fbpx
قلم وميدان

مكونات الثورة في الاسلام: الخلفية العقدية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

لا أحبذ لك المضيَّ معنا في هذه السلسلة حتى تستعيد ما سبق أن تقرر في الحلقات السابقة؛ ولاسيما ما يتعلق بمدى صحة وصف الإسلام بصفة الثورية، ولا ريب أنَّ وصف الإسلام بهذه الصفة يحتاج إلى كثير من الشروط، ويفتقر إلى الاحتراز عن كثير من العقابيل والألغام.

ولا جرم أنَّ التفوق والتميز الذي أحرزه الإسلام جعل منه نمطاً فذَّا في التغيير، يتسامى بمنطلقاته وغاياته وأسلوبه عن كل ما يمكن أن نسميه ثورة في أيِّ تجربة إنسانية سابقة أو لاحقة، ولِمَ لا وهو المتفرد بصفة الربانية؟! وهذا التفوق والتميز يدفعنا دفعاً لدراسة الحركة الإسلامية التي حملت الدين الإسلاميَّ من منبع الوحي وفم الرسالة إلى أعماق القلوب والعقول والمشاعر والضمائر، وإلى آفاق الحياة بما فيها من تحديات.

إنَّ الثورة كالشعاع يبدو خطاً واحداً أولياً مصمتاً لا أثر فيه للتركيب، فإذا ما مرَّ بمنشور شفيف من الزجاج ظهرت ألوان الطيف مفصحة عن مكونات مختلفة في طبيعتها مؤتلفة في غايتها، فما هي المكونات الرئيسية التي تمثل عناصر الثورة وتمثل كذلك سماتها وخصائصها، هذا سؤال يستدعي في هذا السياق سؤالاً آخر يمضي معه على التوازي: وهل هذه العناصر وما تنم عنه من سمات وخصائص متوافرة في الإسلام؟! والإجابة على هذين السؤالين هي جوهر هذا المقال.

إنّ أقدم وأضخم وأعظم مُكَوّن من مكونات الثورة هو الخلفية العقدية، المتميزة غاية التميز، والمجافية للواقع الذي يُثارُ عليه غاية المجافاة، وما يحف بهذه الخلفية من مبادئ وأسس وحقائق وأحكام تمثل وقوداً فكرياً ثورياً، فهل وجدنا في تاريخ البشرية ما وجدناه في الإسلام من قيام تام على عقيدة لا تمت بأدنى صلة للواقع الذي جاء الإسلام لتغييره وتحويله؟ عقيدة تتجاوز الواقع الشاذ لتأخذ موقعها على الخط الربانيِّ الثابت عبر تاريخ البشرية: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى: 13].

إنَّها العقيدة الفذَّة، التي لم تتلبس ولم تتلوث بشيء مما كانت الجاهلية تعتقد وتدين به في أي صقع من أصقاع الأرض أو أي فصيل من فصائل الخلق، إنَّها المنهج الذي استطاع بما يتمتع به من ربانية ومصداقية وواقعية كذلك أن تكون له الهيمنة على كل ما تدين به البشرية من عقائد وكل ما يزاوله الناس من شعائر وشرائع: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا} [المائدة: 48].

ولا أحسب أنَّ أحداً يملك عقلا وعدلا يماري في جملة ظاهرة الاتساق، مبتدؤها: لا ثورة بغير عقيدة جديدة وأيديولوجية فريدة، وخبرها: لا يوجد للإسلام نظير ولا مثيل في ابتناء حركته على عقيدة بلغت المنتهى في الجِدَّة والتميز، وعلى منهج أوفى على الغاية في العظمة والتسامي.

ولم تكن هذه العقيدة لتداهن يوماً أو تهادن، بل كانت دائماً واضحة حاسمة مباينة مفاصلة، ولم يكن أصحابها يسعون إلى نقطة التقاء مع الواقع الذي ثاروا عليه بعقيدتهم، ولم يخطر ببالهم يوماً أن يتصالحوا مع الباطل، فها هو الوحي لا يمهل رسول الله والمؤمنين معه؛ إذ بمجرد أن عرض عليهم الكافرون أن يعقدوا شراكة شعائرية؛ بأن يعبدوا إله المسلمين سنة على أن يعبد المسلمون آلهتهم سنة؛ نزل القرآن بالقول الفصل: {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ؛ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6].

وهذه هي الخاصية الثانية والمكون الثاني من خصائص ومكونات الثورة: الوضوح والمفاصلة ورفض التصالح مع الباطل وعدم السعي للالتقاء مع الظلم والاستبداد في نقطة على الطريق، ولقد كان الإسلام في ذلك كله نمطاً فريداً وخطاً عالياً يصعب مجاراته أو الاقتراب منه، ولقد توسع في هذا المسلك الباهظ الكلفة وتعمق حتى جاوز الجمل الكبرى إلى ما يحف بها من مبادئ وقيم، فها هم – على سبيل المثال – أشراف مكة والنخبة الممتازة من رجالها يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرضوا عليه عرضا مغرياً، مفاده أن يخصص محمد لهم يوماً منفصلاً ومجلساً منفرداً لا يجتمعون فيه مع الفقراء والضعفاء؛ ليستمعوا إلى مقالته ولينظروا في شأن دعوته؛ فلعلها تروق لهم، وبرغم أن الحكمة السياسية تفترض خيار الاستجابة لمطالبهم وجدنا الوحي يسارع إلى حسم المسألة: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 28-29].

أمَّا العنصر الأكثر ثورية فهو جَذْرِيَّة التغيير، فالثورة إن لم تعتمد أسلوب التغيير الجذري فسَمِّها ما شئت من الأسماء سوى اسم الثورة، وجذرية التغيير لا تكون في أي حركة جماعية إلا في الثورة، هذا العنصر إذا انضمت إليه عناصر: الشمول، والجماعية، والاستقلال، مع استغراق أدوات المواجهة بلا تعطيل لما يناسب المقام منها؛ فهي الحالة التي لا يمكن أن توصف إلا بأنَّها ثورة، وهكذا كان الإسلام؛ بل بهذا سبق الإسلام كل ما يطلق عليه في تاريخ الإنسانية أنَّه ثورة.

إنَّ أول آيات نزلت من كتاب الله تعالى طوت في كلمات بسيطة صفحة الجاهلية بكل ما حوت من عقائد وأفكار وأوضاع وأعراف؛ فما كان الوحي بعدها – إلى أن اكتمل نزوله – إلا ثورة عارمة على كل ما ألفته المجتمعات من انحرافات وخرافات، وما ترك في حياة الناس شيئاً مخالفاً للحق منافياً للفطرة إلا شنَّ عليه الغارة، ابتداء من الشرك والكفر، وانتهاء بعادات الناس السيئة في مآكلهم ومشاربهم ومعاملاتهم، ولعلك تتفق معي في أنَّ ذكر مثال أو أمثلة لا يزيد هذه القضية إلا خفوتاً وبهوتاً؛ لأنَّ القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته يفيض بهذه السمة.

ولم يعطل الإسلام أداة واحدة من أدوات المواجهة إذا جاء أوانها، لتحقيق التغيير الجذريِّ المطلوب، فالأصنام التي تحطمت في قلوب الناس بالحجة والبيان تكسرت في واقعهم بعد ذلك بالسيف والسنان، وهذه الجذرية لم تكن لتحقق على أكمل وجه إلا بالاستقلال التام؛ “فالقرآن كتاب أنزل على قلب رجل أمي نشأ على الفطرة البشرية سليم العقل صقيل النفس طاهر الأخلاق لم تملكه تقاليد دينية ولا أهواء دنيوية؛ لأجل إحداث ثورة وانقلاب كبير في العرب، فسائر الأمم يكتسح من العالم الإنساني ما دنس فطرته من رجس الشرك والوثنية” تفسير المنار (11/ 163).

فإذا وعيت هذا؛ فلن يعجزك أن تدرك باقي عناصر الثورة ومكوناتها وخصائصها وسماتها، ولن يخفى عليك وجودها بقوة في الإسلام، كالتضحية والبذل والفداء، وكالتجديد الوثَّاب، وكنبذ الآبائية ورفض التبعية، وغير ذلك مما يبدو للناظرين ويظهر للمتفرسين، وعندئذ سيرتدَّ السؤال على السائل بأقوى مما صدر منه: وهل يوجد في تاريخ الإنسانية ثورة يمكن أن تدنو في عظمتها وقوتها ونجاحها ومضائها من الإسلام؟ (1).

—————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close