السياسات العامة

من المعارضة إلى الحكم الرشيد

مقدمة

هل تختلف طريقة عمل باحث السياسات العامة في الوطن العربي وطرق تناوله للمواضيع والمشكلات عن طريقة عمل باحث السياسات العامة في أي مكان أخر في العالم؟ لا أقصد هنا الاختلافات الناتجة عن التمايزات الثقافية والحضارية بين الحضارات والبلدان المختلفة، ولكن أقصد الاختلافات الناتجة عن اختلاف السياق السياسي والاقتصادي لبلدان الوطن العربي وبالأخص بعد موجات الربيع العربي التي بدأت في 2011 ولم تنته حتى الان وتأثيرها على طريقة عمل باحث السياسات. وبمعنى أخر، هل يمكن للربيع العربي ان يؤثر على باحث السياسات العامة وطريقة تناوله للمواضيع؟ وإذا كانت هناك تمايزات واختلافات، فما هي؟ وكيف يمكن لباحث السياسات العامة في الوطن العربي أن يتعامل مع سياق الربيع العربي بطريقة تؤدي إلى نتائج أفضل للدارسات والأوراق التي ينتجها ولبلدان الوطن العربي وشعوبها؟

شخصيا، كباحث متخصص في السياسات العامة وكأحد شباب الربيع العربي في نفس الوقت، فإن هذا أثر على اهتماماتي البحثية التي تتركز في مجالين رئيسيين:

الأول: مجال تغيير السياسات العامة كمدخل للتغيير السياسي، فواحد من الأسباب الرئيسية لعدم قدرة الحكومات المنتخبة ديموقرطيا أو الفاعلين السياسيين الساعيين للتغيير عن إدارة التغيير السياسي الديمقراطي هو بسبب عدم قدرتهم في أحيان كثيرة على إدارة عملية تغيير السياسات، من السياسات القديمة التي تكون غالبا قد ثبت فشلها إلى سياسات جديدة قادرة على مواجهه التحديات وإيجاد حلول لها.  وكما دلت عليه تجارب دول الربيع العربي، فإن أهمية هذه المشكلة تكمن في أنه إذا استطاع الفاعلون السياسيون إدارة عملية تغيير السياسات العامة، سواء كانت هذه السياسات في المجال الاقتصادي أو في إصلاح أجهزة الدولة، أو في التعامل مع المشاكل الاجتماعية والحياتية، مع تقديم سياسات ديمقراطية بديلة لإدارة المرحلة الانتقالية فإن هذا سيساهم في إعلاء فرص استكمال التغيير السياسي في بلدان المنطقة.

والمجال الثاني الذي أهتم به يركز على صنع السياسات العامة خارج دول أوربا وأمريكا الشمالية، فمجال تركيزى الأساسي هو عن صنع السياسات العامة في الدول النامية والديمقراطيات الناشئة في أسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية باعتبار أن هذه الدول لها طبيعة سياسية واقتصادية مختلفة عن دول أوربا وأمريكا الشمالية، كما أن لهم تحديات ومشاكل مختلفة عنهم، ما يجعل طبيعة صنع السياسات العامة في هذه الدول مختلفه بشكل واضح. هذا الاختلاف أشار إليه من قبل الباحث الأمريكي الشهير دونالد هوروتز في عام 1989 في مقالته عن صنع السياسات في دول العالم الثالث[1]، وفي حين أن مصطلح العالم الثالث لم يعد يستخدم الآن بشكل واسع بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن الأفكار الموجودة في المقال؛ بالإضافة إلى الاختلافات الحقيقية الموجودة في هذه الدول تجعل هذا المجال البحثي في حاجة إلى مزيد من الجهد والبحث.

لكن أهمية هذا الموضوع ليست شخصية فقط، فدول الربيع العربي في الموجة الأولى التي بدأت في تونس ومصر عانت من غياب سياسات بديلة يمكن أن تساهم في إدارة أفضل للمراحل الانتقالية.  أما الموجة الثانية التي بدأت في السودان والجزائر، فتبدو أنها استفادت سياسيا بصورة ما مما حدث من أخطاء في الموجة الأولى، لكن لا تزال الإستفادة غير واضحة في مجال إدارة الدولة وتغيير السياسات العامة لها. والفرضية الأساسية التي تقوم عليها هذه الورقة أنه لكي يكون لدينا في الوطن العربي قدرة أكبر على إنتاج سياسات مناسبة للسياق الحالي الذي نمر به من احتجاجات شعبية وتغيير سياسي ومطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية فإن هذا يقتضي تغيير طُرق عمل باحثي السياسات العامة وتناولهم للمواضيع والمشاكل المختلفة.

ربما يكون من المهم التذكير أن مجال السياسات العامة قد شهد حالة من النمو في السنوات القليلة الماضية، وكان موضع اهتمام عدد متزايد من الباحثين. فحاليا، توجد في مصر ودول العالم العربي مراكز بحثية متعددة تعمل في السياسات العامة كمجال رئيسي لعملها أو كمجال ضمن مجالات أخرى متعددة، منها على سبيل المثال، المعهد المصري للدراسات الذي لديه وحدة متخصصة في السياسات العامة، والمركز المصري لدراسة السياسات العامة، منتدى البدائل العربي للدراسات، حلول للسياسات البديلة، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وغيرها. لكن مع هذا، فينغي التذكير أيضا، أن عدد هذه المراكز غير قادر على مواجهه التحديات الحالية. فهذه المؤسسات والمنظمات لاتزال لديها مشكلتان رئيسيتان على الأقل:

المشكلة الأولى متعلقة بقلة عدد المراكز البحثية المتخصصة في السياسات العامة وضعف إمكانياتها المادية والبشرية اللازمة للعمل في هذه المجالات. فالعمل في مجال السياسات العامة يحتاج إلى كوادر فنية ومهنية من مجالات متعددة، بعضها في أحيان كثيرة يكون لديه خبرة في العمل في نفس المجالات محل البحث. وبسبب تنوع المواضيع واختلافها، فإنه من الصعب جدا على مركز بحثي واحد فضلا عن وحدة بحثية أن تستطيع العمل على أغلب مواضيع السياسات العامة، وهذا يدفع الوحدات والمراكز إلى التركيز على موضع أو اثنين فقط للعمل عليه بشكل مكثف. ورغم أن هذه استراتيجية جيدة من أجل ضمان صدور أوراق ذات مستوى جيد، وأن يكون لدى الباحثين خبرة بحثية ومهنية في مجالات محددة تتراكم عبر الزمن، لكن حجم المشكلات الكبير والمتعدد الموجود في دولنا العربية من المفترض أن يقابله عدد أكبر من المراكز والباحثين، لكن هذا لايحدث للأسف بسبب ضعف الإمكانيات المادية والبشرية. وعلى أهمية هذه المشكلة، لكنها خارج نطاق اهتمام هذه الورقة.

المشكلة الثانية والأهم: تتعلق بالمنهجيات البحثية والأكاديمية التي تستخدمها المراكز والوحدات البحثية العاملة في مجال السياسات العامة. فأغلب عمل هذه الوحدات ينصب في الأساس على متابعة السياسات التي ترغب الحكومات الحالية بتنفيذها، أو التي تنفذها بالفعل. في محاولة من هذه المراكز لأجل تقييم نجاح هذه السياسات ومدى قدرتها على إحداث تأثير حقيقي، وتحقيق النتائج المرجوة. وفي أحيان أخرى، فإن هذا قد يكون مصحوبا بتقديم عدد من الإقتراحات والتوصيات البديلة على السياسات الحالية والتى يمكن أن تساهم في تحسينها، أو الوصول إلى نتائج أفضل. وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوات، إلا أنها لاتزال غير كافية وتحتاج إلى مزيد من التطوير. والمحور الأساسي لهذا التطوير هو في شكل المناهج البحثية والطرق المستخدمة لتناول المواضيع والمشكلات في الوطن العربي بشكل يلائم السياق السياسي والاقتصادي الحالي وهذا ما تحاول هذه الورقة اقتراحه.

السياسات العامة في الوطن العربي: الضوابط المنهجية

سياق بداية “علوم السياسات”[2] و “السياسات العامة” في الولايات المتحدة وأوربا يوجد به الكثير من أوجه الشبه بين السياق الحالي في الوطن العربي، لكن يوجد به أيضا اختلافات يجب أن يلاحظها باحث السياسات العامة لأنها يمكن أن تؤثر على طريقة تناوله للمواضيع. فالسياسات العامة بدأت في الأساس في الولايات المتحدة وأروبا، وكانت بدايتها الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية حينما أصبح هناك أدبيات وكتابات خاصة بهذا المجال، كما أنه تم إنشاء مراكز بحثية وبرامج دراسية في جامعات مختلفة.  وكان أحد أسباب الاهتمام بتطوير هذا المجال حجم المشاكل الكبيرة التي تواجهها الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وحاجتها إلى متخصصين قادرين على التعامل معها بفاعلية أكبر. لم يكن حجم المشكلات فقط هو المشكلة، ولكن تعقيدها وتشابكها وترابطها مع بعضها البعض ساهم أيضا في جعل التعامل معها أكثر صعوبة. في نفس الوقت، كانت الشعوب الخارجة من الحرب العالمية الثانية، ومن أزمات اقتصادية امتدت لفترة طويلة تطالب حكومتها بالحصول على حياة أفضل ومستوى معيشة أعلى. سياقات النشأة هذه، شبيهه بالسياقات الحالية التي تمر بها أغلب الدول العربية. لكن سياقات تطور هذه العلوم لاحقا داخل المجال الغربي أثرت على هذا المجال، وعلى الأدوات والمناهج البحثية المستخدمة فيه. في نفس الوقت، فالديمقراطيات المستقرة في الغرب كانت تحظى بدعم سياسي واقتصادي يساعدها على تجاوز أزماتها، مما وفر مجالا داعما لعمليات التغيير السياسي والديمقراطي، كما وفر أيضا دعما ومساندة خارجية لإتمام هذه التحول. وهذه الشروط لاتبدو متاحه بشكل كبير في السياق العربي الحالي. أيضا، الاستقرار والاستمرارية التي تمتعت بها هذه الدول خلال الـثمانية عقود الماضية ساعدها على مراكمة المعرفة في هذه المجالات وتطوير أدوات ومناهج أكثر تخصصا، وأكثر كفاءة.  وفي حين أن هذا تطور إيجابي في المجمل، لكن في نفس الوقت تجعل هذه الأدوات وهذه المقاربات في بعض الأحيان غير ملائمة لسياقات دول العالم العربي.

لايعني هذا أن مناهج وأدوات وأدبيات السياسات العامة غير مناسبة لدول الوطن العربي، لكن ينغي للباحث أن يأخذ عددا من النقاط في الحسبان عند التعامل مع السياسات العامة في سياق الدول العربية:

النقطة الأول: أن التعامل مع هذه الأدوات والأدبيات يجب أن يكون انتقائيا بما يناسب السياقات العربية الحالية، فليس كل هذه الأدوات والمناهج والأدبيات مناسب لسياق الوطن العربي الحالي. وبمعنى آخر؛ إن التعامل معهم يجب أن يكون “على بصيرة” بحيث يدرك الباحث أولا السياق الذي يعمل فيه جيدا وخصوصياته، ثم يختار من هذه المناهج والأدوات والأدبيات ما يعينه على التعامل مع هذا الواقع.

إن واحدا من أهم خصائص السياق العربي الحالي هو أنه غير مستقر سياسيا على المدى القصير، كما أنه لايحظى بالدعم الإقليمي والدولي الكافي لضمان وجود هذه الاستقرار أو ضمان استمراره. في نفس الوقت، فإن السياسات الحكومية قد ثبت فشلها في مواجهة التحديات، وكان من نتيجة هذا الفشل الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي نشاهدها.  لكن المشكلة الأهم، أن السياسات المقترحة كبدائل للسياسات الحكومية هي في أغلبها نسخ معدلة منها، أو أنها تشبهها إلى حد كبير. وفي هذه النقطة يٌثار حجة أن المشكلة كانت في تطبيق/تنفيذ هذه السياسات ولم تكن في السياسات المطبقة ذاتها، وهذا غير دقيق. فرغم أنه كانت هناك مشاكل بالفعل في تنفيذ هذه السياسات، أو أن الحكومات نفذتها بشكل خاطئ، لكن كان هناك مشاكل في السياسات نفسها بحيث أدت إلى النتائج التي وصلنا لها. وإجمالا، فإن السياق العربي الحالي يعاني من “فقر” في السياسات البديلة التي يقدمها السياسيون أو الراغبون في التغيير.

الأمر الثاني الذي يجب أن يأخذه باحث السياسات العامة في الوطن العربي بالحسبان: أنه في حين أن مجال السياسات العامة قد تطور في السياقات الغربية وتفرع إلى أقسام كثيرة ماجعل الباحث يتخصص في مجال محدد ومن زاوية محددة، لكن هذا التعامل الجزئي والمتخصص لن يكون مناسبا في السياقات العربية. بالتأكيد أن تخصص الباحث في موضوع أو اثنين من الموضوعات البحثية هو أمر جيد، لكن التعامل مع الموضوعات ذاتها ينغي أن يكون بصورة تكاملية وليس جزئية. وبمعنى آخر، أن اقتراب بحثي واحد (كتقييم السياسات أو تحليل السياسات) لن يكون كافيا من أجل فهم مشاكل الوطن العربي وتقديم حلولها لها، بل ينبغي تناول الموضوع الواحد من خلال اقترابات متعددة بحيث يمكن في النهاية الوصول إلى حلول حقيقية تناسب السياق العربي.

شكل 1: ضوابط منهجية لدراسة السياسات العامة
شكل 1: ضوابط منهجية لدراسة السياسات العامة

تقترح هذه الورقة من أجل أن يتم تناول الموضوع “على بصيرة” وبصورة “تكاملية” وبما يفيد السياق العربي الحالي أن يحاول الباحث عند العمل على موضوع ما أن يتناوله من خلال أربعة اقترابات بحثية مختلفة حتى توفر له هذه الاقترابات معرفة أكبر لهذا الموضوع وقدرة أعلى في تقديم سياسات مناسبة له. وأن تكون هذه الاقترابات الأربعة بمثابة ضوابط منهجية تحكم الباحث خلال عمله في الموضوع محل اهتمامه. وهي:

أولا: الإسهامات النظرية:

مع كثرة وتنوع الإسهامات النظرية التي تم تقدمها في مجال السياسات العامة في الأدبيات الغربية، فإنها مع ذلك ليست كافية للسياقات العربية. غياب إسهامات نظرية كبيرة في مجال السياسات العامة واحدة من الملاحظات التي تتكرر كثيرا عن نقد الدراسات الأكاديمية في هذا المجال[3]، ما يعني أن المجال حتى في الغرب لازال في حاجة إلى كثير من الإسهامات النظرية من أجل تطويره وإثرائه. في السياق العربي، يبدو هذا المطلب أكثر إلحاحا. 

واحد من الطرق المقترحة في هذا المجال هو البدء بالدرسات الغربية النظرية في مجال السياسات العامة وفهمها جيدا، ثم بعد ذلك اختيار مايلائم منها للسياق العربي والأقرب لنا فكريا ونظريا. فعلى سبيل المثال، يبدأ الباحث بدراسة موضوع دور السياسين أو رائدي السياسات في تغيير السياسات العامة في الأدبيات الغربية، والتعرف على الإسهامات النظرية المختلفة في هذا المجال ثم يختار منها الأقرب لروح الحضارة العربية الإسلامية والأقرب في نفس الوقت إلى طبيعة السياق الحالي العربي ومحدداته. مع مقارنتها أيضا بالإسهامات التي قدمها الباحثون العرب والمسلمون في هذا الموضوع سواء في المصادر التراثية أو من خلال الأبحاث الأكاديمية العربية والإسلامية الحديثة.

هناك طريقة أخرى مقترحة هي عكس الطريقة السابقة، وفيها يبدأ الباحث بالتعرف على الإسهامات النظرية العربية والإسلامية في هذا الموضوع بشكل جيد، سواء الكتابات التراثية منها أو الكتابات الأكاديمية الحديثة. وبعد أن تتكون لديه معرفة جيدة في الموضوع، يطلع لاحقا على الإسهامات النظرية الغربية في نفس هذا الموضوع حتى يتعرف إلى الجديد أو المفيد منها والذي يمكن له أن يضيفه لما لديه. فعلي سبيل المثال، سيبدأ الباحث بدراسة دور الأفراد في تغيير السياسات في المصادر التراثية المختلفة، أو في الكتابات الأكاديمية العربية الحديثة حتى يطلع بشكل كافي على هذه الموضع، ثم لاحقا يطالع الكتابات الغربية ليقارنها بما يعرفة، ويضم لمعرفته مايمكن أن يساعده في تعامله مع واقع العالم العربي.

وقد يختار الباحث طريقا ثالثا يمزج فيه بين الطريقين السابقين، أو يختار شكلا مختلفا. لكن المقصد هنا، أن الإسهامات النظرية يجب أن تكون حاضرة في دراستنا للسياسات العامة في الوطن العربي، وأن تكون حاكمة لطريقة تفكيرنا وتعاملنا مع القضايا. فثقافة المجتمعات العربية وحضارتها تمدنا بإسهامات نظرية ملائمة للسياقات التي نعمل بها، ولن يتم ذلك إلا بالمزاوجة بين الإطلاع على الأدبيات الغربية في هذا المجال، ومزجها بالإضافات المعرفية العربية والإسلامية التراثية أو الحديثة. وبذلك، فإن باحث السياست العامة في الوطن العربي يجب أن يساهم في تطوير هذا المجال من خلال الإسهامات النظرية والأكاديمية التي تزاوج بين المفاهيم والأفكار القادمة من السياق الحضاري العربي والإسلامي ومن السياقات الأخرى المختلفة.

ثانيا: تقييم السياسات:

أغلب الأوراق التي يتم إنتاجها تندرج تحت هذه المقاربة، فهي تهتم برصد السياسات الحكومية المقترحة أو الحالية وإلى أي مدى حققت أهدافها المرجوة. وهنا تبرز ثلاث ملاحظات رئسية حول هذا النوع من الأوراق:

الملاحظة الأول: أن هذا النوع من الأوراق هو أقرب إلى “عقلية المعارضة” التي ترغب في إبراز فشل الحكومة في تنفيذ سياساتها وفي تحقيق أهدافها، وهذه الأوراق بهذه الصورة تمثل مادة للهجوم السياسي على الحكومي كما أنها تستخدم إعلاميا من أجل إبراز إخفاقات الحكومة. وفي بعض السياقات العربية الحالية- ومن ضمنها مصر- فإن السياسي قد يهرب من التكلفة العالية للمعارضة إلى إنتاج أوراق تقييم سياسات ترصد الفشل الحكومي ثم يقوم لاحقا بالعمل على ترويجه إعلاميا. ومع أهمية إبراز الفشل الحكومي، لكن غياب الموضوعية في بعض الأحيان قد يساهم في صدور أوراق دون المستوى المطلوب.

الملاحظة الثانية: أن هذه الأوراق _مع أهميتها_ إلا أنها تدور في نفس فلك السياسات الحكومية وليست بعيده عنها. وبمعنى أخر، فإن البراديم السياساتي الذي يحكم عملها هو براديم الحكومة، فحتى لو قامت بتقديم توصيات وإجراءات بديلة فإن هذا يتم في الإغلب كتعديل على السياسات الحكومية القائمة وليس من خلال تقديم بديل لها. وهنا تبرز بوضوح مشكلة دوران باحثي السياسات العامة في فلك السياسات الحكومية _بوعي أو بدون وعي_ بدلا من البحث عن سياسات أخرى مناسبة. 

الملاحظة الثالثة: على الرغم من هذه الملاحظات السلبية التي ذكرناها، لكن هذه الأوراق لها جانب إيجابي مرتبط بأنها توضح للباحث البيئة السياساتية التي تصنع السياسات العامة من خلالها، والتفاعلات التي تتم فيها، وتكشف الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في هذه البيئة بشكل واضح، كما أنها توضح بشكل جلي إلى أين تسير السياسات الحكومية وحجم ومدى تأثيرها في المجتمع والدولة، وهي بذلك تعطي للباحث قدرة جيدة على معرفة الوضع الحالي والتطورات التي تحدث فيه.

إذا أخدنا هذا الملاحظات في الاعتبار، فإنه من المهم للباحث أن يتجنب الملاحظة الأولى والثانية، وأن يستفيد من الملاحظة الثالثة. فعقلية المعارضة تحجب الباحث من معرفة حقيقية وطبيعة السياسات الحالية، والدوران في فلك البرادايم السياساتي للحكومة الذي تٌثبت الأيام فشله ليس مفيد للباحث سواء عند تحليل السياسات المقرونة باقتراحات وسياسات بديلة، أو عند تقييمها.

ثالثا: السياسات المقارنة:

بصفة عامة، حجم دراسات السياسات المقارنة قليل. وحتى في الحالات التي يختار فيها الباحثون دراسة سياسات خارج مصر فإن ذلك يتم من خلال منهج دراسة الحالة وليس المنهج المقارن، بحيث يكون محتوى الدراسة بشكل رئيسي هو الدولة محل الدراسة على أن تنتهي الدراسة في النهاية بخاتمة تشير إلى كيف يمكن لمصر أن تستفيد من هذه التجربة.

يمكن للسياسات العامة المقارنة أن تساهم في السياسات العامة في الوطن العربي من وجهين على الأقل:

الأول: أنها قد تقدم أفكارا وحلولا خارج التصورات الحكومية التي ثبت فشلها أكثر من مرة. ذلك أنها قادرة، على جلب أفكار جديدة وإجراءات لم تكن من ضمن الأفكار والإجراءات الحكومية، وهي بذلك يمكن أن تساهم في إثراء بيئة السياسات والأفكار المطروحة بها. 

الثاني: وهو الأهم، يمكن أن تمثل مصدرا لتغير في البراديم السياساتي الذي يحكم تصوراتنا عبر تقديم سياسات مختلفة تماما، من حيث الوسائل والأهداف والبراديم الذي تعمل فيه.

في ظل الحالة التي تعاني منها الحكومات العربية، فإن محاولة استنساخ الحلول القديمة لهذا الحكومات مرة أخرى تبدو فكرة غير منطقية، لقد ثبت فشل هذه السياسات في قدرتها على تحقيق أهدافها أكثر من مرة، وإذا كان البعض يجادل أن ذلك ليس بسبب عيوب في السياسات نفسها ولكن بسبب سوء في التنفيذ، فمع وجاهة هذا الطرح، إلا أنه دليل إضافي على أن هذه السياسات لم تكن قادرة على قراءة ومعرفة حدود الإمكانيات المتاحة لديها وقدرتها على تنفيذ هذه السياسات بشكل فاعل. بصفة عامة، أن المجتمعات العربية في حاجة إلى أن تنظر خارجها، ليس إلى أوربا والولايات المتحدة حتى تأخذ منهم على طريقة القص واللصق، ولا إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تأتي لتٌملي سياساتها وشروطها، ولكن بالأساس إلى دول في أسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تمر بمراحل شبيهة سواء على المستوى الاقتصادي أو على المستوى السياسي، من أجل معرفة السياسات التي اتخذتها هذه الدول والتعلم منها.

من هنا، تأتي أهمية مدخل السياسات العامة المقارنة كضابط ينبغي أن يكون ضمن الأجندة البحثية لباحثي السياسات العامة في الوطن العربي، من خلال “مقارنة”-وليس دراسة حالة-السياسات في دول مختلفة لاستخلاص الدروس والإجابة على سؤال رئيسي: تحت أي ظروف وفي وجود أي شروط، يمكن لبلدنا أن تنقل برنامج أو سياسة فاعلة موجودة في بلد آخر إليها؟ [4]

ومضمون هذا السؤال مختلف عن مضمون الدراسات المقارنة التي تهدف إلى معرفة الظروف المتشابهه أو المختلفة بين البلدان المتنوعة، أو مضمون دراسات الحالة التي تريد التعرف بعمق على ظروف وملابسات حالة محددة بشكل عميق، فالهدف في هذه الدراسات متوجه ناحية مشكلة محددة-كعادة دراسات السياسات العامة-ومعرفة سياسات بديلة فاعلة، من أجل معرفة متى أو كيف يمكن لنا أن نستفيد منها في السياق المحلي.

قد يجادل البعض أن هذا الفهم للسياسات المقارنة هو فهم “ضيق” يحرمها من مجالات أخرى للبحث والدراسة، وفي الحقيقة، فأنا أرى أن هذا الفهم هو الأقرب لطبيعة مجال السياسات العامة التي هي مدفوعة باتجاه المشاكل العامة، وفي اتجاه حلول وسياسات لها. والأهم من ذلك، أنه مناسب أكثر للسياق الحالي الذي تمر به الدول العربية، بحيث تساهم هذه المقاربة بإثراء البيئة السياساتية والحلول البديلة المقترحة بأفكار جديدة وفعالة. 

رابعا: السياسات البديلة

مع أهمية المقاربات السابقة، إلا أن هذا الضابط، وهذه المقاربة هي الأهم بينها. ونقطة الانطلاق هو الانتقال من “عقلية المعارضة” إلى عقلية “الحكم الرشيد”. أو بلغة السياسات العامة: الانتقال من أوراق “تقييم السياسات” إلى أوراق “تحليل السياسات/ أوراق العمل” [5]

لا تستهدف دراسات السياسات البديلة بهذا المعنى تصميم السياسات العامة، فهذا لن يكون متاحا إذا لم يكن الباحث جزءا من الحكومة أو قريبا بشده من الأجهزة التنفيذية، ولكنها تستهدف على الأقل القدرة على الاختيار والتفضيل بين سياسات مختلفة كلها يمكن أن تعالج نفس المشكلة، لكن هذا الاختيار بناء على فهم جيد بالبيئة التي تصنع بها السياسات العامة، ومعرفة بالأطر النظرية الحاكمة في هذا المجال، وبعد اطلاع على سياسات مقارنة شبيهة في دول مختلفة، حتى يكون لدى الباحث القدرة على المفاضلة بين الخيارات والسياسات المختلفة لاختيار الأنسب منها في السياق المحلي. أن هذا هو الهدف الأساسي الذي ينبغي أن يعمل عليه أي باحث للسياسات العامة-وليس فقط محلل السياسات-في الوطن العربي[6]

بالإضافة إلى هذا، فبسبب الطبيعة الانتقالية التي تمر بها دول العالم العربي، فإن السياسات الوقائية ينبغي أن تكون حاضرة داخل السياسات البديلة وليست منفصلة عنها، فإذا كان النظر إلى المستقبل ومحاولة تحسين الأوضاع الحالية هي أهداف تقليدية لباحث السياسات العامة، لكن في سياق الوطن العربي، فإن وجود سياسات تمنع عودة الممارسات الاستبدادية، وانتشار المحسوبية والفساد، وحكم الشلل والطوائف، والاحتراز من الثورات المضادة ينغي أن تكون حاضرة ليس فقط في ذهن ووعي باحث السياسات العامة، ولكن أيضا في السياسات التي يقترحها.

أخيرا، عند التعامل مع كل اقتراب من هذه الاقترابات/الضوابط على حدة، قد يشعر القارئ أنه لا يوجد اختلاف كبير بينها وبين الشكل التقليدي لها في مجال السياسات العامة، ولكن ما يجعل هذه الضوابط مختلفة أمران:

الأول: أن كل اقتراب من هذه الاقترابات قد أخذ مضمونا وشكلا محددا _ذكرناه خلال هذه الورقة-عند إسقاطه على بلدان الوطن العربي الحالية قد يتشابه أو يختلف عم المضمون والشكل التقليدي. هذا الشكل والمضمون المذكور سيؤثر بلا شك على شكل ومضمون الأوراق والدراسات المنتجة.

الثاني: أن ما تقترحه هذه الورقة بالأساس ليس التعامل مع كل اقتراب على حدة، ولكن أن باحث السياسات العامة المهتم بموضوع ما في مجال السياسات العامة، ينبغي له أن يستخدم كل هذه الاقترابات البحثية الأربعة –وليس واحدا منها فقط أو اثنين-عند تعامله مع هذا الموضوع، ولا يشترط أن يتم استخدام كل الاقترابات في مرة واحدة، ولكن الأهم أن يتم استخدمها جميعا حتى لو كان ذلك على مرات متعددة _وهو المتوقع غالبا-. وأن هذا الاستخدام ينبغي أن يكون من خلال المضمون والشكل الجديد الذي تم ذكره. وهذا أيضا، سيؤثر على شكل ومضمون الأوراق المنتجة. 

الخاتمة

إذا كان باحث السياسات العامة في الوطن العربي يريد العمل بصورة أكثر فاعلية تناسب السياق الحالي فإنه يجب أن يعدل من الطرق والمقاربات البحثية التي يستخدمها في مواضيعه من أجل أن تتلاءم مع الأوضاع الحالية. يمكن القيام بذلك، ليس من خلال إعاده بناء مجال السياسات العامة من جديد والبحث عن أطر نظرية جديدة أو اقترابات بحثية مختلفة[7]، ولكن من خلال البناء على الموجود حاليا والذي تم إنتاجه في السياق الغربي، والتعديل عليه بما يناسب السياق العربي الحالي.

تهدف هذه الورقة إلى أن تقترح شكلا لباحثي السياسات العامة في الوطن العربي يساعدهم ليس فقط على فهم المشاكل التي تعاني منها البلدان العربية أو فقط تقييم السياسات الحكومية الحالية، ولكن يساعدهم أيضا (وهو الأهم) على إيجاد حلول وسياسات بديلة فاعلة للسياسات الحكومية الفاعلة. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، فإن الورقة تقترح أن يعمل الباحث على الموضوع من خلال أربعة اقترابات بحثية مختلفة: الاقتراب النظري/ تقييم السياسات/ السياسات المقارنة/ السياسات البديلة. يمكن للباحث أن يستخدم هذه الاقترابات الأربعة عند التعامل مع الموضوع في نفس الورقة (وإن كنت لا أفضل ذلك)، أو الأفضل أن يستخدم هذه الاقترابات أكثر من مرة لدراسة نفس الموضوع حتى يستطيع أن يصل في النهاية إلى السياسة البديلة الفاعلة.


[1] Donald L . Horowitz, “Is There a Third-World Policy Process?,” Policy Sciences 22, no. 3/4 (1989): 197–212.

[2] Policy Science

[3] Kevin B. Smith and Christopher W. Larimer, The Public Policy Theory Primer (Westview Press, 2009).

[4] Richard Rose, “What Is Lesson-Drawing?,” Journal of Public Policy 11, no. 1 (1991): 3–30, https://doi.org/10.1017/S0143814X00004918.

[5]  أفضل بشكل شخصي استخدام “أوراق العمل” بدلا من “تحليل السياسات” عند ترجمة مصطلح Policy analysis الذي يٌعني بمناقشة لسياسات مختلفة لنفس الموضوع، والمقارن بين المصالح والمفاسد بين هذه السياسات المختلفة، والمزايا والعيوب في كل سياسة، انتهاء بالتوصية بسياسية واحدة على أنها الأنسب والأفضل للسياق الحالي.   

[6]  تكون مهمة محلل السياسات تقليديا في السياق الغربي، هو تقديم توصيات بالحلول السياسية المناسبة والمفاضلة فيما بينها. وفيما قد يكون هذا مناسبا في السياق الغربي، فإن هذه الورقة تؤكد على أنه في السياقات العربية ينغي أن تكون هذه المهمة موجودة لدى كل باحث سياسات عامة وليس فقط لدى محللي السياسات.

[7] ليست هذه دعوة للتعامل مع السياسات العامة ومنتجاتها النظرية “كمعطى جاهز ” يجب التعامل معه باعتباره “المعطى الوحيد” وهو بهذا الشكل غير قابل للنقد. على العكس من ذلك، فإن واحدا من أهداف هذه الورقة هو إثراء مجال السياسات العامة وتطويره من خلال إضافة أفكار واتجاهات غير غربية عليه.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى