تقاريرمجتمع

مصر: الرعاية الصحية والهيمنة العسكرية

تمهيد:

عُرِّف مصطلح “الهيمنة العسكرية” بأنه عملية تحويل فئات المجتمع إلى وحدات عسكرية يطغى عليها أسلوب الصراع، إذ يستولي العسكريون على السلطة في كل الشؤون برتبهم ووظائفهم بدون قوانين تؤهلهم لنيل هذه المكانة، أو وجود مواد في الدستور تسمح لهم بالعمل في أماكن ليس لهم خبرة بها، وبالأخص إن كانت وظائف حساسة مثل الصحة والتعليم.

وتقوم العسكرة بشكل رئيسي على تمجيد الجيش والقوة العسكرية، متدخلةً في إدارة وزارات البلد وسياسته. والإحلال مكان السياسيين والمدراء والعاملين في القطاع الخاص والعام على حد سواء، ويأتي النموذج المصري المثال الحيّ لهذه الهيمنة، إذ إنه مع استلام الجنرال عبد الفتاح السيسي الحكم بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، شهدت مصر ازديادا ملحوظاً في عسكرة القطاعات المدنية، حتى بات واضحاً استمرارية عقود طويلة من عسكرة الجيش للبلاد[1]

هيمنة العسكر على الرعاية الصحية:

امتدت تلك الهيمنة بداية من الرؤية متمثلة في وضع السياسات وصولا إلى المعاملة المباشرة مع المواطنين في منافذ تقديم الخدمة، ومرورا بالإدارة العليا، والهيمنة على الإدارات الوسطى والطرفية، في إطار الرغبة في التحكم في جميع مفاصل وحركيات خدمات الرعاية الصحية ماديا وماليا ومعنويا وبشريا، وذلك على النحو التالي:

خدمات الرعاية الصحية

أولا: قانون إنشاء المجلس الصحي المصري:

إحكاما للقبضة العسكرية على المنظومة الصحية بكاملها في مصر بداية من وضع السياسات وصياغة الاستراتيجيات وحتى إصدار القرارات التنفيذية وتعيين خريجي كليات ومعاهد المهن الطبية فقد أصدرت السلطة في مصر في مارس عام 2022 القانون رقم 12 لسنة 2022 بشأن إنشاء وتنظيم المجلس الصحي المصري، [2]، وجاء فيه ما يؤكد على أنه:

1ـ أصبحت الهيئات العسكرية هي المكون الأصيل والأساسي في تكوين المجلس:

حيث تنص مادة (1) على: ” تُنشأ هيئة عامة خدمية تسمي “المجلس الصحي المصري”، يكون لها الشخصية الاعتبارية، وتتبع رئيس الجمهورية، ويكون مقرها الرئيس مدينة القاهرة، ويجوز للمجلس إنشاء فروع في المحافظات، وتعتبر إدارة الخدمات الطبية العسكرية للقوات المسلحة (الأكاديمية الطبية العسكرية، كلية الطب بالقوات المسلحة) أحد فروع المجلس، ويشار إليه في مواد هذا القانون بـ “المجلس”؛ وهذا يعنى تلميحا واضحا إلى العسكرة في متن صياغة القانون وتعريف المصطلحات وعرض المواد والبنود التفصيلية.

وفكرة إنشاء مجلس أعلى للصحة هي من المشروعات القديمة، والتي يتم تحديثها كل فترة وسط ضجة إعلامية في كل مرة، حيث تم الإشارة إلي إنشائه لأول مرة بقرار جمهوري رقم 61 لسنة 1966 زمن حكم الرئيس جمال عبد الناصر وتعديلاته برقم 81 لسنة 1978 زمن حكم الرئيس السادات،[3]، ثم للمرة الثالثة عام 1993 في زمن الرئيس مبارك، وأخيرا فقد تم إعادة تفعيله بتوجيهات من السيسي عام 2019، [4]، حيث أكدت التجربة العملية أن المجلس الأعلى للصحة والذي اقتصر في عضويته على ممثلي الجهات التنفيذية للحكومة، واقتصرت مهامه على التنسيق بين الجهات المدنية المشاركة، ولم يقم بدوره أو يحقق الأهداف من ورائه بسبب هيكله البنيوي ومحدودية أهدافه إضافة لتبعيته لوزارة الصحة مما جعله رهينة رغبات الوزارة ولم ينعقد في تاريخه سوى مرات معدودة ولم يحقق أي نتائج إيجابية من وجوده، وإن كانت التراخيص المهنية لم تكن من اختصاصاته فيما سبق.

ومن هنا فقد كانت الضجة الإعلامية والترحيب الرسمي حافلا بمولد المجلس الصحي المصري الجديد والذي يضم كافة المؤسسات الصحية العسكرية لأول مرة، ويتبع رئيس الجمهورية مباشرة ويشمل تواجد وزير الدفاع كعضو بارز في مجلس الأمناء، مما يعنى كونه مؤسسة ذات سيادة وفعالية قوية.

2ـ اتساع دائرة الهيمنة والسعي نحو الربحية؛

حيث نصت مادة (٢) على: ” يهدف المجلس إلى تنظيم مجالات الصحة في مصر في نواحي التعليم ما بعد الجامعي، التدريب التخصصي، التأهيل وتطوير المستوى العلمي والسريري للأطباء، والعاملين في مختلف المجالات الصحية، وله على الأخص:

(أ) تطوير مستوي التدريب الطبي والصحي للأطباء والعاملين في مختلف التخصصات الطبية ولخريجي الكليات الطبية والصحية، واختبارهم للتحقق مـن اســتيفائهم للتــأهيل الـكـافي للممــارسة الطبيـــة والصحيــة الآمنــة، لضمان تحسين الخدمات الصحية في جمهورية مصر العربية، وفقاً للسياسة الصحية والطبية العامة للدولة.

(ب) تحقيق التكامل والتعاون في مجال التدريب الصحي بين المجلس والهيئات والمجالس العلمية المختلفة في مجالات التخصصات ذاتها داخل جمهورية مصر العربية وخارجها، لتحقيق المعايير الدولية للممارسة الصحية الآمنة، ولمسايرة المجلس للتقدم العلمي، وجاءت في مادة (٤): يمنح المجلس شهادة معتمدة تسمي “البورد المصري” لجميع خريجي كليات القطاع الصحي بعد اجتياز البرنامج التدريبي والاختبار الموحد لكل تخصص من التخصصات الصحية الخاضعة لأحكام هذا القانون.

وكانت الكارثة المالية من خلال مادة (١٢): يفــرض رسـم بحـد أقصي ثمانـون ألـف جنيـه تحـدد اللائحـــة التنـفــيذية فئــاته، وذلك عن الخدمات الآتية:

1- اعتماد الشهادات المهنية الصادرة من الجهات المـانحة لجميع المتدربين.

2- اعتماد أماكن التدريب الصحي وترخيصها.

3- اعتماد المشرفين.

4- اعتماد برامج التدريب الصحية والمهنية المستمرة.

5- عقــد الاخـتبـار القـومي لتراخيـص مــزاولـة المهنـــة واعتمـاد شــهادة اجتيـازه بحد أقصي ألفا جنيه.

6- عقد اختبار البورد المصري واعتماد شهادة اجتيازه.

ويقوم المجلس بتحصيل هذه الرسوم وفقاً لأحكام قانون تنظيم استخدام وسائل الدفع غير النقدي الصادر بالقانون رقم ١٨ لسنة ٢٠١٩.

وتلك المواد في القانون والخاصة بجمع الأموال تعني أن المجلس الصحي المصري يعتبر مؤسسة اقتصادية تسعى إلى الربحية من تحصيل رسوم من أعضاء المهن الطبية نظير برنامج “البورد المصري“، باعتباره بديلا لبرنامج الزمالة المصرية الذي كان يتم بدعم من وزارة الصحة ومتاح لعدد كبير من الدارسين والمتدربين برسوم بسيطة جدا وشبه مجاني.

خاصة وأن القانون يشمل ضم الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي إلى المجلس الصحي المصري، وهي الهيئة التي تم إنشاؤها بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 210 لسنة 2016 وكانت تتبع مجلس الوزراء، وكان ثلث الأعضاء فيها من الأطباء العسكريين أيضا.

3ـ الهيمنة على إصدار التراخيص الطبية وإعادة الاعتماد للقوى البشرية العاملين بالصحة:

حيث تنص المادة (٣) على: “مع عدم الإخلال بجميع الأحكام الواردة في القوانين والقرارات المنظمة لمزاولة المهن الصحية، يشترط للحصول على ترخيص مزاولة المهنة أن يجتاز طالب الترخيص بنجاح الاختبار الذي يعقده المجلس للتأهيل لمزاولة المهنة، ويكون الترخيص الممنوح بمزاولة المهنة لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد لمدد مماثلة، على أن تحدد الجهات مانحة الترخيص الشروط والضوابط والمعايير اللازمة لتجديد هذا الترخيص.

وتلك المواد تعنى سلب وزارة الصحة أهم صلاحياتها في منح التراخيص الطبية لأعضاء المهن الطبية، بما يعنى الهيمنة الكاملة على تعيين ومتابعة العاملين في قطاع الرعاية الصحية بما يلغى دور وزارة الصحية بصورة كاملة في تعيين ومتابعة والإشراف على العاملين بها.

4ـ قانون المجلس الصحي المصري به إقصاء لنقابة العامة للأطباء،

بوصفها إحدى منظمات المجتمع المدني، من مجلس الأمناء، وهذا يعنى غياب دور الأطباء أصحاب المصلحة عن إدارة المشهد الصحي حيث تم استبعادهم من مجلس الأمناء وهو الهيئة العليا والمهيمنة على نشاط المجلس الصحي المصري.

وقد نص القانون الجديد على وجود ثلاثة جهات عليا تدير “المجلس الصحي المصري”، وهى مجلس الأمناء، ومجلس الإدارة، والأمانة العامة،[5]، وكان غريبا أن يضم مجلس الأمناء، كلا من وزراء الدفاع، والداخلية، والمالية، والصحة والتعليم العالي وعضوين من المهتمين بالتدريب، في حين شمل مجلس الإدارة جميع الأعضاء السابقين إضافة إلى رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية وعميد كلية الطب العسكرية وممثل لكل من نقابات المهن الطبية، وهذا يؤكد بوضوح على فلسفة هيمنة العسكريين على المجلس واستبعاد أصحاب الشأن من المجتمع المدني، مما يؤثر سلبا على مصير ومستقبل الرعاية الصحية وأيضا على مصير أعضاء الفرق الطبية من المدنيين.

ثانيا: الهيمنة العسكرية على مستوى الإدارة العليا بديوان عام وزارة الصحة:

التغلغل الإداري داخل ديوان وزارة الصحة والتحكم في مفاصل الحركة المالية والإدارية والفنية سواء بقيادات نظامية أو بآخرين من قيادات داخل الإدارات. وجدير بالذكر أنني قد عاصرت ذلك الوضع، بصفتي الوظيفية كممثل لمديرية الصحة بمحافظة دمياط، شمال القاهرة، و التي كنت أعمل بها، وذلك في الاجتماعات الدورية مع وزير الصحة الأسبق د. راغب دويدار عام 1992 وكان ضابطا سابقا بالقوات المسلحة، ثم من خلال تعاملي المباشر مع رؤساء القطاعات من العسكريين في نهاية التسعينيات وما بعدها، وكنت شاهدا على وجود القيادات العسكرية بزيها الرسمي على رأس أكبر القطاعات المفصلية بديوان وزارة الصحة مثل الأمانة العامة، والشئون المالية والإدارية، وإدارة المشروعات الهندسية وغيرها من الإدارات المركزية مثل الرعاية الصحية الأولية بالريف والحضر وباقي الإدارات العامة المؤثرة، إضافة إلى قيادات عسكرية أخرى تعمل بالوظائف الإدارية بعد بلوغهم سن التقاعد، ومن أشهرهم الضابط المتقاعد والمحكوم عليه بالسجن حاليا في قضية الفساد والرشوة بالصحة ضمن آخرين من العاملين بإدارة العامة للعلاج الحر والتراخيص بديوان عام الوزارة.( [6]

ثالثا : الهيمنة العسكرية على مستوى الإدارات المتوسطة ويشمل مدراء المستشفيات النموذجية :

وقد جاء إعلان الدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة السابقة، في يوم 22 ديسمبر 2018 بأن مدراء المستشفيات النموذجية التي سيتم تطويرها وعددها ( 48 مستشفى، منها 29 تابعة لوزارة الصحة و19 تابعة للتعليم العالي) سيكونون من العسكريين، حيث قال خالد مجاهد المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة والسكان في بيان رسمي يوم 22 ديسمبر 2018: “إن وزيرة الصحة وجهت باختيار مدير إداري للمستشفيات النموذجية يكون له خلفية عسكرية، على أن يكون هناك إعلان بذلك في الصحف من أجل شفافية الاختيار[7].

وفكرة المدير الإداري تعنى العسكريين من غير الأطباء، ويعتبر هو المنصب الأكثر قوة ونفوذا فعليا في الهيكل الإداري للمستشفيات ويشغله حاليا موظف إداري حاصل على مؤهل جامعي وله خبرة في الإدارة، وهنا تكمن الخطورة في العسكرة الإدارية حيث أنه المتحكم في العمل الإداري داخل المستشفى وهو صاحب القرارات وهو الحكم المحايد بين جميع العاملين، ويقوم بتوزيع المهام والاختصاصات على كل قسم وفقا لطبيعة العمل التي يحددها، وهي وظيفة تمثل نقطة اتصال بين كل العاملين والأقسام وهى الدائرة التي تكتمل في المستشفى، وهو المسئول عن توفير كل الدعم الإداري المطلوب وحل كل الاستفسارات والمشاكل والإجابة على كل التساؤلات، وأيضا هو المسئول عن متابعة سير العمل واستمرار نشاط المستشفى بجودة عالية ووضع الأهداف الرئيسية المطلوب تنفيذها وتحقيق الأهداف المطلوبة والمسئول عن إعلاء اسم ومكانة وقيمة المستشفى،[8]، وهذا يعنى بكل بساطة تحويل المؤسسة الطبية المدنية إلى آلية الوحدة العسكرية.

ومما يؤكد على خطورة هذا الأمر هو صدور القرار الجمهوري المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 6 يوليو 2022 وينص. على “منح درجات علمية مدنية لخريجي الكليات العسكرية المختلفة “[9]، ومن المفترض أن ذلك الدور تقوم به وزارة التعليم العالي، وهي من تمنح تلك الدرجات لطلاب الجامعات، لكن القرار لم يأتِ بذكر أي دور لوزارة التعليم العالي، وعندما سئل مصدر بالمجلس الأعلى للجامعات، قال إنه قرار “سيادي”، ليس لهم شأن به، وربما يتم التنسيق لاحقاً بشأن تدريس المواد المدنية التي يشملها القرار[10]. وبموجب هذا فسوف يكون وزير الدفاع المصري له سلطة منح خريجي “الكلية الحربية” درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية، بينما يحصل خريجو “الكلية الجوية” على درجة البكالوريوس في التجارة وإدارة الأعمال تخصص إدارة الطيران والمطارات. ويقول د/ مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، لموقع The Middle East Eye البريطاني، إنَّ “هذا القرار يخالف الدستور، ولا يحق لوزير الدفاع دستورياً منح شهادات جامعية مدنية”.[11]

وهذا يعنى بكل وضوح عدم إمكانية الطعن مستقبلا أمام القضاء الإداري في مؤهلات أو كفاءة مدير إداري المستشفى الحكومي من العسكريين، حيث إن القرار الجمهوري قد أكسبه الحصانة حسب شروط التوصيف الوظيفي لمنصبه بالمستشفى أو المؤسسة الصحية، في ظاهرة مستحدثة في المؤسسات الصحية بعد 2013.

رابعا: الهيمنة العسكرية على منافذ تقديم خدمات الرعاية الصحية للمواطنين:

كانت الرعاية الصحية للمواطنين ترتكز في الأساس على المستشفيات الحكومية والخاصة والأهلية، وكان دور المستشفيات العسكرية محدودا جدا لعلاج بعض الحالات القليلة وذات الطبيعة الخاصة، لدرجة أنه في شهر مارس 2012 وبعد ثورة يناير، وفى ظل حكم المجلس العسكري ؛ طالب أعضاء في نقابة الأطباء دار الخدمات الطبية التابعة للقوات المسلحة، بضم ثلاث مستشفيات عسكرية مغلقة إلى وزارة الصحة، مع تخصيص مستشفيي السلوم العسكري، وسيدى براني، لتقديم الرعاية الصحية للعالقين على الحدود بين مصر وليبيا، والعائدين من الدول الأفريقية عبر الحدود الغربية.[12]، ولكن الوضع اختلف كثيرا بعد عام 2013 حيث بدأت خطوات الهيمنة العسكرية على منافذ تقديم الخدمات الصحية، وكان ذلك على ثلاثة محاور:

المستشفيات العسكرية

1ـ التوسع في إنشاء المستشفيات العسكرية بالمحافظات:

في بيان رسمي من رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة (متلفز) يوم 16 فبراير 2021، في مؤتمر حضره السيسي، أعلن عن الإنجازات في مجال الصحة وتشمل إنشاء 19 مستشفى عسكري ضخم جديد وعلى مساحات من 3 إلى 5 أفدنة، بتكلفة حوالى نصف مليار جنيه للمستشفى الواحد، وبقدرة استيعابية لعدد كبير من الأسرة متنوعة ومجهزة على أعلى مستوى، وتطوير مستشفيات عسكرية أخرى بالقاهرة والإسكندرية والمحافظات [13]،بالإضافة إلى إنشاء عدد 8 مراكز أورام بمستشفيات القوات المسلحة [14]، وبذلك ارتفع عدد المستشفيات والمراكز الطبية العسكرية بصورة واضحة وبنسبة تجاوزت 40 بالمئة من عددها قبل عام 2013.

وهذا على النقيض من انخفاض عدد المستشفيات الحكومية من 691 مستشفى عام 2018 حسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء، [15]، ليصبح العدد 662 مستشفى فقط عام 2020 حسب نشرة جهاز الإحصاء في 6 أبريل 2022 [16]

المستشفيات الحكومية

وحرِص النظام على إنشاء المستشفيات العسكرية وتوسيع دائرة الانتشار في جميع أنحاء مصر يرجع إلى قرار الدكتور محمد معيط رئيس هيئة التأمين الصحي ( الحالي) بأن مستشفيات الشرطة والعسكرية والمستشفيات الخاصة متاح لها الدخول ضمن منظومة قانون التأمين الصحي الشامل، حال توافرت فيها الشروط اللازمة للانضمام للمنظومة، حيث أوضح في مؤتمر صحفي بمقر مجلس الوزراء، يوم الأربعاء 25 أكتوبر 2017، إن هيئة الإشراف والرقابة التي أُنشئت وقتها، ستتولى التأكد والتحقق من توافر المعايير في المستشفيات المنتظر دخولها ضمن قانون التأمين الصحي الشامل[17].

وزاد عليها توقيع الدكتورة سهير عبدالحميد، رئيس الهيئة العامة للتأمين الصحي، يوم 17 ديسمبر 2018، عقداً مع اللواء طبيب مجدي أمين، مدير إدارة الخدمات الطبية للقوات المسلحة، وهو العقد الذي يتم بموجبه تقديم الخدمات الطبية داخل جميع مستشفيات القوات المسلحة ولجميع مرضى التأمين الصحي.[18] وبناء عليه فقد سارعت القوات المسلحة ببدء الفعاليات واتخاذ الإجراءات حيث نظم المجمع الطبي للقوات المسلحة بالمعادي بالتعاون مع الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية ورشة عمل بتاريخ 9 سبتمبر 2020 شملت أكثر من (100) متخصص من العاملين بالمجمع الطبي للقوات المسلحة بالمعادي للتعريف بمتطلبات التسجيل والمعايير الخاصة بالمستشفيات. يأتي ذلك فى إطار الاستعدادات للانضمام لمنظومة التأمين الصحي الشامل، وانطلاقاً من الحرص التام على أن يكون المجمع الطبي للقوات المسلحة بالمعادي من أوائل المستشفيات التي تطبق معايير الجودة الصحية المعتمدة من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية، مما يعكس حرص المستشفيات العسكرية على تواجدها بمنظومة التأمين الصحي الشامل كونه واحد من أهم المشروعات القومية. [19]

1ـ هيمنة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على الاعتمادات المالية في بند الخطة الاستثمارية لوزارة الصحة:

رصدت دراسة صادرة عن “المرصد المصري” التابع للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تطور القطاع الصحي في مصر خلال ثماني سنوات، وأوضحت الدراسة أنه خلال الفترة من 2014 وحتى 2020، استطاعت الدولة المصرية الانتهاء من تنفيذ (960) مشروعاً في مجال الصحة والسكان بإجمالي استثمارات بلغ (81290) مليون جنيه، مشيرة إلى أن أهم الإنجازات تمثلت في تنفيذ نحو(200) مشروع متعلق بتطوير المستشفيات والمعاهد الطبية ومراكز الخدمات الطبية المتخصصة. وكذلك تم تنفيذ (40) مشروعاً مرتبطاً بهيئة الإسعاف المصرية، ونحو (19) مشروعاً قومياً للمستشفيات النموذجية، ذلك إلى جانب تطوير الوحدات الصحية.[20]

ولم يرد في الدراسة أية إشارة إلى إنشاء مستشفيات حكومية جديدة خلال تلك الفترة 2014/2020.

عرض رئيس الهيئة الهندسية

2ـ هيمنة الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية

هيئة الشراء الموحد، هيئة لها الشخصية الاعتبارية، وتتبع رئيس مجلس الوزراء، والمنشأة بالقانون رقم 151 لسنة 2019، ولائحته التنفيذية التي صدرت بالقرار رقم 777 لسنة 2020، ويترأسها اللواء بهاء زيدان، حيث تستحوذ على جميع الاعتمادات المالية المخصصة لموازنة وزارة الصحة للصرف منها على الشراء والتوريد، وتم تكليفها بكامل المسؤولية عن كل ما يخص الصحة من توريد التجهيزات واستيراد وتخزين وتوزيع أدوية وغيره وكل ما يخص احتياجات الصحة بصورة عامة، وصيانة المستشفيات!!

حيث نص القانون على أن اختصاصات هيئة الشراء الموحد تشمل “إدارة منظومة الصيانة الموحدة للأجهزة الطبية للارتقاء بخدمات ما بعد البيع”[21]

3ـ الهيمنة على صيانة الأجهزة الطبية بالمستشفيات بعد غلق مركز الصيانة الحكومة الرئيسي:

من المعروف أن صيانة الأجهزة الطبية وغير الطبية بالمستشفيات تعتبر من أهم التحديات الخطيرة التي تحفظ أمن وسلامة المواطنين، من خلال ضمان تقديم خدمة صحية سليمة وبكفاءة عالية، وتحافظ على صلاحية الأجهزة لأطول مدة ممكنة، وهذا يصون المال العام، ويوفر من الجهد والوقت للفريق الطبي. وبقرار من وزير الصحة المصرية عام 1996 فقد تم إنشاء المركز الإقليمي لصيانة الأجهزة بالمستشفيات ليتبع ديوان عام وزارة الصحة ويكون مقره في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية شمال القاهرة باعتبارها جغرافيا تتوسط منطقة الدلتا وشمال مصر كلها. بحيث يكون المركز مؤسسة صحية خدمية غير ربحية، ويتم تمويله ذاتيا من خلال عائد أنشطة الصيانة الدورية للأجهزة بالمستشفيات وإصلاح الأعطال الطارئة لضمان استمرارية تقديم الخدمات الصحية. ورغم صيحات الاستغاثة المتكررة من العاملين بالمركز، ورغم طلبات الإحاطة من نواب مجلس النواب منذ عام 2016، فقد استمرت سياسة الحكومة مستمرة نحو إفشال تلك المؤسسة الطبية بهدف تصفيتها تماما.

وفى بداية عام 2020، صدر القرار باللائحة التنفيذية لقانون إنشاء “هيئة الشراء الموحد” ليكون بمثابة رصاصة الرحمة في صدور جميع العاملين بالمركز الإقليمي لصيانة المستشفيات. حيث صدر بعده مباشرة قرار اللواء مساعد وزيرة الصحة بغلق المركز الإقليمي الحكومي لصيانة أجهزة المستشفيات، وجاء قرار الغلق معبرا عن التوجيهات الرئاسية بشأن عسكرة الدولة، وما يترتب على ذلك من إهدار حقوق العاملين المدنيين بالدولة في حياة كريمة وأمان وظيفي واستقرار مجتمعي، ويتم الاستحواذ على الاعتمادات المالية لوزارة الصحية وإعادة توجيهها لخدمة مصالح حفنة من كبار العسكريين التابعين للنظام المصري الحاكم [22].

خامسا: الهيمنة العسكرية على تقديم الخدمات الصحية بزيادة عدد الأطباء العسكريين:

كلية الطب بالقوات المسلحة Armed Forces College Of Medicine تفتح أبوابها لقبول طلبة الثانوية العامة لأول مرة في مصر في شهر أكتوبر 2013، بالإضافة إلى توسيع مجال القبول بالأكاديمية الطبية العسكرية، والكليات والمعاهد الطبية النوعية والتخصصية العسكرية.

وتشمل: [23]

  • معهد الطب العسكري Military Medicine Sciences Institute:
  • معهد الصحة والوقائيات Hygienic Studies and Preventive Medical Sciences Institute
  • معهد طب الطيران والفضاء Aviation and Aero-Space Medical Sciences Institute:
  • معهد طب الأعماق البحريMarine and Deep Diving Medical Sciences Institute:

وفى حفل تخرج أول دفعة من كلية الطب العسكرية في شهر أكتوبر عام 2019، والتي شملت 200 خريج من شباب الأطباء العسكريين، وهو عدد كبير بالنسبة لخريجي الأكاديمية الطبية العسكرية سنويا، تحدث السيسي عن كفاءة وجودة الدراسة، وأنها على أعلى مستوى تقني عام، وبالتواصل والتوأمة مع كبرى الجامعات العالمية، و تشمل الإقامة الداخلية بالكامل، ووعد باستمرار الخريجين في الكلية لاستكمال الدراسات العليا والحصول على درجات الماجستير والدكتوراة في أسرع وقت ممكن [24]. ويتم التخرج من الكلية برتبة ملازم أول تحت الاختبار ويمنح جميع المميزات الخاصة بضباط القوات المسلحة ويختلف مسار الخدمة طبقاً للتخصص والسلاح وفى جميع الأحوال يسمح للخريج بالحصول على جميع الدرجات العلمية والأكاديمية للتأهيل المستمر والبعثات الداخلية والخارجية والتدريب المستمر طوال فترة خدمته وطبقاً للشروط والأحكام الصادرة بهذا الشأن. [25]

وكانت المفارقة صادمة في التمييز الواضح بين خريج كلية الطب العسكرية في إتاحة الفرصة كاملة وميسرة وبالمجان في الدراسات العليا للطبيب الحاصل على رتبة عسكرية وراتب متميز، في حين أن زملاءه من خريجي 30 كلية طب مدنية حكومية وخاصة لا يجدون فرص تعيين مناسبة، ولا فرص للدراسات العليا والتي يحكمها نظام البورد المصري عالي التكلفة حسب قانون المجلس الصحي المصري.

وزاد من فداحة المشكلة أن وزير الصحة في شهر سبتمبر 2022، وافق على آلية أن يكون التكليف للأطباء وباقي أعضاء المهن الطبية حسب الاحتياج اعتبارا من حركة تكليف 2025 في صيغة صادمة، وجاءت متناقضة مع وجود فجوة تشغيلية بلغت 65 بالمئة من عدد القوى البشرية بسبب هجرة الأطباء للخارج. [26].

وتحت عنوان “نقابة الأطباء تدق ناقوس الخطر”، كشفت النقابة في تقرير لها عن استقالة 11 ألفا و536 طبيبا من العمل بالقطاع الحكومي منذ 2019، مشيرة إلى أنها رصدت استقالة 934 طبيبا منذ بداية العام الجاري 2022 وحتى 20 مارس الماضي. وحذرت النقابة من زيادة عدد الأطباء المستقيلين عاما تلو الآخر، ودعت الحكومة إلى ضرورة التدخل الجاد والعاجل، محذرة في الوقت نفسه من معاول الهدم الحكومية في جدار المنظومة الصحية من قبل المحليات والتعسف الإداري والمساءلات الجنائية. يشار إلى أن الإهمال في قطاع الصحة ناتج عن أنه يخدم المواطنين العاديين والبسطاء، في حين أن الموظفين في المؤسسات الأمنية والقضائية، والذين يمثلون الشريحة الأقل، يعالجون في مستشفيات مخصصة لهم بأسعار رمزية، أو باشتراكات طبية للعلاج في المستشفيات الخاصة. [27]

وهذا يعنى اتساع الفجوة التشغيلية التي يعاني منها القطاع الصحي بسبب هجرة الأطباء المدنيين للخارج، في حين يتم تقديم المزيد من المزايا والتسهيلات المادية والدراسية للأطباء العسكريين، في إجراءات تحمل مضمون الإزاحة للأطباء وغيرهم من أعضاء الفرق الطبية المدنيين والإحلال بغيرهم من خريجي الكليات والمعاهد العسكرية.

خاتمة:

ما يتم في مصر حاليا هو سياسة الهيمنة العسكرية الممنهجة على جميع مستويات الأداء بالمؤسسات الصحية، حيث تُحيلها إلى أدوات تخدم هذا الحكم العسكري، وتنمي ثروات قياداته، في إطار من الاستبداد وعشوائية القرارات، وتلك هي الطبيعة العسكرية في عرض الأمور ومناقشة المشكلات، والتي أصبحت ظاهرة واضحة، وبصورة فاضحة في السنوات الأخيرة بدعوى عدم فهم غير العسكريين لماهية الدولة، أو عدم قدرة المدنيين على فهم ودراسة الواقع؛ كما ورد في تعليق السيسي مؤخرا على مشكلة أصحاب المعاشات، واتهام الوزير سابق وأستاذ الاقتصاد بعدم الفهم لأنه عرض رأيا خالف فيه رأى السلطة الحاكمة حتى وإن كان الأمر في مجال تخصصه. [28]


الهامش

[1] عسكرة الأوطان: مصر تحت سطوة إمبراطورية الجيش 15 أبريل 2019 نون بوست

[2] قانون إنشاء وتنظيم المجلس الصحي المصري 14 مارس 2022 رابط

[3] مجلس أعلى للصحة بداية إصلاح شامل للمنظومة الصحية 19 يناير 2014 رابط

[4] وزيرة الصحة تترأس المجلس الأول للصحة منذ 4 سنوات..13 يناير 2019 رابط

[5] قانون إنشاء المجلس الصحي المصري 14 مارس 2022 مصدر

[6] مصر.. الكشف عن المتهمين في قضية الرشوة بالصحة بينهم ضابط سابق وطليق الوزيرة 4 يناير 2022 مصدر

[7] مدير إداري بخلفية عسكرية الفجر

[8] ماه مهام المدير الإداري سبتمبر 2021 مصدر

[9] الجريدة الرسمية تنشر قرار السيسي بشأن الدرجات العلمية لخريجي الكليات العسكرية في 5 يوليو 2022 مصدر

[10] ماذا يعنى منح درجات أكاديمية لخريجي الكليات العسكرية..22 يوليو 2022 مصدر

[11] لماذا قرر السيسي منح الخريجين العسكريين درجات جامعية 9 أغسطس 2022 مصدر

[12] الأطباء تطالب بضم ثلاث مستشفيات عسكرية مغلقة للصحة 2 مارس 2012 المصري اليوم

[13] رئيس الهيئة الهندسية يستعرض دور الهيئة في إنشاء وتطوير المستشفيات العسكرية 16 فبراير 2021 مصدر

[14] إنشاء مراكز علاج الأورام بالمستشفيات العسكرية 30 نوفمبر 2016 مصدر

[15] جهاز الإحصاء وعدد المستشفيات والأسرة عام 2018 بتاريخ نشر في 20 أبريل 2020 مصدر

[16] الإحصاء: عدد المستشفيات الحكومية بلغ 662 عام 2020 بتاريخ 6 أبريل 2022 مصدر

[17] معيط: المستشفيات العسكرية والخاصة متاحة ضمن قانون التأمين الصحي الجديد 25 أكتوبر 2017 مصدر

[18] “التأمين الصحي” تتعاقد مع مستشفيات القوات المسلحة لتقديم خدمة مميزة للمرضى 17 ديسمبر 2018 مصدر

[19] المجمع الطبي للقوات المسلحة يستعد للانضمام لمنظومة التأمين الصحي الشامل 9سبتمبر 2020 مصدر

[20] دراسة ترصد تطور القطاع الصحي خلال ثماني سنوات 13 يوليو 2022 رابط

[21] 13 اختصاصا لهيئة الشراء الموحد 30وفقا للقانون الجديد 30 أغسطس 2021 مصدر

[22] غلق مركز صيانة المستشفيات الحكومي لصالح شركات الجيش في 2 نوفمبر 2020 مصدر

[23] موقع الأكاديمية الطبية العسكرية (27 سبتمبر 2022) رابط

[24] السيسي يشهد حفل تخرج أول دفعة من كلية الطب العسكرية 17 أكتوبر 2019.. فيديو

[25] كلية الطب بالقوات المسلحة (الموقع الرسمي 27 سبتمبر 2022) رابط

[26] بعد قرار التكليف حسب الاحتياج، أصحاب البالطو الأبيض في انتظار تحديد مصيرهم 21سبتمبر 2022 مصدر

[27] مصر تلغى تكليف خريجين الطب، ما تداعيات ذلك؟.16 سبتمبر 2022 مصدر

[28] كلمة متلفزة حديث السيسي عن أصحاب المعاشات ويهاجم وزير سابق 8 سبتمبر 2022 فيديو

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى