تقارير

مصر صراعات الأجنحة التداعيات والدلالات

خلال مراسم تسليم مهامه للجنرال ـ أفيف كوخافى ـ ذكر اللواء عاموس يادلين، الرئيس السابق للإستخبارات الحربية الإسرائيلية (أمان): “أن مصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلية، وأن العمل فى مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ إبرام إتفاقية كامب ديفيد عام 1979 في الولايات المتحدة الأمريكية”.

وأضاف يادلين: “لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً، ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسنى مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي فيها”(1).

إلى هنا انتهت أقوال “يادين”، والتي تُرجمت حرفيأً عبر إثارة النعرات الطائفية ـ أحداث ماسبيرو نموذجاً ـ وذلك إثر تفجر ثورة ٢٥يناير في مصر، وتعمدُ قيادات مؤثرة في المؤسسة الأمنية وأجهزتها التي تنازل لها المخلوع حسني مبارك عن سلطاته تغذية حالآت من الإحتقان المجتمعي، ونشر الفلتان الأمني وآسع النطاق، من أجل ترويع المجتمع (من أبرزها خطف الأطفال رهائن والأثرياء وخصوصا ً المسيحيين) وهو أمر تسجله محاضر الشرطة والنيابة وخصوصا في صعيد مصر بعد ٢٥يناير ٢٠١١.

وعبر تلك السياسات اللامسئولة بعث قادة المؤسسة الأمنية المصرية برسائل واضحة للداخل والخارج مفادها أن لا أمان لهم في ظل أي نظام حكم مدني ديمقراطي، ولابد لهم أن يقايضوا طغيان قادة تلك المؤسسة مقابلبقاء أمنهم وحياتهم مستقرة، إنطلاقاً من مفهوم أن قيادات مصر الأمنية هي الوحيدة القادرة علي حكم مصر من بين أبناء الشعب، بحكم إمتلاكها للقوة المسلحة، وبعثت المؤسسة الأمنية أيضاً برسالة للحلف الصهيوني الأمريكي بالحفاظ علي مصالحه في مصر والمنطقة وعلي إتفاقيات كامب ديفيد، والتي تعتبرها جماعة كامب ديفيد بالقوات المسلحة قرانا ً مبيناً. وتوجت تلك السياسات الأمنية بالإنقلاب علي أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر وهو الدكتور محمد مرسي في ٣ يوليو من عام ٢٠١٣.

وهذا يفسر لنا لماذا خططت الأجهزة الأمنية فور تولي الرئيس محمد مرسي الحكم للتخلص منه وإجتثاث الديمقراطية …. وكان علي رأس تلك الأجهزة المخابرات العامة والتي كانت طامعة ولاتزال لتصعيد واحد منها إلي سدة الرئاسة، إستنادا لتملكها لمصادر المعلومات الوعي والمعرفة كما يعتقد أفرادها ويفترض أن يكون. ولذلك يقول أحد مسئوليها (2): “قلت للواء رأفت شحاتة عندما تولى منصب رئيس المخابرات أيام حكم الإخوان المسلمين لمصر: “انس القسم الذي حلفته أمام محمد مرسى، وصلي ركعتين لله واستغفره، واتفقنا على ألا نعطِي الرئيس محمد مرسي معلومة واحدة صحيحة عندما تولي منصبه”. هذا المسئول هو اللواء ثروت جودة (وكيل جهاز المخابرات العامة) كاشفا ً من خلال تلك التصريحات تآمر هذا الجهاز بشكل رسمي على إرادة الشعب التي يمثلها أول رئيس مصري منتخب بعد ثورة ٢٥يناير المجيدة.

مذبحة المخابرات

في ذلك الوقت خرجت المخابرات العامة من تجربة كانت تتطلع من خلالها أن يكون الرئيس منها، وكان جنرالها عمر سليمان جاهزاً لكي يتولى هذا الموقع، حيث ترضى عنه الدوائر الأمريكية والإسرائيلية وتربطه علاقات مهمة بقيادات تلك الدوائر، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان له رأي آخر من خلاله ينفذ مخطط لإحتواء ثورة ٢٥يناير وإستعادة الموقع الرئاسي مرة أخري للمؤسسة العسكرية، واستخدم جماعة الإخوان كأداة لتنفيذ مخطط الاحتواء (حسب قناعات قادة المخابرات)، ولذلك نفذ رجال الجنرال الراحل عمر سليمان مخطط إنتقامي من الدكتور محمد مرسي والإخوان، هذا المخطط بدأ عند تولي الرئيس مرسي الحكم ولا تزال فصوله مستمرة.

ولأنه فضح دور المخابرات وقادة الجيش معا وإنتقاما من اللواء ثروت جودة صدرت التعليمات من مكتب قائد الإنقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي لرئيس جهاز المخابرات بتقديمه لمحاكمة عسكرية، وفي ٢٩ أكتوبر٢٠١٤ م، أي بعد تصريحه بشهر، قضت محكمة عسكرية بحبس المذكور لمدة عام بعد أن تقدمت المخابرات العامة ببلاغ ضده متهمة أياه بتهديد الأمن القومي، وبالفعل دخل السجن ونفذ العقوبة، وخرج ليلتزم الصمت حتى الآن (3).

لكن تصريحه كان بمثابة حجر ألقي في المياه الراكدة وقشة قصمت ظهر البعير، وإستنادا إليها وأتت قائد الإنقلاب عبد الفتاح السيسي الفرصة لكي يصفي تارات تاريخية مع جهاز المخابرات العامة ورجال عمر سليمان داخله، فعين أولا رجل المخابرات الحربية محمد فريد التهامي رئيسا للجهاز، وكان نجله العميد محمود السيسي الضابط الشاب بالجهاز هو عينه ويده التي يبطش بها، حيث انتقي له عيونا داخل الجهاز وبدأ يزود والده بقوائم السادة الأعضاء بالجهاز الذين يتوجب التخلص منهم، وبالفعل قرر قائد الإنقلاب عبد الفتاح السيسي إحالة 11 من ضباط ينتمون للجهاز إلي التقاعد وعلل القرار بأنه كان تنفيذا لطلبات تقدم بها جلهم. ومن بينهم ٩ تمت إحالتهم للتقاعد بناء على رغبتهم، (هم كل من حمود عادل أبو الفتوح، وسامي سعيد الجرف، وأشرف سعيد الخطيب، ومحمد مصطفى سعودي، وخالد سعد الدين الصدر، ونيفين أمين إسماعيل، ومصطفى زكي عكاشة، ومحمد علاء عبد الباقي، وماجد إبراهيم محمد). أما الاثنان الآخران (هما علي محمد خير الدين الدناصوري وعادل أحمد محمد إسماعيل) فورد في القرار الجمهوري أنهما أحيلا للتقاعد بسبب وضعهما الصحي الذي لا يساعدهما على الاستمرار في العمل.

وبعدها نشرت الجريدة الرسمية، قرارًا جمهوريًا آخر بتوقيع عبدالفتاح السيسي (4)، القرار ينص علي نقل 19 عنصرا من رجال المخابرات العامة، إلى عدد من الوزارات، وتضمن القرار فى مادته الثانية، نقل 6 من العاملين فى المخابرات بالوظائف المهنية، و4 من العاملين فى وظائف معاوني خدمة، إلى جانب عدد من الوزارات، وأصدر السيسي بعد ذلك سلسلة من القرارات المماثلة تخلص خلالها من عشرات العناصر التي تنتمي لحقبة عمر سليمان، وكان العميد محمود السيسي تم ندبه من المخابرات الحربية إلي المخابرات العامة أيام حكم المشير طنطاوي بعد أن تم ترقيته من مقدم إلي عميد وعهد إليه مسئول ملف غزة، حسب مصادر صحفية، وكان أصغر عميد بالجيش.

وبعد أن تم للسيسي ما أراده من تنظيف لجهاز المخابرات وإضعاف له لصالح المخابرات الحربية، قرر في ديسمبر 2014 إحالة رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء محمد فريد التهامي للتقاعد بعد أكثر من عام على توليه منصبه. وكانت شبهات فساد تحوم حول التهامي عند تعيينه عكستها وسائل إعلام أجنبية لم تمنع السيسي أن يضعه على رأس المخابرات العامة ليتمكن عبره من تمكين نجله في الجهاز وتنفيذ مذبحته (5).

وحسب تسريبات تعرض لها كتاب وصحفيين واعترف السيسي ببعضها فان ثمة خلافات كانت قد نشبت من قبل بين الجنرال الراحل عمر سليمان -رئيس المخابرات ونائب رئيس الجمهورية السابق، وعبد الفتاح السيسي ليس لأن عمر سليمان رفض ان يلحق محمود نجل السيسي الأكبر بالعمل في جهاز المخابرات العامة من قبل لأسباب متعددة، أنما لأن سليمان كان يعرف أيضا طبيعة المهمة التي تم إعداد عبد الفتاح السيسي لها على الصعيد الخارجي، وأكدها لنا مصدر وثيق الصلة بالجنرال سليمان (6)، وهي مهمة لا يصلح لها إلا السيسي وليس لها حدود.

رئيس جديد

السيرة الذاتية ل “خالد فوزي” الذي ولاه السيسي قيادة المخابرات بعد عزل التهامي تشير إلى أن فوزي يبلغ من العمر 57 عاماً، وتخرج في الكلية الحربية عام 1978، ليلتحق بجهاز المخابرات العامة عام 1982، ثم تدرج في المناصب داخل هيئة الأمن القومي وهي من الهيئات المهمة داخل جهاز المخابرات العامة وتدين بالولاء لعمر سليمان ومنوط بها كشف قضايا التجسس وحماية الأمن الداخلي لمصر، حتى أصبح رئيسا لها ومساعدا لرئيس المخابرات العامة عام -٢٠١٣ ـ حسب مصادر صحفية.

ويعتبر “فوزي” الرجل الثاني في المخابرات بعد اللواء “محمد رأفت شحاتة” الرئيس الأسبق للجهاز الذي تمت إقالته عقب انقلاب ٣ يوليو 2013 وتعيين اللواء “فريد التهامي” خلفا له، في تجاوز واضح لـ “فوزي” الذي كان يتوقع ترقيته لمنصب رئيس المخابرات. وأشارت تقارير صحفية إلى أن فوزي كان وراء كل قضايا التجسس التي تم ضبطها عقب ثورة يناير، ومن أهمها قضية الجاسوس الإسرائيلي “إيلان جرابيل” الذي تم القبض عليه في ميدان التحرير. إلا أن خبراء يرون تعيين “فوزي” في منصب رئيس المخابرات العامة يأتي بهدف تجديد الدماء فى جهاز المخابرات العامة، ولكي يتم تحديث بعض الملفات المهمة (7).

ومن خلال معايشتنا لدور الجهاز خلال ال ١٦ عام الأخيرة التي تولاها الجنرال عمر سليمان يمكن القول أن المخابرات العامة كانت تلعب دورا بارزا في العلاقات المصرية الخارجية، وأصبحت تدير بشكل شبه كامل علاقات مصر بالفصائل الفلسطينية وإيران وأفريقيا، فضلا عن مشاركتها في باقي الملفات مثل العلاقات مع الولايات المتحدة وكان جهاز المخابرات العامة يلعب أيضا دورًا محوريا فى القضية الفلسطينية والمصالحة بين حركتي حماس وفتح، فضلا عن تدخله في كل مرة تقوم فيها إسرائيل بشن عدوان على قطاع غزة، كما كان راعيا لاتفاق تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل عام 2011.

مرحلة جديدة:

قام عبد الفتاح السيسي قائد الإنقلاب بمصر فور توليه السلطة بتحجيم دور جهاز المخابرات العامة، الضعيف من الأصل على عكس ما يروجون عنه، واعتمد على المخابرات الحربية، بيد أنها أخفقت على كل المسئوليات التي تقوم بها مدنية وعسكرية ما عدا التعذيب والقتل للمدنيين. وبالتالي لم يجد عبد الفتاح السيسي مفراً من إستعادة رجال الجنرال عمر سليمان مرة أخري وتعيين أحدهم رئيسا لجهاز المخابرات العامة لكي يسير على خطي ما كانت تقوم به المخابرات المصرية أيام مبارك للتعامل مع قضايا الأمن القومي، لكنهم تناسوا أن الظروف والزمان والأوضاع العامة وسيكولوجية الشعب والإقليم تغيرت وأن إنقلابهم الدموي في ٣ يوليو عام ٢٠١٣ دمر علاقة الأجهزة الأمنية كلها بالشعب تماما، وما أفسد إصلاحه صعب ويحتاج للمزيد من الوقت وتضميد الجراح.

لقد كانت ثورة ٢٥يناير كاشفة لهشاشة وضعف تلك الأجهزة التي لفقت لرئيس دولة منتخب من الشعب تهمة التخابر مع المقاومة وهو أمر لا يقدم عليه عنصر وطني ضد رئيس بلاده يفهم ما هو الأمن القومي، طبقا لأراء خبراء استراتيجيون. وهنا نتوقف أمام وجهة نظر عرضها مساعد وزير خارجية مصري سابق بحكم إحتكاكه بالمخابرات (نحتفظ باسمه) يقول: “الصراع بين أجهزة المخابرات ممتد من زمن مبارك، لكن الفارق تغير الظروف، لكن الإشارات المُلتقطة عن جهاز المخابرات العامة كشفتها ثورة ٢٥يناير ٢٠١١ ولأنها تتمتع بأنها العقل الذي يغذي النظام بالمعلومات تسيدت المشهد، وكان يعتمد عليها نظام مبارك (8).

ويضيف “سبب الحرب المعلنة بين المخابرات الحربية والعامة ليس فقط لإنتماء السيسي للمخابرات الحربية، وإنما لكون انه لا توجد أجهزة مخابرات حقيقية أو لها قيمة في مصر، لكون أن كوادرها البشرية غير مؤهلة فمعظمهم ضباط جيش، وفي آخر عهد مبارك وتغول الداخلية أدخل مبارك ضباط أمن مركزي لجهاز المخابرات العامة”.

ويستطرد قائلاً: إن “المخابرات العامة كانت أكثر خبرة في عمليات إحتضان الفساد والتغطية عليه، ونظراً لأن كلا من الجهازين يتمتعان بمستوي مهني متدني لم يكن السيسي خاسراً عندما أعتمد على المخابرات الحربية، وإن كان أختار الأن الإعتماد عليهما معا وتركهما يتصارعان لصالحه فهو هنا يعيد إنتاج نظام مبارك”.

ويوضح: “في بداية حكمه فضل السيسي الإعتماد على المخابرات الحربية لكون أنه يعرف ضباطها بشكل شخصي ولا يحب أن يتجه لمن لا يعرفهم”. وإن كانت المخابرات العامة لها إتصالات متنوعة منذ عهد عمر سليمان “. ويقدر مساعد وزير الخارجية السابق”ان السيسي هو لا يلعب بقدر ما يحطم في المخابرات العامة لحساب الحربية”.

ويقول: “لقد ظهر ضعف تلك الأجهزة وخصوصا المخابرات العامة بعد ثورة ٢٥يناير لأن حالة الثورة شغلت مجسات ومدركات قطاع من الشعب المصري الثورة كالنعم التي قال تعالي أنها لا تعد ولا تحصي واقصد الثورة الإدراكية وليس الإنفعالية وثورة يناير كانت ثورة إدراكية بأكثر مما هي إنفعالية عاطفية “.

ويشير أيضا إلى أن “السيسي بادر بقرارات متتالية لم تكن فقط فاشلة لكنها في موضوعات تمثل تحديا لإمكانياته وإمكانياتهم المتواضعة، أما مبارك فكانت مدرسته عدم إتخاذ قرار وتعويض ذلك بجرعات الإعلام المضلل. ومبارك نفسه قال ذلك عندما سألوه عما إذا كان يريد أن يدخل التاريخ فرد عليه أنا لا أريد أن ادخل لا التاريخ ولا الجغرافية أما السيسي فلإنه لا شرعية يستند إليها سوي إصطناع معركة مع الإرهاب فهو في حاجة لإتخاذ أية قرارات، وهو عندما يتخذها ينسي أن دولة مصر بمؤسساتها ماتت بالفعل ووجوده هو ومن معه كان شهادة الوفاة للدفن”.

واختتم مساعد الوزير شهادته بالإشارة إلى أن “الأجهزة الأمريكية تتابع هذا الصراع بين الأجهزة المصرية، وعدد أفراد السفارة الأمريكية في القاهرة دبلوماسيين وإداريين ومكاتب فنية (حربي، تجاري، إعلامي، إلخ) أكثر من 4000 فرد الآن فتخيل دقة المتابعة للأوضاع الداخلية ومعظمهم شبكة جواسيس 60% منها من المسيحيين بمصر”.

تحركات عملية:

لقد بدأ الشعب يلاحظ ظهور دور للمخابرات العامة عندما بدأ رجلها الجديد الجنرال “خالد فوزي ” يبدو في الصورة إلى جوار الجنرال عبد الفتاح السيسي خلال زياراته وتحركاته الداخلية والخارجية، وربما كانت البداية الحقيقية عندما ظهر عبد الفتاح السيسي مجتمعا مع كل من وزير الدفاع الفريق أول صدقي صبحي، وخالد فوزي رئيس مخابراته الجديد لبحث سبل التعامل مع سد النهضة. ثم اصطحبه معه إلى قمة أديس أبابا الأفريقية الأخيرة، متجاهلاً وزير الموارد المائية والري “لأول مرة”.

ولأن اللواء خالد فوزي تلميذ للواء عمر سليمان ويعرف أن اكتساب حب الشعب هو الأساس لعمل أي جهاز مخابرات، ويعلم أن مصر ممزقة وتعيش إستقطاب وإحتقان منذ حدوث الإنقلاب وأن جهاز المخابرات غزّاه ووقف شاهداً ومؤججاً لهذا الإنقسام ودعمه وساعد في تعميقه، حاول فوزي أن يلعب علي اكتساب حب البسطاء في القري والأرياف والبلدات ظنا منه أن وعيهم أقل من غيرهم في محاولة منه لتحسين صورة جهاز المخابرات العامة، لكن الناس اكتشفت أبعاد القوافل الطبية، التي بدأ تنظيمها باسم الجهاز بشكل مباشر، من الصعيد واختارت المخابرات لها محافظة أسيوط كمنطلق، وبدأت تطلق النكات وتسخر من الفكرة برمتها داعية الجهاز التفرغ للحفاظ علي امن مصر القومي المهدد في صميمه.

وبرز دور عودة جناح عمر سليمان في المخابرات العامة من جديد وبوضوح عندما بدأت تفتح خطوط إتصال مع حركة حماس في غزة للتوصل إلى تفاهمات أمنية على غرار تفاهمات الجنرال عمر سليمان مع حماس من قبل والتي حاول من خلالها إحتواء الحركة والعمل على إضعافها لصالح تل أبيب، وكان عمر سليمان (حسب مصادر صحفية إسرائيلية) يذهب لتل أبيب ويقول لقادة أجهزتها الأمنية نحن وأنتم نحارب الإرهاب الإسلامي في غزة ومصر، ويذهب لقادة المقاومة في غزة مؤكدا لهم حرصه على التوصل لحل للقضية الفلسطينية ويغض الطرف عن الأنفاق.

إلا أن المخابرات الحربية لم تستسلم لدخول المخابرات العامة معها علي الخط فتحالفت مع جهاز الأمن الوطني ووجهت للمخابرات العامة صفعة بالتخلص من رجلها توفيق عكاشة عبر إغلاق قناته وطرده من مجلس الشعب، وإحالة رجال آخرين علي علاقة طيبة بالمخابرات العامة مثل كل من المستشار زكريا عبد العزيز، وهشام جنينة للتقاعد، وقبلها أوحت لوزير الداخلية الحالي أن يخرج في مؤتمر صحفي ليتهم حركة حماس بقتل المستشار هشام بركات، النائب العام السابق، في محاولة مكشوفة منها لتخريب العلاقات النامية بين حماس وجهاز المخابرات المصرية، إلا أن المخابرات العامة استوعبت الصدمة، وتعنتت وأصرت علي عقد اللقاء مع قيادات بارزة من حركة حماس في موعده بالقاهرة مرتين خلال شهر مارس 2016 وعقدت لقاءات توصلت خلالها إلي تفاهمات أمنية مع قيادة المخابرات الأمنية ينتظر ان يتم بلورتها لتخرج للعلن في نهاية الشهر الجاري وبعضها يظهر بوضوح في الواقع العملي قريبا.

وفي معرض تحليله لما يحدث أكد الدكتور حسن نافعة، أن اتهام الداخلية المصرية لحركة حماس باغتيال النائب العام المصري، له ما بعده ويراد منه أن تسوء العلاقات المصرية مع حماس، وهذا يكشف ربما عن صراع أجنحة في مصر تريد أن تقطع هذا التطور في العلاقات، لترجيح كفة المصالح الإسرائيلية، على كفة المصالح الفلسطينية. وأيده الكاتب المصري فهمي هويدي، الذي قال إن الزوبعة الإعلامية الناجمة عن الاتهام المصري لحماس “لا تعبر بالحقيقة عن طبيعة العلاقة، خاصة في ظل القنوات السرية بين الجانبين”(9).

ويشار إلى أن وفد حماس كان يضم أعضاء المكتب السياسي عماد العلمي ونزار عوض الله ومحمود الزهار وخليل الحية وماهر عبيد. وكان الدكتور محمود الزهار القيادي بحماس وعضو وفد القاهرة كشف للجزيرة مباشر عن تفاصيل المفاوضات مع المخابرات المصرية العامة ومن بينها أن “مصر طلبت من الحركة ضبط الحدود ومنع عمليات تهريب السلاح وتنقل أي أشخاص، فيما طالبت حماس بفتح معبر رفح بشكل دائم”. وأشار الزهار إلى أن حركته “طلبت من الجانب المصري إجراء تبادل تجاري بين الجانبين ما سيدر ٣ مليارات دولار سنويًا على الأقل، لتصل إلى ٧ مليارات دولار في السنوات المقبلة”. وقال الزهار “اتفقت الحركة على إطلاق حملة إعلامية موجهة للشارع المصري لدحض الادعاءات بحقها”. وأشار إلى أن القاهرة استفسرت حول علاقة “حماس” بكل من تركيا وإيران، وجاء الرد بأن علاقة الحركة مع أي من الدولتين لن تكون على حساب مصر، وأن القاهرة تنتظر ترجمة “حماس” تعهداتها إلى أفعال ملموسة وواضحة قولاً وفعلاً، حيث يتوقع أن تعقد جلسة مباحثات ثالثة نهاية شهر أبريل الجاري.

وطالبت “حماس” القاهرة بتزويدها بالسولار، بغية حل أزمة الكهرباء في القطاع، مما كان محل قبول من الجانب المصري، بينما طالبت القاهرة بمهلة للرد على مقترح “حماس” بشأن إنشاء ميناء بحري في غزة بشراكة مصرية، خصوصاً أن القاهرة تريد ضمانات بعدم استغلال الميناء في تهريب السلاح والمتفجرات إلى الأراضي المصرية.

آخر التوصيات:

كانت آخر توصيات جناح عمر سليمان الذي يقود جهاز المخابرات العامة لإخراج مصر من أزمتها الراهنة، الإفراج عن معتقلين سياسيين من خارج جماعة الإخوان، وبذل محاولات لإيجاد تسوية سياسية تحافظ علي هيمنة المؤسسات الأمنية علي مفاصل القرار في مصر وتمتص الإحتقان والإستقطاب من الشارع المصري، وهي التوصيات التي بمقتضها أفرجت المحكمة علي ٢٣ كادرا من قيادات التحالف الوطني لدعم الشرعية، وعند تنفيذ الحكم اعترضت المخابرات العامة ذاتها علي قرار الأفراج عن “مجدي أحمد حسين” كونه لا يستمع لتوجيهاتها ويُحرض الجماهير علي الثورة ضد دولتها وهو في داخل السجن حسب تسريبات من داخل أروقة تلك الأجهزة.

لكن مقابل تلك الجهود للمخابرات العامة رد عليها جهاز المخابرات الحربية المتحالف مع جهاز الأمن الوطني وقوات الأمن الخاصة بإرتكاب المزيد من أعمال التصفيات الجسدية والإعتقالات في صفوف الثوار بمصر، وحرك جناح عمر سليمان رجال أعمال حسني مبارك ليتلاعبوا بأسعار العملة المصرية. وفي محاولة منها لكشف تجاوزات المخابرات الحربية والأمن الوطني (كما أشارت إلى ذلك شخصيات ووسائل إعلام مصرية في سياق صراع الأجهزة) قامت عناصر من المخابرات العامة بتسريب أدلة للحكومة الإيطالية بالصوت الصورة وتسجيلات لمكالمات بين رجال الشرطة في منطقة الحادث عن طريق طرف ثالث تكشف القاتل الحقيقي للطالب الإيطالي “جوليو ريجيني”، ولذلك طالب ناشطون مصريون يعتقد أنهم على تماس بالمخابرات العامة بكشف الحقيقة كاملة للإيطاليين والتي يعرفونها، لأن التضليل لن ينطلي عليهم (10). وهذا التسريب تطرقت إليه دوائر إعلامية وصحفية مصرية وشخصيات سياسية معترفة بما حدث، وربما هي إحدى آلاعيب أجهزة السيسي ومخابراته المتصارعة لإنقاذه حتى لا تطاله التهمة.

وبينما تنحدر الأمور في مصر إلي منحني صعبا في ظل تنامي الصراع بين أجهزتها يبدو أن الزمام يكاد يفلت من السيسي، وان الزمان يعتدل ويدور دورته، وأن نجله الذي غرسه بقلب جهاز المخابرات العامة لتدميره بات لا يعرف للجهاز بداية من نهاية، حسب ما أبلغنا به مصدر داخل أروقة هذا الجهاز.

——————————-

الهامش

(1) محمد عبود، الرئيس السابق لـ “أمان”: اخترقنا مصر بما يعجز أي نظام بعد مبارك، موقع المصري اليوم، 2/11/2010، الرابط، تاريخ الزيارة 5/4/2016.

(2) صرح بذلك بتاريخ ٢٧ سبتمبر عام ٢٠١٤ في مقابلة مع الصحفية مني مدكور نشرتها صحيفة الوطن المملوكة لأحد رجال الأعمال المقرب من جهاز المخابرات

(3) تقرير صحفي بصحيفة الشروق

(4) حسب الجريدة الرسمية المصرية التي تنشر القرارات الرسمية الذي بدأ العمل به يوليو عام 2015

(5) حسب ما ذكره لنا عضو بالمخابرات نحتفظ باسمه لاعتبارات أمنية

(6) لقاء جمعني مع مصدر سابق مسئول بالجهاز

(7) نائب مدير المخابرات الحربية الأسبق، اللواء نصر سالم ضمن تصريحات صحفية

(8) لقاء خاص مع مصدر سابق مسئول بالجهاز

(9) محمود هنية، مراقبون يستبعدون تأثير صراع الأجنحة بمصر على العلاقة مع حماس، موقع الرسالة نت، 10/3/2016، الرابط، تاريخ الزيارة، 5/4/2016.

(10) الإعلامية حنان البدري، الحساب الشخصي على شبكة الفيس بوك، الرابط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى