fbpx
تقديرات

مصر: المبادرات ـ الركن الثالث أو الموات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد:

خلال العام الأول الذي أعقب انقلاب الثالث من يوليو 2013، بدا أن مصر تعاني أزمة اتصال سياسي ثلاثية الأبعاد:

البعد الأول: الاتصال بين أطياف الجماعة الوطنية التي ترى أن استمرار منظومة الاستبداد وما يرتبط به من مجموعة أمراض سياسية وثقافية من شأنه أن يؤول بمصر إلى مزيد من التردي الاقتصادي والسياسي والثقافي.

البعد الثاني: تدفق الاتصال بين المكونات المنفصلة لهذه المجموعة وبين الشارع المصري، وهو الاتصال الذي، علاوة على تمزق أوصاله، قد جوبه بحملة قمعية شديدة انتهت برموز المشروع الديمقراطي إما في أقبية السجون أو في المنفى الاختياري الذي مثل ملاذا من العنف السياسي للدولة.

البعد الثالث: يتمثل في منظومة إعلام 30 يونيو الذي يتفق الخبراء على أنه يمثل حالة فريدة من الإعلام التوجيهي ذي الصبغة الشعبوية التي لا تقيم للمنطق وسنن التاريخ أي وزن، وتتقفى الأهواء السياسية لرؤوس 3 يوليو وأجنحة القوة المشاركة فيها، وبخاصة الأحزاب السياسية التي اتخذت مسارا دولتيا بعد الثالث من يوليو 2013.

هذه المنظومة ثلاثية الأبعاد تُمثل أحد عناصر مشهد سياسي تحتاج عناصره إلى المزيد من بذل الجهد على صعيد التفكيك والتفهم وبناء الرؤية التنفيذية اللازمة لإنتاج اختراق وطني لمنظومة أغلقت دون تقدير المصالح الوطنية أو تقدير مآلات المسار السياسي الشعبوي التمزيقي الراهن.

الاتصال السياسي ضروري لبناء الرؤى المشتركة، وهام لإنتاج تواصل مع القوى التي مازالت برغم الوهن تنبض ببعض حياة. وتسعى هذه الورقة لاختبار أثر المبادرات السياسية التي عاشتها مصر (مجازا) خلال الفترة الماضية على هذه المنظومة الثلاثية، خاصة مع ظهور خطاب يأس يرى أن إدارة 3 يوليو في موقف ضعف مزر، وأن ضعف المبادرات دون إنتاج أثر في المشهد المصري مما يسئ لمصر وقواها الثقافية والسياسية.

أولا: إطلالة على المبادرات السياسية في مصر

يمكن القول بأن مصر شهدت خلال فترة ما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، اتجاهين لا ثالث لهما من المبادرات:

الاتجاه الأول: ما يمكن تسميته بمبادرات إنقاذ مصر، وهي مبادرات تنطلق من وجود أزمة قوية تعصف بمصر كبلد ومجتمع سياسي، وتحاول أن توفر إطارا تعقبه رؤية تفصيلية للخروج بمصر من مسار الأزمة.

الاتجاه الثاني: يمكن تسميته مبادرات الوعي، وهي مبادرات الغرض منها ليس تقديم حلول بقدر ما تعنى بإلقاء ضوء على أحد جوانب الأزمة في مصر وتحذر من تجنبه. ويحتاج النوعان من المبادرات لتوضيح محدود يفسر استيعاب كل المبادرات في هذين النوعين دون ثالث لهما.

أولاً: مبادرات الوعي:

اتفق مع وجاهة الطرح الذي يرى أن كل مبادرة هي انحياز للمستقبل، وما لم تنطو على تقديم تصور تفصيلي لملامح أزمة مجتمع مصر في إطار سعيها لتقديم إطار ورؤية للمعالجة، فإنها على الأقل تشير إلى أن مصر تعاني أزمة، وأن هذه الأزمة تحتاج من كل مصري الإدلاء بدلوه للخروج من هذه الأزمة. هذه الرؤية تمنعنا من الخروج ببعض ما يخرج من مبادرات إلى دائرة الإحالة لأرشيف المبادرات، والنظر إليها باعتبارها تعبير عن انتماء بات تعزيز حضوره شرط من شروط عملية بث الروح في جسد تحرص النخبة السياسية على امتصاص الفاعلية والحيوية منه رويدا رويدا.

يمكن في هذا السياق الحديث عن طيف واسع من المبادرات، بعضها يهدف لإنتاج حراك على أرضية الجماهير، وبعضها يهدف لتحريك العلاقة بين إدارة 3 يوليو وجماعة الإخوان، باعتبار هذه العلاقة أساس تأزم المشهد الوطني، وبعضها يسعى لإنتاج قوة سياسية بديلة للإخوان والقوى الدولتية الأخرى على حد سواء، ومن هذه المبادرات:

1ـ مبادرة 11-11: التي لم يكن لها من برنامج سوى ما أعلنته من تعبئة منضبطة لما توقعته من ثورة جياع، ما يمهد الطريق لاحتوائها والحيلولة دون تحولها لإعصار لا يبقي ولا يذر. غير أن هذه الحركة اصطدمت بغياب القوى الراعية، وفقدان الرؤية العملية، فضلا عن فقدان سائر عناصر رأس المال السياسي اللازم لتفاعل القواعد الجماهيرية التي خاطبتها الدعوة[1].

2ـ ما صدر مؤخرا عن “الجماعة الإسلامية المصرية”، من مبادرة “خطوة إلى الخلف”[2] في دعوتها لكل من إدارة 3 يوليو وجماعة الإخوان، وهي مطالبة مهمة، وإن كانت غير مواكبة لتدفق الأحداث التي يمكن القول باطمئنان أن “جماعة الإخوان”، بصورة خاصة، قد تجاوزتها، فضلا عن أن خطوات إدارة 3 يوليو في إغلاق المجال العام ومصادرته تجاوزت الحديث عن قانون التظاهر ومنح بعض الحريات بعد تدفقات القوانين التأميمية، ومن بينها قانون الجمعيات الأهلية وقانون الهيئات الإعلامية.

3ـ مبادرة لنصنع البديل: التي أطلقها المعارض المصري “حمدين صباحي”، والتي كان مضمونها الدعوة لإنقاذ مصر من حالة الخواء السياسي التي تعانيها، والتي تفتقد في إطارها وجود تنظيم سياسي قادر على أن يمثل قيدا على انفراد إدارة 3 يوليو وشيعتها الدولتيين بالحكم، وهو ما من شأنه أن يورد مصر موارد مهلكة في حال تعمق وخلت الساحة إثره ممن بإمكانه توفير ضغط يحول دون مزيد من التردي والفراغ السياسي في مصر. وفي هذا السياق، كانت دعوة “صباحي” لتوحيد حزبي “الكرامة” و”التيار الشعبي” في تنظيم واحد قادر على توفير تنظيم سياسي بديل[3].

4ـ دعوة الأمين العام للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان إبراهيم منير لحكماء مصر للعمل لإيجاد مخرج لمصر من الوضع السياسي المأزوم الراهن، وبرغم أن هذه الدعوة لا تتضمن مصالحة بالمفهوم التقليدي الذي يحاول التوفيق بين الجماعة وبين إدارة 3 يوليو، إلا أنها حركة تتضمن تفويضا نسبيا من الإخوان لما أسماهم “منير (الحكماء) بالتحرك وتقديم مبادرة وطنية للإخوان، لكنه تحدث عن ضرورة اعتبار الشرعية المغدورة مستعيدا الحديث عن الرئيس المعزول د. محمد مرسي ولم يستبعد “منير استعداد الجماعة سماع مبادرات من إدارة 3 يوليو[4]. غير أن عدم التعليق على مستجدات الحديث عن الشرعية وما ارتبط بها من “رمزية” أو “تفويض” جعل المبادرة ضبابية.

ثانياً: مبادرات الإنقاذ:

على صعيد آخر، وبعيدا عن الحلول الجزئية التي كانت موضوع مبادرات الوعي التي أسلفنا الإشارة إليها، فإن المجتمع السياسي المصري أنتج أكثر من 10 مبادرات كبرى قدم أغلبها رؤية كلية واضحة المعالم لمستقبل مصر والمسار المستقبلي السياسي لها، بدءا من إعلان القاهرة، وحتى الآن.

فقد حفلت الفترة التي أعقبت انقلاب الثالث من يوليو 2013، بعدد وافر من المبادرات السياسية الكاملة، ومنها وثيقة بروكسل[5] التي صدرت منتصف مايو 2014، ثم مبادرة دعم الشرعية التي عدلت وثيقة بروكسل[6] في 17 مايو 2014، ثم بيان القاهرة[7] الذي صدر في 23 مايو 2014 لتفادي العيب الأساسي الذي شاب وثيقة بروكسل في صدورها من خارج مصر، ومبادرة “احنا الحل”[8] التي أطلقت في 15 يناير 2015، ومبادرة “الإفلات من السقوط”[9] التي أطلقت في مطلع فبراير 2016، ثم “مبادرة الفريق الرئاسي 2018”[10] للدكتور عصام حجي والتي أطلقت في مطلع أغسطس 2016، ثم مبادرة واشنطن[11] التي صدرت بتوافق قوى سياسية مصرية في أعقاب مجموعة ورش عمل عقدت في واشنطن في منتصف سبتمبر 2016، وبالتزامن معها أطلقت أيضا مبادرة “وطن للجميع”[12] التي أطلقها الأكاديميان المصريان عماد شاهين وعبد الفتاح ماضي.

وبداية، لابد من الإشارة إلى أن صدور بعض هذه المبادرات عن مصريين بالخارج في الواقع لا يعد مشكلاً سياسياً، لأن قطاعا واسعا من المصريين مضار من انغلاق الأفق السياسي، ما دفعه للخروج والانشغال بنشاط إنساني بناء بدلا من “الهري” داخل حدود الدولة. ويمكن إطلاق حكم بدرجة مقبولة من التعميم مفاده أن تحول فيسبوك إلى بديل عن الأحزاب في وظائفها خلال فترة ما قبل يناير 2011 نتيجة ضعف البنية الحزبية الرسمية في مصر، هذا الوضع يمكن مضاهاته بمثيل له بعد 3 يوليو، حيث جعل من الشخصيات العامة المصرية في الخارج بدائل لتقديم مبادرات تحريك الأوضاع الجامدة في مصر بسبب سرعة استرداد البنية الحزبية في مصر لحالة التكلس والجمود بسبب استرداد مصر بدورها لأسوأ ما شهدته خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك من أدوات مصادرة المجال العام.

ويمكننا أن نلاحظ على جملة مبادرات الإنقاذ عدة ملاحظات، على النحو التالي:

1ـ الديمقراطية كثقافة إدارة سياسية: فهي مبادرات تحمل لإدارة 3 يوليو نظرة مبدئية ترى فيها المدخل لاستمرار مسيرة التدهور التي ميزت أداء إدارة مبارك قبل ثورة يناير 2011، وترى أن العلاج الناجع لتردي أوضاع دولة بحجم مصر يكمن في منظومة كفء على الصعيد السياسي تتسم بالأبعاد الأساسية لمفهوم الديمقراطية من مسؤولية ومساءلة وسيادة للقانون ومساواة أمامه وشفافية وتوسيع دائرة المشورة بما يحقق الانتماء للمصريين، ويدفعهم جميعا للمشاركة البناءة في إعزاز الوطن.

وبدا مع تتالي هذه المبادرات ووحدة روحها، أن النظر لقضية الديمقراطية لم يعد تناولا الغرض منه تنظيم تداول السلطة، أو التعامل مع الديمقراطية باعتبارها محض إجراءات لتنظيم العلاقة بين فرقاء سياسيين بقدر ما أصبحت الديمقراطية هنا منهجية إدارة ينظر إليها باعتبارها قادرة على عزل عناصر الوهن في مصر من فساد واستبداد واستخفاف واختراق.

2. تعزيز منظومة إنفاذ القانون: حيث إن كل المبادرات تضمنت التأكيد على ضرورة إصلاح هذه المنظومة بجناحيها، جناح التطبيق (القضاء) وجناح التنفيذ (الشرطة)، بما يحفظ للوطن تماسكه وقوته، وتمكن القانون الذي يعد السبيل الوحيد لإنجاح الدولة في توقيت تكاد فيه إدارة 3 يوليو لا ترى للقانون دور، بل هي محض منظومة أمنية تحركها علاقات القوة والإرادات الظرفية التي تحمل رؤى اتفق الجميع على أنها غير متماسكة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو السيادي، فضلا عن تبلور الرؤية السياسية في تكريس الإرادة الفردية لرأس إدارة 3 يوليو من دون أن يكون لإرادته (غير الواضحة) راد ولا رقيب.

3. المؤسسة العسكرية الوطنية وظيفية: تتفق المبادرات على أن المؤسسة العسكرية المصرية، مؤسسة وطنية، وأن وطنيتها تنبع من وظيفيتها المرتبطة بالمرابطة على ثغور مصر، وحمايتها، والحيلولة دون اختراق مصر في هكذا أجواء إقليمية وعالمية مضطربة تحتاج انتباهة أمنية قوية، كما تحتاج رؤية واضحة، تجعل لمصر سياسة متبلورة واضحة المعالم، لا تقامر بتسليم مصر ومقدراتها لمن لديه استعداد لأن يدفع لإنقاذها من سوء إدارة اقتصادها. كما أن المبادرات الأخيرة تضمنت التأكيد كذلك على أن النخبة العسكرية ليس من مهامها إدارة اقتصاد البلاد، مستندة لما أدى إليه تدخل بعض النخبة العسكرية في إدارة منظومة الاقتصاد من إفساد لاقتصاد مصر، وإن لم تقرن المبادرات بين الإفساد الاقتصادي الناجم عن مخالفة القواعد الاقتصادية وبين الفساد المالي والإداري الذي يستشري في مصر قبل تدخل النخبة العسكرية في إدارة المشهد.

4. حققت هذه المبادرات تقدما قويا على أرضية بناء أجندة وطنية “عابرة للتيارات”، وبات واضحا أن الأجندة المصرية الحقيقية أكثر وضوحا من أن تلفت الأنظار عنها قضايا لا يمكن إغفال أولويتها؛ كما لا يمكن إنكار ضرورة عدم تصديرها سببا في تجنب بلورة أجندة يتفق عليها مواطنو مصر، ومن هذه القضايا قضية “الهوية” التي بحثتها ورش “مبادرة واشنطن” لتنتهي فيها إلى أطروحة مركبة واعية يقر الجميع في إطارها للجميع بالحق في الاختلاف، ورفض إنكار أوجه الاختلاف في إطار بناء الأجندة الوطنية وممارسة الاتفاق والحياة السياسيين.

ومع بناء الأجندة العابرة للتيارات، بدا وكأن كل تيار في مصر قد انقسم إلى قسمين، قسم مرتهن لإدارة 3 يوليو وحساباته معها، وآخر مرتهن لإرادة الحوار وبناء أجندة وطنية يتفق عليها الجميع، ولا يمكن اختراقها لتضمنها ثوابت ليست محل اختلاف باستثناء ذلك الاختلاف بين مؤيدي هذه المبادرات ومن يقبعون خارجها حيال قضية رفض الإقصاء.

وفي تقدير الكاتب، أن مبادرات الإنقاذ لا تحمل إلا رسالة واحدة، حيث إنها في تقدمها تكتسب دوما أرضية توافق جديدة، بحيث يمكن القول بأن “الكتلة الضامنة”[13] “باتت حاضرة قوية، وأن هذه الكتلة تنتظر لحظة تاريخية تجسر فيها الفجوة بين متخاصمين بات كلاهما يشعر أنه في حاجة للآخر لأجل مصر التي تمثل ملاذاً للجميع، لا من أجل اللوجيستيات السياسية التي وصمت تداولات سياسة ما قبل يناير”.

5. حرصت بعض المبادرات على تحديد على تقديم قائمة إدارة موقف، تضمنت رأسا جديدا للسلطة التنفيذية، سواء عبر تفويض الشرعية لرئاسة الحكومة، أو عبر إنتاج رأس جديد متمثل في مجلس، فضلا عن قوائم حكومية تنفيذية تحمل أسماء محددة، وتحمل في بعض الأحيان بدائل لهذه الأسماء. ويلاحظ أن مثل هذه السمة من سمات المبادرات تقاطعت مع أصوات ظهرت بالداخل تطرح أسماء عدة كبدائل لرأس النظام السياسي، ومنها أسماء مثل د. مصطفى حجازي والمستشار هشام جنينة.. إلخ[14].

6. غير أن هذه المبادرات ما زالت تتجنب الخوض في التحدي الاقتصادي الذي تكابده مصر، وهو تحد يمثل مفصلاً هاماً لابد من إيلائه الاهتمام الملائم لوزنه، ذلك أن الأوضاع لا تحتمل أن يكون ثمة اضطراب في الاداء الاقتصادي، ويبدو أن إدارة 3 يوليو تدفع الأوضاع الاقتصادية نحو الحافة بحذر لكي يعلم المطالبون باستعادة المسار الديمقراطي فداحة التضحية بالاستقرار الصوري الراهن[15].

وما دون هذه المبادرات، نجد بعض المبادرات التي تحاول ترقيع نتاج سوء الأداء الداخلي، اقتصاديا وثقافيا، ومنها مبادرة “تأميم أموال الإعلاميين”[16] والتي جاءت كرد فعل على تبنى بعض الإعلاميين ذوي الرواتب الباهظة خطابا يدعو المصريين للتقشف، أو مبادرة “لا تشتري اليوم”[17] التي أطلقها “جهاز حماية المستهلك” المصري في اتجاه تصوير الأزمة الاقتصادية المصرية كأزمة “جشع تجار”، ولا يخل الأمر من مبادرة ذات مذاق جاد من قبيل مبادرة “مصر تصدر”[18] التي لا يعيبها سوى تصور أن المصدرين المصريين ينقصهم الهمة للتصدير ضاربة الذكر سهوا أو ربما صفحا عن المعوقات الهيكلية لزيادة الإنتاج والتصدير. هذا فضلا عن سلسلة مبادرات “نقدر” التي تتراوح ما بين جهود “إغاثة الفقراء” و”جمع القمامة”.. إلخ، وكلها مبادرات تحاول مشكورة جبر الكسر في أداء منظومة إدارة 3 يوليو.

ثالثاً: في جدوى المبادرات

في منتصف أكتوبر 2016، تساءل خبير في معرض حديثه عن مبادرة واشنطن عن جدوى وفاعلية المبادرات السياسية المطروحة، منوها إلى أن الأصل في مبادرات بمثل هذا النضج أن تمزق مثل هذا البناء السياسي المهلهل لإدارة 3 يوليو، منتهيا إلى أن مبادراتنا تمثل حتى اللحظة نوعا من “الجري في المحل”[19]. ويحمل هذا التعليق استفسارا ضمنيا عن سبب عقم مثل هذه المبادرات برغم نضجها. وفي تقديري أن فاعلية هذه المبادرات وقف على توفر شروط نجاحها، وهي التي لم تتوفر بعد. غير أن هكذا إجابة تحتاج قدرا من التفصيل.

سبق وأشرنا في مقدمة هذه الورقة إلى أن مصر تعاني أزمة اتصال سياسي ثلاثية الأبعاد، ويمكن القول بأن فيض المبادرات، وبخاصة المبادرات الإنقاذ، قد حلت وبقوة المعضلة الأولى من معضلات الاتصال السياسي، وهي المعضلة الخاصة بالتواصل وبناء الرؤية المشتركة بين القوى الديمقراطية المصرية، وهي قوى ذات قواعد شعبية معطلة ما زالت تنتظر الخطوة التالية من خطوات تحسين الاتصال السياسي.

وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن فاعلية أية مبادرة تتوقف على ثلاثة محكات للتقييم، أولها الظرف الذي تتقدم إليه المبادرة، وثانيها الكفاءة الذاتية للمبادرة، وثالثهما وجود طرف يحمل المبادرة لمربع التنفيذ طالما أن معايير تقييم فاعلية هذه المبادرات تتمثل في دخولها هذا المربع. وفيما يلي إطلالة على عوامل تقييم فاعلية المبادرات.

1ـ ظرف إطلاق المبادرة:

لم يكن مستغرباً أن يصرح خبراء بأنه من العجب أن مثل تلك المبادرات لا تؤتي أكلها بالرغم من اضطراب الأداء السياسي والاقتصادي والثقافي لإدارة الثالث من يوليو. غير أن اضطراب الأداء يمثل أحد جوانب ثلاثة لتقييم فاعلية مبادرة ما. وما زال اضطراب الأداء سيد الموقف في مصر. وقبيل كتابة هذه السطور، قام نحو 190 نائبا من أعضاء مجلس النواب المصري بتوقيع طلب للقاء الرئيس المصري[20] بهدف التحاور حول الأزمة الاقتصادية التي طالت كافة السلع والخدمات، سواء في توفرها أو في تسعيرها، وأشارت صحف مصرية إلى أن النواب لديهم قوائم مطالب من بينها تغيير محافظ البنك المركزي ووزراء الحقائب الاقتصادية وغيرها.

ومن جهة أخرى، فإن الأوضاع السياسية ما زالت تسير من سئ لأسوأ، بتصاعد المنهج القمعي الحكومي، والذي تحول من منهج في مواجهة الأفراد عبر الاعتقال وإلى حد التصفية باتجاه قمع مجتمعي شامل ليس آخره صدور قانوني الهيئات الإعلامية ومن قبله قانون الجمعيات الأهلية. ويضاف إلى ما سبق تمدد ظاهرة الإرهاب الذي شهدنا دخوله لقلب العاصمة مفجرا الكنيسة البطرسية المجاورة لمقر القاهرة الخاص بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.

ولا يخفى اضطراب السياسة الخارجية المصرية وما تُمنى به من انتكاسات وتفريط عبر الزمن، بدءً بالتفريط في أراض مصرية “تيران” و”صنافير”، وانتهاء بالأداء الذي استهجنه المصريون جميعا في مجلس الأمن إبان قضية التصويت بإدانة الاستيطان في مدينة القدس ووقفه، فضلا عن اضطراب العلاقات الإستراتيجية المصرية العربية، وانتهاء بالتعامل غير اللائق الذي يلاقيه السيسي في بعض دول العالم ومنها دول أفريقية.

هذه الاعتبارات جميعها تؤكد أن مصر ما زالت بحاجة لمبادرة توحد قواها سعيا لاستعادة حيويتها أولا، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ثم استعادة مكانتها. وبعين أخرى، يمكن القول بأن تتالى المبادرات يعكس إدراكا بتراجع الحال وتردي المآل المصري داخليا وخارجيا، بحيث يستشعر الجميع ضرورة التحرك لتقديم تصور يسعى في مآلاته لانتشال مصر مما تكابده من أداء حكم لا يليق بمكانتها وظرفها.

2ـ نضج المبادرات:

هو العامل الثاني الذي يحكم فاعلية المبادرة، ويتعلق بحسن استجابة المبادرة للظرف الذي صدرت للتصدي له. ومن خلال مطالعة التقارير والبيانات التي صدرت عن المبادرات، وبالأخص تلك الأخيرة التي صدرت خلال عام 2016، وبخاصة في النصف الأخير منه، يمكن القول بأن هذه المبادرات نجحت في تحقيق اختراق على صعيد أزمة الاتصال الأولى في الواقع المصري، وهي الأزمة التي تتعلق بالتخالف فيما بين أنصار البديل/ المستقبل الديمقراطي، وهي أزمة كبيرة، ويمكن القول بأن تفاقمها هو ما أدى للحظة 30 يونيو قبل أن تفضي تلك الأخيرة “تلقائيا” إلى مشهد الثالث من يوليو.

ويمكن القول بأن مبادرة واشنطن نفسها كانت أهم المبادرات التي ناقشت القضية التي كانت أكثر إثارة للشقاق بين أنصار البديل/ المستقبل الديمقراطي، وأنها تحدثت بصورة واضحة عن صيغة قريبة من طرح العدالة والتنمية حول علاقة الدولة والمؤسسات الدينية، يؤكد على وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع المؤسسات الدينية، وهو ما يضمن الخيار المدني للدولة، كما يضمن خيار الاستقلال الحضاري للمؤسسات الدينية، وهي خطوة من المهم اعتبارها تاريخيا.

ربما يطعن في كمال كفاءة هذه المبادرات أنها لم تلتحم بصورة قوية بالأطروحات الاقتصادية التي أثرتها الأحزاب السياسية في الداخل محاولة جبر الكسر البين في الأداء الاقتصادي للحكومات التي تعاقبت على إدارة 3 يوليو. وجدير بالذكر أن وضوح تصور البديل/ المستقبل الديمقراطي حيال إجراءات التعافي الاقتصادي في مصر لا يقل أهمية عن اجتماع هذه القوى على رؤية واضحة قد تمثل أساسا لحالة تدافع سياسية يمكنها أن تمثل أساسا لحراك مدني يوقف التدهور الاقتصادي والسياسي في مصر على أية أرضية سياسية.

غير أن كفاءة المبادرات في طرحها ليست خاتمة المطاف، ففي النهاية هي اختراق مهم يمكن البناء عليه بصورة فعالة، ويمكن توسيع اتخاذ “الكتلة الضامنة” التي أنتجت هذا الخطاب الالتقائي درجة في إطار خلق أجندة ثوابت وطنية يمكن تعزيزها إعلاميا وثقافيا، بحيث يمكن بناء حركة “مجتمعية” على أكتافها لاحقا، وهو ما يمكنه معالجة أزمة الاتصال السياسي في مصر بمستوييها المتبقيين. ويبقى أن كفاءة الأجندة وحدها – كخطوة تالية في مسار تعزيز البديل/ المستقبل الديمقراطي ينقصها عامل غاية في الأهمية، ألا وهو حامل المبادرة للميدان.

3ـ الفاعل الميداني.. الركن الثالث:

بضعة تساؤلات لابد من الوقوف بها عند الحديث عن المبادرات، وإلا يكون استئناف المبادرات أو الحديث عنها عبئاً أو عبثاً. هذه التساؤلات تبدأ من بسؤال عن الغاية: هل الغاية هي مشروع يناير أم إضاعة ربع القرن القادم في محاولة تسوية تبعات فشل الموجة الثورية الأولى؟ والسؤال الثاني: هل سيبقى من بالخارج بالخارج؟ ويبقى من بالسجون بالسجون؟ أم أن بناء فقه الأولويات على استعادة مشروع يناير يعني أن يخرج “حبيسو العتمة” للنور، وأن يعود أصحاب قرار المنفى الاختياري لوطنهم، وأن يكون خيارهم – بعد بناء الكتلة الضامنة لمشروع يناير – أن يبذلوا الوسع لإصلاح أحوال مصر وأهلها؟ السؤال الأخير في هذا السياق: هل ننتج المبادرات لنتغزل بنصوصها وتراكم تقدم خطاباتها أم هي مبادرات لأجل أمل التنفيذ؟

هذه الأسئلة تعني السياسة، تعني صيغ قابلة للتحول لمراحل تنفيذ، تعني تواصل وتفاعل وبحث عن أوراق لعب وتفاوض واستثمارها، تعني البحث عن ترتيبات لتحويل هذه المبادرات لواقع يتحرك على أرض الوطن نفسها لا في إنتاج نصوص على أمل أن تجد سبيلها للتحقق الذاتي وحدها. وبدونها لن يكون للمبادرات من منفذ لوجدان المصريين سوى صفحات مواقع الشبكة العنكبوتية أو صفحات كتب قد تدرس يوما تطور الفكر السياسي المصري في المنفى. فالركن الثالث للمبادرات أن تجد فاعلا يحملها ويتحرك بها على الأرض.

خلاصة:

القوى السياسية في الداخل المصري تنقسم بين ستة دروب:

الأول: دولتي مؤمن، أو سياسي أيديولوجي يحمل من العداء للتيار الإسلامي أكثر مما يحمل من الإيمان بالديمقراطية وتحققها.

الثاني: قوة سياسية متواضعة البنيان والتنظيم تملك من موارد القوة أقل بكثير مما تملك إدارة 3 يوليو من وسائط احتوائها.

الثالث: قوى رافضة لا تملك حصانة من العسف سوى نصوص قانون بقيت دون استهداف أو توازنات ظرفية توفر لها بعض الوقت.

الرابع: قوى شابة تتحرك على الأرض وتتحرج من التواصل مع قوى تراها تقبع خارج تراب الوطن فلا تشارك في دفع ثمن المواجهة.

الخامس: قوى ثورية قدمت دماء من قبل وتوقفت برهة لالتقاط الأنفاس وتبصر مواطئ أقدام المستقبل.

السادس: نحو 60 ألفا من زهرة شباب مصر يقبع تحت أقبية سجون قيد الزيادة.

هذه القوى في حاجة لاجتهادات سياسية تفتح الطريق لهم للتفاعل تحت سقف يضمن قدرا من قواعد اللعب تتضمن حدا أدنى من الثبات القابل للتوسعة. وحتى هذه اللحظة، ثمة حراك ضئيل في هذا الاتجاه، سيكون محلاً لتحليل آخر ([21]).

——————-

الهامش

[1] وسام فؤاد، الغلابة.. بين الحركة الاجتماعية ورأس المال السياسي، المعهد المصري للدراسات السياسية، 21 نوفمبر 2016. الرابط

[2] الجماعة الإسلامية بمصر تطرح مبادرة «مصالحة»: عودوا خطوة للخلف من أجل الوطن، موقع الخليج الجديد، 7 ديسمبر 2016. الرابط

[3] إسلام سعيد، حمدين صباحى يكشف تفاصيل مبادرة “لنصنع البديل”، صحيفة اليوم السابع المصرية، 6 مارس 2016. الرابط

[4] حسين القباني، القيادي الإخواني “إبراهيم منير”: مستعدون لسماع وجهات النظر في “مصالحة” لا تستبعد مرسي، وكالة الأناضول للأنباء، 19 نوفمبر 2016. الرابط

([5]) مبادرة بروكسل تشكل مجلسا مصريا جديدا، موقع نون بوست،21 مايو 2014. الرابط

[6] محمد ربيع، بعد تحفظات على بعض بنودها.. ننشر التعديلات على مبادئ “وثيقة بروكسل”، صحيفة المصريون المصرية، 19 مايو 2014. الرابط

[7] المحرر، النص الكامل لـ”بيان القاهرة” بهدف استعادة ثورة يناير، صحيفة المصريون المصرية، 24 مايو 2014. الرابط

[8] عبد الحميد قطب، “الشرق” تنفرد بنشر مبادرة “احنا الحل ” لقوي ثورية مصرية، بواية الشرق، 16 يناير 2015. الرابط

[9] محمد أبو الفضل، «محسوب» يطرح مبادرة «الإفلات من السقوط», صحيفة المصريون المصرية، 3 فبراير 2016. الرابط

[10] معتز نادي، عصام حجي يكشف تفاصيل مبادرة الفريق الرئاسي 2018: «الشعب يحكم»، صحيفة المصري اليوم المصرية، 2 أغسطس 2016. الرابط

[11] المحرر، ننشر بنود “مبادرة واشنطن” الـ 10 لايجاد صيغة للتوافق الوطني، بوابة القاهرة، 15 سبتمبر 2016. الرابط

[12] طه العيسوي، الإعلان رسميا عن تفاصيل وثيقة “وطن للجميع” لتوحيد ثوار مصر، موقع عربي 21، 15 سبتمبر 2016. الرابط

[13]) عبد الكريم محمد، نحو كتلة ضامنة، العربي الجديد، 18 نوفمبر 2016. الرابط

[14]) ممدوح حمزة: أسماء عديدة تصلح لمنافسة السيسي في “الرئاسية” أبرزهم جنينة، بوابة مصر العربية، 15 سيسمبر 2016. الرابط

[15]) وسام فؤاد، الغلابة.. بين الحركة الاجتماعية ورأس المال السياسي، إشارة سابقة. الرابط

[16] محمد فتحي، مبادرة تأميم أموال الإعلاميين.. هل تنقلب التجربة الناصرية على مؤيديها؟، جريدة المال المصرية، 27 ديسمبر 2016. الرابط

[17] محمد سالمان، “لا تشترى اليوم”..مبادرة حماية المستهلك لمواجهة الاستغلال، اليوم السابع المصرية، 1 ديسمبر 2016. الرابط

[18] أيمن صالح، “لوجيك” تطلق مبادرة “مصر تصدّر”.. 19 ديسمبر الجاري، صحيفة الوطن المصرية، 12 ديسمبر 2016. الرابط

[19] قطب العربي، مبادرات الأزمة المصرية.. “الجري في المحل”، الدزيرة نت، 15 أكتوبر 2016. الرابط

[20] أحمد أبو فدان، 190 نائبًا يطلبون مقابلة «السيسي» لأمر عاجل، صحيفة المصريون المصرية، 28 ديسمبر 2016. الرابط

[21] الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close