مراجعات الجماعة الإسلامية بين منهج التقييم ونوازع الإيديولوجيا
المقدمة
من جديد تعود مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية إلى الواجهة من الباب الأكاديمي في محاولة للإجابة على سؤال رئيس طرحته الورقة البحثية الصادرة عن المعهد المصري للدراسات والتي حملت عنوان “المراجعات الفكرية هل تكون أمل المعتقلين في السجون المصرية؟” والتي استغرقت سبعا وأربعين صفحة للوصول إلى إجابة مؤداها أن المراجعات “لا تسمح بتاتا بتوقع أن تكون عملية المراجعة داخل السجون المصرية الآن مُفضية إلى نفس المصير الذي أفضت إليه عملية المراجعات الفكرية قبل نحو عشرين عاما”.[1]
حركة المراجعات الضخمة التي قامت بها الجماعة الإسلامية والتي بدأت فعليا مع البيان الصادر من بعض أعضاء مجلس الشورى المسجونين في ليمان طرة في يوليو ١٩٩٧ صارت جزءا من تاريخ الحركة الإسلامية المصرية يُحكم عليها بما لها وما عليها، مع مراعاة السياقات السياسية والمجتمعية التي أحاطت بها، ولم تُوفَر لها الأجواء الملائمة لاستوائها على عودها، أو لتعميم الاستفادة منها.
ومع يقيني أن توفُر الموضوعية للبحوث الإنسانية أمر صعب المنال بخلاف مثيلتها التجريبية، إذ من الصعب انفصال الباحث عن بنائه الفكري والعقدي والتحلي بالحيادية التامة، لذا يبقى الجدل حول ما تطرحه الأوراق البحثية السبيل الملائم لاستجلاء الحقائق وتمحيص الوقائع.
وهو الأمر الذي دفعني إلى كتابة هذا التعليق على الورقة المشار إليها، خاصة مع اعتماد معدي الورقة سردية “التوبة الجماعية” أو “التتويب” مدخلا لتفسير ذلك الجهد الفكري، رغم مخالفة تلك السردية للأحداث التي خاضتها الجماعة بعد ذلك كما سأوضح.
كاتب هذه السطور كان شاهدا على تلك الفترة لاعتبارين الأول: قضاؤه اثني عشر عاما معتقلا في سجون مبارك منذ عام ١٩٩٢ ما جعله معايشا للتفاعلات الداخلية في صفوف الجماعة الإسلامية منذ لحظة إذاعة بيان المبادرة وحتى تفعيلها. الثاني: اشتراكه في كتابة أجزاء من الكتب التي صدرت تالية للكتب الأربعة الأولى وشهوده كيف خرجت معظم هذه الكتب إلى العلن.[2]
أزمة المصطلح وغياب التحديد
لفت د./ محمد عماره -رحمه الله- الانتباه إلى أزمة “المصطلحات” واعتبر أن “.. تحرير مضامين المصطلحات، واكتشاف مناطق الاتفاق ومناطق التمايز في معاني ومفاهيم هذه المصطلحات – وخصوصا تلك المصطلحات الأكثر شيوعا، والأكثر إثارة للجدل بين تيارات الفكر في عصرنا وفي واقعنا- هو مهمة أساسية، وأولية بالنسبة لأي حوار فكري حقيقي وجاد، ينقذ حياتنا من خطر الاستقطاب الحاد، ويوجد لغة فكرية واحدة بين الفرقاء المتحاورين”[3] توحيد المصطلح أولوية لأي حوار فكري جاد كما قرر د./عمارة.
قريبا منه أشار إليه الباحثون، إذ عبروا عن ضيقهم من التلاعب الذي يمارسه البعض بالمصطلحات كما في تعريف “الإرهاب أو عدم الاهتمام بتعريفه أصلا”[4] لكن المقاربة التي اعتمدها الباحثون لتفسير النسق السلوكي للقائمين على المراجعات فسحت المجال لاستخدام مصطلحات دون تحديد مدلولاتها، ما وضعنا أمام حالة من “الاستقطاب الحاد” كتلك التي أشار إليها د./عمارة مصطلح “التوبة أو التتويب”.
فالمصطلح يتم نزعه من سياقه الديني ليتم شحنه بحمولة ذات دلالات سيئة تحمل معاني التراجع والتخاذل والاعتراف بالنظام الحاكم الذي يمثل المعادل المكافئ للدولة “الإله”.
في مجال البرهان على “الدعوى” استدعى الباحثون ما كتبه المدير السابق لجهاز المخابرات المصرية صلاح نصر في كتابه “الحرب النفسية.. معركة الكلمة والمعتقد”[5] حيث أورد الباحثون بعض الأساليب التي ذكرها صلاح نصر للسيطرة على سجناء الرأي المعارضين للنظام الحاكم، مؤكدين أن تلك الأساليب تم تطبيقها على “عناصر الإخوان المسلمين داخل السجون، وبالأخص في قضية تنظيم ١٩٦٥” لكنها -حسب تأكيدهم- حققت نتائج إيجابية في أوساط الكوادر المتوسطة والصغرى لكنها “فشلت في تطويع معظم الرموز وقيادات الصف الأول”.
أما في حالة الجماعة الإسلامية فكانت وفق تعبيرهم “تجربة التتويب الأبرز.. التي حققت نجاحا عالميا”
كان يمكن أن يستقيم ذلك التفسير لولا أمور فاتت على مُعدي الورقة البحثية أهمها:
1- أن مجموعة القيادات التاريخية للجماعة الإسلامية التي تولت أمر المبادرة والمراجعات لم تتعرض للظروف المعيشية القاسية التي تعرض لها قواعد الجماعة الإسلامية، باستثناء عامين عقب الهروب الشهير لبعض قيادات تنظيم الجهاد من سجن ليمان طرة[6] فقد كانوا على اتصال بالعالم الخارجي ويتمتعون برؤية ذويهم بصفة دورية، وكانت المعاملة التي يلقونها في ليمان طرة جيدة كما أنهم لم يخضعوا بطبيعة الحال لـ “دروس جماعية” كتلك التي أشار إليها الباحثون، ولو لم يطلق هؤلاء القادة تلك المبادرة لظلوا يتمتعون بتلك الامتيازات دون تغيير يذكر.
2- محاولات “التتويب” الجماعية التي أشار إليها الباحثون لم تكن بعيدة عن خيال الدولة المصرية آنذاك، ففي موازاة خطة “الإذلال والتعذيب” التي طبقتها وزارة الداخلية منذ مطلع التسعينات بكل قسوة، عبر أساليب متعددة ومتنوعة، شملت المعتقلين السياسيين داخل السجون وامتدت إلى ذويهم من النساء والأطفال والعجائز، في موازاة ذلك أعلن النظام عما عرف بإقرارات التوبة، واعتبرها بمثابة الضوء الذي يلوح في نهاية النفق لكل معتقل، لكنه صُدم عندما رأي أن النتائج كانت ضعيفة ومخيبة لآماله كما وكيفا، حتى أنه صرف النظر عن الإفراج عن المئات ممن وقعوا تلك الإقرارات، اكتفاء ببعض الامتيازات داخل السجون، وكان حريا بمعدي الورقة البحثية تتبع تلك التجربة من خلال شهودها والألاف منهم لا يزالون على قيد الحياة بدلا من تعميم نتائج دون بذل الجهد لاستقصاء مقدماتها، وقد يفاجأ الباحثون إذا علموا أن عدد المنتمين للجماعة الإسلامية الذين وقّعوا تلك الإقرارات كانوا الأقل عددا مقارنة بنظرائهم من الجماعات الأخرى خاصة جماعة الجهاد والتيارات التكفيرية.[7]
3- لم تكن الموافقة على المراجعات صكا على بياض منحته قواعد الجماعة لقادتها بل شهدت أروقة السجون حالة من الجدل والشد والجذب والمفارقة وأن أشدها كانت من السجون التي شهدت أقسى معدلات “الإذلال والضغوط” وفي مقدمتها سجن شديد الحراسة “العقرب” بطرة ما يشكك في صلاحية تلك المقاربة لتفسير حركة المراجعات.
هل كانت الجماعة الإسلامية في حاجة إلى المراجعات؟
تحاشى الباحثون لأسباب -ربما تخفى على كاتب هذا السطور- التطرق إلى هذا السؤال المهم والذي ربما تحمل إجابته نسف الفكرة الأساسية التي تم بناء الورقة البحثية عليه وهي فكرة “التتويب الجماعية”.
فرغم أن استعراض تاريخ الجماعة من النشأة حتى المراجعات استغرق جزءا من الورقة البحثية، إلا أنها لم تتطرق إلى النسق الفكري الذي اعتمدت عليه الجماعة سنوات طويلة، والأجواء التي تم فيها صياغة تلك الأفكار.
فالأفكار الرئيسة (الجهاد-قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام-الحسبة-المواجهة) لم تخضع للتنقيح رغم كتابتها على عجل[8]، وظهور حاجة ملحة لإعادة النظر فيها، وكان من الطبيعي أن يهرع قادة الجماعة حينها إلى إعادة النظر فيما دونوه قبل حوالي عشرين عاما خاصة بعد اختباره على أرض الواقع.
فقتال الطوائف الممتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام اعتمد على فتوى شهيرة لابن تيمية أفتاها في جند التتار بعد ما أعلنوا إسلامهم وتحاكموا إلى كتابهم المعروف باسم “الياسق” وامتنعوا عن تطبيق شرائع الإسلام، هذه الفتوى مثلت رافعة فكرية للمواجهات التي خاضتها الجماعة منذ اغتيال الرئيس المصري الراحل/أنور السادات دون اعتبار للسياقات المجتمعية التي صاحبت صدور الفتوى، أو تنقيح المناط.
إعادة القراءة تمت بصورة جماعية كما في أول أربعة كتب صدروا عن مجلس شورى الجماعة، أو بصورة فردية كما في قضية الحاكمية، التي أعاد د./ناجح إبراهيم قراءتها وخلص إلى أن الحاكم المستبدل لأحكام الشريعة لا يكفر بمجرد الاستبدال بل لابد من جحد وجوب الحكم بالشرع المنزل؟[9] وطرح ما سماه بحاكمية البشر وهي المساحات التي تركها الشارع الحكيم للبشر يشرعون فيها لتأثرها باختلاف الزمان والمكان وغير ذلك من الاجتهادات.
إعادة قراءة تلك القضايا من قبل الجماعة الإسلامية لم يكن خضوعا لمنهج صلاح نصر في “الإخضاع والإذلال” بقدر ما مثّل اقتفاء لنهج الشريعة الذي فاضت به أقوال الفقهاء والعلماء
لعل أبرزها ما قاله ابن تيمية رحمه الله:
“دين الله مبني على اتباع كتاب الله، وسنة نبيه، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي المعصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول.
وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، يوالي عليها ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون”
تبرز هنا ملاحظتان مهمتان على هذه المراجعات:
الأولى: تلقيها بالقبول من المجامع الفقهية والشرعية المعتبرة كالأزهر الشريف ولم تصدر أي دراسات شرعية فيما أعلم نالت من موافقتها لحدود الشرع وآراء الفقهاء المعتبرين.
الثانية: أن هذه المراجعات ظلت في إطارها الشرعي ولم ترتبط بالموقف من نظام حسني مبارك، أو أنها كانت مدخلا لمنح الجماعة الشرعية لنظام مبارك بل ظلت الجماعة على موقفها الرافض له وإن خفت حدة التصريحات المضادة بطبيعة الحال ولعل الاختبار الأكبر الذي تعرضت له الجماعة كان في أول انتخابات رئاسية متعددة تشهدها مصر عام ٢٠٠٥ ولم يصدر عنها أي تأييد لحسني مبارك.
هنا يثور تساؤلان مهمان:
الأول: هل هناك ما يمنع من مراجعة الأفكار سواء على المستوى الفردي أو الجماعي؟ إن كان ثمة ما يمنع فهذا لا ينفك أن يكون من المعقول أو المنقول وهذا لم يقل به أحد، بل جاءت نصوص الكتاب المنزل تحض على “التفكر” و “التأمل” و “التدبر”.. إلخ في نصوص مطولة قد تخرج بالورقة عن هدفها لو ذهبت في تتبعها.
الثاني: إذا كان الأمر كذلك فلماذا انتظرت الجماعة كل هذه السنوات لإجراء المراجعات؟
الحقيقة أن حركة المراجعات كان من الممكن أن تتم في وقت مبكر لولا الظروف الأمنية التي أحاطت بالجماعة، وجعلتها في صراع مستمر حتى قبل اللجوء إلى الصدام المسلح منذ مطلع التسعينات. وذلك بسبب خطاب الرفض المتصاعد ضد نظام مبارك حتى إن الجماعة وقفت بمفردها تقريبا عام ١٩٨٧ في أول استفتاء رئاسي لمبارك لتعلن رفضها له في حملة حملت شعار “لا لمبارك” في وقت أعلنت فيه قوى إسلامية عريقة تأييدها له تحت قبة البرلمان.
حركة المراجعات كان يمكن أن تستوي على عودها مع خروج المهندس أسامة حافظ من السجن عام ١٩٩١ عقب انتهاء فترة العقوبة استمرت عشر سنوات، بما يملكه من مكانة علمية مرموقة داخل الجماعة، وقد حمل معه بالفعل رؤية جديدة تهدف إلى إبعاد شبح الصدام العنيف الذي كانت تلوح غيومه في الأفق حينها، لكن الوقت لم يسعفه لإتمام تلك الرؤية.
هناك محطات أخرى كانت من الممكن أن تمثل نقطة انطلاق للمراجعات لكنها تعثرت لأسباب مختلفة
الجماعة الإسلامية وتنظيم القاعدة
يذهب الباحثون في ورقتهم إلى أن مراجعات الجماعة الإسلامية حولتها من “خصم شرس للسلطة المصرية إلى خصم شرس للتنظيمات الجهادية، وساهمت في صنع رأي عام يحاصر ظاهرة الأفكار الجهادية”[10] وأنها -أي الجماعة الإسلامية- عملت على “تبريد الساحة الإسلامية المصرية ومنعها من الانزلاق نحو المسار الإسلامي العام الذي يشهد نمواً جهادياً”
لكن التفات الجماعة الإسلامية مبكرا إلى خطورة تنظيم القاعدة على مستقبل الحركة الإسلامية في العالم، مما يحسب لها، فقد رفضت عام ١٩٩٨ الانضمام إلى ما يسمى “الجبهة العالمية لقتال اليهود والنصارى” واعتبرت أن إنشاء تلك الجبهة سيفتح الباب على مصراعيه لعولمة الحرب ضد الحركات الإسلامية والجهادية منها بصفة خاصة، الأمر الذي تحقق لاحقا في سلسلة الهجمات التي طالت السفارة الأمريكية في العاصمة الكينية نيروبي والتنزانية دار السلام[11] فيما ردت القوات الأمريكية بقصف مصنع للدواء في العاصمة السودانية الخرطوم، واستهداف ما قالت إنه معسكرات تدريب في أفغانستان.
كما استهدف التنظيم المدمرة الأمريكي يو إس إس كول في ١٢ أكتوبر عام ٢٠٠٠ بتفجير انتحاري أدى إلى مقتل ١٧ بحارا أمريكيا، والمفارقة أن تنظيم القاعدة كان يمارس نشاطه انطلاقا من الأراضي الأفغانية التي كانت تستضيف أعضاءه آنذاك.[12]
حتى وصلنا إلى مشهد تفجير برجي التجارة العالمية في ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وهي الحادثة التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى احتلال القوات الأمريكية أفغانستان وإسقاط حكم طالبان.
ثم توالت التفجيرات العشوائية التي استهدفت المدنيين كما في الرياض والدار البيضاء وبالي ولندن ومدريد، كل هذه الحوادث أكدت صحة المشروع النقدي للجماعة الإسلامية، وعمق استشرافها للمستقبل حيث أدت أفعال تنظيم القاعدة إلى إطلاق حملة عالمية نحو ما أطلق عليه “تجفيف منابع الفكر المتطرف” التي كانت بمثابة فرصة للقوى العالمية وغلاة العلمانيين للزحف صوب الثوابت الإسلامية.
لم تكن القاعدة تمثل الوجه الصحيح لمفهوم الجهاد في الإسلام بل ارتكبت أخطاء استراتيجية فادحة قوضت مشاريع إسلامية صاعدة، بل مثلت في وقت ما البديل المناسب لدى قوى الثورة المضادة في العالم العربي، لضرب ثورة الشعب السوري بدءا من عام ٢٠١٣ وكانت بمثابة طوق النجاة لنظام بشار الأسد، حيث مكنته من تحويل الثورة الشعبية الهائلة إلى حرب كونية ضد ما يسمى بـ “الإرهاب”.
المنتوج النقدي لتنظيم القاعدة جاء ثمرة لقراءات معمقة وتأمل لمسار الأحداث، في وقت لم تكن تحتاجه الجماعة الإسلامية لإتمام مشروع المراجعات.
لكن المفارقة أن “الخصومة” الكبرى مع تنظيم القاعدة اندلعت من داخله ومن أحد آبائه المؤسسين، عقب المراجعات التي أجراها سيد إمام الشريف المعروف[13] الذي ظهر متأثرا بمراجعات الجماعة الإسلامية وأصدر ما عرفت بـ “وثيقة ترشيد العمليات الجهادية” والتي مثلت انقلابا داخل الأوساط الجهادية وأثارت حالة شديدة من الجدل بينهم، لكن الشريف استغل تلك المراجعات لتصفية حساباته الشخصية مع كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ما دفع الأخير للرد عليه في وثيقة بعنوان ” التبرئة” معتبرا أن ما قام به الشريف يخدم «مصالح التحالف الصليبي – اليهودي مع حكامنا… وتمثل ثمرة ما تريده أجهزة المباحث والمخابرات الأميركية من تخذيل للمجاهدين وخداع للأمة». في سجال طويل ومعروف نال من سمعة التنظيم وهيبته.
فالجماعة الإسلامية لم تكن مخلب قط ضد التنظيم، إذ كانت النيران مشتعلة بالفعل داخله بيد رمزه الأكبر، لكن الجماعة ارتأت أن “القاعدة” ستدفع العالم الإسلامي إلى دفع “فاتورة” أفعال التنظيم، وأن مآلات تلك الاستراتيجية تنذر بعواقب وخيمة وهو ما حدث حرفيا.
مراجعات الجماعة الإسلامية في مواجهة ثورة يناير!!
جاءت ثورة يناير-حسب الورقة البحثية- كصدمة لمراجعات الجماعة الإسلامية إذ “لم يكن يدري أحد ممن كتبوا المراجعات أنهم على بعد خطوات من ثورة شعبية ستتمخض عن انكسار في السلطة المصرية وخلع لرأسها حسني مبارك”[14]
لكن ما لم تذكره الورقة، أن ثورة يناير ٢٠١١ بكل زخمها لم تكن صدمة للجماعة ولا لأفرادها، حيث سارع معظم أفرادها للاشتراك فيها كجزء من الشعب المصري الثائر، ولم يكن من الممكن إطلاقا أن يصدر قادة الجماعة بيانا يعلنون فيه انضمامهم للثورة ،ويلقوا بالآلاف في مصير مجهول لم يكن قد اتضحت معالمه قط، الشأن هنا كان يتخطى فكرة “التوبة الجماعية” التي ألح عليها الباحثون كثيرا، حيث ترك قرار المشاركة لأفراد الجماعة، ولم تحاول القيادات ثني أحد عن المشاركة، وهو ما أدى إلى التحام معظمهم بالمظاهرات المطالبة برحيل مبارك ونظامه.
إن هذا البعض الذي اختار المشاركة في الثورة لم يكن قد “انعتق من عبء المراجعات وانخرط في مسيرة تخالف الأفكار الواردة فيها”[15] كما أشار إلى ذلك الباحثون، إذ انصبت الفكرة الأساسية التي ألحت عليها المراجعات على التحذير من المواجهات المسلحة مع الأنظمة الحاكمة، لكنها لم تكن تأسيسا جديدا لأفكار أقرب ما تكون إلى الفكر المدخلي.
ففي الوقت الذي كتب فيه د./ناجح إبراهيم على موقع الجماعة الإسلامية مقالا قبل رحيل مبارك بأيام قليلة بعنوان “ارحموا عزيز قوم ذل” نشر كاتب هذه السطور على الموقع نفسه أكثر من مقال – في الفترة من ٢٨ يناير إلى ١١ فبراير- يشد من أزر الثورة ويثمن حق المصريين في المطالبة بحقوقهم.
بل ونشر د./عصام دربالة مقالا يتضمن خريطة طريق تنتهي برحيل مبارك.
لم تمثل ثورة يناير صدمة للجماعة الإسلامية ومراجعاتها بقدر ما جاءت تأكيدا لفكرة رفض المواجهات المسلحة، ونجاعة الثورات السلمية التي تقودها الشعوب، ففي الوقت الذي فشلت فيه المواجهات المسلحة في إحداث تغيير يذكر على مدار سنوات طويلة، وفي الوقت الذي كان فيه تنظيم القاعدة يخبط خبط عشواء باستهداف المدنيين ودور العبادة في أماكن عدة، ويزيد الأمر رهقا، جاءت الثورات الشعبية لتثبت أن ثمة طريقا آخر بمقدور الشعوب أن تسلكه لإحداث هذا التغيير وبكلفة أقل.
بل أزعم أن آثار المراجعات مهدت الطريق صوب الثورة الشعبية، إذ بتوقف العمليات المسلحة وإعلان الجماعة الإسلامية حل الجناح العسكري تم سحب المبررات التي بموجبها عمد نظام مبارك إلى “عسكرة” المجتمع، وإحالة أسئلة الديمقراطية والحريات إلى رفوف النسيان، لانشغال الدولة بمواجهة “الإرهاب”، ما أدى إلى انفساح المجتمع على مزيد من الحريات والذي اتخذ مظاهر عدة من تأسيس صحف وقنوات وتدشين حركات معارضة خارج الأطر الحزبية التقليدية، ولجوء مبارك للمرة الأولى إلى إجراء انتخابات رئاسية تعددية عقب تعديلات دستورية.
تلك التطورات التي شهدها المجتمع المصري لم تكن لتحدث لو استمرت المواجهات المسلحة، وكان من الصعوبة بمكان آنذاك الوصول إلى مشهد ثورة يناير الشعبية.
لم تمثل ثورة يناير صدمة للجماعة بقدر ما كانت فرصة مواتية لترتيب البيت الداخلي وإعادة تأسيس مراكز القرار فيها عقب انتخابات بدأت من قاعدة أفرادها في المحافظات لتشكيل ما عرف بالجمعية العمومية التي أنيط بها اختيار مجلس الشورى “أعلى هيئة داخل الجماعة” إضافة إلى رئيس مجلس الشورى.
وليس صحيحا أن الجمعية العمومية التي التأمت في مايو ٢٠١١ أطاحت بناجح إبراهيم[16]، بل إن المفاجأة أن أعضاء الجمعية اختارته من جديد لعضوية مجلس الشورى[17]، كما اختارت عصام دربالة رئيسا لذلك المجلس.
وإذا عرفنا أن الاثنين تحديدا كتبا أهم المضامين الفكرية التي طرحت خارج إطار الكتب الأربعة الأولى، فناجح إبراهيم هو الذي كتب “نهر الذكريات.. المراجعات الفقهية” (وليس كرم زهدي كما زعمت الورقة) وتفجيرات الرياض.. الأحكام والآثار، والحاكمية، كما كتب دربالة الأطروحة الأهم في نقد تنظيم القاعدة “استراتيجية القاعدة الأخطاء والأخطار”، فإن هذا ينفي ما حاول البعض ترويجه من أن الحراك الداخلي الذي شهدته الجماعة عقب الإطاحة بمبارك كان بمثابة رفض من أفراد الجماعة للمراجعات وما تمخض عنها.
فالخلاف الذي خرج للعلن عقب ثورة يناير لم يكن يدور حول المراجعات نفسها بقدر ما كان أساسا -كما أشارت الورقة البحثية- حول بعض التفاصيل الهامشية المتعلقة بإدارة عملية التفاوض وهي جزئية تحتمل جميع وجهات النظر، لكن جاءت نتائج انتخابات مجلس الشورى في مايو ٢٠١١ لتؤكد أن المراجعات باتت مجل إجماع بين أفراد الجماعة الإسلامية.
هذا الأمر يعود ويتأكد عقب الانقلاب العسكري في يوليو ٢٠١٣، فالجماعة الإسلامية كانت قد استوعبت الدرس جيدا، وظهر أثر المراجعات في مجمل القرارات والخطوات التي اتخذتها في التعامل مع الأزمة. فبينما اعتبرت أن ما حدث يعد انقلابا عسكريا، رفضت تماما أي خطاب يدعو إلى العنف وحذرت شركاءها في التحالف الوطني لدعم الشرعية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين من الانجرار إلى أي مواجهات مسلحة ضد نظام عبد الفتاح السيسي.
لم يقتصر الأمر على ذلك بل أخذت الجماعة على عاتقها التحذير من أفكار وممارسات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وذلك في وقت مبكر كان فيه التنظيم محل جذب لآلاف الشباب حول العالم.[18]
وعندما عمدت السلطات المصرية عام ٢٠١٨ إلى وضع الجماعة الإسلامية على لوائح الإرهاب أكد قادتها التمسك بالمبادرة “أيا كانت الأوضاع والإجراءات، ولدينا التزام أخلاقي وشرعي، ولن نحيد عن مبادرتنا بنبذ العنف”.[19]
إذن نحن لسنا إزاء جماعة تعاني من “صدمة” كما ذهب إلى ذلك الباحثون الأربعة، بل إزاء كيان وعى جيدا تجربته، مستوعبا لجميع المحطات الفكرية والحركية التي مر بها، ومتمسكا بإنجاز المراجعات، غير عابئ بذهاب نظام مبارك ليؤكد أن الأمر لم يكن ضرورة ألجأته إليها الظروف القاهرة، أو توبة جماعية للدولة “الإله” بقدر ما كانت قناعات فكرية ترسخت بمرور الوقت.
هل تمثل مراجعات الجماعة أملا للمعتقلين؟
رغم ما باتت تمثله المراجعات من محطة مهمة في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة، إلا أنها لا تصلح نموذجا يمكن من خلاله إيجاد حل لآلاف المعتقلين في السجون المصرية وذلك لسببين:
1- اختلاف السياقات المجتمعية والفكرية والأمنية المصاحبة للتجربتين، فالظروف التي تهيأت لتجربة الجماعة الإسلامية غير موجودة الآن، فالحلول الاستئصالية باتت تتصدر البدائل لدى الثورة المضادة المدعومة من قوى الاستعمار، كما أن نظام مبارك في نهاية المطاف كان يمتلك “شرعية” ما، مكنته من مواجهة الجماعة، على العكس مما يحدث الآن إذ تقبع الشرعية في السجون وكان في مقدمتها الرئيس الراحل محمد مرسي!
2- أي مراجعات الآن لن تكون على مجموعة من الأفكار التي تحتمل التأويل والخلاف، بل ستكون أساسا على قيم لا تحتمل التأويل ولا الخلاف وفي مقدمتها الحريات والعدالة والكرامة وحق الشعوب في المطالبة بها، إضافة إلى حقها في تأسيس حياة ديمقراطية تضمن تداولا سلميا للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وهنا يكمن الخطر الحقيقي إذ إن أي مراجعات ستكون بمثابة محاكمة لثورة يناير لضمان عدم تكرارها مرة أخرى ليس في الجيل الحالي فقط، بل لأجيال أخرى قادمة.
وبالرغم من ذلك، فإنها تعد بمثابة قبلة الحياة لعموم الحركة الإسلامية بعد وصولها إلى حالة من التكلس، تشمل جميع التمظهرات داخلها الإخوانية والسلفية والجهادية على حد سواء.
فسكوت الإخوان عن تقييم محنة ١٩٥٤ أدى إلى تكرارها بصورة أوسع وأشد قسوة عام ٢٠١٣ رغم أن الرئاسة كانت في قبضتهم وتحت أيديهم.
كما أن التقاعس عن نقد الأخطاء الكارثية التي قام بها تنظيم القاعدة في أفغانستان أدى إلى تكرارها في العراق ثم الآن في سوريا، في موازاة أخطاء مماثلة لتنظيمات جهادية ارتبطت به.
الحالة السلفية ليست بعيدة عن الأزمة، فلم تكن معبرة عن أفكار السلف يقدر ما كانت تعبيرا عن الفكر الوهابي الذي جرى ترويجه على مدار سنوات طويلة بإشراف وتوجيه المخابرات الأمريكية لمواجهة الاتحاد السوفيتي[20].
ووصل التخبط مداه داخل المحيط السلفي مع اتساع رقعة الفكر المدخلي الذي يجمع ما بين التكفير والإرجاء.
هنا تبدو المراجعات هي البارقة التي لا تزال تلوح في الأفق للخروج من هذه الفوضى وكتابة ميلاد جديد للحركة الإسلامية. شريطة الاستفادة منها بمنأى عن نوازع الإيديولوجيا التي قد تدفع أصحابها بعيدا عن جادة الصواب.
الهامش
[1] – المراجعات الفكرية هل تكون أمل المعتقلين في السجون المصرية إعداد أحمد مولانا، أحمد الأزهري، أحمد عادل إشراف وتحرير: محمد إلهامي إصدار المعهد المصري للدراسات ص ٤٦
[2]– اشتركت في كتابة أجزاء من كتاب نهر الذكريات لناجح إبراهيم عام ٢٠٠٣ في سجن الأبعدية في دمنهور ومراجعة مسودات أخرى.
[3] – محمد عمارة ، دكتور، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ط نهضة مصر ص ١٢
[4] – المراجعات الفكرية مرجع سابق ص ٤٠
[5] – السابق ص ٦ وما بعدها
[6] – في عام ١٩٨٨ تمكن ثلاثة من قيادات تنظيم الجهاد وهم عصام القمري وخميس مسلم ومحمد الأسواني من الهروب من سجن ليمان طره جنوب القاهرة قبل أن تتمكن قوات الأمن من تحديد أماكنهم بعد حوالي ٢١ يوما وتقوم بتصفية القمري والأسواني وجسديا فيما ألقت القبض على الأسواني ليظل مسجونا حتى اندلاع ثورة يناير ورحيل مبارك.
[7]– ظلت وزارة الداخلية تلوح بإقرارات التوبة حتى قبل تفعيل المبادرة بوقت قصير ففي عام ٢٠٠٠ كنت معتقلا في سجن الفيوم العمومي في عنبر ٩ في ظروف حياتية وإنسانية صعبة عندما دخل أحد أمناء الشرطة ونادى وسط العنبر عمن يريد التوقيع على إقرار توبة فلم يظفر إلا بمعتقل واحد فقط في عنبر يحوي مئات المعتقلين.
[8] – كثير من هذه الأبحاث كتبها قادة الجماعة أثناء فترة المحاكمة عقب اغتيال الرئيس السابق أنور السادات إذ كانوا يتوقعون أن يشمل قرار الإعدام عددا كبيرا منهم.
[9] – من المفارقات الجديرة بالتأمل أن القول بكفر الحاكم بمجرد استبدال أحكام الشريعة دون اشتراط الجحود، هذا القول كان يلزم تكفير رئيس مثل محمد مرسي كما فعلت جماعات تكفيرية أخرى مثل داعش، لكن الانفتاح على المساحة الواسعة من الاجتهادات الفقهية جعل من الممكن التماس العذر له رحمه الله
[10] – المراجعات الفكرية مرجع سابق ص ٣١ وما بعدها
[11] – استهدف تفجيران متزامنان سفارة الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام يوم ٧ أغسطس ١٩٩٨ وأدين فيها أربعة أشخاص ينتمون لتنظيم القاعدة. وقد أسفر التفجيران عن مقتل ٢٢٤ شخصا منهم ١٢ أمريكيا
[12] – استوعبت حركة طالبان الدرس جيدا حيث أكدت عقب التوقيع على اتفاق السلام في العاصمة القطرية الدوحة أنها لن تسمح بأي أنشطة إرهابية تنطلق من أراضيها ضد الدول الأخرى وتعهدت بمكافحة التنظيمات المتطرفة.
[13] – سيد إمام عبد العزيز الشريف المعروف باسم د./ فضل ، و عبد القادر بن عبد العزيز، طبيب وجراح مصري، يعد أحد الآباء المؤسسين والمنظرين للحركات الجهادية صنف مؤلفات عدة لكن أهمها كتابان “العمدة في إعداد العدة” و “الجامع في طلب العلم الشريف” اللذان يعدان بمثابة “المانفستو” للحركات الجهادية وحويا الكثير من الأفكار المتشددة التي اعتمدتها المجموعات الجهادية لتبرير أفعالها.
[14] – المراجعات الفكرية مرجع سابق ص ٣٨
[15] – السابق ص ٣٨
[16] – السابق ص ٣٨
[17] – احتفظ ج./ ناجح إبراهيم بعضويته في مجلس الشورى لحوالي عام رغم عدم حضوره أي من جلساته وأعلن استقالته حتى اضطر المجلس بعد تلك الفترة إلى تصعيد التالي له في نتائج الانتخابات.
[18] – أصدرت الجماعة الإسلامية كتيبا تفضح فيه الأفكار الحقيقية لتنظيم داعش ونظم رئيس مجلس الشورى عصام دربالة دورات تثقيفية لأعضاء الجماعة لكشف حقيقة داعش لكن النظام المصري اعتقله أثناء زيارته لمحافظة قنا ونقله إلى سجن شديد الحراسة بطره إلى أن مات نتيجة الإهمال الطبي.
[19] – تصريحات للرئيس السابق لحزب البناء والتنمية د./ طارق الزمر لموقع BCC عربي ضمن تحقيق بعنوان ” قادة بالجماعة الإسلامية: لن نحيد عن نبذ العنف” نشر يوم ١٣ نوفمبر ٢٠١٨
[20] – من تصريحات لولي العهد السعودي محمد بن سلمان لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية في مارس ٢٠١٨