منظمة أوبك كدولة منافسة للعراق وإيران علما بان النفط والغاز الموجود في الإقليم يعتبر من النوع الجيد وذات الكلفة القليلة في الاستخراج والتسويق. وكان الإقليم يخطط لتصدير ما لا يقل عن مليوني برميل من النفط المستخرج من كركوك. ووفقا لتقرير صادر عن معهد الطاقة الأمريكي، فإن كردستان العراق لديه 50 مليار برميل من النفط. ويقدر التقرير نفسه احتياطاته من الغاز الطبيعي بثلاثة تريليونات متر مكعب. تستهلك تركيا 40 مليار متر مكعب من الغاز و 6 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال سنويا مما يعنى ان احتياطى الغاز المقدر فى شمال العراق يمكن ان يلبي مطالب تركيا لمدة 300 عام. وكانت هناك خطط وخطوات لتطوير شراكات جديدة للنفط والغاز بين شمال الإقليم وتركيا 33 .

وهذا دليل آخر بأن إيران استطاعت أن تستغل عدم حكمة مسعود البارزاني واندفاعه للاستفتاء بعزل تركيا من حليف اقتصادي قوي في المنطقة ووضع يدها على ثروات المنطقة من خلال عملية كركوك، وأن لإيران وإقليم كردستان علاقة متعددة الوجوه، فمن ناحية هناك روابط تجارية مختلفة بين الجانبين، بدءاً من أسواق الحدود النشطة، وصولاً إلى التجارة والاستثمار عبر الحدود. وهناك خمسة أسواق حدودية بين إيران وكردستان العراق. قبل الأحداث الأخيرة، كانت هناك خطط لتوسيع هذه الكيانات لخلق فرص العمل وأيضا تحويل التجارة غير الرسمية نحو القنوات الرسمية. في الواقع، فإن حكومة إقليم كردستان سوق مهم للمصدرين الإيرانيين. وبلغ حجم التجارة بين الجانبين 8 مليارات دولار في عام 2014، مما جعل إيران ثاني أكبر شريك تجاري لحكومة إقليم كردستان، بعد تركيا 34 .

وحققت إيران من خلال عملية كركوك اهدافا استراتيجية تخص أمنها القومي من جوانب عدة، فإن لإيران تجربة غنية في تحدي المشاكل القومية الداعية إلى الاستقلال وقد سبق لها أن واجهت الحركات الاستقلالية الاذرية والكردية بعد الحرب العالمية الثانية. وشهدت عن قرب اندفاع الشعوب السوفيتية نحو الاستقلال في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. وتبين لها أن ظهور دول صغيرة في شكل أذربيجان وأرمينيا وجورجيا الجديدة تجلب معها تحديات جديدة.

وفيما يتعلق بحكومة إقليم كردستان، تشعر إيران بالقلق من أن تصبح حكومة كردستان المستقلة منصة لنشاط إسرائيلي أو أمريكي معادي ضد المصالح الإيرانية. ويسمح الاختراق الإيراني لكردستان للحكومة الإيرانية بتخفيض احتمال حصول خصيمها الرئيسيين، إسرائيل والولايات المتحدة، على موطئ قدم آمن في منطقة تقع على حدود 400 ميل مع إيران فضلا عن منصة لعمليات الانفصاليين الأكراد الإيرانيين35 ، كما ذكر وزير الدفاع الإيرانى “أمير حاتمي” أن “إيران تعارض أي عمل يؤدي إلى تغيير في الانقسامات الجغرافية لدول المنطقة” 36.

وقد حققت عملية كركوك لإيران هدفا استراتيجيا اخر وهو السيطرة على الحدود الشمالية الغربية لمحافظة نينوى وخاصة منطقة سنجار المحاذية للحدود السورية. يرى البعض سنجار كخطوة أخرى في “طريق إيران إلى البحر الابيض المتوسط” وبناء الهلال الشيعي37 .

كما أن سيطرة المليشيات الشيعية الموالية لإيران على سنجار مهمة لأنها منطقة محاذية للكانتونات المستقلة التي اسسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لأمريكا في شمال سوريةـ ويعد هذا الكيان الكردي الآن في التصور الإيراني والسوري الخطر الاخر بعد القضاء على داعش على نظام بشار الاسد والذي يجب التعامل معه. ويشير وجود شخصيات مثل أبو مهدي المهندس في سنجار، الرجل الثاني في قيادة الحشد الشعبي العراقي، إلى أن إيران تحاول توسيع نفوذها في سنجار وتعمل على توطيد العلاقة مع سكانها اليزيدين38 . ان استراتيجية المهندس بضرب الإرهاب في معاقله لا يمكن أن تتحقّق إلا بـ«التنسيق والاتفاق بين حكومتي بغداد ودمشق، فالعراق يرى في سوريا دولة ذات سيادة وحكومة شرعية”.39

خلاصات:

1ـ حققت إيران والنظام الموالي لها في بغداد من خلال عملية كركوك مكسب عسكري وسياسي حيث له ابعاد اقتصادية مهمة ايضا. وتم ذلك على حساب حكومة الإقليم في كردستان وشخص مسعود البارزاني الحليف القوي لتركيا. كما أن دخول القوات العراقية والميلشيات الشيعية إلى الإقليم قد تفيد تركيا في المدى القصير بتأجيل حلم الكرد في الاستقلال المهدد لأمنها القومي.

2ـ لا تمنع الهزيمة التي لحقت بقوات البيشمركة في كركوك من القول إن الاستفتاء الكردي ليس من الماضي، لأنّ المشروع الكردي ما زال حيّا، في ظلّ ظروف لا يمكن أن تجعل من انبعاثه مسألة وقت. إلا أن ما يهزم المشروع الكردي المنادي بالاستقلال هو قيام عراق ديمقراطي في ظل دولة مدنية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية. لا يمكن لمشروع يقوم على إنشاء دولة دينية يكون “الحشد الشعبي” عمودها الفقري أن يجعل المشروع الكردي موضوعا منسيا، أو طيّ صفحته نهائيا.

3ـ قد تكون تركيا حققت بدعمها البادي تأجيل الاستقلال الكردي المهدد لأمنها القومي، ولكن تم ذلك بثمن باهظ على الاقتصاد التركي، وليس هناك أية ضمانات بأن تفي إيران وحكومة العبادي بوعودها في التنسيق الأمني مع تركيا لضرب الارهاب القادم من حزب العمال الكردستاني أو تُعطي تركيا بعض المشاريع المشتركة في مجال الطاقة.

لهذه الاعتبارات، من المستحسن أن تكون سياسة تركيا الخارجية ذات مساريين متوازيين: وهو الحفاظ على العلاقات والتفاهمات الجديدة مع بغداد وتعزيزها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على قادة حكومة إقليم كردستان من جديد لتحفظ تركيا مصالحها الأمنية والاقتصادية الضخمة وليكون لها نفوذ على القوى الكردية في الإقليم والحفاظ على المصالح التركمانية. وهذا يساعد على أن يكون لها رأي في تشكيل الأحداث هناك. وينبغي أن تقوم تركيا بتشجيع حكومة بغداد على بدء حوار جاد مع قادة حكومة إقليم كردستان لتسوية الخلافات علماً بأن الاستفتاء أصبح امرا من الماضي. وأن عدم الوصول إلى حلول ومساومات سلمية بين بغداد وأربيل سيخلق حالة من عدم الاستقرار التي ستضر بالمصالح التركية من وجوه عدة وتوفر فرص لحزب العمال الكردستاني لبسط سيطرتها الكاملة على الإقليم.

علما بأن الإقليم يعاني من أزمة اقتصادية خانقة وأصبح قادتها معزولين وضعفاء وهم الآن أكثر تقبلا لأي مبادرة تركية. وإلى أن يتم تسوية الوضع النهائي لكركوك بموجب المادة 140 من الدستور العراقي، قد تقترح تركيا على حكومة بغداد وأربيل على تطوير نظام إداري خاص بكركوك حيث تتمتع فيه الكرد والعرب والتركمان بحقوقهم، وسيؤدي ذلك إلى نزع فتيل التوتر العرقي.

وخلاصة القول في طبيعة العلاقة بين بغداد واربيل إننا نعود إلى ظروف ما قبل عام 2003. وإنه من غير المتوقع أن يكون هناك حل لجميع المشاكل بين بغداد. وستكون هناك حالة ركود في العلاقة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان، وسيستمر ذلك حتى انتهاء الانتخابات في أيار / مايو 2018 في العراق. ومن صالح تركيا العمل على تجميد الصراع ان لم تستطع اقناع الطرفيين لحل المشاكل بالطرق السلمية (40 ).

————-

الهامش

1 Michael Georgy, Ahmed Rasheed” Iranian commander issued stark warning to Iraqi Kurds over Kirkuk” , reuters. https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-iraq-kirkuk-fall/iranian-commander-issued-stark-warning-to-iraqi-kurds-over-kirkuk- 20 October 201

2 Iran’s Role in the Kirkuk Operation in Iraq | Institute for the Study of War

http://www.understandingwar.org/backgrounder/iran%E2%80%99s-role-kirkuk-operation-iraq

Nov 9, 2017

3 DAVID ZUCCHINO and ERIC SCHMITT “Struggle Over Kirkuk Puts the U.S. and Iran on the Same Side – New York Times. .

إضافة الى ذلك، أظهرت رسالة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون المسرّبة أن الولايات المتحدة قد عرضت المشاركة فى عام من المفاوضات مع بغداد في حال قام بارزاني بإرجاء الاستفتاء. وفي حال فشلت هذه المفاوضات، تَعد الولايات المتحدة بأنها “ستعترف بالحاجة إلى إجراء استفتاء، ورفض بارزاني ما عرضه تيلرسون، الاّ أنه رأى نفسه مجبرًا على دعوة اللاعبين الدوليين، بقيادة الولايات المتحدة، الى تقديم العون في حال وقعت الحرب مع العراق. ويشير ذلك بما لا شكّ فيه إلى عجز إدارة بارزاني .

Oct 18, 2017

4 Abadi’s Balancing Act Between the US and Iran – Atlantic Council

Abadi’s balancing act between the US and Iran

Oct 27, 2017

5 مسعود البارزاني.. من جمهورية مهاباد إلى “دولة كوردستان”من قبل رووداو ، 20 September 2017 .

6 ( Masoud Barzani to step down as KRG president | News | Al Jazeera

7 https://www.reuters.com/article/us-mideast-cr0isis-iraq-kurds-barzani/kurdish-leader-barzani-resigns-after-independence-vote-backfires-idUSKBN1CY0KR). 29 October 2017

8 “Barzani stepping down as president, remaining a Peshmerga “- Rudaw

http://www.rudaw.net/english/kurdistan/291020176 29 October 2017

9 الديمقراطي الكردستاني: ترك بارزاني رئاسة الإقليم سيمكنه أكثر من … Shafaaq http://www.shafaaq.com/ar/ar_newsreader/efa7a064-601e-404d-a6b8-9dda87851

30 October 2017

10 وصفت المادة 140 من الدستور العراقي بعض اجزاء محافظة كركوك وصلاح الدين المختلطة بالمناطق المتازعة عليها. التي تشير إليها المادة 140 من الدستور العراقي هي الحكومة الاتحادية العراقية. وهذه الأخيرة مسؤولة عن تنفيذ المادة 140 بخصوص كركوك. ويجادل الكرد بأن الأنظمة العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 لم تكن مستعدة لتنفيذ هذه المادة، وأنها لم تلتزم بالموعد النهائي المحدد في الدستور لتنفيذ هذه المادة والتي انتهت في 31 ديسمبر / كانون الأول 2007.كما أخفقت هذه الحكومات في اتخاذ أي تدابير ملموسة لتنفيذ أحكام المواد المتعلقة بالتطبيع وتصحيح الخطأ الذي لحق بالسكان غير العرب في كركوك. وليس هناك ما يشير في الافق إلى أن الحكومة الحالية قادرة أو على استعداد لتنفيذ هذه المادة. ويعتقد ممثلي الكرد أيضا أن المادة 140 التي استبدلت نصا وروحا التوصيات، من قانون الخاص بالعراق لعام 2003 والذي اصدرته سلطة التحالف المؤقت في العراق. وينص البند الفرعي 2 (ب) من هذا القانون على ما يلي: “… إذا لم يتمكن مجلس الرئاسة من الاتفاق بالإجماع على مجموعة من التوصيات، تعين بالإجماع محكّما محايدا للنظر في المسألة وتقديم توصيات. وفي حالة عدم تمكن مجلس الرئاسة من الاتفاق على محكّم، يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين شخص دولي متميز ليكون المحكّم”، أنظر:

Iraq’s Disputed Territories – United States Institute of Peace” ” , March 1, 2011.

11 “Abadi Demands Annulment Not Freeze of Kurdish Independence Vote”. Sharq al Awsat .

https://aawsat.com/english/home/article/1064131/abadi-demands-annulment-not-freeze-kurdish-independence-vote 26 Oct 2017

12 http://www.kurdistan24.net/en/news/f9f3dbd0-43e6-40bb-96c7-718dbfb6b604

ما هي شروط العبادي الجديدة للبدء بحوار مع أربيل؟ – عربي 21

13 http://www.kurdistan24.net/en/news/f9f3dbd0-43e6-40bb-96c7-718dbfb6b604

14Kurdish Soldiers continue to Abandon Iraqi Army

“Abadi Demands Annulment Not Freeze of Kurdish Independence Vote”. Sharq al Awsat .

15 http://www.bbc.com/news/world-middle-east-41681598

16 كردستان تترقب من حكومة بغداد ثمن إلغاء نتائج الاستفتاء – العرب، 2017/11/13

17 الإقليم السائل: قراءة في خارطة الجبهة الداخلية لأكراد العراق

18 كيف تفوز إيران بلعبة الشطرنج في كركوك – Al-Monitor ، 25 October 2017

19 عراقي عربي يتولى منصب محافظ كركوك بالوكالة، مصراوي، 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2017 …

20 الإعلان عن تشكيل قيادة عمليات كركوك – بغداد بوست، 28 October 2017

21 هوشيار زيباري ينذر ببدء الحرب الاهلية في العراق“، October 2017 20

22 احمد الدباغ “بعد القضاء على «داعش».. تعرف إلى الجماعة الغامضة الجديدة التي ظهرت في العراق، ساسة بوست، 2017 December 21

23 https://www.218tv.net /ما-بعد-استفتاء-إقليم-كردستان، 26 September 2017

24 “خيارات تركيا بشأن استفتاء كردستان العراق “- الجزيرة، 19 September 2017

25 Aras, Bulent. Turkey’s Options (March 18, 2006: Media Monitors Network

26 الحشد الشعبي يسلم إدارة شنكال لحزب العمال الكردستاني – Yekîtî …، 7 November 2017

27 http://www.aljazeera.com/news/2017/10/iraq-accuses-kurds-declaration-war-kirkuk-171015162837238.html

28 العبادي: 3 شروط لمشاركة البيشمركة بإدارة “المتنازع عليها”، 2 November 2107

29 العراق يدعو «بريتش بتروليوم» لتطوير حقول نفط كركوك | الشرق الأوسط، 18 October 2017

30 Iraq and Iran sign Kirkuk oil swap deal – Reuters. 9 December 2017

31 إيران تهيمن على نفط كركوك وخسائر إيقاف التصدير بلغت مليار دولار، 25 November 2107

32 Michael Georgy, Ahmed Rasheed” Iranian commander issued stark warning to Iraqi Kurds over Kirkuk“. 20 October 2017

33 http://www.al-monitor.com/pulse/tr/business/2012/07/new-energy-player.html#ixzz51vdaKFWG

34 http://www.almonitor.com/pulse/originals/2017/10/iran-krg-economic-ties-trade-geostrategic-concerns.html#ixzz51peUQwL7n

35 The Iranian Penetration of Iraqi Kurdistan Lazar Berman, January 21, 2016

http://jcpa.org/article/the-iranian-penetration-of-iraqi-kurdistan

36 http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2017/10/iran-krg-economic-ties-trade-geostrategic-concerns.html#ixzz51pfdObk

37 The Iranian Penetration of Iraqi Kurdistan Lazar Berman, January 21, 2016

Filed Under: Iran, ISIS, Israel, The Middle East, Turkey, U.S. Policy

38 An Iraqi-Kurdish Conflict Casts Doubt on the “Shia Crescent

المهندس لـ«الأخبار»: سنمسك الحدود السورية… وقد نشتبك مع الأميركي

http://www.al-akhbar.com/node/277628

39 المهندس لـ«الأخبار»: سنمسك الحدود السورية… وقد نشتبك مع الأميركي، 23 March 2017

40 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى