سياسةقلم وميدان

كيفية إدارة مرحلة ما بعد الهزيمة

كيفية إدارة مرحلة ما بعد الهزيمة

تعيش مصر ودول الربيع العربي مراحل انتقالية شديدة الخطورة بعد إفشال الثورات واشتعال الحروب والانقلابات العسكرية أو غير العسكرية، أدى إلى تفشي حالة من الاضطرابات والاختلالات النفسية، مما أثر بشكل سلبي على كل أنماط الحياة نفسيّاً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً وما إلى ذلك.

وترتب على كل تلك الأحداث دخول مصر ودول الربيع العربي في نفق مظلم لابد من الخروج منه، خاصة بعد الهزائم المتتالية التي مرّت على المنطقة خلال العقود القليلة الأخيرة، والتي جعلت الأجيال العربية أجيال مهزومة ومضطهده طوال الوقت، دون تحقيق أي إنجاز حقيقي.

مفهوم الهزيمة السياسية

بحثت فى العديد من المراجع السياسية العربية لكي أصل إلى مفهوم واضح للهزيمة السياسية، ولكن للأسف، محاولاتي جميعها باءت بالفشل، فلم أجد من يكتب في نظرية الهزيمة أو فلسفتها رغم أنه من واجب المفكرين العرب الذين تعاني أمتهم من الهزائم أن يبرزوا أسباب وأصول الهزيمة لكي يتم تلافيها.

 لكن بشكل عام علينا أن نعي بأن الهزيمة لا تحدث بالناس هكذا بدون أسباب، بل لا بد من وجود معطيات كثيرة وفواعل عديدة تؤدي في النهاية إلى الفشل والهزيمة.

فن إدارة الهزيمة

في معركة مؤتة كان عدد المسلمين 3 آلاف مقابل 200 الف من جيش الروم وقد قُتل ثلاثة من قادة المسلمين، وتسلم خالد بن الوليد الراية، فنظر في الأمر، ثم قرر الانسحاب، لكنه علم أنه إذا انسحب فستلحَق به جيوش الروم وتُعمل في جيش المسلمين قتلاً، فقام بخطة من أروع الخطط الحربية في التاريخ.

الهدف: أن يسحب جيش المسلمين من المعركة بأقل خسائر.

الوسيلة: إظهار الانسحاب على أنه خدعة فلا يلحق بهم الروم.

التكتيك: إيهام العدو بأن المدد قد وصل للمسلمين، هجوم شديد من المسلمين، ومن ثم انسحاب مفاجئ.

الخدعة: في الليل تقوم فرقة بالتحرك كل الوقت وكأنها مدد قد وصل وذلك بإثارة الغبار والضجيج والتكبير وفي الصباح إبدال مواقع الجيش الميمنة بالميسرة والمقدمة بالمؤخرة حتى تظهر وجوه جديدة للروم فتثبت الخدعة.

الخطة نجحت نجاحا منقطع النظير، حيث يُذكر أنه استشهد من جيش المسلمين ما يقارب الــ 12 مقاتل؛ ورغم هزيمة جيش المسلمين لأسباب خارجة عن إرادتهم لكنهم انتصروا حين جعلوا هذه الهزيمة بأقل الخسائر الممكنة، وهذا في حد ذاته يُعد نجاحاً كبيراً (1).

لذا تحتاج مرحلة ما بعد الهزيمة نوعاً مختلفاً من الإدارة، لمحاولة الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، وأبرز تلك الخطوات هي:

الإقرار بالهزيمة لا القبول بها أو الاستسلام لها

علينا بداية الإقرار بوقوع الهزيمة؛ فالاعتراف والإقرار بالهزيمة لا يعني على الإطلاق القبول بها، فالإقرار بالهزيمة ‏هو نقطة ‏البداية للخروج منها وقلبها إلى نصر حقيقي.

وعدم القبول والإقرار بالهزيمة هو جزء أساسي من استراتيجيات التبريرات غير المقنعة، والتي تهدف فقط إلى عدم الاعتراف بالهزيمة، الأمر الذى من شأنه أن يكون له تداعيات كارثية فى المستقبل القريب والبعيد.‏

‏ المراجعات

تعد المراجعات من أولى الخطوات التى يجب إجراؤها عند حلول الهزيمة، وأن يسارع العقلاء في المجالات كافّة، ‏العسكريّة ‏والسياسية والفكريّة والشرعيّة والأخلاقيّة إلى عقد مراجعاتٍ شاملةٍ ‏تستند إلى مكاشَفات ‏عاقلة ومصارَحات جريئة لتشخيص الخلل وتحديد موطنه، والإعلان عن الخلل دون أي تزييف لنتائج المراجعات.

ويعتمد بناء المراجعات الفكرية على الحراك الدائم، والتغير المستمر؛ والتقلب بين الأحوال هو من طبيعة التاريخ.

الإفاقة السريعة

تعد المسارعةُ إلى الإفاقة بعد وقوع الهزيمة من الواجبات الضروريّة في إدارة الهزيمة، وتحويل الهزيمة إلى وجه آخر للمكسب، فإنَّ الذين يتعاملون مع الهزيمة بعشوائيّة ودون تنظيم لخطواتهم، لن يحقّقوا النّصر الحقيقيّ، وإنْ تحقَّق لهم النّصر في صورته الأولى فسرعان ما يفقدونه بارتجالهم المعهود وعشوائيّتهم المتأصّلة، وفي التاريخ نماذج كثيرة على ذلك، حيث إنها تتكرر بنفس السيناريو فى كل مرة.

الفرق بين الفشل والهزيمة

يختلف مفهوم الفشل عن مفهوم الهزيمة بشكل كبير، فيُعد الفشل سريعاً ومفاجئاً، بينما تُعد الهزيمة بطيئة ومؤلمة ولا تُضمن احتمالية التعافي التام منها أبداً؛ لأن ما فشلنا فيه نستطيع إصلاحه على عكس الهزيمة؛ لذا فمرحلة ما بعد الهزيمة تحتاج إلى الحذر الشديد في التعامل معها حتى لا تكرر مرة أخرى.

النقد الذاتي بعد الهزيمة

تتنامى أهمّية النقد الذاتيّ، وفاعليّته بمدى توظيف نتائجه في الحياة العمليّة، واستدراك الأخطاء بتصحيحها، والمباشرة في المُضيِّ بخطوات واثقة نحو مسارٍ ناضج وقويم، وكما ينطبق هذا الأمر على الفرد، فإنّه ينطبق كذلك على المجتمع (2).

ما يميز المجتمعات الحية القادرة على تجديد نفسها والتقدم للأمام قدرتها على النقد الذاتي، كوْن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لإدراك القصور والانطلاق من الواقع نحو استشراف المستقبل المزدهر والعمل لبلوغه. هذه المجتمعات الحية تصر على مثل هذا النقد، فلا تكتفي بالتغني بأمجاد قديمة، سواءً كانت حقيقية أو وهمية، ولا تلوم الغير على إخفاقاتها، ولا تكذب على نفسها بأنها تُقدم أفضل ما يمكن ضمن الظروف المحيطة بها، ولا تتهم من يمارس هذا النقد بالتنظير أو الجحود أو ابتغاء مصلحة خاصة (3).

ويجب أن يتجاوز التفكير العربي الواعي اعتبار النقد مجرد عملية تجريح أو تعداد لعيوب ومثالب ونقائص لا تنتهي، أي أن يكون حقق مستوى يعتبر على أساسه النقد أنه التحليل الدقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنقائص، وكل نقد يلتزم بهذا المفهوم لا بد أن يكون هادفاً في تدرجه، وإيجابياً في حصيلته مهما بدا، لأول وهلة، سلبياً وقاسياً” (4).

لست مهزوماً ما دمت تقاوم

تعتبر المقاومة وعدم الاستسلام أو الاستكانة جزء أصيل من ثقافتنا العربية؛ فارتبط مفهوم المقاومة فى مجتمعاتنا بالقوة والنضال السياسي والمدني، وعرفت بأنها تعنى حالة المواجهة مع الظلم والهيمنة والسعي للتحرر السياسي والاجتماعي سواء كان من الاحتلال أو من الاستبداد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، والسعي إلى حياة أفضل.

المقاومة فى حد ذاتها ليست هدفاً، ولكنها وسيلة لتحقيق أهداف المجتمعات وتطلعاتها إلى الاستقلال والرفاه والتقدم والتنمية والإصلاح.

الخلاصة

يزعم العديد من المهزومين بأن الهزيمة قدر محتوم، أو أنها اجتهاد غير صائب وفى غير محله؛ ويتناسى هؤلاء بأن الهزيمة من صنع أيديهم، بل وصارت من أدبياتهم الفكرية ونتاجاً مستوجبٌ حدوثه بعد الإصرار على تحويل كل هزيمة إلى نصر مزعوم؛ فضاعت الحقائق مع زخم الخطابات الرنانة المليئة بالتضليل والمبالغة.

وفى مرحلة ما بعد الهزيمة، يؤدى الاستمرار فى نهج السباب والتخوين والمزايدة، على المدى البعيد إلى الأسوأ مما يتوقعه الباحثون، حيث ينتفي هدف البقاء السياسي مع الوقت، ويتم تدمير المجموعات والتنظيمات والكيانات الثورية، وكذلك تفكيك جانب من الروابط الشخصية المباشرة والتي تُعد من أولويات الأمور التى يجب أن نحافظ عليها فى مرحلة الهزيمة.

ترتيب الأولويات وتحديد الأهداف، بمعنى أنه إذا كانت الظروف الداخلية والخارجية الحالية غير مواتية، فلنُدِر هزيمتنا بحكمةٍ، ولنحاول جعلها أقل وطأةً، وهذا بحد ذاته ما قد يرفع احتمالية النجاح في لحظة تاريخية مناسِبة أخرى، بدلاً من حالة النزاع والصراعات التى تستنزف الطاقات العاملة.

والهزيمة فى حد ذاتها ليست عاراً، حيث يمكن أن تكون مدرسة لبداية النجاح؛ ولكن العار الحقيقي يكمن في الاستسلام للهزيمة والخنوع عن مواجهتها، والمكابرة والإصرار بأن كل شيء على ما يرام.

والذين لا يملكون فن إدارة الهزيمة حينما تحلّ بهم لن يستطيعوا إدارة النّصر عند تحقيقه.

الهامش

(1) تاريخ غزوة مؤتة ( الرابط)

(2) أهمّية النقد الذاتيّ وأثره في إصلاح الفرد (الرابط )

(3) ندرة النقد الذاتي (الرابط)

(4) النقد الذاتي بعد الهزيمة د. صادق جلال العظم (الرابط)

أسماء شكر

باحثة وإعلامية مصرية، وحدة الدراسات الإعلامية، المعهد المصري للدراسات

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى