fbpx
قلم وميدان

مراحل تطور المشروع الاصلاحي للإمام حسن البنا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

لا أحد يُنكر الدور الذي قام به قادة الاصلاح وزعماء التجديد كالسيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والشيخ رشيد رضا وغيرهم، ولا ما تركوه من إرث علمي أحدث دوياً ما يزال مسموعاً إلى اليوم. ولكن الشيخ البنا وهو تلميذ الشيخ رشيد رضا قد تميز بالنزول إلى الجماهير، وبناء حركة شعبية قوية، وتبنى العمل الحركي الجماعي بجانب التنظير والتعليم.

وقد اتخذ التربية له وسيلة، لبناء جيل قوي، وتنظيم صلب. ولما سئل لماذا لا تؤلف الكتب؟ قال: أنا مشغول ببناء الرجال. وذلك بعد أن درس تجارب من سبقوه ونتائجها في واقع الأمة، ومدى صداها وتأثيرها في إحداث التغيير المنشود.

لقد تميز البنا بشخصية قوية؛ امتزجت بها جماعته في مختلف أطوارها ومراحلها، وخلَّف وراءه دعوة واضحة المعالم، كثيرة الأتباع، واسعة الانتشار، عظيمة الأثر.

نشأ البنا في بيئة إسلامية علمية خالصة، وايجابية أثرت في شخصيته، ودفعته إلى المشاركة والعمل الجماعي منذ نعومة أظفاره؛ شجعته فيما بعد على تكوين جمعيته التي ملئت الدنيا وبلغت الآفاق. وبدأ نشاطه الدعوي والاصلاحي مبكراً جداً وهو في سن العاشرة، حيث كان يلعب عند شاطئ النهر فرأى سفينة في المرسى وعلى مقدمتها تمثال من الجبس لامرأة عارية، فقصد ضابط البوليس شاكياً له صاحب السفينة، فتعجب له الضابط وسأله، ما الذي يضرك من وجود هذا التمثال؟ فقال: إن هذا التمثال حرام، وكونه امرأة عارية يزيد من حرمته، ووجوده في مكان عام يختلف إليه الناس ينافي الآداب، ولا يتفق مع أخلاق الإسلام. فسُر الضابط منه وأمر صاحب السفينة بإزالة التمثال إكراماً لهذا الصغير الغيور على الدين والأخلاق.

وفي سن الثانية عشرة، التحق البنا بالمدرسة الإعدادية، وما لبث أن انضم إلى أُولى الجمعيات الدينية “جمعية الأخلاق الأدبية” والتي أسسها معلمه الشيخ محمد عبد الخالق وكان هدفها مواجهة المخالفات الخُلقية، وتشجيع مكارم الأخلاق، وذلك بفرض غرامات تصاعدية باهظة علي أعضائها الذين يسبون زملائهم، أو يسبون الأهل، أو يسبون ويُهينون الدين!. ولم تمض فترة طويلة حتى أصبح البنا رئيساً للجمعية.

ومع الوقت تطور فكر العمل الجماعي لدي الطفل الصغير، فنظم مع زملائه جمعية جديدة سموها” جمعية منع المحرمات” قصدوا منها أن تخرج خارج نطاق الأعضاء وتصل إلى المجتمع، لعلاج سلبيات أخلاقه، ومخالفة تعاليم الإسلام القويمة، ووصلت بالفعل إلى أنحاء البلدة. ومن وسائل التغيير التي اتخذته: تحرير وإرسال خطابات سرية، إلى المخطئين، دون معرفة المُرسل.

ثم أسس مع صديقه أحمد السكري “الجمعية الحصافية الخيرية” وهو في الثالثة عشرة من عمره، وأصبح أميناً لها، وتولى أحمد السكري رئاستها، وكان للجمعية هدفان: حفظ الأخلاق الإسلامية، ومقاومة أعمال إرساليات التبشير المسيحية. وكانت هذه المجموعة التي اعتبرها البنا نواة وأساساً لجمعية الإخوان المسلمين فيما بعد.

وشارك البنا كتلميذ وهو في سنته الأخيرة بالمدرسة الأولية مشاركة فعلية في ثورة 1919وانضم إلى المظاهرات التي تفجرت داخل المدرسة وخارجها، كما ساهم في نظم الشعر الوطني وإلقاؤه.

وفي عام 1923 وكان عمره آنذاك سبعة عشر عاماً قد أنهي دراسته بمدرسة تدريب المعلمين، وفي نفس السنة حضر إلى القاهرة ليبدأ آخر مرحلة من مراحل تعليمه النظامي بدار العلوم. وقد وافق وصوله إلى القاهرة فترة الغليان السياسي والفكري الشديد، فنظر فيها بعين القروي المتدين واستخلص منها معرفة بمشاكل المجتمع؛ وهي التنازع على الحكم بين الأحزاب المتحاربة على الدوام، والدعوة إلى الالحاد والاباحية، ومهاجمة الأعراف والمعتقدات المستقرة في المجتمع، والتي ساندها الانقلاب الكمالي على الخلافة التركية، يضاف إليهم الدهريون والتحرريون من رواد الندوات الأدبية والاجتماعية، وكذلك صخب الجمعيات والحفلات والصحف والمجلات والكتب التي روجت تلك الأفكار. كل هذه الصراعات المجتمعية الكبيرة كان لها رد فعل قوي، فأخذ يفكر في كيفية مواجهتها والتغلب عليها وهو ما يزال حديث عهد بالقاهرة.

وما أن وصل القاهرة حتى قام بالتواصل مع أتباع طريقته الحصافية، والتحق في العام الثاني بمجموعة دينية أخرى ” جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية” التي عُنيت بإلقاء المحاضرات والدروس، ومن ثم بدأ في تجميع مجموعة من طلبة الأزهر ودار العلوم، وتدربوا على مهمة الوعظ والإرشاد. فبدأوا بالمساجد، ثم انتقلوا إلى الناس في أماكن اجتماعاتهم العامة في المقاهي والنوادي، وتواصلوا معهم وجهاً لوجه. ثم بعد فترة من هذا الحراك بدأ يرسل مجموعات منهم إلى القرى، ليقوموا بنفس الدور.

ثم بدأ يتواصل مع رجال الدين والعلماء. أمثال محب الدين الخطيب، والتردد على مكتبته” المكتبة السلفية”، وزار الشيخ رشيد رضا محرر مجلة المنار وارتبط به، وأكمل نشر المنار من بعده، وغيرهم. وقد شارك في تكوين جمعية الشبان المسلمين، وكتب في مجلتها” الفتح”.  ودرس موقف الأزهر في المجتمع، وانتقد موقف العلماء بمرارة لمعارضتهم غير الفعالة للتيارات التبشيرية والالحادية التي مزقت المجتمع الاسلامي.

وفي عامه الأخير بدار العلوم، صيف 1927 وهو في سن الواحدة والعشرين، بدأت أفكار التغيير تنضج في رأسه، ويتضح نوع العمل اللازم لإنقاذ المجتمع. وقد كتب منهجه وشرح مشروعه الاصلاحي عندما سأله استاذه أحمد يوسف نجاتي بك، أن يكتب آماله بعد إتمام دراسته، ويُبين الوسائل التي يعدها لتحقيقها! فكتب يقول: ” أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من ادخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتُعد التضحية في سبيل الاصلاح العام ربحاً وغنيمة…وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل…والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين: أولهما: طريق التصوف الصادق. والثاني: طريق التعليم والارشاد.. كل هذا أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذورها، وطالت فروعها، واخضرت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر. فكان أعظم آمالي بعد اتمام حياتي الدراسية أملان: خاص: وهو اسعاد أسرتي، وعام: وهو أن أكون مرشداً معلماً. وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل، ولتحقيق الثاني: الثبات والتضحية، وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله. ومن الوسائل العلمية: درساً طويلاً، وتعرفاً بالذين يعتنقون هذا المبدأ، وجسماً تعود الخشونة على ضآلته، ونفساً بعتها لله صفقة رابحة.. وذلك عهد بيني وبين ربي، أُسجله على نفسي، وأُشهد عليه أستاذي”.

وفي سبتمبر1927 تم تعيينه في مدرسة الإسماعلية الابتدائية الأميرية، بمدينة الإسماعلية بمنطقة القناة، وقد بدأ البنا نشاطه في المجتمع الجديد؛ التدريس نهاراً، والتواصل مع الناس في المساجد والمقاهي وأماكن تجمعهم ليلاً. وكان غالبيتهم من العمال وصغار التجار وموظفي الحكومة، وقد أثر فيهم بما لديه من ملكة التأثير وبلاغة الحديث، وقوة الحُجة، ومخاطبة العاطفة، وطرح الحلول لمشاكلهم.

وما لبثت جمعية البنا الخاصة أن ولدت، ففي مارس 1928 اجتمع بعدد ممن تأثروا به وكانوا ستة من عمال المعسكر البريطاني، وأعلنوا رسمياً افتتاح جمعية الاخوان المسلمين، واختار البنا اسم الجمعية قائلاً:” نحن أخوة في خدمة الإسلام فنحن إذن: الإخوان المسلمون”. ولم تمض أربع سنوات حتى انتشرت فروع الجمعية في مدن القناة؛ الإسماعيلية وبور سعيد والسويس وأبو صوير، كما انتشرت في مدن الدلتا ووصلت القاهرة. فقد زادت فروع الجمعية في عامها الثاني من عشرة إلى خمسين فرعاً، ثم إلى ثلاثمائة سنة 1938 أي بعد عشرة أعوام فقط.

وقد عرف البنا دعوته للناس فقال:” في هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث الكثيرة المريرة التي تلدها الليالي الحبالى في هذا الزمان.. وفي هذا التيار الجاري المتدفق الفياض من الدعوات التي تهتف بها أرجاء الكون، وتسري بها أمواج الأثير في أنحاء المعمورة مجهزة بكل ما يغري ويخدع من الآمال والوعود والمظاهر، نتقدم بدعوتنا: هادئة.. ولكنها أقوى من الزوابع العاصفة. متواضعة.. ولكنها أعز من الشم الرواسي. محدودة.. ولكنها أوسع من حدود أقطار هذه الأرض جميعاً. خالية من المظاهر الزائفة والبُهرج الكاذب.. ولكنها محفوفة بجلال الحق وروعة الوحي ورعاية الله. مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية.. ولكنها تورث المؤمنين بها، والصادقين في العمل لها السيادة في الدنيا والآخرة” [1].

الحاكمية بين حسن البنا وسيد قطب

اقرأ ايضا الحاكمية بين حسن البنا وسيد قطب


[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close