أوروبا وأمريكادراساتفيروس كورونا

مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية في ظل كورونا

مدخل

ظهرت أثناء جائحة كورونا عديد المقالات والآراء التي كتبت حول العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وتأثرها بالجائحة، وخصوصاً تلك التي تتحدث عن أنّ شكل العالم بدأ بالتغيّر مع انتشار وباء كورونا، وقد انقسمت في مجملها إلى قسمين رئيسين، القسم الأول يرى أنّ النهوض الصيني يمكن أن يتعثّر نتيجة للوباء وأن الولايات المتحدة ستقوم باستغلاله لمهاجمة بكين، وقسم آخر يرى أنّ الصين يمكن أن تغتنم الفرصة وتُقصي الولايات المتحدة عن زعامة العالم، ونتيجة لهذه التصورات والآراء بات من المهم مناقشة هذه الأفكار ومحاولة استشراف الشكل المحتمل للعالم ما بعد كورونا، وآثاره على علاقة الصين بالولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي.

نستطيع القول أنّ مشكلة البحث في هذه الورقة تدور حول التعرّف على واقع وشكل العالم المحتمل بعد أزمة كورونا وتأثير الجائحة على المصالح الإستراتيجية والحرب بين الولايات المتحدة والصين، على زعامة العالم، وقد تم بلورتها على شكل السؤال الآتي:

هل سيتأثر المشروع الصيني سلباً أم إيجاباً بالوضع الجديد الناشئ عن كورونا في ظل الخلاف مع الولايات المتحدة؟

وقد انبثقت عن هذا التساؤل الرئيس، مجموعة تساؤلات فرعية خاصة بالمشروع الصيني وأخرى خاصة بأزمة كورونا على النحو الآتي:

  1. ما هي أهم ملامح المشروع الصيني؟
  2. كيف أدارت الصين أزمة كورونا ووظفتها على الصعيد الخارجي؟
  3. كيف ستتأثر العلاقات الأمريكية الصينية بأزمة كورونا وإلى أين تتجه؟
  4. هل سيكون العالم منحازًا نحو الصين أم معادٍ لها؟
  5. كيف يمكن أن يؤثر الصعود الصيني على منطقتنا العربية والإسلامية؟

أما فيما يختص بمحددات بالبحث فإنّ أبرزها يكمن بأنّ الحدث موضع الدراسة ما زال غير واضح المعالم، وهو في طور التبلور، وهذا يجعل تصوره بشكل دقيق والحكم عليه وعلى تبعاته مسألة تكتنفها صعوبات عديدة والكثير من عدم اليقين، ولذا فإن هذه الورقة ستنحى في ظل غياب المعلومات القطعية، إلى منهج تحليلي من خلال الاطلاع على أهم المصادر المتوافرة من كتب ومقالات وتقارير وتصريحات رسميّة، وتستقرئ المواقف والأحداث والآراء ويحلّلها ضمن سياق منطقي وزمني، وسيأخذ بعين الاعتبار أشهر النظريات التي تميل إلى توقّع المواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بعين الاعتبار وهي نظرية الواقعية الهجومية لجون مارشايمر.

ولابد هنا من استعراض أهم المقالات التي تتصل بموضوع الورقة وهي هنا ليست على سبيل الحصر، بل تعبر عن أبرز الآراء التي تم طرحها في الموضوع، وذلك للاسترشاد بها والاستفادة منها في نقاش الموضوع.

ترى تحليلات عدة حتمية هذه المواجهة حتى قبل زمن وباء كورونا كما في مقال لإدغار جلاد بعنوان “فيروس كورونا: هل حان وقت المواجهة بين الصين والولايات المتحدة”، حيث رأى الكاتب أنه كلما عاد العالم إلى طبيعته تفرغت الدول العظمى لعملية استيعاب أزمة كورونا وتوظيفها في المصالح الاستراتيجية.

فالكاتب في مقاله يوضح أن الأمور لم تعد كورونا فقط بل إعادة رسم التوازنات الدولية سياسيًا واقتصاديًا لمرحلة ما بعد الفيروس، مشيرًا إلى أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة لم تكن يومًا سهلة، إذ طالما كانت توصف بالعلاقة الحذرة التي لم تصل الى حد العداوة كما أنها لم تصل الى التحالف.

فالصين بنظر الكاتب كانت ولا تزال خطرًا استراتيجيًا على واشنطن لأنها أصبحت قوة عسكرية هائلة تنافس في مجال التكنولوجيا وهذا ليس جديدًا، لكن تعقيدات العلاقة وإطارها الجيوستراتيجي يجعل النظرة الأمريكية إليها أكثر حذرًا وتعقيدًا، ويستنتج الكاتب في مقاله أن الفيروس قد يكون أداة ضغط للاستثمار السياسي ولكن المواجهة العسكرية لا تزال قائمة نظريًا. [1]

دراسة بحثية لهالة دودين بعنوان “العلاقات الصينية الأمريكية ما بين الحرب التجارية وفيروس كورونا”، هدفت الدراسة إلى الإجابة على سؤال “ما هي طبيعة العلاقات الصينية الأمريكية وكيف تحولت هذه العلاقات إلى حرب تجارية، وهل سيؤثر فيروس كورونا على العلاقات الصينية الأمريكية؟”، وتفترض الدراسة أنه مهما بلغ حجم التعاون والتبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة، إلا أنه يبقى في إطار المنافسة، وستظل واشنطن لن تقبل وجود شريك لها في النظام الدولي، فهي تسعى لأن تبقى القوة العظمى الأولى في العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياساً، وتريد التفرد بحكم العالم دون أي منازع لها.

وخلصت الدراسة إلى أن انتشار فيروس كورونا أفشل أي اتفاق تجاري جزئي أبرم مؤخرًا في حل الخلافات التجارية بين البلدين، حيث توصل الطرفان قبل انتشار أزمة كورونا إلى ورقة تفاهم حول التعرفة الجمركية لتنظيم تبادل تجاري يتخطى الـ 700 مليار دولار سنويًا، ما لبثت أن انهارت مناخاتها الإيجابية بعد بروز أزمة وباء كورونا.

علاوة على ذلك، فإن البلدين سائران قدمًا في تعزيز قدراتهما العسكرية، استعدادًا لصراع عسكري محتمل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي غضون ذلك، برزت الصين كقوة عسكرية عظمى، على المستوى الإقليمي، والآن تسعى الصين إلى تبوؤ الموقع القيادي الذي تعتقد أنها تستحقه. [2]

وفي مقال نشر في صحيفة رأي اليوم للكاتب عمر نجيب بعنوان “تأثير جانحة كوقيد 19 على الصراع من أجل نظام عالمي جديد.. احتمالات نشوب حرب صينية أمريكية في الميزان” خلص الكاتب الى أن العلاقات الأمريكية الصينية تحمل عناصر للصراع بقدر ما تحمل عناصر للتعاون وأن كل طرف من أطراف سيحاول توجيه العلاقة بما يحقق له أقصى مصالح ممكنة في ظل عناصر القوة المتاحة لديه وقدرته على تعبئتها وتوظيفها آخذا في الاعتبار جوانب الضعف التي يعاني منها والتي يمكن أن يسعى الطرف الآخر إلى التعامل معها أيضا وتوظيفها بما يخدم مصالحه وأهدافه.

وبالتالي من الممكن ألا تصل العلاقات الأمريكية الصينية إلى حد المواجهة العسكرية مع اعتبارات الاعتماد المتبادل القائمة، وكذلك لا يتوافق مع طبيعة الواقع المعاصر الذي تقل فيه درجة ملائمة القوة العسكرية للتعامل مع الأزمات الجديدة، ومن ثم فإن ما يمكن تصوره في ظل هذه المعطيات حول مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية يتلخص في أنها ستتراوح ما بين نقطتي الصراع والتعاون اقترابا وابتعادا تبعا لطبيعة التفاعلات التي ستحدث في نقاط توازن القوة والضعف، وفي إطار من الاعتماد المتبادل.[3]

رأت الباحثة منى هاني محمد، في بحث لها بعنوان “نظرية تحول القوة واحتمالات الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين”، أن العلاقات الأمريكية الصينية تأتي ضمن علاقات مرحلة انتقالية ستؤدي تفاعلاتها في النهاية إلى تشكيل معالم النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين، وذلك يرجع إلى الوزن النسبي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فالولايات المتحدة تعتبر حتى الآن هي القوة العظمى الوحيدة بين مجموعة من القوى الكبرى، والصين بثقلها الديموغرافي والاقتصادي والعسكري المتنامي باطراد تسعى بأن تكون قوة عظمى وتلعب دورا بارزًا ومؤثرًا في حركة التفاعلات الدولية.

وبينت الباحثة، أن كل من الولايات المتحدة والصين تخوضان منافسة طويلة المدى على الصدارة الاقتصادية، حيث إن النمو الاقتصادي للصين أسرع بكثير من مثيله الأمريكي، ومن ثم الشروط اللازمة لحدوث عملية الهيمنة تتحقق، ومن المرجح أن تتم عملية الاستحواذ بين سنوات 2025 و 2035، وبالتالي هذا التغيير قد يجعل الصين تصل لمرحلة التكافؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية وتحل محلها لتصبح هي القوة المهيمنة في النظام الدولي مع تزايد الناتج القومي الإجمالي وتضخم عدد سكانها.

وأشارت الكاتبة، إلى أن بكين مستمرة في تطوير ترسانتها النووية التي قد تجعلها تصل إلى التكافؤ مع الولايات المتحدة “من حيث التفوق العسكري” وإذا وصلت الصين إلى كامل إمكاناتها ستصبح الدولة الرائدة في النظام الدولي عام 2075.

ويبرز السؤال الرئيسي هنا من نظرة الكاتبة، هو هل ستتحدى بكين الأنظمة الدولية القائمة أم ستقود المجتمع الدولي؟ وهل سيتم التحول بشكل سلمي كما حدث مع الولايات المتحدة بعد وصولها كقوة مهيمنة بعد بريطانيا، أم ستكون هناك حرب مثل التي شنتها بريطانيا على ألمانيا في أوائل القرن العشرين والحربين العالميتين الأولى والثانية؟

ويمكن مفتاح الإجابة على هذا التساؤل بحسب الكاتبة، هو بـ “هل الصين دولة راضية أم دولة غير راضية عن الوضع في الوقت الحاضر وفي المستقبل؟”.[4]

يعتقد الباحث في مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد جمال مشروح أن وباء كورونا المستجد كشف بعضًا من خبايا العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة والصين وسرع من وتيرة تدهورها، وبين السيد مشروح في مقال له، نشره مركز التفكير المغربي حديثا تحت عنوان “نحو حرب عالمية باردة ثانية” أن الوباء جعل التوترات الجيوسياسية الوجودية بين بلاد العم سام والصين تطفو إلى السطح، كما سرع من وتيرة تدهور العلاقات بينهما من حيث ديناميته الخاصة وآثاره الكونية التي زادت من حدة التناقضات العميقة بين القوتين العالميتين وزجّت بهما في دوامة من التوترات والاستفزازات المتبادلة.

وأضاف أن الصين خلال العقد الماضي تمكنت من تحقيق تقدم استراتيجي متسارع في جميع المجالات تقريبًا للحاق بأول قوة عالمية فيما يتعلق بالمبادلات التجارية الدولية أو تكنولوجيا الجيل الخامس أو الذكاء الاصطناعي أو حتى القوة البحرية.

ويرى الباحث، أنه يجب إدراج التوترات الصينية الأمريكية الراهنة ضمن سيرورة طويلة المدى، بدلًا من اعتبارها نتيجة لعامل ظرفي أو لحسابات انتخابية، مشيرًا إلى أن نطاق الشرخ الجيوسياسي بين البلدين اتسع في الآونة الأخيرة بشكل خطير يهدد بالزج بالعالم في أتون حرب عالمية باردة ثانية.

واعتبر السيد مشروح أن عواقب “الحرب الباردة” ستكون وخيمة على نظام متعدد الأقطاب على وشك الانهيار، ما يبرز أهمية وضرورة إرساء مسالك وسيطة تضطلع بدورها في النقاش الاستراتيجي الدولي الذي بات يُختزل، للأسف، في طاولة بينغ بونغ.

ويرى الكاتب أن على أوروبا وإفريقيا اليوم العمل من أجل بروز قيادة جماعية على الصعيد العالمي تكون شاملة وبناءة، وليست قوة الإكراه أو القوة الناعمة، أو قوة ذكية، بل قوة بشرية.

ويكمن الرهان، برأي الكاتب في تجنيب العالم أضرار ما يسمى بالحرب الباردة الجديدة وفي تركيز الموارد والطاقات لمواجهة التحديات العالمية التي ترتسم ملامحها في الأفق، التي من بينها فيروس كورونا وتغير المناخ، على سبيل المثال لا الحصر.[5]

مقدمة

يعد Covid-19 فيروس من سلسلة فيروسات كورونا التي قد تسبب المرض للحيوان والإنسان وعدداً منها تسبب لدى البشر أمراض تنفسية تتراوح حدتها من نزلات البرد الشائعة إلى الأمراض الأشد حدة، ومرض Covid-19 هو مرض معدٍ يسببه آخر فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات كورونا.

ولم يكن هناك أي علم بوجود الفيروس الجديد ومرضه قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ ديسمبر 2019 والذي تحوّل الآن إلى جائحة تؤثر على العديد من بلدان العالم.[6]

وفي البداية كان هناك قبول واستخفاف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة الرئيس دونالد ترامب في الفيروس، واتبعت سياسة التشكيك بالمعلومات الصادرة عن الحكومة الصينية حول كورونا واتهمتها بالكذب، ثم بدأ ترامب يصف الفيروس بالـ “الصيني” ويشكك بتعمد بكين إنتاجه.

وزعم الرئيس الأمريكي في تصريح صحفي له، اطلاعه على أدلة تثبت أن فيروس كورونا نشأ في مختبر في مدينة ووهان الصينية، ولدى سؤاله عما إذا كان قد رأى أي شيء يمنحه “درجة عالية من الثقة” في أن معهد ووهان لعلم الفيروسات هو المكان الذي نشأ منه الفيروس، أجاب ترامب: “نعم، لقد فعلت ذلك”، وتابع “إنّه شيء كان يمكن احتواؤه في مكان المنشأ وأعتقد أنّه كان من الممكن احتواؤه بسهولة كبيرة”.

مهاجمة ترامب لم تتوقف عند اتهام الصين فقط باختراع الفيروس، بل تعدى لاتهام منظمة الصحة العالمية بالعمل لخدمة مصالح بكين، حيث قال للصحفيين “ينبغي أن تخجل منظمة الصحة العالمية من نفسها لأنها مثل وكالة علاقات عامة للصين”.

وقال إن الولايات المتحدة تدفع لمنظمة الصحة العالمية ما يقرب من 500 مليون دولار سنويًا بينما تدفع الصين 38 مليون دولار و”لا ينبغي لهم أن يختلفوا الأعذار عندما يرتكب الناس أخطاء فظيعة تتسبب في وفاة مئات الآلاف من الناس حول العالم” في إشارة للصين.[7]

ولمّح ترامب أيضًا لإمكانية استغلال الجائحة للضغط اقتصاديًا على الصين حين سأل بشأن احتمالية ألا ترد بلاده ديونها للصين كإجراء انتقامي، فأوضح “يمكنني أن أفعل ذلك بشكل مختلف، عبر فرض ضرائب جمركيّة”، كما فعل في السابق خلال النزاع التجاري بين بلاده وبكين.[8]

ومن جانبه قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إنه يعتقد أن العالم سيجعل الصين “تدفع ثمنًا” عن دورها في وباء كورونا، مضيفًا “في كل مكان أذهب إليه، وكل وزير خارجية أتحدث إليه، يدركون ما فعلته الصين بالعالم.. أنا واثق جدا من أن العالم سينظر إلى الصين بشكل مختلف وسيتفاعل معها بشكل مختلف عما كان عليه قبل هذه الكارثة الفظيعة.”

وأشار بومبيو إلى تستر الصين وتواطؤها حسب ادعاءه في إخفاء المعلومات عن الفيروس بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، وأشار إلى أنه لم تتعامل بشكل صحيح مع دول العالم حولها، ولم تبلغ في البداية عن خطر تحول الفيروس إلى جائحة، وامتنعت عن السماح للدول الأخرى بالمشاركة في الأبحاث والتحريات حول نشأة الفيروس أو حتى تقديم المساعدة، وهو الأمر الذي كان سيمنح الجهود الصينية الشفافية.

ولكن حسب رأي بومبيو اختار الحزب الشيوعي الصيني منظمة الصحة العالمية لتحقيق ما وصفه بالـ “التستر”، الذي أوصل إلى انتشار الفيروس والتسبب بمئات الآلاف من الأشخاص الذين لقوا حتفهم وأضرار عالمية تصل لتريليونات الدولارات كنتيجة مباشرة لقرار الحزب الشيوعي الصيني، حسب قوله.[9]

ولم يتوقف الأمر عند انتقاد تعامل الصين مع الجائحة، بل شنت الولايات المتحدة سلسلة انتقادات ضد بكين لانتهاكاتها في هونغ كونغ وضد أقليات الأويغور المسلمة في إقليم شينغ يانغ، ناهيك عن ممارساتها في بحر الصين الجنوبي، الأمر الذي فسر على أنه استغلال أمريكي للجائحة لممارسة المزيد من الضغط.

دفعت طريقة تعامل الولايات المتحدة هذه واستغلالها للأزمة الصين للتحذير على لسان وزير خارجيتها “وانغ يي” من “حرب باردة جديدة”، واصفًا تلك التصريحات “بفيروس سياسي” يجبر المسؤولين الأمريكيين على مهاجمة بلاده باستمرار. [10]

وما يجري يزيد من تأزم العلاقة الصينية الأمريكية المتوترة أصلاً منذ عامين على خلفية الحرب التجارية التي أطلقتها إدارة ترامب وفرض خلالها رسومًا جمركية على بكين.

هذه الساحة من الصراع لم تقتصر على الجانب الاقتصادي والوبائي، بل امتدت لمحاولة إدخال الهند ضمن الصراع واستقطابها من قبل الولايات المتحدة، حيث نشرت صحيفة “الفايننشال تايمز” تقرير تحدث عن إثارة تحالف ترامب العميق مع الهند قلق بكين وهو ما ساهم في زيادة حدة التوترات الحدودية بين الصين والهند، مبينة أن “الهند نشطت في العديد من الخطط الأمريكية التي تستهدف الصين وإذا انضمت للدائرة الصغيرة التي تنظر إليها الصين كعدو متخيل، فسوف تتدهور العلاقات الصينية الهندية”.[11]

ويرى البعض أيضًا أن الولايات المتحدة تحتاج إلى الهند لإضعاف نفوذ الصين ونشر جغرافيا سياسية إقليمية لصالحها، وجر الهند إلى جانبها نكاية بالصين وروسيا، فنيودلهي بالنسبة للولايات المتحدة هي شريك استراتيجي مربح تحتاج إليه للانضمام إلى التحالف مع اليابان وأستراليا، وترى واشنطن أيضًا أنه بإمكانها من خلال تعزيز الشراكة التجارية والاقتصادية مع الهند توجيه ضربة قوية لموقف الصين في المنطقة. [12]

أهم ملامح المشروع الصيني

يستمد المشروع الصيني أهم أهدافه من ميراث هذه الدولة العريقة والتي تقلّبت عليها أنظمة الحكم عبر آلاف عدة من السنين، فتشكّلت شخصيتها وهوية سكانها، بمساحتها الواسعة وثرواتها الهائلة والجغرافيا السياسيّة، فرسخت في نفوس أبنائها أنّها هي موطن الحضارة ومركز العالم، وكانت على مدى تاريخها تستعصي الغزاة، إما بالانتصار عليهم وقهرهم، أو باحتوائهم وجعلهم جزءاً منها، كما فعلت بحكم المغول أكثر من مرة، غير أنّ القرن التاسع عشر كان محطة فارقة في هذه المسيرة، إذ شهد قدوم الغربيين من أوروبيين وأمريكيين إلى المنطقة وسيطرتهم عليها عبر حرب الأفيون الأولى والثانية ثم إشعال الحروب الأهلية، فتعرضت الصين لا لنهب ثرواتها فحسب بل لحالة من المهانة والإذلال لم يسبق لها مثيل في تاريخها، وكان هذا سبباً أساسيّاً بانهيار النظام الإمبراطوري الذي وقف عاجزاً عن حماية الصين، وظهور حركات التحرر الوطني والاجتماعي كالحركة الشيوعية، والتي جعلت من أهم أهدافها التخلص من الاستعمار، والتخلص من ميراث الكونفوشيوسية وبناء منظومة اجتماعية جديدة تجب كل ميراث التخلف، واستعادة الصين لدورها التاريخي كمركز للمدنية.[13]

الهدف كان اكتساب ما يكفي من القوة كما ونوعاً بحيث يكفل ألا يتكرر ما حدث من إذلال للصين، واستعادة دورها في قيادة العالم، وقد حدّدت تاريخاً لبلوغها ما ترجو وهو مائة عام على تأسيس جمهورية الصين الشعبية.

وجعلت أمامها مجموعة من الشروط كي يتحقق ما سبق، أهمها:

  • الحفاظ على الوحدة والاستقرار الداخلي
  • عدم التورط في نزاعات خارجية
  • المحافظة على نسبة نمو اقتصادي بين 10-7%
  • السعي للتطور التقني

وأصبح لدى الصين دور فعال خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وخالفت توقعات الكثيرين في أن يكون انهيارها هو التالي، وتمكنت من الصعود والاستمرار مع احتفاظها بالنظام السياسي الشيوعي، وواكبت التنمية الاقتصادية التي جرت في الصين، تحديثًا للقوة العسكرية والنووية، التي وضعت خلال الفترة الممتدة من 2009 إلى 2013، ضمن أكبر خمس دول مصدرة للسلاح في العالم.[14]

عززت التنمية الاقتصادية المصحوبة بالتحديث العسكري، من توسيع نفوذ الصين الإقليمي والعالمي، وفي نفس الوقت عززت من فرص توتر العلاقة مع الولايات المتحدة مستقبلًا، وجعلتها تنتقل من التعاون إلى الصراع، مع التوقع بحدوث مواجهة في حال استمرار الصراع على الهيمنة ومحاولة واشنطن الحد من مشروع بكين.[15]

وبدأ انتقال الصين المعاصرة إلى سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978م، وهذه السياسة كانت تعني عمليًا الإصلاح في الداخل والانفتاح خارجيًا، وإصلاح الهياكل الأساسية في الاقتصاد، والانفتاح على معظم دول العالم، ولغاية 2004 كانت الصين تقيم علاقات دبلوماسية مع نحو 87% من الدول.[16]

وأصبحت الصين تحتل المركز الأول عالميًا من حيث النمو ومن حيث الاحتياطي النقدي الأجنبي، والثانية من حيث الإنفاق العسكري بحسب أرقامها المعلنة، ومن حيث جذب الاستثمارات متفوقة في ذلك على الولايات المتحدة، والثالثة في التجارة الدولية والرابعة من حيث الناتج المحلي، والخامسة من حيث عدد الرؤوس النووية، كما إنها من الدول التي لها برنامج فضاء متقدم.[17]

وانتقلت بين الأعوام 1978 و2004، من ناتح محلي 147.3 مليار دولار إلى 1.65 تريليون دولار، حيث تضاعف حوالي 11 مرة بمعدل نمو سنوي بلغ حوالي 9.4%، أما حجم التجارة الخارجية فقد ارتفع عن نفس الفترة من 20.6 مليار دولار إلى حوالي 1.5 تريليون بمعدل نمو 16%، أما الاستثمارات الخارجية المباشرة، فارتفعت من 1.8 مليار دولار إلى حوالي 60.6 مليار دولار، وارتفع احتياطي البلاد من العملة الصعبة من حوالي 167 مليون دولار إلى حوالي 700 مليار دولار.[18]

وانتقلت الصين من موقف الحياد في المسائل الدولية إلى مرحلة اتخاذ القرارات التي تؤثر على تلك المسائل مما ينعكس على الساحة الدولية، وتلك المواقف قائمة على مبدأ الاستقلال والتمسك بزمام المبادرة، وتحدد الصين موقفها وسياستها في جميع الشؤون الدولية انطلاقا من المصالح الأساسية للشعب الصيني، وترى أنها لا تخضع لأي ضغوط خارجية.[19]

وأحد المشاريع الكبرى التي تحاول الصين من خلاله وضعها الجيوستراتيجي، هي مبادرة “الحزام والطريق”، والتي أحد أهدافها بالنسبة للصين هو تعزيز الاستقرار وبناء الثقة السياسية إقليميًّا مع دول الجوار، وعالميًّا مع القوى الكبرى، لكن هذا المشروع يواجه الكثير من المشاكل، خاصة الحدودية، سواء البرية أو البحرية مع معظم دول الجوار، وبعض التي تصل إلى حد الأزمات والنزاعات كما هو الحال مع الهند برًّا أو في بحري الصين الشرقي والجنوبي بحرًا، وهو الأمر الذي تستغله الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الصيني.

وأطلق تلك المبادرة الرئيس الصيني “شي جينبينغ” خلال زيارته إلى كازخستان عام 2013، والتي أصبحت تشكِّل المحرك الأساس للسياسة الصينية داخليًّا وللدبلوماسية الصينية خارجيًّا، وأدرجت رسميًّا عام 2014 ضمن خطة أعمال الحكومة.[20]

كيفية أدارة الصين لأزمة كورونا وتوظيفها على الصعيد الخارجي

أعربت الولايات المتحدة بشكل مستمر عن تخوفها من الطموحات الصينية، وقلها بشأن التحديث العسكري الصيني واستخدامه في النزاعات الإقليمية لتحقيق مطالبها خاصة في بحر الصين الجنوبي، التي تشهد وجود عسكري وأمني قوي لواشنطن.[21]

وعلى الرغم من تطور العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين، إلى أنها تشهد توترًا في ظل توجيه الكثير من التساؤلات إلى الإدارة الأمريكية والكونغرس حول كيفية الرد على الصعود الصيني وتوسعه الاستراتيجي وتهديده للمصالح الأمريكية.[22]

وبرزت جائحة كورونا كساحة يمكن استغلالها في المواجهة بين الطرفين، ومحاولات للحد من نفوذ واشنطن أو توسيع هيمنة بكين، وظهر تساءل حول طريقة تعامل الصيني مع الفيروس، وكيف استفادت منه لتحقيق المكاسب.

وأظهرت الصين خلال تعاملها مع أزمة كورونا قدرات إدارية أثارت الكثير من الإعجاب، مستفيدة من نظامها الذي يتسم بالمركزية الصارمة وقدرته على الإدارة للمجتمع ومؤسسات الدولة، في الوقت التي كانت نظيراتها من دول أوروبا كإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة في حالة من التخبط، مما ساعد على انتشار الفيروس، وسط شعور بالعجز، وبروز الخلافات حول سبل التعامل مع الجائحة، بل وإلقاء اللوم على الآخرين، في الوقت الذي دفع النجاح الصيني في تجاوز الأزمة، للتساؤل هل ينبغي الاستفادة من النموذج الإداري والحاكم في الصين واقتفاؤه؟.[23]

ومما عزز هذا التساؤل، هو أن الدول التي حذت حذو الصين من تسخير لقوة الدولة الإدارية والأمنية ومزجت بينهما، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية و”إسرائيل”، استطاعت أن تحقّق نجاحاً مشابهاً، وبالتالي جعل السؤال التقليدي حول مدى مشروعية وأخلاقية استخدام هذه الأساليب الأمنية التي عادة ما تصنّف على أنها تنتهك الخصوصيّة الفردية، يتراجع ويبرز طرح متصل بحتمية التضحية ببعض ثمرات وجوانب الحرية الفردية والديمقراطية للحفاظ على بقاء النوع البشري، وهنا بدأ النموذج الصيني يتحول من نموذج مقلق للكثيرين إلى نموذج مثالي أو على الأقل يمكن تفهمه، وهو انتصار كبير للصورة الذهنية الصينية.[24]

ويعد كورونا مثالًا جيدًا على كيفية استيعاب الحكومة في بكين للأزمة الصحية غير المسبوقة، ليس فقط على صعيد قدرتها الطبية والإدارية والسياسية، بل على صعيد تعزيز نفوذها الدبلوماسي وتحسين صورتها الدولية وتحدي الوضع المهيمن للولايات المتحدة كنموذج عالمي يحتذى به بالرعاية الصحية.

وانتهجت بكين “سياسات الكرم” مع الدول لمواجهة الفيروس في ظل نجاحها المبكر في التصدي لكورونا، خاصة مع دول شرق وجنوب أوروبا، وحققت نجاحات دولية، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تشهد تعبئة متأخرة لإدارة الرئيس دونالد ترامب ضد الفيروس، وفوضى وانقسامات في الاتحاد الأوروبي، وانشغال كل دولة بأزمة الصحة المحلية الخاصة بها.

وينظر الحزب الشيوعي الصيني إلى معركته ضد فيروس كورونا في سياق المنافسة الاقتصادية والجيواستراتيجية العميقة، وفي سياق “حرب باردة جديدة” مع الولايات المتحدة، وتختلف هذه الحرب الباردة الجديدة من ناحية مهمة عن الحرب القديمة بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وهي أن الصين الآن جزء من الاقتصاد العالمي ومستوى الترابط الاقتصادي والاجتماعي والبشري بين هذا البلد وبقية العالم أعلى بكثير من الاتحاد السوفياتي.[25]

واستفادت الصين من الولايات المتحدة، من نظام العولمة، لزيادة المنافسة الاقتصادية والجيواستراتيجية والأيديولوجية وبلورتها، وساعدت بكين على زيادة قوتها ومكانتها إلى حد أصبح ينظر لها كقوى بديلة مستقبلًا عن واشنطن.[26]

ولا يمكن لحلفاء الولايات المتحدة في كل من آسيا، وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وأوروبا تجاهل هذه البيئة الجيواستراتيجية ثنائية القطب الجديدة، خلال محاولة الحفاظ على علاقة عمل مع الصين خاصة في جانب مواجهة الوباء.[27]

وقد أبرزت هذه الأزمة الصحية على مستوى الكوكب مدى اعتماد العالم على الصين، ليس فقط فيما يتعلق بالمنتجات الطبية والصيدلانية بل في الجانب الإداري أيضًا، مما دفع الولايات المتحدة وحلفاءها على وجه الخصوص لمحاولة تقليل هذا الاعتماد والتعويض عن الخسائر السياسية بفعل “الأنانية” التي استخدمتها الدول في مساعدة بعضها البعض خاصة دول الإتحاد الأوروبي، الذي يعد تعاملها مع إيطاليا نموذج على هذه السياسية التي أضرب وعززت الصدع بين الدول، ويحاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بذل جهود متزايدة ليس فقط لإدارة الوباء في الداخل ولكن أيضًا لمساعدة الدول الفقيرة على هزيمته في محاولة للتعويض جزئيًا المنفعة الدبلوماسية التي يمكن أن تستفيد منها الصين.

وخلال سيطرتها على الوباء داخليًا، أطلقت الحكومة الصينية حملة دولية غير مسبوقة طالبت فيها دبلوماسييها تسليط الضوء بشكل استباقي على تفوق نظام الحزب الواحد الصيني على الديمقراطيات “الغربية”، وإقناع السلطات والنخب في الدولة التي يعملون فيها للثناء على الصين لإدارتها للأزمة.[28]

كما حاولت جاهدة تقديم نفسها على أنها تلميذ نموذجي لمنظمة الصحة العالمية، مؤكدة حقيقة أنها أبلغتها دون تأخير بشأن ظهور الوباء، بالإضافة لإظهار نفسها كنموذج يحتذى به من حيث التعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية القائمة، وهو الأمر التي تحاول الولايات المتحدة نفيه.

بشكل عام منذ أوائل مارس، كانت الدبلوماسية الصينية موجهة بالكامل لخدمة الحرب ضد الفيروس وإظهار تضامن الصين مع العالم بأسره بالإضافة إلى دورها الرائد في هذه المعركة، وروجت لنفسها على أنها “الأخ الأكبر” المتمرس لمساعدة البلدان الأخرى على فهم الفيروس وتقديم الأقنعة وغيرها من معدات الوقاية الشخصية بسرعة.[29]

وربما كانت مساعدة الصين لإيطاليا، وهي أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تضررت بشدة من الفيروس الأكثر إثارة، حيث كانت ألمانيا وفرنسا في نفس الوقت ولأسباب تتعلق بـ “الأمن القومي على حد زعمهم”، تمنعان تصدير الأقنعة والمواد الطبية الأخرى إلى إيطاليا، لكن بكين أرسلت فريقًا طبيًا متمرسًا وسلمت كمية كبيرة من المعدات إلى روما، والأهم من ذلك أنها استخدمت هذا المساعدة في دعايتها، سواء في وسائل الإعلام الخاصة بها أو على حسابات الدبلوماسيين على تويتر.[30]

وفي الوقت الذي كانت إيطاليا تنتقد بشدة سلوك ألمانيا وفرنسا، كانت وسائل إعلامها تشيد في الدعم الصيني، وتعبر عن امتنانها لبكين، وهو الأمر الذي استفاد منه إلى حد كبير الحزب الشيوعي الصيني للترويج لدور بلاده في مساندة الدول في مواجهة الوباء في ظل تخاذل الدول الغربية عن ذلك.[31]

كما استفادت دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، مثل إسبانيا والمجر، والدول الأعضاء المرشحة للانضمام إلى الاتحاد مثل صربيا من “دبلوماسية قناع الوجه” الصينية، حيث شجبت افتقار الاتحاد الأوروبي للتفاعل والتضامن، لدرجة أن صربيا أعلنت صراحة أن الصين كانت أكثر فائدة من الاتحاد الأوروبي في حربها ضد الفيروس.[32]

وأصبح ينظر للفيروس على انه “ناقل” جديد لنفوذ الصين، وبشكل عام، ساهمت المساعدة الصينية في الوقت المناسب ليس فقط في تقسيم الاتحاد الأوروبي ولكن في تسليط الضوء على عدم استعداد الاتحاد لتقديم المساعدة لدوله والانقسام والفوضى التي يعيشها.[33]

مظاهر تأثر العلاقات الأمريكية الصينية بأزمة كورونا وإلى أين تتجه

كما ذكرنا سابقًا، فقد استغلت الصين جائحة كورونا لخدمة أهدافها الإستراتيجية والسياسية، وحولت الأزمة الصحية إلى أداة إعلامية مستغلة التخبط العالمي الحاصل جراء الوباء، وهذا ما زاد من القلق الأمريكي تجاه تحركات بكين، وهو الأمر الذي سيدفع الإدارة الأمريكية بتجاه التفكير والبحث عن أساليب وخطط لمواجهة التمدد الصيني.

وهناك مدرستان في التعامل مع الصين، وهما مدرسة الاحتواء والتي تدعو إلى تعزيز العلاقة مع الصين وصولاً إلى الاعتماد المتبادل ما يجعل التهديد الصيني للغرب تهديداً للذات نتيجة التداخل الاقتصادي بين الطرفين، ومدرسة المواجهة والتي سعت إلى عزل الصين وقطع طريقها للصعود.

ومنذ قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدا واضحًا أنّه يتبنى سياسة تميل إلى تعزيز الهوية الوطنية وتغليب المصالح الذاتية على حساب حتى أقرب الحلفاء كالأوروبيين واليابانيين، وضغط عليهم ليتوقفوا عمّا يصطلح عليه “بالركوب المجاني” Free Riding، وطالبهم بدفع حصتهم المستحقة كشركاء ومستفيدين من حلف شمال الأطلسي، والتوقف عن الاستفادة المجانية من على القوة الأمريكية لضمان أمنهم بينما يقومون هم بصرف الأموال على أغراض غير عسكرية وإلقاء العبء المالي الكامل على كاهل الولايات المتحدة.[34]

أمّا على الصعيد الآسيوي فقد ألغى الاتفاقية للتجارة العابرة للمحيط الهادي (The TransPacific Partnership (TPP)) والتي وقّعها سلفه الرئيس أوباما مع مجموعة من الدول الآسيويّة، والتي تمنحهم شروط تفضيلية لجذبهم بعيداً عن الصين التي يمكن أنّ تقدم لهم الإغراءات الاقتصادية، وهو ما أحدث شرخاً عميقاً في الثقة بين هذه البلدان والولايات المتحدة الأمريكية، ثم سرعان ما قام بإشعال حرب تجارية مع الصين خلافاً لأنظمة منظمة التجارة الحرّة، متهماً إياها بالتجسس وسرقة حقوق الملكية الفكرية والتلاعب بقيمة اليوان، داعيّاً إياها إلى تعديل الميزان التجاري المختل بشدة لصالح بكين.[35]

ويبدو أنّ هذا الموقف يتناسب مع التوجه اليميني الذي يتبناه ترامب، والذي يرفع شعار “أمريكا أولاً”، ويميل إلى الانكفاء على الذات، وقد ظهر ذلك بجلاء منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الحكم حين أعلن عن حظر دخول رعايا ست من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة وبناء جدار مع المكسيك لمنع المهاجرين.[36]

وجاء فيروس كورونا في جو مليء بالشك بين الولايات المتحدة والصين، فقام كل منهما باتهام الآخر بتصنيع الفيروس والإضرار بالآخر، رغم عدم ثبوت صحة هذا الادعاء، بغية إلقاء مسؤولية التقصير والعجز عن مواجهة الفيروس على قوة خارجية تريد تدمير الحضارة الأمريكية، وهو يتناسب مع طروحات اليمين عادة، وتهديد استعماري غير مستبعد، في حالة الصين.

وبات مزيد من أصحاب الرأي على مستوى العالم مقتنعون اليوم، بحصول مواجهة كبيرة بين البلدين في مدى منظور، نتيجة لحدة التصريحات الأمريكية التي لم تعد تخفي ضيقها من الصعود الصيني وتدعو لوضع حد له قبل فوات الأوان، ولكنّهم يختلفون في شكل هذه المواجهة وحجمها وتوقيتها وآثارها، ويرون أنّ كورونا ربما يكون عاملاً مسرّعاً لهذه المواجهة المرتقبة والتي أول إرهاصاتها ستكون الحرب التجارية القاسية بين الطرفين.[37]

وتعتبر المنافسة الأميركية الصينية مختلفة، حيث يجمعهما تعاملات تجارية تفوق قيمتها 700 مليار دولار سنويًا،[38] وتستضيف الجامعات الأميركية ما يزيد على 350 ألف طالب صيني، وقبل جائحة كورونا استمتع بالسياحة في الدولتين ملايين الأميركيين والصينيين، وتتبنى الدولتان نظمًا وسياسات اقتصادية غير متعارضة، ويقلل كل ذلك من وقوع مواجهة شاملة بينهما.[39]

وتعتبر الإدارة الأمريكية ملف الطلبة ساحة للضغط الصين، وقررت منع منح تأشيرات دخول طلبة الدراسات العليا والباحثين الصينيين إلى الولايات المتحدة، متحججة بأن القرار يهدف لمنعهم من “سرقة الأبحاث الحساسة”، ومكررة اتهاماتها بشأن الممارسات التجارية الصينية غير العادلة والتجسس الصناعي، بما في ذلك محاولات سرقة أبحاث فيروس كورونا، وإساءة استخدام تأشيرات الطلاب لاستغلال الأكاديميين الأمريكيين.[40]

وتحاول واشنطن أيضًا الدفع نحو إلى إشراك الصين في المحادثات المقبلة للحد من التسلح مع روسيا، كما جاء في تصريح للرئيس الأمريكي، الذي أكد أن الولايات المتحدة ملتزمة بالرقابة الفعالة على الأسلحة التي لا تشمل روسيا فحسب بل الصين أيضا، وتتطلع إلى إجراء محادثات مستقبلية لتجنب سباق تسلح مكلف.[41]

بالمقابل فإن، سيناريو المواجهة العسكرية بين القوتين العظميين لم تعد ترسمه دوائر صنع القرار الغربية فقط، ولكنه بات يدخل في حسابات الصين أيضًا، وكان تقرير سري صيني حذر من موجة عداء غير مسبوقة اتجاه بكين في أعقاب جائحة كورونا، عداء من شأنه أن يؤسس إلى حرب باردة جديدة وربما مواجهة عسكرية في المستقبل.

ونقلت وكالة “رويترز” في بداية شهر مايو عن مطّلعين على التقرير الذي أعدّته وزارة أمن الدولة الصينية، بداية شهر أبريل 2020، أن “المشاعر العالمية المناهضة للصين وصلت أعلى مستوياتها منذ حملة ميدان تيانانمين عام 1989″، ونصح التقرير الصين بالاستعداد “لمواجهة عسكريّة بين القوتين العالميتين في أسوأ سيناريو”.[42]

وتعتقد بكين بأن الولايات المتحدة في عهد ترامب باتت مصممة أكثر من أي وقت مضى على احتواء صعود قوتها بكل الوسائل، وتنظر للصعود المتنامي لبكين باعتباره تهديدًا لأمنها القومي وتحديًا للديمقراطيات الغربية، وتعمل لإضعاف مكانة الحزب الشيوعي الحاكم من خلال تقويض ثقة الصينيين فيه.[43]

وفي أعقاب أحداث ميدان تيانانمين قبل ثلاثين عامًا، فرض الغرب حزمة عقوبات على الصين، شملت حظرًا على نقل التكنولوجيا وبيع الأسلحة، غير أن الصين اليوم باتت عملاقًا اقتصاديًا وطورت قدرات عسكرية هائلة بحرية وجوية، قادرة على تحدي الهيمنة العسكرية الأمريكية في آسيا، وتعمل على تطوير قوة قتالية مؤهلة للنصر في الحروب الحديثة في تحد واضح لأكثر من سبعين عامًا من الهيمنة العسكرية الأمريكية على آسيا.

من جهة أخرى، تنظر أوروبا بقلق كبير لتوتر العلاقات بين واشنطن وبكين، ففي دراسة لـ “مؤسسة العلوم والسياسة” الألمانية نشرت في فبراير 2020 في برلين، أكدت أن الأمر يتعلق باستكشاف توازنات جديدة بين القوتين العظميين وإن كانت لكل واحدة منهما رؤيتها الخاصة، إلى أن هناك مؤشرات تؤكد أن الرئيس الأمريكي يرى في التفوق وبالأخص الهيمنة العسكرية، هدفًا في حد ذاته، وليس بالضرورة أداة في خدمة مصالح وقيم معينة، فيما يبدو أن الرئيس الصيني تقوده رؤية للنظام العالمي يكون فيها التفوق الصيني هدفًا ووسيلة في نفس الآن.[44]

الدراسة دعت إلى تطوير سياسة أوروبية “غير قُطْرِيًة” اتجاه الصين تقوم على استراتيجية تعزز السيادة الأوروبية، وهذا يتطلب التعامل مع بكين بأدوات “فوق وطنية” بهدف تأكيد “استقلالية استراتيجية”، ودعت الدراسة إلى تحقيق معادلة صعبة تقوم على “إعداد أوروبا لتنافس حامي الوطيس، مع تقوية النجاعة الاجتماعية والتكنولوجية، دون إضعاف علاقات التعاون المتداخلة”.

بالمقابل فإنّ الصين ترد على الاتهامات الموجهة إليها بالعمل بصمت وعدم محاولة استفزاز القوى الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة، وتقدم نفسها على أنّها قوة غير استعمارية، بل قوة تسعى لمساعدة الدول النامية وتبادل الخبرات والخدمات مع الدول الأخرى، مستشهدة بتاريخها الطويل الذي يميل إلى الانكفاء على الذات إلى درجة بناء سور الصين العظيم حول نفسها، وتعزيز علاقاتها من الآخرين من خلال عدم استخدام القوة العسكرية لتسوية الخلافات، والتعاون الاقتصادي القائم على مبدأ “الجميع رابح”، وعدم التدخل في سياسات الدول الداخلية، أو دعم الثورات والحروب بالوكالة كما تفعل الدول الغربية، وأبعد من ذلك تسهل نقل التكنولوجيا الصناعية وخطوط الإنتاج إلى الدول الفقيرة وتساعد في مشاريع التنمية وتقدم القروض دون شروط صعبة والمساعدات عند الحاجة.

هل سيميل العالم إلى الانكفاء على الذات، وكيف سيؤثر ذلك على المشروع الصيني؟

سلّط تقطّع خطوط المواصلات في العالم، نتيجة لإجراءات الوقاية من كورونا، وعمليات “القرصنة” بين الدول على البضائع والشحنات الضوء على أهمية الاكتفاء الذاتي في تأمين الحاجات الأساسيّة للدول، أو على الأقل الإبقاء عليها في متناول اليد في دول مجاورة، ولذا فإنّ العديد من المفكرين يرون أنّ ذلك سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد الصيني وخصوصاً قطاع الصناعة، بحكم أنّ أية استعادة للصناعات إلى الداخل سينقص –على الأرجح- من حصة الصين والتي يُطلق عليها لقب “مصنع العالم”، إذ تعتبر بكين أكبر مصدر للمنتجات الصناعية، غير أنّ هذا التوقع أمامه مجموعة من التحديات، أهمها أنّ تحوّلاً من هذا النوع سيحتاج بعض الوقت، وكما أنّ له تأثير سلبي على الاقتصادات المحليّة.

وساهم فيروس كورونا في إظهار عيوب نمط الاقتصاد العالمي الحالي المتمثلة في قيام الدول التي تخصصت بإنتاج وتصدير الأغذية ومستلزمات الحماية الطبية بوضع قيود على تصديرها، كما فعلت مؤخرًا أوكرانيا وروسيا وفيتنام على صعيد الأغذية، والولايات المتحدة وألمانيا ودول أخرى على صعيد المنتجات الطبية، في الوقت الذي انحسرت الحياة اليومية في ذروة الموجة الأولى من انتشار الفيروس لثلث سكان الكوكب على الأقل، بين مكان السكن ومتاجر الأغذية والمشروبات والمنظفات المنزلية والصيدلية، حيث توقفت بين ليلة وضحاها آلاف المصانع والمؤسسات ومعها عشرات الملايين عن العمل.

ومع هذا التوقف، برزت ظاهرة “القرصنة” على البضائع الطبية، حيث كانت هناك اتهامات بين الدول في سرقة الشحنات الطبية، ومن ذلك تهم فرنسية وألمانية للولايات المتحدة بقرصنة شحنات طبية بأسعار خيالية سبق لجهات فرنسية وألمانية أن اشترتها، وبدورها ترفض واشنطن رغم الأسباب الإنسانية رفع العقوبات عن تزويد إيران وفنزويلا وسوريا وكوبا ودول أخرى بمعدات طبية لمواجهة كورونا.

وفي أوكرانيا أيضا، يوجه هذا النوع من التهم للأميركيين ولكن معهم الروس والفرنسيون، حيث قال النائب الأوكراني “أندري موتوفيلوفيتس” على صفحته في فيسبوك إن “قناصلنا الذين ذهبوا إلى المصانع الصينية وجدوا زملاءهم هناك من دول أخرى (روسيا والولايات المتحدة وفرنسا) وهم يحاولون استلام طلباتنا، لقد دفعنا مقابل طلباتنا مقدما عن طريق التحويل المصرفي ووقعنا على عقود، لديهم المزيد من المال والنقد، نحن نقاتل من أجل كل شحنة”.[45]

وكان أندرياس جايزل وزير داخلية ولاية العاصمة الألمانية برلين قال إن مسؤولين أمريكيين في تايلاند صادروا كمامات وجه طبية، متهمًا الولايات المتحدة بـ “القرصنة العصرية” واستخدام “أساليب الغرب المتوحش”.

في سياق متصل، قامت شركة إيرباص الأوروبية لإنتاج الطائرات بنقل ملايين الأقنعة الطبية من الصين إلى أوروبا ضمن “جسر جوي” تنفذه الشركة الأوروبية للتعامل مع أزمة كورونا في ظل شح الأقنعة وزيادة إنتاج بكين منها.[46]

وأقر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “قانون الإنتاج الدفاعي” الذي يعود إلى زمن الحرب الكورية ويسمح للرئيس بإجبار القطاع الصناعي على إنتاج المعدات الطبية، وكذلك إجبار الشركات الأميركية على التوقف عن بيعها للخارج.

ولدى سؤاله عن سبب تفعيل القانون الآن، قال إنه سيتم استخدامه لضمان حصول الولايات الأميركية على كمامات ومعدات أخرى ضرورية لمكافحة الفيروس.[47]

ومما يزيد الأزمة، هو غياب تشكيل خلية أزمة عالمية للتخفيف من حدة المشاكل الناتجة عن مثل هذه الإجراءات، رغم وجود الأمم المتحدة وعشرات المنظمات الدولية المتخصصة بالشأن الاقتصادي، ومن شأن وضع كهذا أن يدفع الدول التي خفضت في ظل العولمة الحالية وتقسيم العمل الدولي الحالي، عن إنتاج أغذيتها وأدويتها وسلعها الأخرى الضرورية والاستراتيجية للعودة إلى إنتاجها محليًا تحسبًا لنقص قد يؤدي إلى انتشار الجوع وحدوث انهيارات في نظمها الصحية.

ولا تقتصر قائمة الدول التي هجرت الإنتاج على دول فقيرة ونامية كدول عربية وأفريقية، فهي تشمل أيضًا قائمة من البلدان الصناعية مثل إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، ومما تعنيه هذه العودة قيام الدولة بدور أكبر في اقتصاد الإنتاج الواقعي على حساب اقتصاد المضاربات والمشتقات المالية الافتراضي والرأسمالية المتوحشة.

وعلى الجانب الآخر، تعمل الصين دون كَلَل على رفع مستوى دخل الفرد حتى وصل حسب آخر الأرقام إلى قرابة 14 ألف دولار، وهو ما سيؤدي إلى تفعيل السوق الداخلي الهائل والأكثر أمناً، كبديل عن السوق الخارجي الذي تكتنفه عادة الصعوبات والضغوطات، بالإضافة إلى ذلك فقد عملت الصين على إنشاء أكبر شبكة قطارات سريعة في العالم، مما سيسهم دون شك، في شد أواصر مناطق الدولة الداخليّة وتمكنيها وتفعيل طاقاتها، ويسهّل العمليات التجارية من خلال التواصل الرخيص مع العالم، وهو ما سيعطي الاقتصاد الصيني دفعة إضافية.

كما يجب لفت النظر إلى أنّ مستوى التمدن “”Urbanization في الصين ما زال أقل من نصف عدد السكان، وهذا يشكل فرصة للتطور والنماء، وسيصب أيضاً في خانة الاقتصاد في النهاية، فضلاً عن أنّ الصين اليوم تسعى أصلاً للتخلص من الصناعات غير المتطورة والتي تستهلك الكثير من الطاقة وتلوّث الجو، وتسعى إلى التركيز على الصناعات المتقدمة Hi-tech، وتطوير قطاع الخدمات.[48]

بالمقابل، فإنّ الصين قد استعادت عافيتها سريعاً من أزمة كورونا، وعملت على إعادة عجلة الإنتاج للدوران مجدداً حتى قبل أن تستيقظ الدول الأخرى من وطأة الوباء.

وما زالت ترى كثيراً من الدول الآسيوية والإفريقية ودول أمريكا الجنوبية وشرق أوروبا، مصلحتها بالتعاون مع الصين والاستفادة من قوتها الاقتصادية، والتي عادة تأتي خالية من الشروط المعقدة، والضغوط السياسيّة، خلافاً للعلاقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية والتي تعاني بدورها من أزمة اقتصادية من المتوقع أن تزداد بسبب أزمة كورونا.

وفي الوقت الذي استخدمت فيه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الوباء للتنصل من الاندماج العالمي، حرصت الإدارة الصينية على توظيف الأزمة لإظهار عزمها على قيادة العالم بصفتها البلد الأوّل الذي تعرّض لضربة الفيروس، وهو ما ألمحت إليه مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في تقرير لها.[49]

وعلى النقيض من تعامل ترامب الذي أضر بسمعة الولايات المتحدة مع حلفاءها، هناك حزمة من المكاسب من المتوقع أن تخرج بها الصين من وراء أزمة كورونا، على رأسها ما يتعلق بتعزيز اعتماد العالم على الاقتصاد الصيني كمصدر أساسي للموارد والمخرجات، فعلى مدى ثلاث سنوات، كانت إدارة ترامب تحاول الضغط على الصين لوقف ممارساتها التجارية غير العادلة، وذلك باستخدام التعريفات والمفاوضات والإجراءات لحماية الصناعات الأمريكية، الأمر الذي كرهته بكين بصورة كبيرة بداية الأمر، وعلى مضض أبرمت فقط صفقة “المرحلة الأولى” التجارية التي تعالج القليل من هذه القضايا.

لكن كل هذا ربما يأخذ منحنى مختلف بعد أزمة كورونا، وفق ما ذهبت إليه صحيفة واشنطن بوست “Washington Post” الأمريكية في تقريرها، الذي أشارت إلى أن العديد من الوكالات الحكومية والمسؤولين باتوا يتحدثون علناً عن مكاسب الصين من أزمة كورونا في مجالات متعددة، وكيفية استفادتها من كونها أول دولة تبدأ في التعافي من الفيروس للهيمنة على صناعات المستقبل.[50]

رأت الصحيفة أيضًا، أن الصين لديها استراتيجية ما بعد الفيروس، وهي قيد التنفيذ بالفعل، وتخطط لاستخدام التباطؤ الاقتصادي في الغرب لصالحها، حيث تعتزم البحث عن المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر، والاستيلاء على حصة في السوق في الصناعات الحيوية ومحاولة منع الغرب من مواجهة ما وصفته بـ “سلوكها السيئ”.

أما صحيفة ديلي تلغراف، فقالت في مقال للكاتب “ويليام هاغ”، إن أزمة كورونا بدت وكأنها تعمل لصالح الميزة الجيوسياسية للصين، فبعد ستة أشهر من الآن، سيكون للبلد الذي وُلد فيه الفيروس والذي تستّر على خبر انتشاره في البداية، العديد من الفرص ليكون أقوى.[51]

ويضيف الكاتب أن الغياب الاستثنائي للقيادة العالمية من الولايات المتحدة هو سبب آخر سيجعل من الصين قوة كبرى، مشيرا إلى أن الرئيس ترامب رفض حتى تشجيع الولايات على العمل معًا ضد الفيروس، علاوة على تنظيم أي استجابة دولية منسّقة.

ومنذ صعود الولايات المتحدة إلى الهيمنة، كانت دول العالم تتطلع إلى الولايات المتحدة لقيادة الأزمات، لكن ما حدث هذه المرة، دفع العالم لتفاجئ من التعامل الأمريكي، الذي اتسم بالسخرية من الأزمة وعدم وجود محاولة واضحة للعمل على استجابة دولية موحدة.

هل سيكون العالم مائلاً نحو الصين أم معاد لها؟

واجه سعي الصين منذ تأسيس الجمهورية الشعبية عام 1949م، العديد من الصعوبات منها صعوبات ذاتية تمثّلت بعدم واقعية نظم الإدارة والحكم، وخارجية أهمها الصراع مع الولايات المتحدة على كوريا في بداية الخمسينيات ثم الخلاف مع الاتحاد السوفياتي مع وفاة “سالتين” و”قدوم خروتشوف”، وصولاً المواجهة العسكرية بينهما عام 1962م.[52]

مع تحوّل السياسة الأمريكية تجاه الصين زمن “نيكسون”، واتباع سياسة الاحتواء التي فتحت الباب واسعاً أمام تطوير قطاعات الاقتصاد الصيني المختلفة وعلى رأسها القطاع الصناعي بغية توظيف الصين ضد الاتحاد السوفياتي، ثم رجوع “دينغ” إلى السلطة بعد وفاة “ماو تسي تونغ”، بدأت الصين بالنهوض الفعلي.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات من القرن الماضي، بدأت النظرة الغرب إلى الصين تتحوّل، وترى في الصين خصماً ينمو بسرعة خطرة يمكن أن تهدد هيمنة الغرب على العالم، وعزّزت من هذه النظرة نسب نمو الاقتصاد الصيني العالية وميل الميزان التجاري باتجاه الصين في أغلب هذه الدول، الأمر الذي أعاد للذهن الغربي كيفية نشوء الاستعمار الأوروبي وسيطرته على العالم، فصار يرى في الصعود الصيني يسير على نفس المسار “الحتمي” وفق حتميات تاريخية يبدو الفكاك منها صعباً.

وزاد من مشاعر التوجس والخوف، في الغرب والدول الكبرى المحيطة بالصين كالهند واليابان، إطلاق الرئيس الصيني “تشي جنبينغ: مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013م، والتي تسعى من خلالها إلى تطوير شبكات المواصلات والاتصالات في القارة الآسيويّة وما بعدها، وذلك في البر والبحر، وهو ما تضعه الصين في سياق اقتصادي وتنموي، غير أنّ التطمينات الصينية لا تبدو أنّها تلقى قبولاً وتسليماً في هذه الدول، التي ترى في المبادرة تعزيزاً لنفوذ الصين العسكري والاستراتيجي، بما في ذلك الممرات الاقتصادية الستة التي تحتويها المبادرة وأبرز هذه الممرات اليوم هو الممر الاقتصادي الباكستاني والذي يبدأ من الصين وينتهي في ميناء غوادر الباكستاني على بحر العرب، يضاف إلى ذلك سلسلة الموانئ التي تبنى أو تطوّر بالتعاون مع الصين على طول الطريق من الصين وحتى البحر المتوسط، والتي تعرف في الإعلام الغربي بـ “عقد اللؤلؤ”، والتي يزعم ناقدوها أنّها يمكن أن تستخدم استخداماً مزدوجاً بحيث تتحوّل هذه الموانئ إلى قواعد عسكرية صينية عند اللزوم، أو على الأقل تسمح للبحرية الصينية باستخدامها.[53]

أمّا الجانب الاقتصادي للمبادرة فهو يسعى لتحويل الأنظمة والقوانين الجمركية والضريبية في البلدان المشتركة في المبادرة والتي يبلغ عددها حوالي 70 دولة واعتماد المعايير الصناعية الصينية، وهو ما سيؤدي مترافقاً مع التطور التقني الصيني، إلى منافسة الدول الغربية المتطورة في المجالات التي طالما عدّتها حكراً عليها، ويمكن أنّ يحوّل بؤرة النشاط الاقتصادي في العالم من الغرب إلى الشرق، ويعيد إلى الوجود فكرة “الأرض الوسطى” الصينية، والتي تعدّ الصين مركز العالم ومصدر المدنيّة، ويلقي الدول الغربية المسنّة والتي تعاني من مشاكل اقتصادية عميقة، في الظل.

وقبل أن ينفجر وباء كورونا العالمي بأسابيع قليلة نشر موقع “بيو” للأبحاث استطلاعاً للرأي لمعرفة كيفية نظر الناس إلى الصين، وعكس الاستطلاع، الذي شمل 34 دولة مختلفة، ما بين غربية ومتقدمة ودول نامية من مختلف القارات، موقفاً سلبيًا من الصين.[54]

وكان الفرق واضحا بين الدول، إذ كانت نسبة أصحاب النظرة السلبية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة 57% من الناس مقابل 37 % كانت لهم نظرة إيجابية.

أما في جنوب شرق آسيا، أي الدول المجاورة والقريبة من الصين، فكان الموقف السلبي هو الطاغي أيضاً، وبنسبة مقاربة بلغت 56 % للنظرة السلبية مقابل 35 % لمن لديهم نظرة إيجابية لها، وكانت نسبة من يحملون موقفاً سلبياً من الصين بين اليابانيين هي الأعلى ووصلت إلى 85 %.

وما ظهور فيروس كورونا، تعززت النظرة السلبية للصين، لكن ما تداركها للوضع واتجاهها نحو إرسال المعونات والطواقم الطبية ومساعدة الدول في مواجهة الفيروس في الوقت الذي تشهد فيه الدول الغربية تصدع وصراعات واتهامات بالقرصنة على الشحنات الطبية وتخبط الاتحاد الدولي في التعامل مع الأزمة، يحسن من فرصة الصين في بناء علاقات جديدة مع الدول وتحسين في صورتها.

أما على صعيد الولايات المتحدة، فهناك تنامي للمشاعر المعادية للصين من قبل الحزبين، ويعود الأمر إلى اشتداد المنافسة الجيوسياسية بين الدولتين، وحتى لو لم يفز الرئيس ترامب في الانتخابات المقبلة، فإن المؤكد أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين ستستمر، وستستغل الولايات المتحدة خروج فيروس كورونا من الصين والأخطاء التي ارتكبتها بكين في هذا المجال لتعزيز انتقادها للسلطات هناك.

وأما بالنسبة لحكومات دول مثل إيطاليا واليونان وصربيا، فإنهم كما يبدو ما زالوا سعداء نسبيًا منا لصين بسبب المساعدات التي قدمتها لهذه الدول في مواجهة كورونا، بينما، تنظر حكومتي فرنسا وألمانيا بانزعاج إلى الصين بسبب تحركاته وتصريحاته خلال الوباء، وربما على المدى المنظور ستواصل الكثير من الدول النظر بإعجاب إلى الصين وستعزز تواصلها مع بكين من أجل الحصول على المساعدة في مواجهة الفيروس بشكل أكبر.[55]

كيف يمكن أن يؤثر الصعود الصيني على منطقتنا العربيّة والإسلامّية

في عام 1949 أطلق الزعيم الشيوعي الصيني “ماو تسي تونغ” نظرية “المنطقة الوسيطة”، التي اعتبر فيها أن التناقض الرئيس في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ليس بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وإنما بين المعسكر الإمبريالي بزعامة واشنطن من جهة وبين البلدان الأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية من جهة أخرى، فرأى “ماو” أن أي هجوم أمريكي على الإتحاد السوفييتي غير محتمل طالما أن الولايات المتحدة الأميركية لم تسيطر سيطرة تامة على هذه المناطق الوسيطة.[56]

كما أطلق الصينيون تعبير “الهلال العسكري” الممتد من اليابان حتى الشرق الأوسط مرورًا بكوريا الشمالية وتايوان والهند الصينية وباكستان وإيران وتركيا التي ستسعى الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة عليها، من أجل إحكام التطويق ليس على الاتحاد السوفييتي فحسب، وإنما على الصين أيضا.

وهكذا تتضح مدى الأهمية التي يوليها الصينيون لمنطقة الشرق الأوسط عامة، فهم يعتقدون أنها حلقة رئيسية من حلقات تطويق الصين، إضافة إلى أنها جزء أساسي من المنطقة الوسيطة التي تحرص الصين على النشاط فيها أيديولوجيًا ومصلحيًا، من أجل إبعاد شبح القوى العظمى عنها، وترى أن هذه المنطقة جزء من العالم النامي، الذي تعتبر نفسها تنتمي إليه.[57]

وشهدت فترة السبعينات بداية مرحلة جديدة في سياسة الصين الداخلية والخارجية، حيث ما لبثت الصين أن طرحت تحليلًا جديدًا للوضع العالمي، حيث ظلت الصين في هذه الفترة تعتبر الولايات المتحدة عدوًا أولًا، واشتد التخوف الصيني من أن يشكل الشرق الأوسط موقعًا رئيسيًا في تطوير تطويق بكين من قبل الولايات المتحدة، بسبب تزايد أهمية النفط الإستراتيجية.[58]

وتكمن أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للصين إضافة إلى ما سبق ذكره، لقربها الجغرافي، فضلًا عن التعاون الاقتصادي والسياسي لتلك الدول مع الصين، فمنطقة الشرق الأوسط لها أهمية أمنية واقتصادية بالنسبة لبكين.

ففي تلك المنطقة أسواق ومزودين ومصادر تكنولوجية وتقنية، ومن أهداف الصين لتوطيد العلاقات مع تلك الشعوب هو خلق صورة محببة لها في شعوب الشرق الأوسط، ومن أحد عوامل توطيد تلك العلاقات هو تصدير التقنيات الصينية والتكنولوجيا لمساعدة الدول العربية.[59]

يعتبر الشرق الأوسط منطقة حساسة والوضع فيه له تأثير مباشر في استقرار النظام الدولي، وكما تعتبر مسألة الطاقة والنفط من المسائل والأمور الإستراتيجية التي تسعى الصين إلى الحصول عليها من خلال الشرق الأوسط سعيًا منها لاستكمال وتحقيق عملية التحديث الداخلي لها، ولأن الصين أصبحت ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، وقدرت وارداتها النفطية عام 2004 بنحو 1,3 مليار طن نصفها من الشرق الأوسط، حيث بذلت الصين جهودًا كبيرة لتنويع وارداتها النفطية، لكن الشرق الأوسط يبقى المنطقة الأولى لتوفيره في المستقبل.[60]

وتؤكد التقديرات أن احتياطات الصين من النفط لن تدوم أكثر من 20 عامًا إذا استمر الإنتاج بمعدله الحالي، ومن هنا ليس أمام الصين إلا أحد خيارين إذا أرادت حل معضلة الطاقة، إما بالتوسع في استخدام الفحم مع أضراره المدمرة للبيئة، أو الاتجاه نحو تدعيم علاقاتها بدول الشرق الأوسط والحصول على نصيب من إنتاجها الذي يبلع نصف الإنتاج العالمي وثلثي احتياطه.[61]

ويعدّ الشرق الأوسط سوق اقتصادي كبير لتصريف المنتجات الصينية، وتزداد أهميته لأنه يوفر لها منبرًا لتطوير دبلوماسية متعددة الأطراف ولتقديم الصين نفسها للعالم كقوة مسؤولة، فالشرق الأوسط فيه العديد من النقاط الساخنة مثل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفي شكل أعم الصراع العربي الإسرائيلي، والمسألة النووية الإيرانية وغيرها، وهذه ليست مسائل إقليمية وحسب وإنما عالمية أيضا.[62]

ومع تصاعد قوتها الاقتصادية ومكانتها السياسية تصبح الصين أكثر نشاطًا بالمشاركة في الشؤون الدولية ويوفر لها الشرق الأوسط مكانًا ملائمًا لإظهار رغبتها ودورها، وما ساعد على إعلاء مكانتها في المنطقة هو قيامها بمساهمات في هذه المسائل في إطار الأمم المتحدة وإظهار أن الصين يمكن أن تؤدي دورًا كواحد من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي.

وتقيس الصين نفوذها في الشرق الأوسط ووجودها فيه بشكل أساسي من حيث تأمين إمدادات الطاقة، والعلاقات التجارية، والمنافع التجارية، وتشعر بكين بالارتياح مع سياستها الراهنة المتمثّلة في تجنب الانخراط السياسي في الخلافات العديدة في المنطقة، ويتم فوراً رفض أي تصريحات منفصلة تتعارض مع هذا الموقف مثل ادعاء أحد السفراء عام 2018 بأن حكومته ستنظر في مساعدة النظام السوري على محاربة الثوار في إدلب. [63]

كذلك، تحرص الصين على تفادي الانحياز إلى أي طرف في المواجهة الإيرانية السعودية أو الخلافات بين الدول العربية مثل الحظر المفروض على قطر، وتفضّل التعاطي مع “جامعة الدول العربية” كملجئها الأساسي للحوار، ويشمل ذلك الدعم المتواصل لمواقف “الجامعة العربية” حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

فإحدى عادات الصين للتصويت في “الأمم المتحدة” هي دعم جميع القرارات المعادية لإسرائيل، مع إدراكها تماماً أن حكومات الخليج تسعى بهدوء إلى التعاون مع الحكومة الإسرائيلية على عدة جبهات، لكن طالما يبقى موقفها الرسمي فاتراً، ستستمر الصين في التصويت وفقاً لذلك.[64]

أمّا على مستوى الخارج فإنّ الحضور الصيني سيأخذ منحنى تصاعدياً، ولو بعد حين، وذلك لحماية خطوط الطاقة والمواد الخام والتجارة بشكل عام، وستكون المنطقة العربية وجوارها في القلب من هذا الحضور بحكم الجغرافيا السياسية وتركز مصادر الطاقة فيها.

ولذا فإنّها تعدّ الخاصرة الرخوة للصين التي وإن كانت تحاول تنويع مصادر الطاقة إلا أنّها ما زالت تعتمد بشكل كبير على نفط المنطقة، لذا فقد تتحول المنطقة إلى ميدان مواجهة بين الغرب والولايات المتحدة وتضع دولها أمام تحد كبير يمكن أن يحدد مستقبلها.

وما زال المسؤولون الصينيون يخشون من احتمال قيام حلفاء الولايات المتحدة بإنشاء سيطرةً عسكريّةً مشتركةً طويلة الأجل على الممرات البحرية الممتدة من “قناة السويس” والبحر الأحمر إلى المحيط الهندي وهو طريق رئيسي في الرؤية الاستراتيجية الكامنة وراء “مبادرة الحزام والطريق”.

وبناءً على ذلك، ركّزت بكّين على رفع مستوى العلاقات مع السعودية، وبدرجة أقل، مع الإمارات ودول الخليج الأخرى، وتبدو مستعدة لتزويد الرياض والإمارات بتقنية صواريخ متطورة، ولن تردعها الاحتجاجات من إيران.[65]

وفي غضون ذلك، تملك الصين قاعدةً عسكريةً صغيرةً في جيبوتي وتخطط لإقامة وجود لها في ميناء “الدقم” العماني، لكن المسؤولين سارعوا إلى التأكيد على أن الصين ليست بحاجة إلى تواجد عسكري في أي مكان آخر في المنطقة؛ ولتدعيم هذه النظرية، تشير الصين إلى كيفية قيامها بإجلاء المواطنين الصينيين من ليبيا التي مزّقتها الحرب بدلاً من محاولة حماية مصالحها الحيوية هناك.[66]

الخلاصة

ختامًا، يمكن لنا أن نخرج بالخلاصات التالية، وهي:

حولت الصين محنة فيروس كورونا لفرصة لتحقيق مكاسب على صعيد العلاقات الاستراتيجية والعلاقات مع الدول، مستغلة حالة التخبط والقرصنة التي حصلت بين الدول الغربية نتيجة تراجع الولايات المتحدة عن لعب دور إداري للأزمة، واستغلت الخلافات الأوروبية، وتقاعس الاتحاد الأوروبي عن تقديم الدعم للدول المتضررة من الوباء مثل إيطاليا لمحاولة تحقيق اختراق في الاتحاد، حيث سارعت لتقديم العون لتلك الدول، واستخدمت ذلك لتحسين صورتها إعلاميًا، فيما تنظر الولايات المتحدة للتحركات الصينية وخططها في التعامل مع الفيروس بنظرة الشك والخوف، حيث تتهم الصين بإخفاء المعلومات حول ظهور الفيروس واستغلال الخلافات بين الدول لصالحها، وهو ما ينذر بتصاعد التوتر والتصعيد بين الدولتين، فيما تنظر الدول الأوروبية إلى تصاعد الخلافات بين واشنطن وبكين بقلق، نظرًا لخوفها من تحوله لحرب باردة جديدة، فيما توصي مراكز الأبحاث الأوروبية بتطوير سياسة أوروبية “غير قطرية”، تجاه الصين تقوم على استراتيجية تعزيز السيادة الأوروبية، وفي الوقت ذاته تنظر العديد من الدول إلى أن إدارة ترامب هي المسؤولة بدرجة كبيرة عن النقص الحاصل في القيادة وإدارة الأزمة لاستخفاف إدارة ترامب في الوباء في بدايته، ثم محاولة العمل بسياسة “أمريكا أولًا”، والتلويح بالقرصنة على المعدات الطبية واحتكار الإنتاج في حال اضطرت لذلك.

زادت الجائحة من إصرار الولايات المتحدة وخاصة إدارة الرئيس الأمريكي، على تصعيد الخطط والبرامج لمواجهة الصين ونفوذها ومحاولة منع استغلالها للأزمة لتحقيق المزيد من المكاسب أو لتحسين صورتها الخارجية، وأخر تلك الإجراءات كان قرار واشنطن منع منح تأشيرات دخول طلبة الدراسات العليا والباحثين الصينيين إلى الولايات المتحدة، متذرعة بأنّ القرار يهدف لمنعهم من “سرقة الأبحاث الحساسة”، وهو يوضح أن واشنطن مصمّمة على اتخاذ إجراءات متعددة للضغط على الصين، وفي نفس الوقت تحاول واشنطن الدفع نحو إشراك الصين في المحادثات المقبلة للحد من التسلح مع روسيا، من أجل الرقابة الفعالة على الأسلحة، وتتطلع إلى إجراء محادثات مستقبلية لتجنب سباق تسلح مكلف، ولذا فإن الصين يمكن أن تستخدم هذا الملف وملفات أخرى للتخفيف من الضغوطات الأمريكية.

من المحتمل أن تكون إحدى النتائج للوباء إعادة تقييم العديد من البلدان لاعتمادها على الصين، حيث تسبب الإغلاق الحاصل في بداية الأزمة في الصين بخسائر كبيرة للشركات الأجنبية العاملة هناك، وأثرت على سلاسل التوريد الخاصة بها، وهو ما سيترك أثراً سلبياً على الاقتصاد الصيني إن لم تبادر الصين إلى استغلال السوق الداخلي الكبير والتوجه نحو فتح أسواق جديدة.

تسعى الولايات المتحدة لإحكام الطوق على الصين من خلال السيطرة على “الهلال العسكري” الممتد من اليابان حتى الشرق الأوسط مرورًا بكوريا الشمالية وتايوان والهند وباكستان وإيران وتركيا، وهي تحاول الضغط على الصين من خلال إدخال الهند ضمن الصراع واستقطابها، وهو ما ساهم في زيادة حدة التوترات الحدودية بين الصين والهند، وتحتاج الولايات المتحدة إلى الهند لإضعاف نفوذ الصين ونشر جغرافيا سياسية إقليمية لصالحها، فنيودلهي بالنسبة للولايات المتحدة هي شريك استراتيجي مربح تحتاج إليه للانضمام إلى التحالف مع اليابان وأستراليا، وترى واشنطن أيضًا أنه بإمكانها من خلال تعزيز الشراكة التجارية والاقتصادية مع الهند توجيه ضربة قوية لموقف الصين في المنطقة، ولذا فإن الصين ستتجه على الأرجح إلى تعزيز علاقاتها مع كل من باكستان وإيران وربما تركيا لمواجهة المساعي الأمريكية والتقليل من تأثيرها.

تحتل منطقة الشرق الأوسط مكانة متقدمة في ملف العلاقات الخارجية للصين، لقربها الجغرافي وللتعاون الاقتصادي والسياسي لتلك الدول مع بكين، ويعتبر منطقة الشرق الأوسط منطقة حساسة للصين، وباعتباره سوق للبضائع الصينية التكنولوجية والتقنية ومصدر للطاقة والنفط لبكين، وستشهد المنطقة على الأرجح مواجهات عديدة بين أمريكا والصين على الأرجح، من خلال الضغط على الدول الموالية تقليدياً للولايات المتحدة الأمريكية، كإسرائيل ودول الخليج لأخذ مواقف أكثر تشدداً تجاه الصين، وخصوصاً في مجال الطاقة ونقل التكنولوجيا والتعاطي مع مبادرة الحزام والطريق.

ملحوظة

أود أن أتقدم بجزيل الشكر إلى الدكتورة عبير الرنتيسي على مساعدتها لي في إعداد هذه الورقة والتي ما كانت لتصدر بهذا الشكل لولا جهودها المميزة.


الهامش

[1] إدغار جلاد، فيروس كورونا: هل حان وقت المواجهة بين الصين والولايات المتحدة، مايو 2020: https://bbc.in/31GOxwg

[2] هالة دودين، العلاقات الصينية الأمريكية ما بين الحرب التجارية وفايروس كورونا، مجلة قضايا آسيوية، العدد الرابع، إبريل 2020: https://bit.ly/2ET5xXu

[3] عمر نجيب، تأثير جانحة كوفيد 19 على الصراع من أجل نظام عالمي جديد.. احتمالات نشوب حرب صينية أمريكية في الميزان، أبريل 2020: https://bit.ly/3jvwMGi

[4] منى هاني محمد، نظرية تحول القوة واحتمالات الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، يناير 2020: https://bit.ly/2EAahBw

[5] جمال مشروح، نحو حرب عالمية باردة ثانية، يونيو 2020: https://bit.ly/3bfWsEe

[6] منظمة الصحة العالمية، مرض فيروس كورونا (كوفيد-19): سؤال وجواب‏، ديسمبر 2019: https://bit.ly/3jmFgzo

[7] Anadolu Agency, Trump says he’s seen evidence virus came from China lab, May: 2020، https://bit.ly/3jkPS1T

[8] Deutsche Welle،ترامب يربط انتشار كورونا بمختبر صيني – فماذا قالت مخابراته؟، مايو 2020، https://bit.ly/2QtrFKp

[9] CNBC International, The world will make China ‘pay a price’ over coronavirus outbreak, Mike Pompeo says, JUL 2020: https://cnb.cx/3hAetPI

[10] فرانس24، الصين تحذر من “حرب باردة جديدة” مع الولايات المتحدة جراء فيروس كورونا، مايو 2020: https://bit.ly/3lqdhke

[11] The Financial Times, Trump’s embrace of Modi stokes India-China stand-off in Himalayas, June 2020: https://on.ft.com/2EQaO1O

[12] Sputnik Arabi،ترامب في الهند… صداقة نكاية بالصين، فبراير 2020: https://bit.ly/2QyKZpO

[13] The New York Times, The Communist Dynasty Had Its Run. Now What?, Feb 1997: https://nyti.ms/3hMkER5

[14] Siemon T. Wezeman and Pieter D. Wezeman, “Trends in International Arms Transfers 2013,” SIPRI (March

2014), 1

[15] مصطفى الطش، الصين وموازين القوى الدولية، مركز زايد للتنسيق و المتابعة، أبو ظبي: 2002

[16] BBC, Open Door Policy: https://bbc.in/2Rt1DaR

[17] EveryCrsreport, China’s Economic Rise: History, Trends, Challenges, and Implications for the United States, June 2019: https://bit.ly/3hkmRSD

[18] Pablo Bustelo, China’s Emergence: Threat or “Peacefuk Rise”?, Analysis paper, Elcano Royal Institute, Madrid, no 135, December 2005

[19] Ministry of Foreign Affairs, the People’s Republic of China, Position Paper of the People’s Republic of China

On the 75th Anniversary of the United Nations, سبتمبر 2020: https://bit.ly/33jklab

[20] وكالة الأنباء الصينية، “ماذا ينتظر العالم من منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي؟”، مايو 2017: https://on.china.cn/3bDjtRF

[21] Rudy DeLeon and Yang Jiemian, trans, U.S.-China Relations: Toward a New Model of Major Power Relationship (USA: Center for American Progress and the China-U.S. Exchange Foundation): 2014

[22] Susan V. Lawrence, “U.S.-China Relations: An Overview of Policy Issues. (Congressional Research Service:USA): 2013

[23] Al Jazeera Centre for Studies, China’s Battle with Coronavirus: Possible Geopolitical Gains and Real Challenges, April 2020: https://bit.ly/34UAFk6

[24]Human Rights Watch, China’s Global Threat to Human Rights, July 2019: https://bit.ly/3hlFXI6

[25] Deutsche Welle, Coronavirus pandemic further strains US-China relations, June 2020: https://bit.ly/2GKSQi5

[26] Ø. Tunsjø, The Return of Bipolarity in World Politics: China, the United States and Geostructural Realism (New York: Columbia University Press, 2018)

[27] Stiftung Wissenschaft und Politik, Strategic Rivalry between United States and China, April 2020: https://bit.ly/3ilL24i

[28] GlobAlasia, G-Zero: China and the US Fail the World over Covid-19: https://bit.ly/2ZtfuSO

[29] Al Jazeera Centre for Studies, China’s Battle with Coronavirus: Possible Geopolitical Gains and Real Challenges, April 2020: https://bit.ly/3bLrsvO

[30] Reuters, China sends medical supplies, experts to help Italy battle coronavirus, March 2020: https://reut.rs/32JkuTZ

[31] The Jamestown Foundation, The Chinese Charm Offensive Towards Italy as the Coronavirus Crisis Deepens, April 2020: https://bit.ly/3hOd3kS

[32] Nikkei Asian Review, China’s ‘mask diplomacy’ in pandemic-hit Europe stirs unease, March 2020: https://s.nikkei.com/3gLs5GH

[33] Center for European Policy Analysis, Disinformation, Opportunism, and Gaslighting, COVID-19 as a Vector for Chinese Influence in Central Europe, April 2020: https://bit.ly/3gMTvMy

[34] Foreign Policy, What Trump Gets Right About Alliances, December 2019: https://bit.ly/351OYUh

[35] The New York Times, Trump Abandons Trans-Pacific Partnership, Obama’s Signature Trade Deal, Jan 2017: https://nyti.ms/2Rf57NT

[36] The Lowy Institute, “AMERICANISM, NOT GLOBALISM”: PRESIDENT TRUMP AND THE AMERICAN MISSION, JULY 2018: https://bit.ly/35n1oGl

[37] The Lowy Institute, GLOBAL ORDER IN THE SHADOW OF THE CORONAVIRUS: CHINA, RUSSIA AND THE WEST, JULY 2020: https://bit.ly/2QKneuG

[38] U.S. Trade Representative, The People’s Republic of China: https://bit.ly/2RgzOCw

[39] Axios, Here’s how many Chinese students are studying in the U.S. , April 2020: https://bit.ly/3k4c9RW

[40] RT Arabic،الولايات المتحدة توقف منح التأشيرات لبعض طلاب الدراسات العليا والباحثين الصينيين، سبتمبر 2020: https://bit.ly/3iiRskG

[41] الجزيرة نت، خبيرة بشؤون البلدين للجزيرة نت: هذا ما يمكن أن يحدث إذا استمر التوتر الحالي بين أميركا والصين، مايو 2020: https://bit.ly/3jzHMm4

[42] Reuters, Exclusive: Internal Chinese report warns Beijing faces Tiananmen-like global backlash over virus, MAY 2020: https://reut.rs/3bv8UA9

[43] The Diplomat Magazine, What Could the United States Have Done – If Anything – To Prevent China’s Rise? ,February 2018: https://bit.ly/31RSY7P

[44] MERICS, Europe in the Face of US-China Rivalry، January 2020: https://bit.ly/3bnxbYz

[45] الجزيرة نت، قرصنة وحرب الكمامات التي أطلقتها كورونا.. أصابع الاتهام تتجه نحو الأميركيين، أبريل 2020: https://bit.ly/32J6cTs

[46]Deutsche Welle، ترامب يدخل على خط قضية قرصنة كمامات صينية إلى ألمانيا، أبريل 2020، https://bit.ly/3gU3lMq

[47] صحيفة العربي الجديد، ترامب يقر “الإنتاج الدفاعي” ولا يعتزم فرض حجر صحي في الولايات المتحدة، مارس 2020: https://bit.ly/3lIOp7J

[48] UNESCO Digital Library, Urbanization in Asia and the Far East: https://bit.ly/2RgT3f6

[49] Foreign Affairs, The Coronavirus Is a Stress Test for Xi Jinping, February 2020: https://fam.ag/33mz4kV

[50] Washington Post, How China is planning to use the coronavirus crisis to its advantage, March 2020: https://wapo.st/3bLaqOF

[51] The Telegraph , China is emerging from the coronavirus crisis as an even more powerful opponent, April 2020: https://bit.ly/3k0FfBE

[52] Global Times, Governance modernization supports China’s continuous development, Nov 2019: https://bit.ly/2GRRUZt

[53] BBC، مشروع “طريق الحرير” الصيني، مايو 2017: https://bbc.in/3hR7Kkt

[54] Pew Research Center, People around the globe are divided in their opinions of China, December 2019: https://pewrsr.ch/33hWXdk

[55] Deutsche Welle, Kishore Mahbubani: COVID-19 ‘enhanced China’s position in the world order’, April 2020: https://bit.ly/3bNGQYE

[56] JSTOR, The Three World Theory and Post-Mao China’s Global Strategy, International Affairs (Royal Institute of International Affairs 1944-), 1983, pp. 239-249: https://bit.ly/2GZdGdS

[57] سلافة حجاوي، الصين والصراع العربي الإسرائيلي حتى عام 1980، مجلة شؤون عربية: عدد 33

[58] جريدة الأهرام، بيان مشترك للرئيس جمال عبد الناصر والرئيس شواين لاي في، ديسمبر 1963

[59] Joseph Kalili, Communist China’s Interaction with The Arab Nationalists Since the Bandung Conference, Exposition Press, New York, husing, James and other: 1980

[60] The Brookings Institution, China’s Changing Oil Strategy and its Foreign Policy Implications Sergei Trous, September 1999: https://brook.gs/3hy0TLP

[61] نزار زيدان، العلاقات الأمريكية الصينية أوجه التقارب وأوجه التباعد، مجلس السياسية الدولي، 1998: عدد 132

[62] The European Council on Foreign Relations, China’s great game in the Middle East, October, 2019: https://bit.ly/33m4jMO

[63] شبكة شام، السفارة الصينية تنفي مشاركتها في أي علمية عسكرية بإدلب وصحيفة الوطن: أخطئنا الترجمة، أغسطس 2018: https://bit.ly/2FiYkk4

[64] The Washington Institute for Near East Policy, China’s Middle East Policy: Speak Softly and Wave a Large Purse, June 2019: https://bit.ly/3lGOJ6R

[65] سفارة جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة العربية السعودية، العلاقات السعودية- الصينية تتجه لمزيد من القوة والتعاون نحو شراكة استراتيجية بعيدة المدى، يناير 2016: https://bit.ly/32thBI1

[66] Taylor & Francis Group, China’s Libya Evacuation Operation: a new diplomatic imperative—overseas citizen protection, April 2014: https://bit.ly/3iG5HA8

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى