fbpx
دراساتسياسة

مصر: عقود من النهب المستمر والممنهج 1974 ـ 2018

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

دراسة منشورة على الصفحة الرسمية للأستاذ الدكتور عبد الخالق فاروق بتاريخ 27 نوفمبر 2019 (الرابط)([1]).

“لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنيا”  مارتن لوثر كينج

يتأسس علم الاجتماع الماركسي (أو الاشتراكي بمعنى أخر) على مجموعة من المقولات والأدوات التحليلية، مثل مفهوم الصراع بين الطبقات، والتناقضات الكمية تؤدى إلى التغيرات الكيفية، والصراع والوحدة، وغيرها من المفاهيم والمقولات، التي تنبثق كلها من الإطار الفلسفي للمادية الجدلية والمادية التاريخية.

وقد انعكست مثل تلك المفاهيم والأدوات التحليلية على السياسات التي انتهجتها كثير من الدول والحكومات السوفيتية، وصراعها مع المعسكر الرأسمالي، مستندة على مفهوم التناقضات الطبقية والاجتماعية، ودرجة انعكاساتها على البنى الفوقية سواء كانت سياسية أو ثقافية.

ومن هنا تركز سياسات هذه الدول لسنوات طويلة على قيمة الحركة الجماعية والكتل الاجتماعية في إحداث التغييرات السياسية، وعلى حساب مفهوم دور الفرد في التاريخ ودرجة تأثيره على حركة الأحداث والتغيرات، وإن كانت لم تهمله تماما.

وعلى النقيض من ذلك، جاءت نظريات علم الاجتماع (البورجوازي)، أو الغربي مستندة على أدوات تحليلية تركز أكثر على دور وأبعاد الخصائص الشخصية والفردية في التاريخ، وتأثيرها في إحداث تغيرات ملموسة في كثير من الحالات على النسق السياسي خصوصا في الدول والمجتمعات النامية.

ومن هنا أسست الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة خصوصا الكثير من سياساتها وصراعاتها الدولية على الدور الفردي المتعاظم في التاريخ، أو بمعنى أدق دور وتأثير الرئيس أو الملك أو القائد لدولة ما بالسلب أو بالإيجاب.

ومن هنا لاحظنا انعكاس ذلك على حرص الأجهزة الاستخبارية الأمريكية، وبصفة خاصة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، وهيئة الأمن القومي الأمريكية NSA، على إزاحة هذا الرئيس أو ذاك، إذا ما تعارضت توجهاته وسياساته مع المصالح الأمريكية، حتى لو لجأت هذه الأجهزة إلى الاغتيال والتصفية الجسدية لهؤلاء الزعماء، وقد تكرر ذلك كثيرا مثل محاولات اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، وفيدل كاسترو في كوبا، وشواين لاي في الصين، التي لم يكتب لها النجاح، بينما نجحت في تنفيذ مؤامرات الانقلابات العسكرية في تشيلي عام 1973 ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب (سلفادور الليندي)، أو بالقتل مثلما حدث مع رئيس بنما (عمر توريخوس) عام 1981، ورئيس الأكوادور اليساري المنتخب البروفسير (خايمي رولدوس) عام 1981 أيضا، أو قبلها في عام 1954 في قتل الرئيس المنتخب في جواتيمالا (أربينز)، واغتيال الزعيم الكونغولي “باتريس لومومبا” عام 1965.

ربما كان هذا المدخل الصحيح في فهم التطورات اللاحقة التي شهدتها مصر بعد الوفاة المفاجئة للرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر عام 1970، ولم يكن قد تجاوز من عمره الثانية والخمسين بعد.

المبحث الأول: أحداث التغيير.. ولو بالاغتيال أو الرشوة

ومن هنا لم تنتظر السياسة الأمريكية وأجهزة استخباراتها، وخصوصا الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA طويلا التفاعلات الاجتماعية لإجراء تحولات سياسية في الدول الهامة لمصالحها، وإنما عجلت في الكثير من الحالات لتحقيق هذه التحولات والتغييرات المطلوبة، إما باغتيال قيادات ورؤوسا دول يعوقون هذه المصالح، أو بتنفيذ انقلابات عسكرية دموية ضد الزعماء الذين يمثلون عقبات أمام تلك المصالح، حتى لو كان هؤلاء الزعماء والرؤساء منتخبون انتخابا ديموقراطيا من شعوبهم.

حدث هذا في الانقلاب العسكري الذي دبرته الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA بقيادة الجنرال “زهدي” في إيران ضد الحكومة الوطنية التي يقودها الدكتور “محمد مصدق” عام 1951، بعد أن تجرأ الرجل بتأميم شركة النفط الإنجليزية وغيرها من المصالح النفطية، وبعدها أعادوا شاه إيران الهارب “محمد رضا بهلوي” إلى الحكم.

وقد تكرر بعدها بثلاث سنوات في جواتيمالا عام 1954، وذلك بتدبير انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب ديموقراطيا “أربينز Arbeins” الذي كان قد أمم شركة الفواكه الأمريكية، التي كانت بمثابة الواجهة العلنية لنشاط وكالة الاستخبارات الأمريكية في أمريكا الوسطى كلها(1).
ونفس الأمر في محاولة اغتيال الزعيم الصيني “شواين لاي” عام 1955 أثناء انعقاد مؤتمر باندونج في إندونيسيا بواسطة القنصل الأمريكي في هونج كونج “وليم كورسن”W.Corson  ومن خلال دس السم في طعام الرجل (2).
كما نجحت المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع شركة التليفون والهاتف الأمريكية في تشيلي AT& T في تدبير انقلاب عسكري دموي ووحشي ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب ديموقراطيا “سلفادور الليندي” عام 1973، وقتل الرجل وراح ضحية هذا الانقلاب عشرات الآلاف من الضحايا والمفقودين على مدى عشرين عاما من هذا الحكم العسكري الفاشي الذي قادة الجنرال “بانوشيه”.
ويشير ضابط الاستخبارات الاقتصادي الأمريكي – وهذه هي المرة الأولى التي نسمع بها بهذه الوظيفة – “جون بيركنز” Perkins بشجاعة إلى ما قامت به الاستخبارات المركزية الأمريكية من اغتيال رئيس الأكوادور المنتخب ديموقراطيا البروفسير “خايمي رولدوس” في حادث طائرة غامض يوم 24 مايو 1981، وهو ما تكرر بنفس الأسلوب في اغتيال الزعيم الوطني المستقل في بنما “عمر توريخوس” بعدها بشهرين في 31 يوليو 1981، وهو ما عاد وتكرر كثيرا، كان آخرها المحاولة الفاشلة لإسقاط الطائرة المروحية التي كان يستقلها الرئيس اليساري المنتخب في بوليفيا “إيفو مورالس” في شهر نوفمبر عام 2019، والتي أعقبها مباشرة تنظيم انقلاب عسكري أجبره على الاستقالة. وكذلك تلك المحاولات المتكررة والتي تجاوزت عشرات المرات لاغتيال الزعيم جمال عبد الناصر والزعيم الكوبي التاريخي “فيدل كاسترو” والتي باءت جميعها بالفشل.
وقد ترتب على عمليات الاغتيال والانقلابات العسكرية تحقيق المطالب الأمريكية فعلا، ففي الأكوادور وبعد نجاح اغتيال الرئيس “خايمي رولدوس” عام 1981، تولى بعده الرئيس “أوزفالد أورتاور” الذي أعاد المزايا الأمريكية بما فيها إعادة افتتاح المعهد الصيفي للغات SIL الذي كان بمثابة الواجهة العلنية لجهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية في البلاد، وكذلك تحقق للولايات المتحدة مطالبها بعد إزاحة حكومة الدكتور مصدق في إيران وعودة الشاه والعسكر لحكم البلاد.
ويشير الكاتب الصحفي الأمريكي البارز “بوب ودووارد” Bob Woodward في كتابه الهام (الحجاب.. الحروب السرية للاستخبارات المركزية الأمريكية)، إلى أن أسلوب الاغتيالات Assignation قد أستمر في عقدي الثمانينات والتسعينات، سواء في محاولات اغتيال العقيد القذافي في ليبيا، أو غيره من المسؤولين المناوئين للمصالح الأمريكية في كثير من دول العالم(3) كما أكدته عميلة الاستخبارات البريطانية السابقة “أنى ماشون” Annie Machon في كتابها الذي صدر عام 2015 وأحدث ضجة هائلة في الأوساط الاستخبارية والإعلامية العالمية.
في هذا السياق التاريخي الطويل، يمكن فهم وتفسير السلوك الأمريكي في منطقة الشرق العربي، الذي يمثل لها مصالح استراتيجية وحيوية، تصل إلى حد اعتباره جزءا من مكونات الأمن القومي الأمريكي، ومن هنا لم يكن غريبا والأمر كذلك أن يكون جمال عبد الناصر الذي ناهض السياسات الأمريكية في المنطقة لمدة ثمانية عشر عاما، واحدا من أهم أهداف نشاط الاستخبارات المركزية الأمريكية، وتكرار محاولات اغتياله ماديا أو معنويا بعد أن فشلت محاولات كل من الرئيسين “دوايت إيزنهاور” و”جون كينيدي” في احتوائه أو ترويضه، ووقف ما اعتبرته الإدارات الأمريكية اندفاعا مصريا نحو التعاون مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وعندما لم تفلح هذه الجهود أطلقت إسرائيل في عدوانها على مصر في الخامس من يونيه عام 1967، لتنزل هزيمة عسكرية قاسية بالنظام الناصري وبقية دول المواجهة العربية، والتمهيد بالتالي لإجراء تغييرات سياسية داخلية في مصر بعناية وعلى نار هادئة وعبر اختراق من الداخل هذه المرة.
وكما كان يحدث في عمليات الاختراق المتبادل بين أجهزة الاستخبارات الكبرى (مثل KGB السوفيتي و CIA الأمريكي و MI6 البريطاني) سواء بزرع جواسيس أو اقتناص وتجنيد قيادات ومسؤولين في الوظائف العليا في هذه البلدان، كما يشير “بوب ودووارد”، فيبدو أن الوقائع تؤكد أنهم قد نجحوا في مصر.
وبرغم بعض الإشارات غير المؤكدة، لصحفي كبير ومطلع مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل، حول وجود شبهات على اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر بطريقة غامضة، وشكوك تحيط بنائبه (أنور السادات)، الذي قام بنفسه بإعداد فنجان من القهوة للرئيس جمال عبد الناصر أثناء راحته في فندق “هليتون”، بين جلسات المؤتمر الذي انعقد بالقاهرة في شهر سبتمبر من عام 1970، وقبل ساعات قليلة من وفاة الرجل، لوقف حمام الدم الفلسطيني في الأردن، ومحاولته وقف اندفاع الملك الأردني (الحسين بن طلال) لتصفية المقاومة الفلسطينية في بلاده، فتبقى هذه الإشارات غير موثقة وغير مدعومة (4)، اللهم سوى شواهد سياسات السادات بعد توليه الحكم فعلا، والتي تمثل انقلابا جذريا على سياسات الرئيس جمال عبد الناصر، وفتح وتسليم المنطقة العربية كلها للولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب أكتوبر عام 1973.
كما أن الربط بين بعض الوقائع الغريبة وغير المفهومة أو المبررة، التي أتى بها الرئيس أنور السادات بعد توليه الحكم في شهر أكتوبر عام 1970، والكتابات التي تحمل إشارات واضحة من أهم الكتاب والصحفيين المطلعين في دوائر الاستخبارات الأمريكية والسياسة الأمريكية عموما، قد تعطى مسارا لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة والواقع.
فوفقا للكاتب الأمريكي البارز والمطلع Bob Woodward فإن الرئيس أنور السادات كان أحد أهم المصادر الاستخبارية لدى جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية حتى من قبل توليه الحكم، وقد نشأت هذه العلاقة في منتصف عقد الستينات وقبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وكان الوسيط هو السيد “كمال أدهم” مدير المخابرات السعودية، والذي أدى إلى وضع السادات على قوائم المدفوعات المالية للاستخبارات الأمريكية Payroll (5).
وهو ما يعود ليؤكد عليه المؤرخ الأمريكي المتخصص في شؤون الاستخبارات المركزية الأمريكية “جوزيف ترونتو” Joseph J. Trento في صفحة (105) من كتابه قائلا أن فضيحة بنك الاعتماد والتجارة عام 1991، والذي كان بمثابة واجهة للاستخبارات المركزية الأمريكية من جهة، والمخابرات العامة السعودية من جهة أخرى، قد بينت أن هذا البنك كان يستخدم لعمليات غسل أموال وفي تمويل عصابات المخدرات والإرهابيين **، كما كشفت قوائم وأسماء الحاصلين على مرتبات ومدفوعات منتظمة من جهاز CIA وكان من بينهم نائب الرئيس المصري السيد أنور السادات (6).
ويعود “بوب ودووارد” صفحة (87) ليشير إلى نفس الأمر حينما نجح المرشح الجمهوري “رونالد ريجان” في الانتخابات الرئاسية عام 1980، وقبل توليه منصبه في العشرين من يناير عام 1981، حيث يقضي العرف السياسي أن يقوم رئيس المخابرات المركزية الأمريكية في الحكومة المغادرة “ستنسفيلد تيرنر” Stansfield Turner بتقديم ملخص Briefing للرئيس الجديد، وفي حضور المدير المرشح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “وليم كيسي” Casey، وقد تضمن العرض المختصر أهم وأكثر أنشطة الوكالة في العالم، وفي إدارة عمليات التجسس والتنصت، وخصوصا على الاتحاد السوفيتي أو غيرها، وهنا جاء العرض الخاص بمصر وقال “تيرنر” أن الاستخبارات الأمريكية لديها عملاء في مصر من قمة السلطة وحتى القاع، وأن الرئيس المصري أنور السادات معروف جيدا لدى الاستخبارات المركزية الأمريكي(7).
وهذا التعبير (معروف جيدا لدى الاستخبارات) مصطلح معتمد ومتداول لدى رجالات الدولة والأجهزة الاستخبارية بما يعنى أنه عميل Agent أو متعاون معها، وهو نفس الوصف الذي استخدمه الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران”
________________
** من ضمن البنوك التي لعبت دور الواجهة لعمليات جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية في أستراليا بنك هوجان هاند.
بعدها بعدة سنوات في وصف علاقة الرئيس المصري (حسني مبارك) مع الأجهزة الاستخبارية الفرنسية أثناء عقد صفقة طائرات الميراج عام 1972.
ويعود “بوب ودووارد” للتأكيد على أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات عسكرية واستخبارية للسادات حتى يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة والحكم في مصر(8).
ثم يكرر “بوب ودووارد” بإصرار الواثق من مصادر معلوماته في صفحة (312) بأن السادات كان يتلقى دخلا منتظما Regular Income من الوكالة وعبر السيد كمال أدهم.
فإذا ربطنا بين هذه المعطيات والمعلومات التي يقدمها ثلاثة من أكبر المطلعين على الأحداث، ولديهم نوافذ مطلة وكاشفة على مراكز صناعة القرارات والمعلومات (جوزيف ترنتو – بوب ودووارد – محمد حسنين هيكل)، وبين كثير من تصرفات وسياسات السادات غير المفهومة في السياق الوطني والمنطقي نستطيع أن نصل إلى نتائج على درجة معقولة جدا من الحقيقة.
خذ مثلا تصرف السادات غير المفهوم وغير المبرر، حينما كشف لضيفه السعودي “كمال أدهم” والمعروف بصلاته القوية جدا والولاء المطلق للولايات المتحدة وأجهزة استخباراتها، وبحكم موقعه الحساس كمدير للمخابرات السعودية، عن سر عملية “عصفور أفندي” التي نجحت فيها أجهزة الأمن القومي المصري منذ عام 1968 في زرع أربعة ميكروفونات تنصت داخل السفارة الأمريكية في القاهرة، وظلت طي الكتمان تنتج منجما من المعلومات لمصر، ثم بمجرد أن عرف بأمرها الرئيس السادات بعد توليه الحكم من الكاتب الكبير “محمد حسنين هيكل”، أفشى بسرها إلى ضيفه السعودي وكأنها مزحة ثم أطلق العنان لضحكته المصطنعة، وبعدها بأيام قليلة كانت أجهزة أمن السفارة الأمريكية تقوم بعملية مسح شامل لكل ركن من أركان السفارة، وتنزع الميكروفونات من أماكنها الأربعة (9)…!!
كما تفسر هذه الوقائع والمعلومات، تصرف السادات الغريب والشاذ من طلب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية – غير الرسمي – الذي نقله إليه وزير الخارجية الأمريكية “سيروس فانس” أثناء زيارته للقاهرة عام 1977 بطلب محرك من محركات طائرة الميج (21) المعدلة التي كانت تتسلح بها القوات الجوية المصرية، وتمثل العمود الفقري للتسلح الجوي لسوريا والجزائر وليبيا وعدد أخر من الدول العربية، والاتحاد السوفيتي نفسه، فإذا بالسادات يقهقه ضاحكا ضحكته السمجة، وينادي على وزير دفاعه “الفريق أول عبد الغنى الجمسي”، ليأمره بتوفير طائرة كاملة لتقديمها إلى الولايات المتحدة وسط دهشة وذهول وزير الدفاع المصري واستغرابه(10).
وخذ أيضا العلاقة الغامضة والملتبسة بين الرئيس السادات وسكرتيره الشاب للمعلومات “أشرف مروان”، الذي استولى على بعض الوثائق والمستندات ومشروعات القرارات من خزينة الرئيس “جمال عبد الناصر” عشية وفاته، والتي كانت تتضمن مشروع قرار جمهوري بتعيين السيد عبد اللطيف بغدادي نائبا أول للرئيس عبد الناصر، مما كان يعني إزاحة السادات من مشهد وتسلسل القيادة في حال وفاة أو تخلي عبد الناصر عن الحكم، وما تكشف بعد ذلك بثلاثة عقود عن صلات مشبوهة بين أشرف مروان وجهاز الموساد الإسرائيلي وعمله معهم منذ عام 1968 (11).
كما كشف اللواء مجدي عمارة – أحد قادة ألوية الحرس الجمهوري – ما ترتب على واقعة تدهور العلاقة الشخصية بين الرئيس أنور السادات وقائد الحرس الجمهوري اللواء الليثي ناصف، الذي لعب دورا حاسما في تمكين الرئيس السادات في أزمة مايو عام 1971 من الحكم، واعتقال كل معارضيه من كبار رجالات الدولة، فقد ترتب على تدهور هذه العلاقة بين الرئيس السادات واللواء الليثي ناصف، تدهور مقابل بين الأخير واللواء “أحمد إسماعيل على” الذي كان يشغل وظيفة مدير المخابرات العامة المصرية، قبل أن يتولى منصب وزير الحربية في عام 1972، حيث جرى إبعاد اللواء الليثي ناصف إلى لندن بحجة العلاج، ثم قتل الرجل بطريقة غامضة من خلال إلقائه من نافذة شقته بالطابق السادس في لندن (12).
وتشير خطوات الرئيس السادات اللاحقة عن بدايات التحول في السياسة المصرية، بدءا من رفع شعار “مصر أولا” بعد تمكنه من السلطة، وإزاحة المجموعة الناصرية من الحكم في 15 مايو عام 1971، ثم ما رفعه بعد حرب أكتوبر عام 1973 مباشرة، بأن 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة الأمريكية، ومعاداته الشديدة للاتحاد السوفيتي، انتهاء بالتحول الاستراتيجي الخطير الذي أجراه في المنطقة العربية كلها بمبادرته بزيارة القدس المحتلة في 19 نوفمبر عام 1977، وتوقيع اتفاقية “كامب ديفيد” في سبتمبر عام 1978، ثم اتفاقية السلام والصلح المنفرد مع إسرائيل في مارس من عام 1979.
كل هذه التحولات الكبرى في السياسة المصرية، وتداعياتها السلبية والخطيرة، بما أطلق عليه “الفراغ الاستراتيجي” في المنطقة، وما ترتب عليه من فتح الطريق واسعا لهيمنة أمريكية وإسرائيلية على المنطقة منذ ذلك الحين حتى وقتنا الراهن (13).
ويكشف “بوب ودووارد” – الذي لعب دورا أساسيا في كشف فضيحة تنصت رجال الرئيس الجمهوري نيكسون على الحملة الانتخابية لمنافسه في الحزب الديموقراطي عام 1972 ما أدى في النهاية لاستقالته تجنبا لمحاكمته – جوانب أخرى من قدرة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في تجنيد والسيطرة على شخصيات عربية هامة، منها على سبيل المثال الملك الأردني “الحسين بن طلال”، الذي ظل يتقاضى مرتبات ومدفوعات منتظمة من الاستخبارات المركزية لمدة عشرين عاما كاملة (14).
وكذلك الزعيم اللبناني الكتائبي “بشير الجميل” أثناء عمله في أحد مكاتب المحاماة الكبرى في الولايات المتحدة بعد تخرجه من كلية الحقوق في بيروت في مطلع السبعينات، وقدم معلومات للوكالة مقابل الحصول على مدفوعات مالية (15). وكذلك الملك المغربي “الحسن الثاني”، ومنذ أن كان طفلا ووليا للعهد، والذي ساعدته الوكالة في البقاء في الحكم وحماية عرشه مقابل أن فتح بلاده واسعا لنشاط الوكالة وأجهزة الأمن القومي الأمريكي (16).
**************
فكيف جرى التعرف والتعامل مع “حسني مبارك”، منذ ظهوره على مسرح الحياة في مصر؟
الحقيقة التي تكشفها الوقائع والمعطيات التاريخية، أن اللواء طيار “محمد حسني مبارك” لم يكن بعيدا عن أعين وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA منذ عام 1969 تحديدا، حينما رافق الرجل السيد أنور السادات نائب الرئيس جمال عبد الناصر في رحلته إلى الخرطوم، وقيامه بتفخيخ وتلغيم سلة المانجو الشهيرة، وإرسالها إلى زعيم المعارضة السودانية لنظام الرئيس جعفر نميري “الإمام المهدى”، والتي أودت بحياة الرجل (17).
كان لمصاحبة اللواء حسني مبارك لنائب رئيس الجمهورية (أنور السادات) في هذه الرحلة – وكليهما يربطه صلة جهوية من محافظة المنوفية – دورا كبيرا في التعرف على خصائص الرجل عن قرب، خصوصا وأن جسور التعاون بين أنور السادات والوكالة قد تمت قبلها بسنوات وعبر الوسيط السعودي “كمال أدهم”. ثم عاد وظهر اللواء طيار “حسني مبارك” على شاشات المراقبة الأمريكية في واقعة أخرى لا تقل غرابة عام 1972، وهي الخاصة بصفقة طائرات “الميراج “الفرنسية.
وفي تفاصيل ما جرى، فإن النظام الجديد في ليبيا برئاسة العقيد معمر القذافي، كان قد قرر بالاتفاق مع الرئيس جمال عبد الناصر دعم المجهود الحربي المصري لتحرير سيناء المحتلة، بشراء 106 طائرات ميراج فرنسية حديثة بقيمة 5 مليارات دولار أمريكي، وهو رقم ضخم في ذلك الزمان.
ثم توفي الرئيس جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970، قبل أن تبدأ إجراءات التفاوض بين الجانبين الليبي والفرنسي حول شروط وإجراءات إتمام تلك الصفقة، ومن ثم أنيط للرئيس المصري الجديد (أنور السادات) تكليف اللواء طيار حسني مبارك إدارة هذه العملية التفاوضية، وتشكيل فريق من الطيارين المصريين ذوي الخبرة، وحصولهم على وثائق سفر ليبية، والادعاء بأنهم ليبيون لإدارة هذا التفاوض مع الحكومة الفرنسية وشركة “طومسون” المنتجة لهذه الطائرات.
وهنا حدث ما لم يتصوره أحد، فمن ناحية دب الخلاف على ما يبدو بين أعضاء الفريق المصري ** حول نسب العمولات التي سوف يحصلون عليها ونصيب كل واحدا منهم (وهي لا تقل عن 5% من قيمة الصفقة أي لا تقل عن 250 مليون دولار)، ولم تتأخر المخابرات الفرنسية بالطبع (CEDCE) عن تسجيل ما حدث بالصوت والصورة، وقد أطلع الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” صديقه محمد حسنين هيكل في لقاء خاص بينهما عام 1982 على بعض جوانب ما جرى، كما طلب من الكاتب المصري أن يجلس مع مدير المخابرات الفرنسية “الكسندر دي ميرانش “Aleixandre De Merinch ليتعرف منه على بعض ما لا يعرفه المصريون عن رئيسهم الجديد (18).
_______________
** لا نعرف حتى اليوم أسماء الضباط المرافقين للواء حسني مبارك في هذه المأمورية، والذين شاركوا في اقتسام هذه العمولة الضخمة، وإن كان بعضهم قد ظهر بعد عام 1974 وسياسة الانفتاح في صورة رجال أعمال كبار.
والأهم والأخطر، ما تبين بعد ذلك من أن بعض هذه الطائرات التي استعملها الطيارون المصريون في حرب أكتوبر عام 1973، كانت مستعملة Second Hand، وهو ما كاد يفجر فضيحة كبرى في مصر ووسط القوات الجوية المصرية، لولا أن سارع الفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية والمسؤول عن هذه الصفقة بلملمة القصة واحتوائها(19).
وبالنظر لكون الحرب الباردة كانت قائمة على قدم وساق بين المعسكرين، فإن الاختصاص الأصيل لمتابعة وإدارة شؤون الصراع في منطقة الشرق الأوسط، منعقد بالضرورة للولايات المتحدة الأمريكية وأجهزة استخباراتها، مقابل انفراد فرنسا بمناطق أخرى ومنها غرب أفريقيا، في إطار تعاون وتنسيق وتقسيم لمناطق النفوذ والسيطرة، فإن هذه المعلومات الخاصة المتعلقة بقائد القوات الجوية المصرية وحصوله على عمولات ورشى سلاح، لم تكن لتغيب عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA، فأصبح ملف الرجل جاهزا للتعامل وتجهيز المصيدة المناسبة للرجل وهذا ما جرى بالفعل.
كما تعرفت أجهزة الاستخبارات الأمريكية على حسني مبارك – ومن قبله أشرف مروان – حينما كان يمثل مصر في اجتماعات المجموعة الاستخبارية التي شكلتها فرنسا وقادتها، بمشاركة كل من مصر والسعودية والمغرب للقيام بعمليات استخبارية ضد الدول والحكومات المتعاونة مع السوفييت في أفريقيا، وفي غيرها من الدول تحت ما سمى (نادى السفاري) SAVARY CLUB. (20)
كانت الخطة الأمريكية في التعامل مع ملف “حسني مبارك” أو ما أصبح يطلق عليه فيما بعد “الكنز الاستراتيجي”، ذات أبعاد ومستويات ومراحل ثلاث:
الأول: الضغط على الرئيس المصري “أنور السادات” بوسائل شتى بهدف إجباره على ترفيع وترقية الفريق طيار من مجرد قائد للقوات الجوية، أو سفير في الخارج إلى منصب وموقع سياسي متقدم في النظام السياسي المصري، أي إلى مستوى نائب رئيس الجمهورية تمهيدا لما بعدها، ولم تكن هذه الخطوة صعبة، نظرا لسابق سيطرة الأجهزة الأمريكية على الرئيس السادات نفسه منذ منتصف الستينات، وتعامله مع الاستخبارات المركزية الأمريكية بواسطة الشيخ “كمال أدهم” مدير المخابرات العامة السعودية كما سبق وأشرنا.
الثاني: توريط حسني مبارك في مزيد من الأعمال القذرة تسهل السيطرة عليه تماما، ودراسة تاريخه السابق تكشف مدى حبه للمال وجشعه، وطبيعة تركيبته النفسية والشخصية، اللتين ستسهلان الوقوع في المصيدة بسهولة ويسر(21).
الثالث: استبعاد وإقصاء – حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى الاغتيال – أية شخصيات قد تكون منافسة، أو تمثل تهديدا لهذا الصعود المطلوب للرجل (بدءا من الفريق سعد الشاذلي مرورا بالمشير أحمد بدوي، انتهاء بمنصور حسن) **.
وعلى الفور شرع في تنفيذ الخطة بعد عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية الحميمة بين الرئيس السادات والولايات المتحدة الأمريكية عام 1974، فجرى الدفع بعشرات من الزوار الكبار للرئيس السادات من كبار رجال المال (ديفيد روكفللر مثلا) والإعلاميين والصحفيين، ليحيطوا بالسادات مصحوبين بكاميرات بقدر ما تشع الأضواء فهي قادرة على الإغراء والإغواء.
وطرح على الرجل – المفتون بطبعه وتاريخه بالسينما والإعلام وبريقها – عشرات الأسئلة، وفي حروف الكثير منها مضامين إجابات مطلوبة، أو رسائل منقولة، ومن يراجع الأرشيف الصحفي للقاءات الرئيس السادات طوال عامي 1974 و1975، سوف يكتشف تكرارا وإلحاحا على سؤال: من يكون نائب الرئيس القادم؟
وبلغ الأمر بالبعض أن رشح أسماء من قيادات جيل أكتوبر كما كان يفضل أن يسميهم الرئيس السادات.
وكانت بعض الأخبار قد تسربت بشأن طلب “هنري كيسنجر” من السادات أن يأخذ بقائد القوات الجوية نائبا له، كما أبرزت الصحافة الأمريكية القادة العسكريين الجدد في مصر، وعرضت صورهم وتساءلت: من يكون حاكم مصر القادم من بين هؤلاء؟
وفي المقدمة كانت صورة حسني مبارك تتصدر المشهد.
كما دفعت الاستخبارات المركزية الأمريكية برجلها الهام الشيخ “كمال أدهم”، وصديق السادات إلى حلبة الخطة المحكمة، بتكرار زياراته للقاهرة ولقاء الرئيس السادات، وكان أحد الموضوعات الملحة في لقاءات الرجلين، موضوع اختيار النائب الجديد للسادات، ولم يخف “كمال أدهم” ارتياحه لنوايا السادات باختيار قائد القوات الجوية حسني مبارك لهذا المنصب.
كان السادات من الفطنة والغريزة لفلاح قديم، ففهم الإشارات المرسلة من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، فانصاع للاختيار (الإجباري) وأعلن في إبريل من عام 1975 عن اختياره للفريق حسني مبارك نائبا للرئيس، وهكذا جرى استبعاد قيادات عسكرية مرموقة كان دورها في الحرب أهم وأخطر من حسني مبارك، وكان ترتيبهم في الأقدمية أولى وأعلى، ومنهم الفريق محمد علي فهمى قائد ومؤسس قوات الدفاع الجوي، والفريق أحمد بدوي قائد الجيش
_____________
** استشهد الفريق أول ووزير الدفاع أحمد بدوي، وبصحبته ثلاثة عشر من أبرز قيادات حرب أكتوبر في يوم الإثنين الموافق الثاني من مارس عام 1981، على إثر سقوط غامض لطائرته الهليكوبتر أثناء إقلاعها، وأثناء جولة تفتيشية على القوات المسلحة في سيوة، وكان قبلها بأسبوعين قد جرت مشادة كلامية حادة بينه والرئيس السادات بسبب صفقات السلاح الأمريكية لمصر التي تبين أن بعضها كان يهرب ليباع في سوق الحرب في أفغانستان وغيرها من الساحات.
الثالث أثناء الحصار، والفريق سعد مأمون قائد الجيش الثاني في الحرب، ومن باب أولى جرى استبعاد الفريق محمد عبد الغنى الجمسي الذي لعب دورا حيويا في الحرب والإعداد لها كرئيس لغرفة العمليات بالقيادة العامة.
وبهذا التعيين الجديد لحسني مبارك كنائب للرئيس المصري (أنور السادات) بدأت المرحلة الثانية من الخطة الأمريكية المحكمة لاصطياد الفريسة، المعروف عنه طمعه وجشعه، وغرامه بعمليات الاحتيال على القوانين والأعراف الأخلاقية، انتقلت الخطة إلى المرحلة الثانية والتي بدأت بإقرار برنامج للمساعدات العسكرية لمصر المقدرة بأكثر من 1.5 مليار دولار أمريكي سنويا (وهو رقم ضخم جدا بأسعار ذلك الزمان)، بعد أن فرضت كثير من الدول العربية مقاطعة اقتصادية وسياسية لنظام أنور السادات بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978، فوقع في شباكها أكثر من صيد ثمين جمعهم جميعا الطمع والجشع وحب المال.
كان الجبن في المصيدة يسيل له لعاب مبارك وبعض معاونيه من القادة العسكريين المصريين، وبعض المحتالين المدنيين من أمثال حسين سالم، الذي لا يضاهيه في خبرة إنشاء الشركات والبنوك كغطاء لأنشطة غير مشروعة سوى عميل الاستخبارات المركزية الشهير” بول هالويل “Paul Helliwell.
كان تاريخ “حسين سالم” كمحتال وخبير في إنشاء شركات التغطية Covering سابقة له في كل مكان يذهب إليه سواء في مصر أو الإمارات أو غيرهما *. وحينما بدأ في الأفق أن برنامجا ضخما للمساعدات العسكرية الأمريكية لمصر عام 1978 قد بدأ، أتى به من الإمارات النائب حسني مبارك، ليبدأ في مشوار جديد وفريد في حياته وحياة حسني مبارك، والتشكيل العصابي الذي كونه الرجل من وراء ظهر الشعب المصري والدولة المصرية.
ومن هنا جرى تعيينه بعد عودة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والمساعدات العسكرية الأمريكية لمصر بعد عام 1978، في وظيفة وزير مفوض في السفارة المصرية في العاصمة واشنطن، وزامل فيها اللواء محمد عبد الحليم أبو غزالة الملحق عسكري هناك.
وتكون التشكيل العصابي في البداية من مجموعة رئيسية Core، بعضهم كان دوره بارزا ومكشوفا (حسين سالم)، وبعضهم الآخر ظل متواريا خلف الستار، وكان من بينهم نائب الرئيس (حسني مبارك) والملحق العسكري في

__________________
*حسين سالم رجل غامض، بدأ موظفا صغيرا في صندوق دعم الغزل في منتصف الخمسينات، ثم انتقل للعمل كمحاسب في الشركة العربية للتجارة الخارجية عام 1960، التي كانت بمثابة واجهة اقتصادية للمخابرات العامة المصرية، ثم التحق بالعمل في السفارة المصرية في بغداد وهناك التصق بالسفير أمين هويدي، الذي أخذه معه عام 1968 كعضو في مكتبه في المخابرات العامة المصرية، وبعد انقلاب القصر الذي قام به السادات في مايو عام 1971، وعزل أمين هويدي من منصبه، سافر إلى الإمارات بحثا عن فرصة وبعد عامين خرج من الإمارات هاربا بعد أن أحاطت به الشكوك والاتهامات بالسرقة والاحتيال وقد عفي عنه الشيخ زايد، ثم فجأة وجدناه وزيرا مفوضا في سفارة مصر في واشنطن بعد عام 1975. ومن هنا بدأ مسارا جديدا وخطيرا في تجارة السلاح.
واشنطن (اللواء عبد الحليم أبو غزالة)، واللواء منير ثابت مدير مكتب المشتريات العسكرية في واشنطن وصهر النائب حسني مبارك، واللواء كمال حسن علي الذي تنقل في المناصب العليا فوفر غطاءً سياسيا وأمنيا لهذه المجموعة * وامتدت الخطوط بعد ذلك لتستدعي أدوارا إقليمية وتجارة سلاح واسعة الانتشار، سواء في أمريكا الجنوبية (نيكاراجوا – السلفادور) أو أفريقيا (أنجولا والكونغو) وفي أفغانستان، وهنا برزت أدوار كل من “عدنان خاشقجي” تاجر السلاح السعودي الشهير، والشيخ “كمال أدهم” مدير المخابرات السعودية السابق (الذي ترك منصبه عام 1977)، وانضم إليهم مغامرون وأفاقون من عملاء المخابرات المركزية الأمريكية السابقون CIA.
ويفرد المؤرخ الأمريكي البارز والمحلل المدقق لتاريخ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “جوزيف ترنتو” Joseph J. Trento فصول كتابه الخطير والحافل بالأسرار والتفاصيل حول هذا التشكيل العصابي، ووفقا لجوزيف ترنتو “فقد قام حسين سالم – بعد استقالته من وظيفته كوزير مفوض في السفارة المصرية بواشنطن –بتسجيل شركته TERSAM عام 1978 في جمهورية (بنما) **، وتقدم بها إلى مكتب المساعدات العسكرية والأمنية (DSAA) التابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لتسجيلها كوكيل وحيد مسؤول عن شحن ونقل المعدات العسكرية الأمريكية إلى مصر(22).
على الجانب الأمريكي كان هناك تشكيل عصابي آخر من عملاء سابقين للاستخبارات المركزية الأمريكية يقوده رجل المخابرات الأمريكي البارز “تيودور شيكيلي”Theodore J. Shachley، الذي تعرض للاستبعاد والإقصاء من منصبه الرفيع في الوكالة في عهد إدارة الرئيس “جيمي كارتر” الذي أتى برجل من خارج الوكالة ليطهرها، هو الأدميرال “ستنسفيلد ترنر” Stanfield Turner، ومن ثم فقد رفض نائب رئيس مكتب المساعدات العسكرية والأمنية الأمريكية الكولونيل الجوي” أريك فون ماربود” Erich Von Marbod، تسجيل شركة حسين سالم، إلا بعد وجود شريك أمريكي، واقترح عليه العميل “توماس كلينز”Tomas Clines، وعلى الفور تأسست الشركة الجديدة وسميت
______________
* كان اللواء كمال حسن علي مديرا لسلاح المدرعات قبل وأثناء حرب أكتوبر عام 1973، ثم عين بعدها مديرا للمخابرات العامة المصرية (1975- 1978)، ثم تولى منصب وزير الخارجية (1978-1982)، ومن بعدها تولى منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس الجديد حسني مبارك (1984-1985)، ثم عين رئيسا لأحد البنوك الكبرى في البلاد.
** تفجرت فضيحة ما يسمى أوراق بنما Panama Papers عام 2015، حول دور بعض مكاتب المحاماة في بنما في إنشاء شركات وهمية، وإدارة عمليات نقل وغسل أموال لمئات من كبار الشخصيات وكبار رجال الدولة في كثير من الدول والفنانين والرياضيين، للتهرب الضريبي وورد من بين الأسماء علاء مبارك، وللأسف لم يتحرك أحدا من أجهزة الدولة في مصر في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لمعرفة أبعاد هذا الموضوع. كما تكشفت في عام 2015 ما سمى وثائق “باراديز” وجزيرة برمودا وجزر الكايمان ووجود مكتب للمحاماة يدعى APPLE D تسرب منه 7 مليون وثيقة عن التهرب الضريبي والشركات الوهمية، وسوف نفرد مبحثا مستقلا حول فضيحة أوراق بنما في هذا الكتاب.
( الشركة المصرية الأمريكية للخدمات والنقل) The Egyptian – American Transport Services Company (EATSCO) وكانت حصة حسين سالم 51%، بينما حصة شريكه الأمريكي 49%.
وبالتوازي تشكلت شركة أخرى بنظام offshore في جزيرة “برمودا” تحت اسم (أركاديا) Arcadia LTD، بين حسين سالم وعميل الاستخبارات المركزية الأمريكية الآخر “إدوين ويلسون” Edwin Wilson لتكون بمثابة معبرا لعمليات غسل الأموال، كما جرى إنشاء ما يسمى (مركز الأبحاث الدولية والتجارة IRT) كغطاء إضافي لعمليات نقل وغسل الأموال (23).
فالشركة التي أنشئت بهدف نقل وشحن المعدات والأسلحة الأمريكية إلى مصر والمقدرة سنويا بحوالي 1.5 مليار دولار، تحولت إلى نطاق أوسع تمتد بخيوطها العنكبوتية من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى أفغانستان، مما أدى لتفشى رائحتها، خاصة بما صاحبها من تزوير الفواتير ما أوقعها في المحظور، ومن هنا أعد الليفتانت جنرال “أرنست جرافيس” Ernest Graves مذكرة بتاريخ 6/4/1980 تضمنت بعض الوقائع والانحرافات في عمل تلك الشركة، وخصوصا ما تبين من نقل بعض تلك المعدات الأمريكية من مصر إلى أفغانستان ومناطق منازعات أخرى، وبيعها لحساب بعض القادة والمسؤولين العسكريين والسياسيين المصريين وبتمويل من المملكة السعودية وبعض دول الخليج (24).
كما لاحظ “توماس روميو” المفتش بالهيئة البحرية الفيدرالية FMC المبالغة الشديدة في الفواتير الخاصة بأعمال شركة “إيتسكو”، وأن هناك تلاعبا في هذه الفواتير يقدر بحوالي 8 ملايين دولار، وبالبحث تبين أن وراء هذه الشركة شخصيات مصرية كبرى تمتد من نائب رئيس الجمهورية (الفريق حسني مبارك) وتشمل قادة عسكريين مصريين أخرين.
وعلى إثر هذا، بدأت خيوط التسرب Leakage حول هذا الفساد إلى بعض الصحف المحلية الأمريكية فنشرت جريدة Wilmington News Journal في 13/9/1981 حول التصرفات المريبة لشركة (إيتسكو)، كما نشرت في نفس التاريخ جريدة صنداي نيوز جورنال Sunday News Journal معلومات إضافية كان مصدرها السيد “باتريك جادج”Joseph Patrick Judge الذي كان يعمل كمندوب مبيعات في مؤسسة يملكها عميل المخابرات الأمريكية وعضو شبكة الفساد السرية تلك “أدوين ولسن” Edwin Wilson، وبرغم نفي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لهذه المعلومات، فإن المدعى العام الأمريكي “لاري باريسلا” Larry Barcella استمر في تحقيقاته كما يشير جوزيف ترنتو.
لعل هذا ما أثار غضب الفريق أول أحمد بدوي وزير الدفاع المصري في ذلك الحين وبعض القادة العسكريين الذين كان تاريخهم في حرب اكتوبر ناصع وشريف، وجرى ذلك اللقاء العاصف بين الفريق أحمد بدوي – قبل مصرعه بأسابيع قليلة – والرئيس أنور السادات، حتى وصل الحوار بينهما- كما يقول اللواء محمد ماهر بدوي شقيق الفريق أحمد بدوي– بإن أنهى السادات الاجتماع بحدة قائلا: (إذا كنت فاكر نفسك أحمد عرابي فأنا مش الخديوي توفيق)…!
لقد ترتب على هذه التحقيقات الأولية في الولايات المتحدة إحالة الجنرال “ريتشارد سيكورد” إلى تحقيق جنائي، وأحيل معه عدد من المسؤولين في مكتب المساعدات العسكرية والأمنية التابع لوزارة الدفاع (البنتاجون) ومنهم “أريك فون ماربود” و “أدوين ولسن” و “توماس كلينز “هذا بالإضافة إلى حسين سالم وأخرين.
وبدأت الحلقة تطول أسماء قيادات عسكرية وسياسية مصرية من الصف الأول (25)، مما دفع بأحد الصحفيين البارزين في الصحافة الأمريكية إلى تناولها فكتب “أدوارد ت. بوند Edward T. Pound حول القصة كلها في واحدة من كبريات الصحف الأمريكية هي (ووال ستريت جورنال) Wall Street Journal في الأول من أكتوبر عام 1982، ثم واصل النشر حول نفس القضية بتاريخ فبراير عام 1983، كما اعترف عميل المخابرات المركزية وشريك حسين سالم السيد (توماس كلينز) أثناء التحقيقات بأن هذه الشركة كانت تستخدم كغطاء للاستخبارات الجوية الأمريكية (26).
كما أشار الليفتانت كولونيل “كارلوس سالينس” Carlos Salins، في مذكرته المؤرخة في 22/9/1982، أن شركة “إيتسكو” قد حصلت على نسبة تصل إلى 25.15% من قيمة المعدات العسكرية الأمريكية المقدمة لمصر وقيمتها 750 مليون دولار، بدلا من حصولها على النسبة المنصوص عليها في العقد الرسمي إلا وهو 9.8%، وبأن مخابرات الجيش الأمريكي لديها ما يفيد بأن هذه الشركة ومنذ عهد الرئيس أنور السادات، تمكنت من إفساد عدد من كبار قادة القوات المسلحة المصرية، ووصل فسادها إلى بعض جنرالات وقادة وزارة الدفاع الأمريكية(27).
لقد تبين من التحقيقات التي أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووزارة العدل، أن هناك تشكيلا إجراميا من مسؤولين كبار سواء في مصر، أو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومكتب المساعدات العسكرية التابع للبنتاجون، يقوم بتجارة سلاح غير مشروعة، كما يقوم بالتلاعب في فواتير الشحن والنقل، مما أدى لخسارة للخزانة الأمريكية، وقد برز من بين هذه الأسماء كل من:
من الجانب الأمريكي
1- تيودور شيكيلي Theodore J. Shackley
2- أدوين ولسن Edwin P.Wilson
3- توماس كلينز Tomas Clines
4- بول هالويل Paul Helliwell
5- ريتشارد سيكورد Richard Secord
6- أريك فون ماربود Erick V. Marbod
ومن الجانب المصري
1- حسين سالم الشريك الظاهر والأساسي.
2- محمد حسني مبارك نائب رئيس جمهورية مصر.
3- اللواء محمد عبد الحليم أبو غزالة الملحق العسكري في السفارة المصرية في واشنطن ثم تولى على إثر اغتيال وزير الدفاع الفريق أحمد بدوي في 20 مارس 1981، منصب وزير الدفاع المصري متجاوزا الأقدم منه في الجيش المصري.
4- اللواء منير ثابت صهر نائب الرئيس المصري ومدير مكتب مشتريات الأسلحة في واشنطن.
5- الفريق كمال حسن علي مدير المخابرات العامة المصرية، ثم وزيرا للخارجية ثم رئيسا لوزراء مصر.
6- كامل عبد الفتاح أحد أبرز تجار السلاح في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت.
وبينما كانت الصحافة الأمريكية تنتقل بتقاريرها وتحقيقاتها من صفحة إلى صفحة في أوراق هذه الفضيحة، ومن صحيفة محلية إلى صحف أكثر انتشارا مثل الواشنطن بوست (9/10/1982 و 17/1/1984) والنيويورك تايمز (22/7/1983 و 14/1/1988)، كان ستارا حديديا من السرية والصمت يلف هذا الموضوع في مصر.
وإذا صدقت ادعاءات شريك حسين سالم في شركة (إيتسكو) عميل الاستخبارات المركزية الأمريكية “توماس كلينز” Tomas Clines، بعد خروجه من السجن، بأنه كان يذهب إلى القاهرة بحقائب ممتلئة بملايين الدولارات ليسلمها إلى حسين سالم، الذي يتولى أخذ حصته منها، ثم يذهب بعدها ليقدم حصة الرئيس أنور السادات شخصيا (28)، فإن واقعة الشجار الحاد التي تمت بين وزير الدفاع المصري (الفريق أول أحمد بدوي) وبين السادات في أول مارس عام 1981، وقبل اغتيال الأول بأيام قليلة التي قال له فيها السادات بحدة (إذا كنت فاكر نفسك أحمد عرابي، فأنا مش الخديوي توفيق)، تضع مسار القضية كلها على خطى جديدة وخطيرة تماما.
وإذا ربطنا بين أربع وقائع فإننا نستخلص نتيجة مؤكدة بشأن هذا الاغتيال المنظم لوزير الدفاع المصري وهي:
الأولى:

طبيعة الرئيس السادات وتاريخه المغامر، الذي بدأ حياته متعاونا مع المخابرات الألمانية وقوات هتلر، ثم الانضمام بعدها إلى خلية سرية مارست قتل بعض من قدرتهم متعاونين مع الاحتلال البريطاني مثل أمين عثمان باشا، وانتقل بعدها إلى ميليشيا الحرس الحديدي التي مارست القتل والاغتيال ضد معارضي الملك فاروق، ثم انضمامه إلى تنظيم الضباط الأحرار السري، بكل ملابسات مشاركته وقصه افتعال مشاجرة في السينما ليلة تحرك قوات الانقلاب في 22 يوليو عام 1952، ثم ما قام به من اغتيال للمعارض السوداني زعيم الطائفة المهدية (الإمام المهدي) في ديسمبر عام 1969، ومن ثم فنحن إزاء رجل لا يتورع عن القيام بأي شيء للوصول إلى أهدافه بما في ذلك القتل، ساعده في ذلك رجل (حسني مبارك) بقدر ما يجيد تنفيذ أوامر رؤسائه، فهو أيضا يتسم بالفساد والجشع للمال، وهو ما يجعلنا نطالب بجدية بإعادة فتح التحقيق بشأن حقيقة مصرع القائد النزيه المشير أحمد بدوي (29).
الثانية:

أن المجموعة الأمريكية ** التي كانت تتعامل مع المجموعة المصرية في تجارة ونقل السلاح ومنهم “تيدورشيكيلى” و “أدوين ولسن” و “توماس كلينز” وأخرين، كان لهم تاريخ حافل بتنظيم جرائم الاغتيالات والانقلابات العسكرية في كثير من دول العالم، ففي فيتنام وحدها وتحت إشراف هؤلاء أنفسهم جرى اغتيال 20857 فيتناميا جنوبيا، بزعم شكوك حول انتمائهم أو تشجيعهم لجبهة (الفيتكونج) الموالية لفيتنام الشمالية (30)، وهم المسؤولون عن تدبير
الانقلاب العسكري الدموي في تشيلي الذي راح ضحيته الرئيس المنتخب “سلفادور الليندي” عام 1973، ورئيس الأكوادور المنتخب “رولدوس” في مايو عام 1981، ورئيس بنما “عمر توريخوس” في يوليو عام 1981، ومحاولات متكررة لاغتيال الزعيم الليبي “معمر القذافي”، وغيرها من الاغتيالات في كثير من دول العالم، كما لم تتورع تلك الشبكة الاستخبارية الأمريكية على تنظيم شبكة واسعة لتجارة المخدرات لتوفير التمويل اللازم لحربها في لاوس وكمبوديا وفيتنام في ستينات القرن العشرين.
الثالثة:

أن الإسراع في تعيين اللواء عبد الحليم أبو غزالة وزيرا للدفاع خلفا للمشير أحمد بدوي الذي سقطت به الطائرة المروحية ومعه ثلاثة عشر جنرالا من أكفأ الضباط المصريين وأكثرهم خبرة في الحرب، والذي كان المشير بدوي يطالب السادات بضرورة محاكمة النائب حسني مبارك واللواء عبد الحليم أبو غزالة أو إحالتهما للتحقيق، تؤكد حرص السادات على إخفاء معالم جريمة كانت رائحتها قد بدأت تزكم الأنوف، خاصة أنه قد تجاوز بهذا التعيين كثيرا من القادة العسكريين الأقدم منه رتبة والأكثر منه خبرة.
الرابعة:

أن اغتيال طيار المروحية الذي نجا بأعجوبة من هذا الحادث، وعلى يد لص مساكن لم يعثر عليه حتى اليوم، يشير إلى أن للموضوع أبعاد خطيرة كما يؤكد شقيق المرحوم “أحمد بدوي” اللواء المتقاعد “ماهر محمد بدوي”، وهو ما دفع عضو مجلس الشعب المصري “علوى حافظ” إلى تقديم استجوابه للحكومة في 5/3/1990 ذاكرا فيه عبارة “عصابة الأربعة “، وملمحا من طرف خفي إلى أن هناك شكوكا تثار حول اغتيال وزير الدفاع المصري السابق المشير أحمد بدوي.
_____________
** بعد أزمة وفضيحة (ووترجيت) عام 1972 جرى تشكيل لجنة تحقيق في الكونجرس الأمريكي تولاها السيناتور “تشرش” وسميت اللجنة باسمه للتحقيق حول ملابسات ونشاط الاستخبارات المركزية الأمريكية في العالم بعد أن شاعت أنها أيضا تقوم بالإشراف على تجارة واسعة للمخدرات لتمويل أنشطة خاصة بالوكالة، وجرى بالتالي التضييق على الوكالة خصوصا في إدارة الرئيس “جيمي كارتر” الذي أتى برجل من خارج الوكالة لإدارتها هو الأدميرال البحري “ستنسفيلد تيرنر” الذي وضع خطة لإصلاح الوكالة تقضى بالتخلص من 823 وظيفة خلال عامين، وتعرض “تيد شيكيلي” والجماعة المحيطة به إلى التضييق داخل الوكالة، فأقدم على تشكيل شبكة استخبارات خاصة تضم عددا ليس بقليل من عناصر وعملاء الوكالة، المعروف عنهم الوحشية والقسوة وحب المال، وأدارت هذه العصابة نشاطا واسعا للتجارة في المعلومات والسلاح والاغتيالات وغيرها، وكان هؤلاء هم شركاء حسين سالم وحسني مبارك وعبد الحليم أبو غزالة ومنير ثابت وكمال حسن على، ومن ورائهم الرئيس أنورالسادات.
ومع اتساع دائرة التحقيقات في الولايات المتحدة، واغتيال الرئيس السادات في السادس من أكتوبر عام 1981، وشمول التحقيقات أسماء شخصيات مصرية من الصف الأول في الحكم، ومن ثم خطورة الوضع دعا وليم كلارك William Clark مستشار الرئيس رونالد ريجان لشؤون الأمن القومي، إلى اجتماع موسع بتاريخ 21/مارس 1983 بالبيت الأبيض حضره كل من (31):
1- تيودور جرينبرج Theodore Greenberg ممثل المدعى العام.
2- مارك ريتشارد Mark Richard معاون المدعى العام.
3- وليم هاندريكس William Hendricks معاون المدعى العام.
4- ستانلي سبوركن Stanley Sporkin المستشار القانوني لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA
5- وليم تافت William Taft المستشار العام لوزارة الدفاع (البنتاجون).
6- روبرت كيميت Robert Kimmit مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي.
7- وينت لويد Wingate Lloyd مندوب وزارة الخارجية الأمريكية.
8- جيف سميث Jeff Smith مندوب وزارة الخارجية الأمريكية.
9- وترأس الاجتماع وليم كلارك William Clark مستشار الرئيس الأمريكي رونالد ريجان لشؤون الأمن القومي.
ووفقا للمذكرة التي أعدها “ستانلي سبوركن” Stanley Sporkin، المستشار القانوني لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA فإن الشركة المصرية الأمريكية للخدمات والنقل (ATSCO)، التي يقف ورائها حسين سالم (مصري الجنسية) وتوماس كلينز (أمريكي الجنسية)، ومن ورائهما من الجانبين (حسني مبارك – عبد الحليم أبو غزالة – منير ثابت – كمال حسن علي وكامل عبد الفتاح وأخرين)، و( أدوين ويلسون – فون ماربود – ريتشارد سكورد – تيودور شيكيلي) كانت مؤامرة إجرامية وفساد مالي تحملته الخزانة الأمريكية.
وبرغم ذلك فقد أبلغ وليم كلارك مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي الحاضرون بأن تعليمات الرئيس رونالد ريجان تقضى بضرورة استبعاد أي اتهام إلى مسؤولين مصريين، واعتبار ذلك من متطلبات المصلحة العليا والأمن القومي الأمريكي (32).

وعلى الفور صنف هذا الجزء من التحقيقات باعتباره من مقتضيات الأمن القومي CLASSIFIED، ومن ثم حظر على المسؤولين التحدث عنه، أو منح وسائل الإعلام أية بيانات أو معلومات بشأنه.

وفي عام 1986 حكم على (توماس كلينز) و(أدوين ولسن) بالسجن لمدة عشرين عاما، بينما تجنب حسين سالم الحكم عليه بالسجن بتهمة الاحتيال عام 1983، وقام بدفع مبالغ مالية تتجاوز سبعة ملايين دولار، كما حرر شيك برقم (639323) في 21 يوليو 1983 بقيمة 3.2 مليون دولار مسحوب على بنك ريجز الوطني Riggs National Bank (33).
ومنذ تلك اللحظة جرى تعليق الفريسة (حسني مبارك) ومن معه وأهمهم (عبد الحليم أبو غزالة) في الهلب كما يقولون في لغة الاستخبارات………..
وخلال نفس الفترة رأت الإدارة الأمريكية أنه من الضروري إيفاد رجل الاستخبارات المركزية الأمريكية وابن أحد أبرز رجال الاستخبارات المركزية الأمريكية في الخمسينات والستينات وأحد مؤسسي الحرب الباردة السفير “فرانك ويزنر الابن”، ليكون سفيرا للولايات المتحدة في مصر خلال الفترة من عام 1986 حتى عام 1991، نظرا لعلاقات الصداقة والمعرفة القوية التي تربطه بالرئيس المصري الجديد (حسني مبارك)، ليشرف بشكل أو بأخر على توجيه سياسات الرئيس الجديد لخدمة المصالح والتوجهات الأمريكية، وهو نفس الشخص الذي أوفدته الإدارة الأمريكية في أثناء ثورة 25 يناير عام 2011 ليقنع حسني مبارك بالتخلي عن الحكم في البلاد، واحتواء الثورة الشعبية المصرية حتى لا تتطور بما يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
**************
لم يكن الرئيس الجديد لمصر السيد حسني مبارك حريص كسلفه على التوأمة والتوافق مع السياسة الأمريكية في المنطقة العربية وفي العالم كله فحسب، بل إنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأعمق، حيث حرص على ضمان هيمنة وسيطرة رجال الولايات المتحدة والمناصرين لها في مصر، بل وجواسيسها، على كافة مفاصل الحكم والإدارة والاقتصاد، وكذا في الصحافة ووسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية كافة.
ولا يمكن فهم بعض تصرفات واختيارات الرئيس حسني مبارك لكبار مساعديه ووزرائه في الدولة طوال ثلاثين عاما، إلا في ضوء السياق الذي أتى به شخصيا إلى الحكم في مصر.
فكيف نفسر – مثلا – تصرفه إزاء تصعيد وتعيين د. يوسف بطرس غالي وزيرا للاقتصاد والتجارة الخارجية، ثم وزيرا للمالية، لمدة عشر سنوات أو يزيد، في الوقت الذي يؤكد فيه اللواء شفيق محمود عبد الرحمن البنا القائد في الحرس الجمهوري، والذي استمر يعمل في موقعه قريبا من الرئيس لأكثر من ثماني سنوات بأن هناك من الأدلة ما يثبت أن يوسف بطرس غالي كان جاسوسا للولايات المتحدة الأمريكية، ويتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA (34).
ووفقا للواء عبد الرحمن شفيق البنا فقد لاحظ أحد قيادات جهاز الأمن القومي (اللواء علاء البوشي) في مطلع عقد التسعينات، تكرار ظهور صور الدكتور يوسف بطرس غالي بجوار الرئيس مبارك وأفراد أسرته في الصحف المصرية ووسائل الإعلام المختلفة، وحرصا من الرجل على تجنيب الرئيس مبارك سوء الاختيار، فقد سارع بإعداد مذكرة تفصيلية تتضمن وقائع تحريات ونص تسجيلات لمكالمات بين الدكتور يوسف بطرس غالي وعميل للاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في السفارة الأمريكية بالقاهرة، يقدم فيها الأول للأخير معلومات وبيانات، ويتلقى منه تعليمات بعمل ذات طبيعة استخبارية واضحة، ونظرا إلى أن القضية كانت مازالت في دور الأعداد والتجهيز، وحرصا على مزيد من السرية، فقد فضل هذا القائد في الجهاز الأمني، رفع تلك المذكرة عن غير القنوات الرسمية، فأعطاها باليد للواء شفيق البنا لتقديمها شخصيا إلى الرئيس حسني مبارك.
وبعد أن قرأ الرئيس حسني مبارك التقرير، استدعى اللواء عبد الرحمن شفيق البنا وسأله عن أسم من أعد هذا التقرير، فذكر له اللواء شفيق اسم اللواء في هيئة الأمن القومي المسؤول عن هذا التقرير، فهز مبارك رأسه وصمت.
بعد عدة أيام صدر قرار جمهوري من حسني مبارك بنقل اللواء علاء البوشي المسؤول عن إعداد التقرير من وظيفته إلى وظيفة ثانوية بمطار القاهرة، لم يتحمل الرجل الصدمة، مرض لفترة قصيرة ثم مات (35).
وبعد عدة أسابيع كان د. يوسف بطرس غالي قد جرى تعيينه في أول منصب وزاري له في حكومة عاطف صدقي وزيرا للاقتصاد والتجارة الخارجية، ثم انتقل في التشكيل التالي لوزارة عاطف عبيد وزيرا للاقتصاد، ومن بعدها في التشكيل الوزاري لحكومة أحمد نظيف (عام 2004) وزيرا للمالية حتى اندلعت ثورة 25 يناير عام 2011، فكان يوسف بطرس غالي أول الهاربين خارج مصر..!!؟
كما لم يكن غريبا أو مثيرا للدهشة، حينما ضبطت السلطات المصرية في مطلع عام 2019، السيد بطرس رؤوف غالي شقيق الوزير الهارب، بتهمة تهريب آثار مصرية في حقائب دبلوماسية، وقضت المحكمة بتاريخ 14/2/2019، باستمرار حبس الرجل لحين الفصل النهائي في قضيته، علما بأن الرجل يشارك كل من أمين فخرى عبد النور ورشدي صبحى وآخرين في شركة (حابي) السياحية.
************


الواقعة الثانية:

 هي تلك التي كشف عنها الأستاذ محمد حسنين هيكل، في كتابه الأخير “مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان” الصادر عام 2012 عن دار الشروق، وكان قد رواها لي قبل صدور كتابه بعدة شهور، وهي الخاصة بأشرف مروان، الذي حرقته الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد وجهاز أمان) بتسريب أخبار أنه كان عميلا لها أثناء تولي الرئيس السادات الحكم في مصر، وأنه كان قد أخطرها بموعد حرب أكتوبر على الجبهتين المصرية والسورية، قبلها بيومين اثنين.
ويروي الأستاذ هيكل، أنه حينما التقى أشرف مروان مصادفة في لندن في شهر سبتمبر من عام 2006، وقبل اغتياله بعدة شهور قليلة، سأله الأستاذ هيكل:
– هل طلب منك الرئيس مبارك مغادرة القاهرة لفترة من الزمن؟
فرد أشرف مروان بانفعال شديد كما يصف الأستاذ هيكل وقال بحده:
– هل يستطيع.. أقولها لك.. لأنه يعرف أنني أستطيع تدميره وقالها باللغة الإنجليزية him I can destroyed
وحينها التفت الأستاذ هيكل مندهشا ومأخوذا.. استطرد أشرف مروان دون تردد:
– وأستطيع تدمير غيره.. ثم ذكر اسم اللواء عمر سليمان (36).
ومن لا يعرف فإن اللواء عمر سليمان قد شغل منصب مدير المخابرات العامة المصرية لمدة عشرين عاما (مارس 1991- فبراير 2011)، وكان مسؤولا عن كل ما جرى داخل هذا الجهاز من تدنى الكفاءة، وتورط الكثيرون من أعضائه وكوادره في التجارة وأعمال البيزنس، وغيرها من الأمور التي قد يأتي أوان الحديث عنها فيما بعد.
وهناك الكثير من الوقائع المحزنة والكاشفة، لو جرى فتح ملفات عهد مبارك بجدية ومسؤولية وطنية سوف يتبين الكثير من المصائب والجرائم، ليس في مجال السرقة ونهب المال العام والاختلاسات فحسب، وإنما الأخطر والأهم الاختراقات التي تمت في قمة جهاز إدارة الدولة وأعصابها الحساسة من إفساد للأجهزة الأمنية والرقابية وغيرها.
وإذا تأملنا بعض الوقائع التي جرت بعد اغتيال الرئيس السادات، وتولى نائبه الفريق حسني مبارك مقاليد الحكم والإدارة، نجدها كاشفة عن وجود شبكات مصالح تعمل في مجال تجارة السلاح المشروعة وغير المشروعة، والخيوط كلها تتجه مباشرة إلى رجلين في قمة هرم السلطة في مصر، أولهما هو رئيس الجمهورية نفسه، والثاني هو وزير دفاعه، فعلى سبيل المثال أقيم في الشهور الأولى التي أعقبت اغتيال الرئيس السادات من عام 1982، أول معرض لتوكيلات شركات السلاح في دار المدفعية بالقاهرة، وفيها ظهر لأول – وآخر مرة – وجود 11 شركة مصرية لتجارة السلاح منشور دليل مطبوع باللغتين العربية والإنجليزية، تصدره كلمة من أحد أهم شركاء حسني مبارك وحسين سالم والمشير عبد الحليم أبو غزالة في شركة (إيتسكو) الشهيرة، هو السيد “كامل عبد الفتاح” صاحب شركة (الدفاع والشؤون الخارجية) Defense And Foreign Affairs Daily Co. والذي كان يعمل وكيلا لشركة R.C.A الأمريكية التي تقطن في ولاية نيو جرسي في الولايات المتحدة الأمريكية (37).
وقد ضمت شبكات تجارة السلاح أسماء شخصيات كبرى في عالم المال والأعمال والسياسة في مصر، بالإضافة بالطبع إلى الرئيس حسني مبارك ووزير دفاعه محمد عبد الحليم أبو غزالة مثل:
– السيد أشرف مروان.
– السيد حسين سالم.
– السيد سيف فهمى.
– السيد رشدي صبحي (مؤسس شركة هابي تورز للسياحة وأستاذ آخرين في هذا المجال منهم سامي سعد وبطرس غالي وأمين فخري عبد النور ومحمد نصير، وقد توفي الأخير في يناير عام 2010).
– السيد كامل عبد الفتاح.
– السيد عبد الخالق مطاوع (رئيس اتحاد البريدج وزوج والدة زهير جرانة بعد أن طلقها والده السيد وحيد جرانة).
– السيد محمد شفيق جبر.
– السيد مكرم كمال عثمان (من تلامذة رشدي صبحي).
– اللواء حسام سويلم (وقد تخصص في تجارة نماذج تدريب الطيارين).
– السيد عبد الحليم عاصم.
– السيد أيمن عثمان.
– السيد سامي سعد (من تلامذة رشدي صبحى).
– السيد رؤوف غالي (من تلامذة رشدي صبحى).
– اللواء منير ثابت (طيار سابق وصهر الرئيس حسني مبارك).
– أمين فخري عبد النور (من تلامذة رشدي صبحى).
– السيد سمير رؤوف حلاوة.
– اللواء أنور مهاب سوسه (وكان طيارا في القوات الجوية وأصبح مستشارا ووسيطا لثلاث شركات طيران أمريكية (هي بوينج والأباتشي وسيسنا)(38).
وحتى ندرك حجم هذه التجارة الواسعة وأرباحها الهائلة، يكفي أن نشير إلى أن مبيعات السلاح المصرية في حربى أفغانستان والعراق طوال سنوات حربهما ضد السوفييت وإيران قد تجاوزت 20 مليار دولار، وأن عمولة الوسطاء تتراوح عادة بين 5% إلى 10%، أي أن هذه الشبكة المصرية التي شاركت في تجارة السلاح ونقله قد حققت عمولات تصل إلى 2.0 مليار دولار على الأقل (39).
وتدليلا للصلات العميقة بين رجال الحكم والإدارة في مصر – وجلهم تقريبا من العسكريين – ورجال تجارة السلاح، نشير إلى أن أحد أهم هؤلاء التجار وأقدمهم السيد رشدي صبحي، منحه الرئيس أنور السادات امتياز هضبة الأهرام، من أجل إقامة منتجعات سياحية (40)، ولكن بعد المعارضة الشرسة التي واجهها المشروع من القوى الوطنية المصرية، قام الرئيس السادات بتعويضه عن ذلك بمنحه امتياز هضبة المقطم، فأسس فيها شركتين لتقسيم الأراضي، أما شريكه وتلميذه الثاني (مكرم كمال عثمان)، فقد حصل بدوره على عقد مقاولات كبرى في مشروع مترو أنفاق القاهرة الكبرى في عهد الرئيس حسني مبارك، كما حصل الشريك الثالث لرشدي صبحي السيد سامي سعد على توكيل شركة مرسيدس الألمانية في مصر
الواقعة الثالثة:

وهي التي تخص واحدا من أقوى وأقرب الشخصيات الحاكمة في عهد الرئيس مبارك، وهو اللواء زكريا عزمي، الذي شغل لسنوات طويلة منصب رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، بكل ما يمثله هذا المنصب من حساسية فائقة، فقد تبين بعد ثورة يناير عام 2011، أن اللواء طه عبد العظيم إمبابي، رئيس مكتب مكافحة الإخلال بالآداب العامة والسياحة، قد تقدم بدعوى قضائية ضد وزير الداخلية المصرية الذي أحاله على التقاعد مبكرا قبل ثورة 25 يناير 2011 بعدة سنوات، بسبب اكتشافه علاقات مشبوهة بين السيد زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وبين بعض العاهرات المصريات والعرب وزعيمة إحدى شبكات الدعارة المغربية الجنسية، وقد ترتب على هذا الاكتشاف نقله من موقعه إلى إدارة الأمن العام لفترة قصيرة، قبل أن يتم إحالته على التقاعد بفترة (40).
***********
إذا كان هذا هو حال بعض قمة جهاز السلطة في مصر طوال أربعين عاما على الأقل، وتحديدا منذ تولى الرئيس أنور السادات الحكم في مصر في أكتوبر من عام 1970، فكيف جرى السيطرة على مفاصل الدولة وأجهزتها المختلفة، سواء بأشخاص يتم اختيارهم وفقا للاستمزاج الشخصي من جانب الرئيس، أو وفقا لمعايير مجهولة مثلما هو الحال في تعيين يوسف بطرس غالي، أو المهندس رشيد محمد رشيد، أو غيرهما من المسؤولين *.
وهنا ينبغي أن نتوقف بالتحليل والضبط لمصطلح ومفهوم “العميل” و “العمالة” لقوى أجنبية، قد تتعارض مصالحه أو تتناقض مع المصالح الحيوية والاستراتيجية للدولة المصرية بمعناها الواسع والشامل.
وعند هذا يجد المحلل نفسه إزاء أربعة أشكال أو مستويات من العمالة أو “التعاون” مع القوى الأجنبية وفقا لما تعارفت عليه العلوم الاستخبارية هي:
الأول: مستوى العميل الاستراتيجي Strategic Agent
هو ذلك الذي يستخدم في العمليات الاستخبارية والمعلوماتية الكبرى، أو يكون مؤهلا لزرعه في كيان الدولة ومؤسساتها الإعلامية أو السياسية أو الاستخبارية أو الاقتصادية، ومساندته بكافة الوسائل الخفية، من أجل تصعيده إلى أرقى المناصب والمواقع القيادية داخل دولته، وتكون مهامه أكبر من مجرد جمع المعلومات، وإن كانت وسوف تظل أحد مهام العميل، ولكن قد يكون دور العميل خاصة إذا كان يعمل في الوسائل الإعلامية والصحفية المؤثرة،
توجيه الرأي العام بما يخدم سياسات الدولة المشغلة، وهو ما أطلقنا عليهم في مصر “المارينز الفكري”، ولدور
____________
** في حوار تليفزيوني للممثل طلعت زكريا الذي لعب دور طباخ الرئيس في أحد أفلامه، وكان مقربا بعدها للرئيس حسني مبارك وظل كارها ومعاديا لثورة 25يناير عام 2011، وكل ما تمثله، كما شن حملة كراهية وتلويث لشرف كل من شاركوا فيها من الشباب، قال بالحرف “إن الرئيس حسني مبارك قال له في إحدى جلساته، أنه غنى ولا يحتاج لأن يسرق من الدولة، فكل برميل بترول يستخرج في مصر يحصل على نسبة منه، وكل صفقة سلاح يحصل على نسبة منها” وقد نشرت الصحفية عبير سلطان في برنامجها توك شوز على قناة التحرير بتاريخ 2/9/2011 نص هذه المقابلة التي أجراها الممثل طلعت زكريا؟ وقد قدمها الكاتب في بلاغه ضد حسني مبارك إلى النائب العام برقم (1524) والمقيدة بتاريخ 16/5/2012، وصادرة برقم (735) لسنة 2012 بتاريخ 17/5/2012 إلى نيابة شرق القاهرة، وتولى التحقيق فيها المستشار أحمد البقلي، وجرى أولى جلسات التحقيق والاستماع إلى أقوالي في 4/6/2012، وتكررت جلسات الاستماع ثلاث مرات، تستغرق كل واحدة عدة ساعات، كما قدم فيها أكثر من 25 حافظة مستندات، وللأسف لم يتحرك أحدا.
هذه العملية أخطر وأهم من العميل المشغول بعملية جمع المعلومات، كما تسعى الأجهزة الكبرى إلى إيصال عميلها إلى المناصب الكبرى ونظن أن هذه العملية قد نجحت في مصر نجاحا مذهلا.
الثاني: العميل التكتيكي أو الميداني Field Agent
أي ذلك الذي يحصل على مقابل مادى أو عيني ومدفوعات منتظمة Payroll من جهاز استخبارات أجنبية، نظير الحصول على المعلومات، أو تنفيذ بعض العمليات الميدانية التي قد تصل إلى الاغتيالات أو زرع عبوات، أو تخريب منشآت.
الثالث: مستوى التعاون وتقاطع المصالح
فقد تتقاطع المصالح بين رؤية دولة وأجهزة استخباراتها وبين فئات اجتماعية أو أفراد بشأن بعض القضايا المحلية أو الإقليمية أو الدولية، فعلى سبيل المثال تقاطعت مصالح قطاعات كبيرة من الشباب المسلم مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية والسعودية والمصرية وغيرها من الأجهزة أثناء الحرب ضد السوفييت في أفغانستان (1979- 1991)، أو ما أطلق عليه زورا وبهتانا (الجهاد الأفغاني)، وإن كان كثير من قيادات هذا الجهاد المزعوم، كانوا عملاء مباشرين لأجهزة استخبارات عربية وأجنبية، وحتى مصرية.
الرابع: مستوى التعاون والتلاقي بالأفكار والثقافة
حيث تبدأ بالإعجاب بالمنجز الحضاري والعلمي، وقد تنتقل إلى تبنى المواقف السياسية للولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا، وقد ازداد تأثير هذا العنصر بعد أن فتحت الولايات المتحدة أبوابها على مصرعيها للمبعوثين المصريين في صورة منح تدريبية أو علمية لعشرات الآلاف من الشباب والطلاب منذ عام 1975، حتى بلغ عدد هؤلاء في نهاية عام 1981 حوالي 70 ألفا، وأسسوا في السفارة الأمريكية ما يسمى “رابطة المبعوثين والدارسين في الولايات المتحدة” كوسيلة للتواصل (42).
ولم يتوقف الأمر على الدور الأمريكي في الاختراق، بل إن مؤسسات غربية أخرى لعبت أدوارا لا تقل خطورة في هذا الاختراق الواسع النطاق، فتولت مؤسسة (هانس زايدل) الألمانية الغربية تدريب القيادات الإدارية وقيادات القطاع العام وترويض أفكارهم نحو المشروع الخاص واقتصاد السوق (43)، وانفردت مؤسسة (فردريش إيبرت) بالعمل في حقل النقابات العمالية وحققت اختراقا هائلا، كما انفردت مؤسسة (فردريش نيومان) بالمهنيين مثل الصحفيين والمهندسين وغيرهما.
وإذا أضفنا إلى هذا وذاك ما جرى من اختراق مؤسسي عبر منظمات المجتمع المدني، التي جرى تمويل الكثير منها سواء من جانب المؤسسات الغربية – المرتبطة بلا أدنى شك بأجهزة الاستخبارات والأمن في بلدانها وفي الولايات المتحدة الأمريكية – أو تلك الجمعيات الأهلية الإسلامية والسلفية بتمويل خليجي وسعودي يرتبط بأدوار مشبوهة باستخبارات تلك الدول غير البعيدة – طبعا – عن الاستخبارات المركزية الأمريكية الراعية للكل والحافظة لأمنهم، فلنا أن نتصور طبيعة الاختراق الواسع النطاق لدرجة حدت بمدير جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (آمان) السابق “عاموس يادين” إلى التصريح في اجتماع مغلق في لجنة الأمن والدفاع في الكنيست الإسرائيلي في أكتوبر عام 2010، في معرض تقديره باحتمالات الخطر في حال إزاحة حسني مبارك من الحكم في مصر قائلا: (إننا قد اخترقنا المجتمع المصري في الكثير من مفاصله، وإن أي رئيس جديد قد يسعى لمحاربة إسرائيل أو التعرض لمصالحها قد يحتاج إلى ثلاثين عاما أخرى لكى يكون قادرا على هذا).
صحيح لقد كان مبارك كنزا استراتيجيا لإسرائيل والولايات المتحدة كما وصفوه هم بأنفسهم – وهذا يكفينا ويزيد ** –
ويكاد يتطابق ما جرى من اختراق قمة السلطة في مصر منذ منتصف الستينات – في عهد الرئيس جمال عبد الناصر- مع تلك الخطة الاستراتيجية الموازية التي كانت تنفذها أجهزة الاستخبارات الأمريكية، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية الشهير MI6 ضد الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة السوفيتية (بولندا – رومانيا – المجر.. الخ)، فيما سمى بالحرب الهجينة، والتي كانت تقضي بإنشاء ما سمى “شبكة عملاء النفوذ” Influences Agents Network، التي قضت باختراق الجهاز القيادي داخل الحزب الشيوعي السوفيتي، وكذلك في بقية دول الكتلة الشيوعية
في أوربا الشرقية، وخلق شبكة من عملاء متعاونين ومتأثرين بالنموذج الغربي عموما والنموذج الأمريكي خصوصا، والعمل على تصعيدهم وترفيعهم في السلم القيادي لهذه الدول، والتي ظهر بعد ذلك أمثال “بوريس يلتسين” و “ميخائيل جورباتشوف” و “جريتشوك” و “تشرنامردين” و “جريجور جيدار” و “أناتولي تشوبايس” وعشرات غيرهم، وقد أثمرت التجربة الاستخبارية تلك تفكيك وتدمير الاتحاد السوفيتي من الداخل، ولتنهي الحرب الباردة التي كلفت الدول الغربية حوالى 13.0 تريليون دولار، تحملتها الخزانة الأمريكية ومولتها حكومات عربية وغربية أخرى (44).
________________
• اتهم حسني مبارك ونجلاه بعد ثورة 25 يناير عام 2011 في عدة قضايا، جرى إخراجه منها لأسباب إجرائية أو عدم كفاية الأدلة، وهي كلها لا تتناسب مع حجم الجرائم والخراب الذي أحدثه لمصر طوال أربعين عاما هو والمقربون منه، ولم يصدر حكم نهائي ضده بالسجن لمدة ثلاث سنوات هو وأبناؤه جمال وعلاء سوى في القضية رقم (3642) جنايات قصر النيل المقيدة برقم (1) تحقيق المكتب الفني للنائب العام لسنة 2011، والمعروفة إعلاميا باسم “القصور الرئاسية”، وهي الخاصة باستغلال وسرقة الأموال العامة التابعة لرئاسة الجمهورية من أجل تحقيق أغراض خاصة، والتلاعب في الفواتير..!!

[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

للإطلاع على ملف الPDF إضغط هنا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close