مقدمات أساسية في التطوير المؤسسي
كثيراً ما نسمع عن تطوير المؤسساتInstitutional Development وهو من الأمور المهمة، حيث يتعلق بسنة حياتية كونية وهي تطور الحياة بشكل عام، الأمر الذي ينتج عنه تطور في حياة الناس وأفكارهم وأحلامهم وآمالهم وطموحاتهم ورغباتهم واحتياجاتهم، ومن ثم يتطلب الأمر أن تتطور المؤسسات والمنظمات كذلك أياً كان نوعها أو تخصصها، دولية، محلية، كبيرة، صغيرة، إدارية، تجارية، اقتصادية، سياسية، دينية، إعلامية، صناعية، خدمية، تعليمية، بحثية، فكرية، إلى آخره.
وحيث إن المشروعات والمؤسسات تقوم على أفكار وقيم تأسيسية، مع وجود قيادة فكرت وأسست وأنشأت وتكونت مع مرور الوقت والتعاقب، وشكل تنظيمي معين تم اعتماده ورسمه ليكون خادماً للمهام المطلوب تحقيقها والمخطط لها، إضافة إلى أمور أخرى منبثقة عنهم، كان الأمر بإعادة النظر والمراجعة والتقييم لهذه المحاور الثلاثة الرئيسية (قيم ومبادئ تأسيسية / قيادة / شكل تنظيمي) أولاً بأول ووفق خطة ومنهجية هو من المعلوم من التطوير والتحسين بالضرورة، وإلا تكلست المؤسسات، وفقدت قدرتها على التواجد والمنافسة، وتلبية الرغبات لجمهورها الحالي والمستهدف، ناهيك عن حركة التطور العالمي الكبير في جميع المجالات في عصرنا الحالي والتي تفرض ذلك التطوير فرضاً.
والإيمان بأهمية التطوير المستمر والممنهج والرغبة في تحقيقه، هما أدوات رئيسية يجب توفرها لدى أصحاب المؤسسات والقائمين على قيادتها وإدارتها العليا أولاً، حيث بغيرها لن يتمكن القائمون على عمليات التطوير من إحداث أي تغيير حقيقي وفعلي وواقعي.
كما أنه ليس هناك توقيتا محددا أو فترة زمنية أو مرحلة للتطوير، إلا إذا كان وفق خطة عمل وحضر وقته الطبيعي، حيث يتوقف الأمر على معطيات كثيرة منها طبيعة نشاط المؤسسات، والتطور العالمي في اتجاه معين، وقدرة المؤسسة على تحقيق المستهدفات في ضوء تقارير الأداء وقياس الأثر، وطبيعة الأسواق والبيئات المختلفة، وطبيعة العصر والفترة الزمنية، وغير ذلك من المحددات، إلا أن الثابت الرئيسي أن العالم لا يتوقف عن التطور صعوداً وهبوطاً وإيجاباً وسلباً ومن ثم لا ينبغي لعمليات التطوير والتغيير والتحسين المستمر أن تتوقف كذلك.
وتحتاج عمليات التطوير إلى استخدام أداة هامة جداً وهي رفع الواقع Current Situation Analysis، وذلك عبر استخدام وسائل تحليلية منهجية معتمدة مثل SWOT Analysis أو PEST Analysis أو PESTEL Analysis – بما لهم وما عليهم من ملاحظات المتخصصين – وغيرهم من أدوات التحليل والتي يجب أن يقوم بها متخصصون، حيث يتم مراعاة الجوانب المكتبية والميدانية في آن واحد عند التنفيذ، وليست تحليلات تخضع لوجهات نظر أحادية يقوم عليها شخص أو أكثر داخل غرف مغلقة مثلاً، وإنما يجب أن تتم بشكل احترافي كامل حيث سيتم في ضوئها اتخاذ قرارات التطوير المؤسسي لتحقيق مكاسب، يأتي على رأسها إحداث تطوير فعلي وليس نظري شكلي لهذه المؤسسة أو تلك.
أولاً: القيم التأسيسية:
وهي مجموعة من القيمValues التي يتم تأسيس المنظمات والهيئات عليها، وهي ليست بالضرورة أن تكون بمعنى الكلمة المشهورة في أذهان العرب من أنها قيم دينية فاصلة. فهذه القيم مثل الاحترافية، المهنية، الربحية، المسؤولية المجتمعية، التشاركية والتعاون، الحرية الأكاديمية، التميز، إلى غير ذلك من قيم تقوم المؤسسات عليها، وتحتاج من حين لآخر أن يتم إعادة النظر فيها من حيث مدى تحققها في بيئة عمل المؤسسات، أو مدى الاحتياج إليها حالياً، وهل تحتاج لإجراء معين عليها سواء بالتغيير الكامل أو بتطوير مفهومها لو ظهر عليها تطور مجتمعي وفق البيئة التي تعمل بها المؤسسة، أو الاحتياج لمجموعة قيم جديدة تتبناها المؤسسة، ومدى قدرة هذه القيم على صياغة ثقافة وسلوك وبيئة المنظمة التي تعني الكثير في عملية التطوير أو التغيير أو التحديث أو التحسين أو التصحيح، فجميعها مصطلحات لمضمون هذا المقال.
ومن القيم التي أدعو المؤسسات إلى تبنيها والعمل على غرسها في نفوس وعقول وأفعال الجميع، هي قيمة الإيمان بالتسلسل الطبيعي الذي خلقه الله عز وجل والقائم على التطور والتعاقب، وأن هذه القيمة تستلزم من الجميع أن يعمل على إنزال هذا التطور إلى واقع حياتنا الخاصة والعامة، وهنا سوف يؤمن الفرد أن عليه دور تجاه المجموع والعكس في إحداث التطور الذي يضمن الاستمرارية والقدرة على المنافسة وصناعة الكوادر القادرة على إحداث ذلك، والبحث عن واستقطاب المهرة المبدعين المحترفين الذين يؤمنون بأن استمرارية مؤسساتهم تقوم على قيمة التطوير والتحسين المستمر، الأمر الذي يتطلب مراجعات دائمة على أسس علمية بهدف الوصول إلى الأنسب في ظل تطور العالم أجمع، لتحقيق الاستدامة المنشودة، والقدرة على التميز والتأثير في بيئات الأعمال المختلفة.
ثانياً: القيادة:
تعتبر القيادة ومدى إيمانها بوجوب التطوير المؤسسي أحد أهم العناصر في نجاح عمليات التطوير والتحسين، حيث اعتراضها عليها معناه توقف هذه العمليات إلى الأبد وإلحاق الضرر بالمؤسسات، وبخاصة أن قرارات التغيير والتطوير تطلب دعم القيادة والإدارة العليا بالمؤسسات المختلفة وإلا ستكون إجراءات التغيير شكلية وكمن يحرث في الماء، وبالتالي إهدار للوقت والجهد والمال، ومع الوقت خسارة للكوادر والعقول والمبدعين وأصحاب المهارات – في حال تواجدهم – حيث سيتم استقطابهم حتماً من قبل من يؤمن بالتطوير والتحديث المستمر.
وعلى قدر ممارسة القيادة دائماً لمنهجية التغيير والتطوير والتحديث المستمرين داخل المؤسسة بمستوياتها الإدارية المختلفة تكون استجابتها لمتطلبات عملية التطوير من قبل القائمين عليها والمخططين لها، وفي غير ذلك تكون هناك عقبات كبيرة في اتجاه التغيير وذلك لأهمية دعم القيادة كما تناولت أعلاه. وهنا أيضاً تكمن أهمية القيادة كمحور من محاور مثلث التطوير المؤسسي حيث أنها إما أن تدفع عجلة التطوير للأمام وإما أن تقف أمام تلك العجلة أو تكسرها متعمدة لرهبتها وعدم إيمانها بالعملية من الأساس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية التدقيق في اختيار المناصب القيادية والإدارية العليا في المؤسسات المختلفة وضبط الآليات لضمان تنفيذ ذلك الاختيار على أسس غاية في الدقة والأهمية نظراً لما تحمله هذه المكانة من تأثير على عملية التطوير الذي تحتاجه المؤسسات للاستمرار في طريق عملها وتحقيق مستهدفاتها ونموها.
ثالثاً: الشكل التنظيمي:
تبدأ المؤسسات غالباً بشكل تنظيمي يُحدد لها خط السلطة عبر خريطتها التنظيمية والمستويات الإدارية في تلك المؤسسة وعلاقة الأفراد والإدارات والأقسام والوحدات سواء بنظرائهم في نفس المستوى الإداري أو في المستويات الأعلى أو الأدنى منهم، وخرائط التدفق للعمليات، ونماذج التوصيف الوظيفي التي تحدد المهام والصلاحيات والمسؤوليات لكل وظيفة داخل المؤسسة، وكل هذا يطلق عليه الهيكل التنظيمي وليس فقط الخريطة المشهورة في أذهان المتابعين، على أن تكون هذه الهياكل خادمة للمهام المطلوب تحقيقها وليس استحداث مهام لا علاقة لها بالمؤسسة وأهدافها لخدمة أشخاص بعينهم أو ترتيبات لا علاقة لها بالتطوير المؤسسي.
وفي هذا الإطار تكمن أهمية الشكل التنظيمي في ترتيبه للعلاقات داخل المؤسسات، وفك أي اشتباك يمكن أن يحدث، وتعريفه للحدود والسلطات بين الإدارات والأقسام المختلفة. ويتم تأسيس الشكل التنظيمي في الحقيقة وفق فلسفة إنشاء المؤسسات والتي تحدد الإطار العام للسلطات وفق الاحتياج لتحقيق الأهداف وما يحتاج منها لمركزية وما يحتاج للامركزية، وكذلك التشعبات المختلفة في ضوء رؤية وفلسفة المؤسسة الحالية والمستقبلية، والأسواق التي تعمل بها، وما إذا كان العمل يحتاج إلى بناء وحدات عمل استراتيجية Strategic Business Units – SBU والتي تمتلك القدرة على الانفصال فور قدرتها على تحقيق هذا الانفصال لتكون نشاطاً جديداً مستقلاً تحت مظلة المؤسسة الأم أم لا؟، والعلاقات في ظل هذه الحالات المختلفة.
وكل هذا يؤكد أهمية الشكل التنظيمي في حياة المؤسسات بدءاً من مرحلة التأسيس الأولى، مروراً ووصولاً بمراحل التطوير المختلفة، حيث تقف الهياكل في كثير من الأحيان عائقاً كبيراً في تحقيق التطوير إذا تكلست وخرجت عن دورها في تيسير الأعمال وتسهيل تنفيذ المهام، ما يتطلب دائماً اللجوء إلى مداخل ومنهجيات التطوير Development approaches لفك الاشتباك ورفع واقع مشكلات التنظيم، ومن ثم وضع التوصيات اللازمة لتغيير ربما في الشكل التنظيمي يكون له القدرة على الدفع بالمؤسسة للأمام وبخاصة كلما كبرت المؤسسات مكانياً وعددياً يتطلب الأمر مراقبة الشكل التنظيمي الذي وضع علم الإدارة له أنواعاً كثيرة لضمان مواكبته للتغيير الحاصل في المؤسسات المختلفة وبيئات عملها المتعددة.
خلاصة
حاولت من خلال المقال تسليط الضوء فقط على أهم محاور التطوير المؤسسي التي يجب أن يتم مراعاة مراجعتها والنظر فيها بشكل مستمر، دون الدخول في تفاصيل كثيرة أو تفريعات تتضمنها عمليات التطوير في الوسائل وحتى الأهداف وغيرهما، وسأسعى لتناول تفاصيل ذلك في مقالات قادمة بإذن الله (1).
——————————————
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.