fbpx
تحليلات

مفهوم الأمن بين تعدد المنظورات وتباين السياقات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ليس هناك اتفاق أكاديمي بشأن تعريف محدد للأمن أو الأمن القومي، حيث تختلف منظورات المفكرين في حقل الدراسات الأمنية وفقا لتحيزاتهم المعرفية أثناء دراسة الظاهرة الأمنية، مما يؤثر بشكل حاد على تباين المخرج التطبيقي لهذا المفاهيم في الحقل الأمني، الأمر الذي يدفع نحو أهمية استكشاف أهم الاختلافات التي تدور حولها التنظيرات الأمنية، وإلى أي مدى يظهر التحيز المعرفي في هذا الحقل الأكاديمي الذي نشأ وتطور داخل الأكاديميا الغربية؟ وهل ثمة طريق يمكننا من خلاله تطوير منظور للأمن القومي من داخل حدودنا المعرفية والجغرافية، يراعي الخصوصية التاريخية لدول المنطقة العربية، دون أن تكون امتداد للسياق الغربي؟

(١) الأمن بين الوضعية وما بعد الوضعية

تميل المنظورات الواقعية -المستندة إلى ابستمولوجيا وضعية- إلى تعريف الأمن القومي في إطار تأمين مؤسسة الدولة وكيانها السياسي وتهتم بشكل أساسي بنطاق القوة العسكرية كنطاق تحليل رئيسي، يتضح ذلك على سبيل المثال في كتابات كينيث والتزKenneth Waltz- وهو من الواقعيين الجدد، حيث يعرف حقل الدراسات الأمنية إجمالا على أنه “دراسة استخدام القوة العسكرية، والتهديد بها، والتحكم فيها”[1]

بينما تميل الاتجاهات النقدية في الدراسات الأمنية -المستندة إلى ابستمولوجيا ما بعد وضعية- إلى طرح مفاهيم ذاتية للأمن، حيث يُعتبر “الإنسان” الوحدة المرجعية للأمن بدلا من الدولة، وشعور الإنسان بـ “الانعتاق” والتحرر هو القيمة المرجعية النهائية للأمن، بدلاً من التمركز حول مفهوم قوة الدولة. ويعد كين بوثKen Booth- من أهم المنظرين لهذا التيار، ويعرف بأنه مؤسس “مدرسة ويلز في الدراسات الأمنية”، التي تستند في تفسيراتها الأمنية علي أفكار النظرية النقدية التي طورها مفكرو مدرسة فرانكفورت، كما تستند على بعض أفكار جرامشيGramsci- كمفاهيم تأسيسية، ويعرف كين بوث مفهوم الانعتاق بأنه “تحرير الناس من القيود والضغوط التي تمنعهم من ممارسة ما يريدونه بما يتوافق مع حرية الآخرين”[2]، وهذا الانعتاق يوفر إطارا ثلاثي الأبعاد: مرتكز فلسفي للمعرفة، ونظرية لتقدم المجتمع، وممارسة ضد أشكال الظلم والطغيان.

(٢) الأمن بين الذاتية والموضوعية والبنائية:

من النموذجين السابقين يمكن ملاحظة مدى التباعد في الأسس المعرفية لتحديد مفهوم الأمن، بين منظور موضوعي بحت (يتمحور حول الحقائق والمعطيات المادية) وآخر ذاتي تماما (يتمحور حول الشعور الذاتي بالأمن أو بالتهديد). وبينهما توجد المنظورات البنائية – مثل مدرسة كوبنهاجن للدراسات الأمنية – التي تميل لتبنى مفاهيم مركبة بنائيا للأمن تراعي أبعاد الهوية والخصوصية الثقافية للمجتمعات المحلية، في حين تبقى متمركزة حول الدولة مع أنها تتبنى مفهوما أوسع للأمن وأعمق من مفهومه لدى المنظور الواقعي/المادي.

من رواد هذا الاتجاه كل من باري بوزان وأولي ويفرBarry Buzan & Ole Waever حيث يطرحان في كتابهما المشترك[3] إطارا تحليليا للأمن يتضمن خمسة أبعاد: السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي والبيئي.

مع ملاحظة أن المنظورات الواقعية لا تبتعد بالمجمل عن مناقشة هذه الأبعاد، لكنها تناقشها دائما في إطار كونها روافد خادمة للقوة العسكرية الصلبة وليست نطاقات تحليل مستقلة، وهذا ما يجعل التباعد في المنتوج النهائي لكلا المنظورين كبيرا وحاداً.

وهكذا على مسطرة التباعد بين أقصى اليمين الموضوعي وأقصى اليسار الذاتي النقدي ومحاولات التوسط بينهما تتعدد المقاربات والمنظورات في الحقل الأمني. لكن ثمة مفارقة مهمة يمكن اكتشافها عند البحث في أسباب وعوامل تطور الدراسات الأمنية، فقد مرت بثلاث مراحل تاريخية كما يصنفها ماك سويني-McSweeney، بداية من فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي تميزت بتحيزات ليبرالية متفائلة، ثم ما بعد الحرب العالمية الثانية ساد المنظور الواقعي على دراسات الأمن والعلاقات الدولية عموما في إطار التأثر بسياق الحرب الباردة وسباق التسلح الأمريكي-السوفييتي وشعور الأمريكيين بخطر اقتراب الحرب. ثم في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات التي شهدت التفكك المفاجئ للاتحاد السوفييتي دون حرب عالمية جديدة تعرض المنظور الواقعي لمُساءلات وانتقادات أنتجت عدداً من المقاربات النقدية التي قدمنا نموذجا لها فيما سبق.

لكن المهم هنا هو ملاحظة أن هذه العوامل التي شكلت حركة الجدل في الدراسات الأمنية تعلقت في مجملها بالتاريخ السياسي الغربي، بمعنى أنها مثلت عمليات تفكير حاولت الاستجابة لإشكالات غربية وفي أحيان كثيرة إشكالات أمريكية على وجه الخصوص. مما أكسب هذا الحقل عموما صفة التمركز حول الغرب كما يصفها أميتاف أتشاريا Amitav Acharia، أو صفة التمركز حول الولايات المتحدة كما يصفها باري بوزانBarry Buzan.

ولم يكن الواقع السياسي لدول ما بعد الاستعمار ولا مشكلاتهم الداخلية حاضرا في كل هذه المحاورات التي شغلت المفكرين الأمنيين في الغرب، بل وحقل العلاقات الدولية عموما حيث تصنف الدراسات الأمنية أكاديميا حتى الآن كحقل فرعي في تخصص العلاقات الدولية.

وإذا كان المفهوم الغربي للأمن، في إطاره السائد، يتمركز حول الدولة باعتبارها الوحدة الرئيسية للأمن، فإن هذا التصور يبدو مبررا في سياق الاجتماع السياسي الغربي. بينما في دول ما بعد الاستعمار حيث تعاني الدولة من أزمة شرعية وتعاني المجتمعات من غياب الإجماع ومن الانشطار الثقافي، فثمة حاجة ماسة لتصورات للأمن أبعد من التمركز حول الدولة، بل أبعد كذلك من النظريات النقدية الغربية، فالدولة، فيما تم توصيفه سابقاً العالم الثالث، تمثل بتعبير آنيا لومبا “استعمار ما بعد الاستعمار” قد تكون مصدر غياب الأمن ومصدر التهديد الرئيسي وليست الوحدة التحليلية للأمن كما عند الواقعيين الغربيين، “إذ لا يمكن تجاهل الانتهاكات التي تقوم بها تلك الدول تجاه الحقوق الأساسية لمواطنيها”[4].

(٣) الأمن ومدرسة ما بعد الاستعمار:

تمثل مدرسة ما بعد الاستعمار أرضية فكرية رحبة لوضع الفرضيات الأساسية لبناء منظور أمني خاص بدول العالم الثالث، وقد بدأت البذور الأولى للمدرسة في عام ١٩٨٧عندما ألقى إدوارد سعيد بالحجر في مياه المعرفة والأكاديميا الغربية عبر كتابه “الاستشراق” الذي لايزال يحظى بالجدل والنقاش حتى اليوم، حيث قام بتفكيك العديد من الخطابات السياسية والأكاديمية الغربية التي تناولت قضايا الشرق مبينا علاقتها بالإرادة الكولونيالية وبالمنطق الاستعماري، وأيا ما كان النقد الذي يمكن أن يوجه لعمل إدوارد سعيد فلن يختلف أحد المنصفين حول القيمة الهائلة لكتابه الذي تسبب في إطلاق موجات متتابعة من الأعمال النقدية الذي تحاول استكشاف التحيز في الخطاب والإنتاج المعرفي الغربي في نطاقات بحثية مختلفة أخذت لاحقا عنوان “دراسات ما بعد الكولونيالية” أو “دراسات العالم الثالث”.

وتأسيسا على أفكار مدرسة ما بعد الاستعمار وتحت عنوان “الإشكالية الأمنية في العالم الثالث” يراجع محمد أيوب إسهامات عدد من الباحثين في سياق البحث عن مفاهيم أمنية تتجاوز التحيز في الخطاب الغربي، فمثلا كارولين توماس Caroline Thomas تعتبر أن مفهوم الأمن القومي في بلدان العالم الثالث لا يجب أن يقتصر على دراسة استخدام القوة العسكرية مثل غالب المحاورات الغربية حول المفهوم، ولكن يجب أن يشمل مجمل القضايا التي تمثل تهديدا وجوديا للاجتماع السياسي لتلك البلدان -والتي قد لا تمثل تهديدا في دول الغرب- مثل قضايا الهوية والانشطار الثقافي في مجتمعات ما بعد الاستعمار أو قضايا نقص الغذاء والتهديدات الصحية، أو ربما السعي لامتلاك أسلحة نووية من أجل التوازن الأمني في مقابل الدول الغربية[5].

كما يعتقد إدوارد آذار وتشانجن مون Edward Azar and Chung-in Moon بأولوية دراسة ما يصفانه بالتهديدات الناعمة في دول العالم الثالث في مقابل التهديدات الصلبة التي تسيطر على اهتمام دول الغرب، ويعرفان التهديدات الناعمة بشكل تطبيقي في إطار ثلاثة عناصر: بناء الشرعية السياسية للدولة، والتماسك المؤسسي، والمقدرة على بناء السياسات[6].

وفي السياق نفسه، يمكن قراءة ملاحظات بهجت قُرني حول نقد المفهوم الغربي للأمن القومي المتمركز حول الدولة وحول الأخطار العسكرية الخارجية، حيث يطرح نموذجا تحليليا يرتكز على الأخطار الداخلية الناتجة عن الهشاشة المجتمعية في دول العالم الثالث بجذورها المختلفة الثقافية والدينية والاثنية، وكذلك أزمة الدولة باعتبارها كياناً وافداً نشأ بالأساس تعبيراً عن إدارة استعمارية، وليس نتيجة تدافع اجتماعي كما حدث في الغرب خلال القرون الماضية.

(٤) الشرق في مواجهة الغرب:

إن عرض هذه التعريفات النقدية ليس تبنياً لها على وجه التحديد، وإنما انتصاراً للنموذج المؤسس لهذه التعريفات، نموذج ينظر للعالم الثالث من داخله ومن داخل أولوياته واستجابة لمشكلاته، ويتحدى الاستعلاء المعرفي الغربي الذي يتجاهل تاريخ المجتمعات غير الغربية كما لو كانت شعوبا بلا تاريخ وينفي خصوصيتها كما لو كانت شعوبا بلا ذات. ويسعى لتفكيك الحالة الثقافية والمعرفية المشوهة في دول ما بعد الاستعمار التي تمثل ما يسميه المفكر الهندي الشهير هومي باباHomi Bahaba  بالثقافة الهجين “Hybrid Culture”، ويعني بها تلك البنى الثقافية التي تنشأ من اختلاط ثقافة المستعمِر مع ثقافة المستعمَرين، فالمستعمِر لا يمكنه أن يفرض ثقافته بشكل كامل على الشعوب المستعمَرة من موقع الاستعلاء والقوة إذ لا بد أن تتعرض لمقاومة مضادة من الأسفل، قد لا ينتج عن هذه العملية انتصار كامل لأفكار المستعمِر وثقافته ولا انهزام كامل أمامها، بل تنشأ ثقافة هجين، وكذلك أبنية ومؤسسات ومعرفة وخطاب هجين، نتيجة لهذا التلاقح القسري الذي لم يتم بصورة طبيعية ولا صحية.

ودول العالم الثالث، وليست فقط الهند، عند إعادة قراءة سرديات نشأتها من هذا المنظور تتضح جذور مأساتها المعاصرة، في أزمة الثقافة وانشطار الهوية، وأزمة علاقة السلطة بالمجتمع، وأزمة المعرفة، وأزمة الأمن كنطاق فرعي غير مستقل عن هذه الأزمة المركبة، كما يتضح الخلل في كثير من الأدبيات العربية التي تناولت مفهوم الأمن القومي من منظور حماية الدولة ومؤسساتها[7]، كما أن خطاب الدولة الذي يعرض الأمن القومي كقيمة مطلقة ومصطلح غير قابل للتساؤل والتفكيك، ليس إلا أداة سلطوية لفرض القداسة على أشياء بعينها لضمان تأمين السلطة، ووسيلة لفرض المزيد من الضبط والتحكم في حياة الناس واجتماعهم. الأمر الذي يتطلب مزيداً من الجهد الفكري لاستكشاف الذات الحضارية داخل حقل الدراسات الأمنية ومعضلات الأمن الدولي.


الهامش

[1] Walt, S. (1991). The Renaissance of Security Studies. International Studies Quarterly, 35(2), P-212

[2] Booth, K. (2007). Theory of world security (Vol. 105). Cambridge University Press,‏ P-112

[3] Buzan, B., Wæver, O., Wæver, O., & De Wilde, J. (1998). Security: A new framework for analysis. Lynne Rienner Publishers.‏

[4] Acharya, A. (1995). The periphery as the core: The third world and security studies.‏

[5] Ayoob, M., & Wells, S. (1991). The Security Problematic of the Third World. World Politics, 43(2), 257-283. Retrieved January 16, 2021. p – 259

[6] Ibid

[7] مراد، علي عباس. (٢٠٠٥) مشكلات الأمن القومي. ط. مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. التعامل مع عالمنا العربي كما لو كان شئ مختلف عن باقي العالم مقاربة خاطئة ، التراث الاكاديمي تراث عالمي بطبعه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close