مراكز القوى المتصارعة في ليبيا وأولويات الغرب
النص الأصلي:
Mattia Toaldo, Libya’s competing centers of power and the West’s priority: Support the political process, Mideast Flashpoints, 3/5/2016, link
بعد سقوط معمر القذافي وخاصة منذ صيف 2014، افتقرت ليبيا إلى حكومة مركزية وانقسمت بدلا من ذلك إلى مراكز قوى عدة، ورغم التوقيع على اتفاق سلام برعاية الأمم المتحدة في ديسمبر 2015، إلا أن البلاد ما تزال منقسمة بين حكومة الوفاق الوطني المتواجدة في طرابلس، والمؤسسات المناوئة لها في شرقي البلاد والتي يسيطر عليها اللواء خليفة حفتر، المدعوم من مصر والمعارض للإسلاميين. والمنافسة بين مركزي القوة هذين كانت حول السيطرة على المؤسسات (وبخاصة تلك المتضمنة في اتفاق الأمم المتحدة)، وبشكل متزايد كذلك حول من سيحرر سرت (البلدة الساحلية الواقعة في الوسط بين طرابلس وبنغازي) من داعش، ولذلك تحظى تلك المنافسة بدرجة من التقدير والمراقبة من قِبل الولايات المتحدة وأوروبا.
وتأخذ هذه المنافسة في التطور، بينما يُظهر عدد من القوى الخارجية ذات الصلة بالشأن الليبي درجات عالية من الانقسام، فرسميا، تدعم مصر الاتفاق الأممي، لكنها بشكل ملموس ترسل أسلحة ودعما عسكريا لحفتر، وينطبق الأمر ذاته على الإمارات، ولكن مع التزام سياسي أقل من جانب حفتر، وتدعم فرنسا والمملكة المتحدة حكومة الوفاق في طرابلس بشكل يتجاوز التصريحات المجردة، لكنهما تبعثان بقواتهما الخاصة لدعم حفتر. ورئيس وزراء إيطاليا ماتيو رينزي كان داعما لمصر (حتى فترة قريبة) لكنه اتبع سياسة ليبية تصطدم وسياسة عبد الفتاح السيسي، فبينما أوضح السيسي أنه لا يريد إسلاميين في السلطة في طرابلس، اتجهت روما نحو دعم اتفاق لتشارك القوة يتضمن أعضاء من الإخوان المسلمين إلى جانب آخرين.
ونتيجة هذه الاستراتيجيات المتنافسة والمتناقضة من قِبل القوى الخارجية ومراكز القوى الليبية العديدة، يمكن القول إن البلاد قد تكون في طريقها عمليا نحو التقسيم، والسؤال هنا هو إذا ما كانت ستنقسم بين حكومة الوفاق وحفتر إلى جزئيين، أم ستتقسم إلى أجزاء بعدد دويلات المدن والقبائل والهيئات المحلية الأخرى التي تعج بها ليبيا.
حكومة الوفاق المدعومة أمميا يترأسها فايز السراج، ومقرها في قاعدة بحرية في طرابلس، ويعتمد السراج على ائتلاف متنوع في ظل قيادة دويلة مدينة مصراتة وبعض ميليشيات طرابلس، ويضم هذا الائتلاف كذلك معظم دويلات المدن الأخرى في غربي وجنوبي البلاد، إلى جانب حرس المنشآت النفطية في الشرق الذين يترأسهم القائد المثير للجدل “إبراهيم الجضران”، وهو حليف سابق لحفتر، وينحدر معظم المسؤولين عن قطاع الأمن في حكومة السراج من ذات المنطقة في طرابلس، تحديدا منطقة سوق الجمعة، وقد جعل هذا من وصوله إلى طرابلس أكثر سلاسة. رسميا، يرأس السراج مجلسا رئاسيا مكونا من تسعة أعضاء وحكومة وفاق وطني يأتي وزير دفاعها مهدي البرغثي من بين صفوف الجيش الوطني الليبي التابع لحفتر، إلا أنه غير محبوب لدى اللواء. وما زال كثير من الليبيين والمراقبين الخارجيين يشُكّون في أن السراج قد يختلف عن الكثيرين الذين حكموا ليبيا منذ سقوط القذافي وحتى استئناف الحرب الأهلية في صيف 2014، فهو رئيس وزراء ضعيف محاط بميليشيات يتخذونه رهينة بينما يهدرون موارد الخزينة العامة.
أما هيكل السلطة عند حفتر فهو أقل وضوحا، حيث ما يزال حفتر رسميا قائد القوات المسلحة الليبية، على الرغم من أن الاتفاق السياسي الليبي الذي رعته الأمم المتحدة يتضمن مادة تقول بأن القيادة العسكرية سيعاد تشكيلها حال تأسيس حكومة الوفاق الوطني، ويفسر هذا جزئيا معارضة حفتر (ومؤيديه) للاتفاق، هذا المعارضة المرتبطة بشكل أساسي باعتراضهم على أي مساومة مع قوات يرونها لا تعدو كونها ميليشيات إسلامية.
إن جوهر القوة الحقيقية لحفتر يقبع في مدينة مرج الشرقية في غرفة عمليات غير رسمية للحرب، فالجيش الليبي الوطني، رغم اسمه، ليس جيشا نظاميا وإن كان يقوم بكل شيء ليبدو كذلك. بل هو تشكيلة من الجماعات المختلفة منها قسم كبير من المدنيين الذين لم يحصلوا على التدريب العسكري الملائم، إلى جانب عنصر قبلي قوي في شرق ليبيا وغربها، أما المؤسسات السياسية – وخاصة الحكومة الموجودة في البيضاء، ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح – فهي انبثاق عن هذه البنية العسكرية.
وقد بنوا مع مرور الوقت مؤسسات اقتصادية موازية مهمتها توفير المال لتشغيل هذه الدولة الموازية، ويتبعون في ذلك استراتيجية مزدوجة، تقوم على توفير المال، إما من خلال الإمارات العربية المتحدة أو من خلال طباعة النقود بمساعدة روسية؛ أو من خلال بيع البترول، وهذا أيضا من خلال شركات تابعة للإمارات وبمخالفة قرارات الأمم المتحدة.
ويعتبر مجلس النواب أرض المعركة المؤسسية بين مركزي القوة هذين، وقد انتخب المجلس في 2014، وقاطعه بعد انتخابه مباشرة عشرات من أعضائه لوجوده في طبرق، في قلب أراضي حفتر. وقد كان مجلس النواب دوما البرلمان المعترف به دولياً، ولذلك بُني عليه الاتفاق السياسي الليبي المدعوم أمميا، وبدون موافقة مجلس النواب، لا تستطيع حكومة الوفاق أن تعمل، وبالكاد يمكن تمرير أية تعيينات في مناصب رئيسية.
ولذلك ظهرت بوضوح قبضة حفتر القوية على مجلس النواب فور التوقيع على الاتفاقية التي تضمنت مادة مؤداها إبعاده عن السلطة، ومُنع المجلس من التصويت عدة مرات، وبقدر كبير من العنف والابتزاز ضد بعض البرلمانيين، وقد أبدت رسائل متتالية موقعة من أغلبية من أعضاء المجلس دعما مشروطا للاتفاق الأممي – شريطة ألا ينحي حفتر.
إن النزاع الحالي بين مؤيدي اللواء حفتر والسراج هو حول موقع مجلس النواب، فإن انتقل المجلس خارج طبرق (كما يود المبعوث الأممي مارتن كوبلر ومعظم السفراء الغربيين، إلى جانب الكثير من أعضاء المجلس)، فإن ذلك سيكون بداية مرحلة جديدة في التقسيم العملي للبلاد، وستتغير عضوية المجلس حيث أن الكثير من المقاطعين الحاليين سينضمون إلى اجتماعاته (ويصوتون لصالح السراج)، بينما سيبدأ معظم البرلمانيين من شرق البلاد، إن لم يكن كلهم، حملة مقاطعة، كثيرون منهم بدافع من القناعات الشخصية والبعض بسبب التهديدات المادية. ثم سيغدو السؤال المهم حينها هو كم عدد البرلمانيين الذين سينضمون إلى هذا التشكيل الجديد، وهل سيتمكنون في النهاية من اجتذاب زملائهم من الشرق إلى البرلمان ثانية من خلال إظهار التزام حقيقي تجاه اهتماماتهم الرئيسية ألا يعاد تهميش برقة كما كانت تحت القذافي؛ وأن يُفضي حكم الميليشيات إلى جيش وطني موحد.
وبمحاذاة هذه الحرب المؤسسية، هناك حرب أقل تأثيراً تجري على صعيدين، ففي بنغازي، تٌقاتل قوات مجلس شورى ثوار بنغازي (المقرب سياسيا من مصراتة) قوات حفتر. لكن الحرب الأهم هي السباق على تحرير سرت، التي تسيطر عليها الآن ما تسمى بالدولة الإسلامية، أو داعش، وكما يقول بعض النشطاء المقربين لفريق حفتر، “من سيفوزون بسرت سيحكمون البلاد.”
في النهاية يقود ذلك لسؤال كبير للأمريكيين والأوروبيين: ما هو نظام الحوافز الحقيقي الذي يمكن وضعه لمراكز القوى الليبية المتصارعة هذه؟
إن بإمكانكم الاتجاه نحو نظام يقوم على دعم السراج وحكومة الوحدة، ويعتمد على عملية سياسية تنتج أيضا رد فعل عسكري على داعش. والخيار البديل هو التركيز على جهود محاربة الإرهاب، بحيث تُكافأ وتنال الدعم مختلف الجماعات (بدءا بحفتر، كما تفعل المملكة المتحدة وفرنسا) حسبما تحارب الجهاديين على الأرض.
أما الاستراتيجية الثانية فستفشل على الأغلب، حيث أنها تشجع التنافس بين الجماعات بدلا من التعاون، وهي لا تحل مسألة الحوكمة، وتحديدا من سيحكم المناطق المحررة من داعش ومن سيسيطر على تمددها في مناطق أخرى من ليبيا. لقد حان الوقت ليوحد الغرب استراتيجياته السياسية واستراتيجياته لمكافحة الإرهاب؛ والتأكيد على أن دعم فاعلين معادين للعملية السياسية تحت مسمى الحرب على داعش قد يؤدي بسرعة إلى نتائج عكسية.