كريس هيدجز: الإمبراطورية تدمر نفسها
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
نشر كريس هيدجز الصحفي الأمريكي الحائز على جائزة بوليتزر، ومؤلف الكتب الأكثر مبيعاً، والناشط السياسي في 8 فبراير 2025 مقالاً بعنوان: “الإمبراطورية تدمر نفسها“، وذلك في حسابه على منصة التواصل الاجتماعي “إكس”، تويتر سابقاً. حيث يقول، “نحن نتقاسم الأمراض التي عانت منها كل الإمبراطوريات إبان احتضارها وسط مزيج من الهراء والفساد المستشري والإخفاقات العسكرية والانهيار الاقتصادي والقمع الحكومي الوحشي”.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
الواقع أن أولئك المليارديرات، والفاشيين المسيحيين، والمحتالين، والمختلين عقلياً، والمعتوهين، والنرجسيين، والمنحرفين الذين استولوا على الكونجرس والبيت الأبيض والمحاكم، يفككون أجهزة الدولة. وسوف تشل تلك الإصابات التي يحدثها أصحابها بأنفسهم – وهي الصفة التي تشترك فيها جميع الإمبراطوريات الغابرة – بل وتدمر مخالب السلطة تماماً. وبعد ذلك، لن يبقَ إلا أن تنهار الإمبراطورية تماماً مثل بيت من الورق.
لقد انحدر البيروقراطيون في إدارة ترامب، الذين أعمتهم الغطرسة، وغير القادرين على فهم تضاؤل قوة الإمبراطورية، إلى عالم خيالي حيث لم يعد للحقائق القاسية والمؤلمة مكان في عالمهم ذلك. وأصبحوا يتفوهون بسخافات غير متماسكة بينما يغتصبون الدستور ويستبدلون الدبلوماسية والتعددية والسياسة بالتهديدات وقَسَم الولاء. أما الوكالات والإدارات، التي تم إنشاؤها وتمويلها بموجب قوانين الكونجرس، فهي آخذة في التلاشي.
إنهم يتخلصون من التقارير الحكومية والبيانات المتعلقة بتغير المناخ وينسحبون من اتفاقية باريس للمناخ. وهم ينسحبون أيضاً من منظمة الصحة العالمية، ويفرضون عقوبات على المسؤولين الذين يعملون في المحكمة الجنائية الدولية – التي أصدرت أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبوها في غزة. بل واقترحوا ضم كندا لتصبح هي الولاية رقم 51 من الولايات المتحدة. وقد شكلوا فريق عمل “لاستئصال (ما أسموه) التحيز المناهض للمسيحية”. وهم أيضاً يدعون إلى ضم جرينلاند والاستيلاء على قناة بنما؛ ويقترحون بناء منتجعات فاخرة على ساحل غزة بعد إخلائها من السكان لتكون تحت سيطرة الولايات المتحدة، وهو الشيء الذي لو حدث، فإن من شأنه أن يسقط تلك الأنظمة العربية المدعومة من الولايات المتحدة.
لقد دأب الحكام في جميع الإمبراطوريات الغابرة، بما في ذلك الأباطرة الرومان كاليجولا ونيرو أو تشارلز الأول، آخر حاكم لهابسبورج، غير متزنين مثل ماد هاتر (هاتر أو صانع القبعات هو شخصية خيالية في كتاب مغامرات أليس في بلاد العجائب للكاتب لويس كارول والذي صدر أول مرة عام 1865 وغالبًا ما يُشار إليه باسم “ماد هاتر” أو صانع القبعات المجنون”)، حيث يهزون بتصريحات لا معنى لها، ويطرحون ألغازًا لا يمكن الإجابة عليها ويرددون خليطاً من السخافات. وهم يمثلون انعكاسا للفساد الأخلاقي والفكري والجسدي الذي ابتلي به مجتمع مريض، تماما مثل دونالد ترامب.
لقد أمضيت عامين في البحث والكتابة عن الإيديولوجيين المنحرفين المنظرين لأولئك الذين يستولون على السلطة حالياً وذلك في كتابي “الفاشيون الأمريكيون: اليمين المسيحي والحرب على أمريكا“. أنصحكم بقراءته بينما لا يزال بإمكانكم ذلك. وللعلم فإني جادّ تماماً في ذلك.
هؤلاء الفاشيون المسيحيون، الذين يحددون الإيديولوجية الأساسية لإدارة ترامب، لا يعتذرون عن كراهيتهم للديمقراطيات التعددية والعلمانية. إنهم يسعون، كما يوضحون بالتفصيل في العديد من الكتب والوثائق “المسيحية” مثل مشروع 2025 لمؤسسة التراث، إلى تشويه السلطة القضائية والتشريعية للحكومة، إلى جنب وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، إلى مجرد ملحقات لدولة “مسيحية” يقودها زعيم تضُفى عليه مسحة إلهية. إنهم يعلنون إعجابهم بالمدافعين عن النازية مثل روساس جون راشدوني، وهو مؤيد لعلم تحسين النسل الذي يزعم أن التعليم والرعاية الاجتماعية يجب أن يتم تسليمهما إلى الكنائس ويجب أن يحل القانون الكتابي محل القانون العلماني، وكذلك منظري الحزب النازي مثل كارل شميت. إنهم عنصريون علناً وعلى الملأ، وكارهون أيضاً للنساء، وغيرهم من الفئات. وهم يعتنقون نظريات مؤامرة غريبة، من نظرية الاستبدال الأبيض إلى وحش غامض يطلقون عليه اسم “المستيقظ”. ويكفي أن نقول إنهم لا يستندون إلى عالم قائم على الواقع.
وكما أشرت في كتابي ، فإن “الفاشيين المسيحيين ينحدرون من طائفة دينية تسمى الدومينيونية. وتعلم هذه الطائفة أن المسيحيين الأميركيين مكلفون بجعل أميركا دولة مسيحية تقوم بالوكالة عن لله. وفي ظل هذه النزعة التوراتية المتشددة، ويدان المعارضون السياسيون والمفكرون باعتبارهم عملاء للشيطان. وأنه، لن تكون أمريكا أمة خاطئة وساقطة، في ظل السيادة المسيحية، بل أمة تشكل فيها الوصايا العشر أساس نظامنا القانوني، وتشكل فيها نظرية الخلق و”القيم المسيحية” أساس نظامنا التعليمي، وتنشر فيها وسائل الإعلام والحكومة البشارة الطيبة للجميع”. وسوف يتم إلغاء النقابات العمالية وقوانين الحقوق المدنية والمدارس العامة. وسوف يتم إبعاد النساء عن قوة العمل للبقاء في المنزل، وسوف يتم حرمان كل من لا تتحقق فيهم المسيحية بالقدر الكافي، من الجنسية. وبصرف النظر عن تفويضها التبشيري، فسوف يتم تقليص الحكومة الفيدرالية إلى حماية حقوق الملكية وأمن “الوطن”.
وأشرت إلى أن الفاشيين المسيحيين ومموليهم من المليارديرات “يتحدثون بعبارات ومصطلحات مألوفة ومريحة لمعظم الأميركيين، لكنهم لم يعودوا يستخدمون الكلمات لتعني ما كانوا يقصدونه في الماضي”. إنهم يرتكبون جريمة قتل مدلول الكلمات، حيث يقتلون التعريفات القديمة ويستبدلونها بتعريفات جديدة. الكلمات – بما في ذلك “الحقيقة” و “الحكمة” و “الموت” و “الحرية” و “الحياة” و “الحب” – يتم تفكيكها وإسناد معاني متعارضة تمامًا إليها. وعلى سبيل المثال، فـ “الحياة والموت”، تعني الحياة في (تعاليم) المسيح أو الموت (في سبيل) المسيح، وهي إشارة إلى “الإيمان” أو “عدم الإيمان”. وتشير “الحكمة” إلى مستوى الالتزام والطاعة لـ (مقتضيات) العقيدة. كما أن كلمة الحرية (liberty) لا تتعلق بأي حال بـ الحرية المعروفة (freedom)، بل إن الحرية (liberty) هنا تأتي من اتباع يسوع المسيح والتحرر من إملاءات العلمانية. أما كلمة “الحب” فيتم لي معناها لتعني “الطاعة التي لا جدال فيها لأولئك، مثل ترامب، الذين يدّعون أنهم يتحدثون ويتصرفون نيابة عن الله.
ومع تسارع دوامة الموت، سيتم إلقاء اللوم على أعداء وهميين، سواء كانوا محليين أو أجانب، على هذا الموت، وسيتعرضون للاضطهاد والإبادة. وبمجرد اكتمال الحطام، وضمان إفقار المواطنين، وانهيار الخدمات العامة، وتوليد الغضب الناشئ، لن يبقى سوى أداة العنف الصريحة من قِبَل الدولة. وسوف يعاني الكثير من الناس جرّاء ذلك، وخاصة مع فرض أزمة المناخ لعقوباتها القاتلة بكثافة متزايدة.
في الواقع، فإن ذلك الانهيار الوشيك لنظامنا الدستوري القائم على الضوابط والتوازنات قد بدأ قبل وقت طويل من وصول ترامب (لسدة الحكم). وأصبحت عودة ترامب إلى السلطة من جديد تمثل دقات ناقوس الموت للسلام الأمريكي. ولن يتأخر طويلاً اليوم الذي يقوم الكونجرس، مثل مجلس الشيوخ الروماني في عام 27 قبل الميلاد، بإجراء آخر تصويت مهم له وتسليم السلطة لدكتاتور. والواقع أن الحزب الديمقراطي، الذي يبدو أن استراتيجيته تتمثل في عدم فعل أي شيء والأمل في انهيار ترامب، قد استسلم بالفعل للقدر المحتوم.
والسؤال ليس ما إذا كنا سنسقط، بل كم عدد الملايين من الأبرياء الذين سنأخذهم معنا ونحن نسقط. ونظرًا للعنف “الصناعي” الذي تمارسه إمبراطوريتنا، فقد يكون الأمر خطيرًا للغاية، خاصة إذا قرر المسؤولون اللجوء إلى الأسلحة النووية.
إن تفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ــ التي يزعم إيلون ماسك أنه يديرها “عش أفاعي من الماركسيين اليساريين المتطرفين الذين يكرهون أمريكا” – وهو مثال على كيف أن هؤلاء المشعلين للحرائق لا يدركون كيف تعمل الإمبراطوريات.
فالمساعدات الخارجية ليست عطايا خيرية. بل إنها تُستخدم كسلاح للحفاظ على الأسبقية على الأمم المتحدة وإزالة الحكومات التي تعتبرها الإمبراطورية (الأمريكية) معادية. وتتلقى تلك المساعدات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المتعددة الأطراف التي تصوت بالطريقة التي تطلبها الإمبراطورية، والتي تتنازل عن سيادتها للشركات العالمية والجيش الأميركي. أما الدول التي لا تفعل ذلك فلا تتلقى تلك المساعدة.
فعندما عرضت الولايات المتحدة بناء المطار في عاصمة هايتي بورت أو برنس، حسبما أفاد الصحفي الاستقصائي مات كينارد، فقد اشترطت أن تعارض هايتي قبول كوبا في منظمة الدول الأميركية، وهو ما فعلته.
وتعمل المساعدات الخارجية على بناء مشاريع البنية الأساسية حتى تتمكن الشركات الأمريكية من تشغيل ورش العمل العالمية واستخراج الموارد. وهي أيضا تقوم على تمويل “تعزيز الديمقراطية” و”الإصلاح القضائي” اللذين يحبطان تطلعات الزعماء السياسيين والحكومات التي تسعى إلى البقاء مستقلة عن قبضة الإمبراطورية.
وعلى سبيل المثال، فقد دفعت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تكاليف “مشروع إصلاح الأحزاب السياسية” الذي صُمم ليكون بمثابة “ثقل موازِن” للحركة الراديكالية “الحركة نحو الاشتراكية” (Movimiento al Socialismo) وسعى إلى منع انتخاب اشتراكيين مثل إيفو موراليس في بوليفيا. ثم مولت الوكالة المنظمات والمبادرات، بما في ذلك برامج التدريب حتى يتمكن الشباب البوليفي من تعلم ممارسات الأعمال الأميركية، بمجرد تولي موراليس الرئاسة، لإضعاف قبضته على السلطة.
ويوثق كينارد في كتابه “مضرب الراكيت: المراسل المارق في مواجهة الإمبراطورية الأميركية“، كيف تعمل المؤسسات الأميركية مثل الصندوق (الوقف) الوطني للديمقراطية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنك التنمية للبلدان الأميركية، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وإدارة مكافحة المخدرات، جنبًا إلى جنب مع البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية لإخضاع وقمع الجنوب العالمي.
ويتعين على الدول العميلة التي تتلقى المساعدات أن تكسر النقابات، وتفرض تدابير التقشف، وتُبقي الأجور منخفضة، وتحافظ على الحكومات الصورية. إن برامج المساعدات ذات التمويل الضخم، والتي صممت للإطاحة بموراليس، أدت في نهاية المطاف إلى قيام الرئيس البوليفي بطرد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من البلاد.
الواقع أن الكذبة التي يتم الترويج لها بين عامة الناس هي أن هذه المساعدات تفيد المحتاجين في الخارج وتفيدنا نحن في الداخل. ولكن اللامساواة التي تكرسها هذه البرامج في الخارج هي نفس اللامساواة التي يتم فرضها محلياً. فالثروة المستخرجة من الجنوب العالمي ليست موزعة بشكل عادل. بل إنها تنتهي في أيدي طبقة المليارديرات، والتي غالبا ما يتم تخزينها في حسابات مصرفية في الخارج لتجنب الضرائب.
وفي الوقت نفسه، تمول أموال الضرائب التي ندفعها بشكل غير متناسب الجيش، وهو القبضة الحديدية التي تدعم نظام الاستغلال. فقد خسر ثلاثون مليون أمريكي -كانوا ضحايا عمليات التسريح الجماعي و تصفية الصناعات- وظائفهم لصالح عمال في ورش العمل في الخارج. وكما يلاحظ كينارد، فإن هذا، سواء في الداخل أو الخارج، يشكل “نقلا هائلا للثروة من الفقراء إلى الأغنياء على الصعيدين العالمي والمحلي”.
ويقول أيضاً في كتابه: “إن نفس الأشخاص الذين ابتكروا الأساطير حول ما نفعله في الخارج بنوا أيضا نظاماً أيديولوجياً مماثلا يشرعن السرقة في الداخل؛ السرقة من أفقر الفقراء، من قبل أغنى الناس … فلدى الفقراء والعمال في هارلم الكثير من القواسم المشتركة مع الفقراء والعمال في هايتي أكثر مما لديهم مع نخبهم في الداخل، ولكن يجب إخفاء هذا حتى تنجح الخدعة”.
وتحافظ المساعدات الأجنبية أيضاً على ورش العمل أو “المناطق الاقتصادية الخاصة” في بلدان مثل هايتي، حيث يكدح العمال مقابل بنسات في الساعة وفي ظروف غير آمنة في كثير من الأحيان لصالح الشركات العالمية.
وقد أخبرني كينارد في إحدى المقابلات أن “أحد جوانب المناطق الاقتصادية الخاصة، وأحد الحوافز للشركات في الولايات المتحدة، هو أن تلك المناطق الاقتصادية الخاصة لديها قواعد تنظيمية أقل من تلك التي تفرضها الدولة الوطنية فيما يتصل بكيفية التعامل مع العمالة والضرائب والجمارك”. فأنت تفتح هذه المصانع التي تعمل في ظروف سيئة في المناطق الاقتصادية الخاصة. وتدفع للعمال أجراً زهيداً. وتحصل على جميع الموارد دون الحاجة إلى دفع الجمارك أو الضرائب. والدولة في المكسيك أو هايتي أو أينما كانت، حيث تنقل هذا الإنتاج إلى الخارج، لا تستفيد على الإطلاق. وهذا يتم عن قصد. فخزائن الدولة هي التي لا تزداد أبداً. أما الشركات فهي التي تستفيد”.
ويقول كينارد في كتابه أن نفس هذه المؤسسات وآليات السيطرة الأميركية استُخدِمَت لتخريب الحملة الانتخابية لجيريمي كوربين، المنتقد الشرس للإمبراطورية الأميركية، في منافسته على منصب رئيس الوزراء في بريطانيا.
وفي السنة المالية 2023، صرفت الولايات المتحدة ما يقرب من 72 مليار دولار من المساعدات الخارجية. ومولت مبادرات المياه النظيفة، وعلاجات فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، وأمن الطاقة، وأعمال مكافحة الفساد. وفي عام 2024، قدمت 42% من جميع المساعدات الإنسانية التي تتابعها الأمم المتحدة.
إن المساعدات الإنسانية، التي توصف غالبًا بأنها “القوة الناعمة”، مصممة لإخفاء سرقة الموارد في الجنوب العالمي من قِبل الشركات الأمريكية، وتوسيع نفوذ الجيش الأمريكي، والسيطرة الصارمة على الحكومات الأجنبية، والدمار الناجم عن استخراج الوقود الأحفوري، والإساءة المنهجية للعمال في ورش العمل العالمية والإصابة بالسموم التي تتعرض لها عمالة الأطفال في أماكن مثل الكونغو، حيث يتم استخدامهم لاستخراج الليثيوم.
إنني أشك في أن إيلون ماسك وجيشه من الأتباع الشباب في وزارة كفاءة الحكومة (DOGE) – وهي ليست وزارة رسمية داخل الحكومة الفيدرالية – لديهم أي فكرة عن كيفية عمل المنظمات التي يدمرونها، ولماذا توجد أو ما يعنيه ذلك لزوال القوة الأمريكية.
إن الاستيلاء على سجلات موظفي الحكومة والمواد السرية، والجهود المبذولة لإنهاء عقود حكومية بقيمة مئات الملايين من الدولارات – ومعظمها تتعلق بالتنوع والمساواة والإدماج، وعروض الاستحواذ “لتجفيف المستنقع” بما في ذلك عرض تسريح القوة العاملة بأكملها في وكالة الاستخبارات المركزية ــ والذي تم حظره مؤقتا حالياً من قبل أحد القضاة ــ وطرد 17 أو 18 مفتشاً عاماً و مدعين عامين فيدراليين، و وقف التمويل والمنح الحكومية، كل هذا يجعلهم يأكلون الوحش الذي يعبدونه.
إنهم يخططون لتفكيك وكالة حماية البيئة، و وزارة التعليم، و خدمة البريد الأميركية، وهي جزء من الآلية الداخلية للإمبراطورية. وكلما ازدادت الدولة اختلالاً، كلما خلقت فرصة عمل لتلك الشركات المفترسة وشركات الأسهم الخاصة. وسوف يجني هؤلاء المليارديرات ثروة طائلة من “حصاد” بقايا الإمبراطورية. لكنهم في نهاية المطاف إنما يقتلون الوحش الذي خلق الثروة والقوة الأميركية.
وبمجرد أن يتوقف الدولار عن كونه العملة الاحتياطية العالمية، وهو ما يضمن حدوثه تفكيك الإمبراطورية، فلن تتمكن الولايات المتحدة من سداد عجزها الضخم من خلال بيع سندات الخزانة. وسوف يسقط الاقتصاد الأميركي في حالة من الكساد المدمر. وسوف يؤدي هذا إلى انهيار المجتمع المدني، وارتفاع الأسعار، وخاصة بالنسبة للمنتجات المستوردة، والأجور الراكدة ومعدلات البطالة المرتفعة. وسوف يصبح تمويل ما لا يقل عن 750 قاعدة عسكرية في الخارج وجيشنا المتضخم مستحيلاً. وبذلك سوف تنكمش الإمبراطورية على الفور. وسوف تصبح ظلاً لنفسها. وسوف تتحول القومية المفرطة، التي يغذّيها الغضب الناشئ واليأس واسع النطاق، إلى فاشية أمريكية مليئة بالكراهية.
يقول المؤرخ ألفريد دبليو ماكوي في كتابه “في ظلال القرن الأميركي: صعود وانحدار القوة العالمية الأميركية“: “إن زوال الولايات المتحدة كقوة عالمية بارزة قد يأتي بسرعة أكبر كثيراً مما يتصوره أي شخص”.
ويقول: “على الرغم من هالة القوة المطلقة التي تحيط بالإمبراطوريات في كثير من الأحيان، فإن أغلبها هشة إلى حد مدهش، وتفتقر إلى القوة المتأصلة حتى في الدولة القومية المتواضعة. والواقع أن إلقاء نظرة سريعة على تاريخها لابد وأن يذكرنا بأن أعظم هذه الإمبراطوريات عُرضة للانهيار نتيجة لأسباب متنوعة، وعادة ما تكون الضغوط المالية العامل الرئيسي وراء هذا الانهيار. فعلى مدى القسم الأعظم من القرنين الماضيين، كان أمن الوطن وازدهاره الهدف الرئيسي لأغلب الدول المستقرة، الأمر الذي جعل المغامرات الأجنبية أو الإمبراطورية خياراً قابلاً للاستبدال، ولا يخصص لها عادة أكثر من 5% من الميزانية المحلية. وبدون التمويل الذي ينشأ بشكل عضوي تقريباً داخل دولة ذات سيادة، تصبح الإمبراطوريات مفترسة في مطاردتها التي لا هوادة فيها للنهب أو الربح ــ ولنتأمل هنا تجارة الرقيق في المحيط الأطلسي، وشهوة بلجيكا للمطاط في الكونغو، وتجارة الأفيون في الهند البريطانية، واغتصاب الرايخ الثالث لأوروبا، أو استغلال الاتحاد السوفييتي لأوروبا الشرقية”.
ويشير ماكوي هنا إلى أنه عندما تتقلص الإيرادات أو تنهار، فإن “الإمبراطوريات تصبح هشة”.
حيث قال في كتابه: “إن بيئة القوة في هذه الإمبراطوريات حساسة للغاية، لدرجة أنه عندما تبدأ الأمور في التدحرج نحو الأخطاء حقاً، فإن الإمبراطوريات تتفكك بانتظام بسرعة غير مضمونة: عام واحد فقط بالنسبة للبرتغال، وسنتان بالنسبة للاتحاد السوفييتي، وثماني سنوات بالنسبة لفرنسا، وإحدى عشر عاماً بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، وسبعة عشر عاماً بالنسبة لبريطانيا العظمى، وعلى الأرجح سبعة وعشرون عاماً فقط بالنسبة للولايات المتحدة، بدءاً من العام الحاسم 2003 (عندما غزت الولايات المتحدة العراق)”.
وسوف تُستخدم مجموعة الأدوات المستخدمة في بسط الهيمنة العالمية – المراقبة الشاملة، وانتهاك الحريات المدنية بما في ذلك الإجراءات القانونية الواجبة، والتعذيب، والشرطة العسكرية، ونظام السجون الضخم، والطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية العسكرية –ضد السكان الذين تسودهم الاضطرابات ويشتعل بينهم الغضب.
وفي النهاية، فإن افتراس جثة الإمبراطورية لإشباع حالة الجشع المفرط والأنا المستعلية لدى جامعي القمامة (الزبالين) هؤلاء لينذر بعصر مظلم جديد.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.