fbpx
دراسات

نحو بناء نموذج تفسيري لحوادث التاريخ

الجزء الرابع

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

إن السنن كعملية منهجية تتعلق بعناصر تجريبية والنظر في التاريخ كمعمل تجارب يحقق مقصود الاعتبار والعبرة فالسير سير غاية (التعرف على العاقبة) وسير عناية (النظر والفحص)، والنظر والفحص)، والنظر هنا عملية تجنب الفاعل الحضاري موقف الترقب والانتظار، فبين النظر كمنهج والانتظار كطريقة لمواجهة الأحداث بون واسع، فالوعي بالمحصلة أو العاقبة لا يعني انتظارها.

– ومن أهم أصول التكوين المنهجي النابع عن السنن هو الشك النقدي والذي يتضمن بدوره أربعة أمور أساسية تتطلب من الإنسان المراجعة:

* أن هناك خللا في البناء الكلي للفكرة.

* أن هناك سببًا أو مجموعة من الأسباب تضافرت على إحداث الخلل وإبعاد الفكرة (أو الوعي السنني) عن الصواب.

* أن الزواية التي نظر منها صاحب الفكرة إلى فكرته كانت ذاتية مضللة.

وتكاد هذه الأسباب الأربعة تلخص الموقف النقدي العام الذي يصطنعه جمهرة الناس في ظل هذا التصور، فإن السنة إذ تشير إلى أصول منهج نظر، فإنها في ذاتها تتطلب أو تستلزم منهجًا للنظر يتعرف عليها، ويستنبط أنواعها وغير ذلك من أمور حول السنن وطرائق التعامل معها.

ولكن نظن أن التفكير السنني فضلاً أن أنه يدرب من يتفهم عناصره وجواهره، ومكامن فعله وفعاليته، ومقاصد هذا النهج ومرامية، رابطًا بين سنن الوعي المتعلقة بهذا التفكير ذاته، وسنن السعي المترتبة على هذه السنن، فإنه كذلك يحرك مجمل عناصر التحليل والتفسير لمشيرة إلى قدرات للتعامل المنهجي أهمها:

-الفهم الكلي للظواهر

ذلك أن للربط بين الكلي والجزئي سننًا من المهم التعرف عليها، الفهم الكلي ينفي عناصر تصور تشطير الظاهرة، أو تفسيخ لتكاملها، أو تجزئي في الفهم أو الوصف أو التحليل أو التفسير، وعمليات تسكين الجزء في سياق الكل واندراجه فيه وفعله من خلاله، كلها عمليات ترتبط بقوانين من المهم إدراكها.

– الفهم السببي للظواهر

إن السنن والتفكير من خلالها تدفع المتعامل دفعًا إلى نهج تفكير لا يهمل أصول التفكير السببي من غير إهمال لوجود دائرة الغيب من جهة، وعناصر التحريك الإيماني التي تردف الفهم السببي فتؤثر في العطاء الإيجابي للسنن لذلك الإنسان المؤمن.

– الفهم المتشابك للظواهر

السنن تشير إلى الإنسان، والأفعال الحضارية المتعلقة بها إلى أن تشابك الظاهرة لا يمكن معالجته عن طريق السنن إلا في سياق اعتبارها (المنظومي)، السنن منظومة من المفردات تتحرك في شكل علاقات متنوعة، تفعل في الواقع من خلال الوعي بسياقاتها وتأثيراتها وتفاعلاتها، تحريكها في سياق ربما يولد سنن محركة ودافعة، هذا التفكير السنني هو من أهم أنماط التفكير في التعامل مع الظواهر المعقدة على النحو اللائق بها.

– الفهم القياسي للسنن

إن السنن وفق تكويناتها ومنظوماتها وقدراتها التوليدية تحرك في التعامل معها عناصر فهم تبحث عن “الجوهري” في الفعل الحضاري، والعارض منه، عن الثابت المحرك في دائرة الفعل الحضاري، والمتغير الحادث فيه إنها تحرك البحث عن “مفاصل الفعل الحضاري” المؤثر فيه، إن هذا البحث الذي يعطي القيمة لما نعنيه بالشرط، الكامن والقاسم المشترك بين فعل الشرط وجواب الشرط، إنه نهج يبحث في الدائرة العميقة للفعل الحضاري (العلل واأسباب) وترابطها وتفاعلها على نحو يحرك كل عناصر الفاعلية الإيجابية.

– الفهم التقويمي للسنن

وتعد هذه السمة لوصف هذا النهج السنني من أهم السمات، فإن السنن من حيث تحركها نحو كل ما سبق، تملك قدرات في تقويم الأفعال الحضارية والسنن المرتبطة بها وفعل الإنسان بها ومعها ولها، إنها تشير إلى مناطق قصور وتقصير، وتحرك أصول مناهج نقدية للواقع وحركة للفاعلية بأفعالهم وعلاقاتهم وحالاتهم وسياساتهم، هذا التقويم من أصول التفكير السنني، وهو يتحرك بفعل الأمر القرآني بالتدبر والاعتبار والتفكير والنظر، كلها عناصر إذ تلفت إلى ضرورة رؤية الثابت والقانون العام في دائرة عالم الأحداث فإنها تعتبر هذا التفكير والنظر والتدبر ليس خلوا من مقصد، أو يمارسه الإنسان باعتباره عملاً يقع في دائرة الرياضة الذهنية أو الترف الفكري، فإن هذا الربط الشرطي في التفكير السببي وتحديد أصول التعامل مع المفاصل، كل ذلك من الواجب أن يصب ضمن وظيفة أساسية ترتبط بكل هذه العمليات، مقصودها الاعتبار للعبور من الفعل وبه إلى دائرة أكثر فهماًا ووعيًا وسعيًا بمقتضى السنة والمنظومة المرتبطة بها.

– الفهم المستقبلي للسنن

ذلك أن مفهوم الاعتبار كما يشير إلى معاني التقويم والتأصيل والبحث الإنساني والنظر المدقق والتدبر العميق، فإنه يشير من ناحية أخرى إلى أصول التفكير ضمن دائرة النظر المستشرف إلى المستقبل، إن السنن في صيغتها الشرطية تتضمن كذلك وبفعل المقابلات والتفكير بدائرة الإنعكاس الشرطي، إلى دائرة مهمة إذ تلعب السنن دورًا تحذيريًا، هذا الدور التحذيري، لابد أن يؤتي كل آثاره بفعل عناصر الرشد الإنساني، فيكون التدبر فعلاً مستقبليًا يقدر للفعل عواقبه، ويبحث عن سننه الفاعلة، السنن التآثير، وسنن التدبير كلها سنن تتحدد في ضوء عناصر العبرة والاعتبار، والمقاصد والأهداف فتحرك عناصر التفكير المستقبلي لا بشأن أنه يستند فقط على الإيمان بالغيب، ولكن باعتباره ضرورة إنسانية تعبر عن كمالات التفكير الإنساني لمقصود التفكير الراشد والتدبر والاعتبار، فإن النظر في (عواقب الأمور) (واعتبار المآل) (وأفعال التمكين) كلها عناصر تردف فكرة المستقبل.

كما أن هذا التصور السنني يتيح إمكانات لدراسة القرارات التأسيسية والاستراتيجية (القرارات الفاصلة والمفصلية) وتأثيراتها الفاعلة مفي مجال التعامل الدولي، بحيث يمكننا دراسة جملة هذه القرارات سواء تعلقت بسياقات تاريخية أو معاصرة ضمن أصول المنهج السنني.

تبقى بعد ذلك الإشارة إلى أن الضغوط الحضارية كفكرة محورية ضمن عناصر النهج السنني لابد أن تترك تأثيراتها، وبما يشير أن حقل العلاقات الدولية تتجلى فيه جملة من الضغوط الحضارية التي ترتبط بهذا المجال مثل ضغوط: الضعف والقوة، وضغوط التجزئة والتشرذم، والضغوط المتعلقة بالنظرة التي تقوم على تزييف السنة في الوعي التاريخي والمعاصر، وباعتبار أن هذه العناصر الحاجبة من أهم مصادر الفعل الارتجالي غير المخطط.

ويبقى كواحد من أهم تأثيرات هذا النهج السنني أنه يشكل أهم عناصر تحفظ على كل التحليلات والتفسيرات والتقويمات القائمة على إعفاء التراث من المسئولية عن حال الضعف والغياب، فإن هذا التحليل السنني يصد كل عناصر التحليل الذي يركن إليه البعض ضمن التضمينات السيئة “لنظرية المؤامرة”، والتي لا تهمل عناصر القابلية للمؤامرة من جهة، كما لا تغفل الإشارة إلى عدم الأخذ بأسباب المواجهة والتحدي من جهة أخرى.

كذلك فإن التحليل السنني يشير إلى إمكانات الخروج من دائرة المفعولية في حقل العلاقات الدولية إلى دائرة الفاعلية في إطار تحقيق أسس هذه المعادلة التي تستند في البدء على قاعدة من الإدارة السياسية والعدة ضمن تحويل إمكانات القوة إلى عناصر قدرة.

كذلك فإنها تشير ضمن هذا التحليل السنني إلى أن الظواهر السلبية التي تفت في عضد الكيان العربي والكيانية الإسلامية خاصة التجزئة والتفرق إنما تحركها عناصر فهم سنني يركز على أبعاد القابليات لهذه العمليات، وليس بإحالة ذلك على الاستعمار وسياسياته الظاهرة والخفية في هذا السياق، والاستعمار في أشكاله الجديدة والقديمة، إن عناصر التجزئة البنيانية هي أهم قابليات الفعل الخارجي، من دون تحميل أو إحالة ومن دون إعفاء الآخر من القيام بجملة من السياسات التي تشير إلى عناصر تربص تحقق مصالحه المتنوعة على مر الزمن.

وأخيرًا فإن سياقات التبعية لا يمكن تفسيرها إلا ضمن عناصر تحكم حلقات التبعية وذلك ضمن البحث عن سنين التبعية والإبقاء عليها، والاستمرار ضمن دوائرها المتعددة، إن هذه التفسير السنني كما يشير إلى شروط البقاء، يشير إلى شروط الخروج، ولكن هذه الأمور ليست فقط على هذا النحو التبسيطي أو الاختزال ولكن ضمن سنن الآليات التي ترتبط بدورها بهذه الأطر السننية الكلية.

عمليات شديدة التعقيد والتشابك تفرض أن تعتبر هذا النهج السنني بالاعتبار اللائق في علاقات تتعلق بحقل العلاقات الدولية وضمن عمليات تتعلق بالوصف والتحليل والتفسير والتقويم.

سنة التدافع: مدخل للفهم ومقدمة للحركة:

وهو ما يؤدي إلى جملة علاقات “التدافع الحضاري”، التدافع الحضاري حركة فعل ممتد، إيجابية مانعة لكل أنماط التخريب الكوني والجماعي والفردي، ودافعة إلى تيسير وتحقيق كل الفاعليات الكونية بمقتضى التسخير للعمارة الحضارية الكونية والتيسير لها واستمرارها. وهي رافعة لكل عمل حضاري يشكل إضافة عمرانية إلى الكون فيه صلاحه وإصلاحه، التدافع الحضاري تحريك للقدرات الإيجابية للإنسان واستثمار للمكنونات الكونية التسخيرية للحفاظ على شرط العمارة الكونية، وهي التكريم الإنساني الذي يضمن لتلك القدرات الإيجابية عملاً عميقًا ممتدًا في الأزمات والمكان والإنسان، في عالم الأفكار والأشياء والأشخاص والأحداث. والدفع عمل حضاري مفتوح للعودة بأطر التوازن الكوني والعدل في العمارة الكونية إلى حقيقته وجوهره، “إدفع بالتي هي أحسن”، بحيث يجعل من حركة الدفع الحضارية غاية هادفة إلى الإحسان الحضاري بكل تنوعاته ومجالاته ومن هنا تبدو حركة الدفع الحافظة لجملة العلاقات الدولية المتشابكة، وحركة التعامل الدولي المساندة، ووقائع العلاقات الخارجية المتفاعلة، هي الأساس في منع عناصر التخريب والخراب الحضاري، وفي المقابل تعمل على تشييد العمارة الكونية الحضارية كفعل إيجابي من جانب آخر.

معادلة العمران في مواجهة معادلة الطغيان، وفلا شك أن ترك معادلة الطغيان ضمن مجالات العلاقات الدولية والتعامل الدولي والعلاقات الخارجية تفعل فعلها وتراكم عملها من غير مجابهة يؤدي إلى نقيض العمران، “لهدمت صوامع وبيع وصلوات”، “لفسدت الأرض” ويحرك جملة الحركة في هذه المجالات المتنوعة للحركة الحضارية في طريق سلبي، يشوه أصول هذه العلاقات وفروعها، بحيث يكمن الظلم في أشكالها وأساليبها، ويحرك عناصر القوة الطاغية في الحركة والعلاقات، ويدجن أسس المصالح الاستئثارية وفق علاقات قوة وتبعية، بما ينتج جملة من مظاهر الاستخفاف في العلاقات السياسية الدولية. إنها تنتج نفس عناصر المعادلة الفرعونية في التعامل الدولي من علاقات القوة والاستكبار. الرؤية العقدية تجعل من الاختلاف “سنة” ومن التعدد “حقيقة”ومن التعارف والتعايش “ضرورة” ومن التدافع “عملية”،والتدافع كعملية حضارية ممتدة ومستمرة تنتج جملة من الأفعال الحضارية هي في حقيقتها عملية جزئية، تشكل فروعًا لعملية التدافع إلا أنها بدورها تعبير عن سنن وأشكال من التعامل في نفس الوقت، واختلاف الأحوال الحضارية لا يمنع من معنى السنة الحاكم لها على اختلافها ونوعها بل وتناقضها، الحرب والقتال شكل من أشكال التدافع يُحكم جملة بالسنن الخاصة به. والتعاون والتعايش والتفاعل والعلائق التي يقتضيها حال السلك شكل من أشكال التدافع، وفي الحالتين تتداخل العلاقات وتتفاعل ضمن نماذج متنوعة يستغرقها الوصف القائل “بالتي هي أحسن”، وفق أصول وضوابط شرعية مرعية من جانب، وأحوال ونوازل وأحداث معتبرة من جانب آخر، والاعتبار المستثمر لعناصر القدرات والإمكانات المتاحة بما يكون عناصر القوة وفق منطق العصر وتحصيل أصول القوة فيه من جانب ثالث.

السنن تحرك عناصر التفكير، السببي المنظومي، بما يحرك السبب إلى السنة، ربما يشير إلى أكثر من حالة ومعنى، منظومة الأسباب توافق الأسباب، تساند الأسباب، تفاعل الأسباب، دائرة الأسباب، الأسباب وحراكها، الأسباب المقدمة، الأسباب النتائج، أوزان الأسباب، تراتب الأسباب، سبب الأسباب، هامش الحركة الإنسانية ومعرفة الأسباب، الوعي السببي وعملية التفسير، هضم السنن والأسباب والتنوع بتفسيرات “الجبرية- القدرية- المؤامرتية، الخرافية، والعبثية”.

 

المؤامرة والدراسات المستقبلية عند المسلمين

إن التاريخ الإنسانى بامتداده وتفاعلاته يحيلنا دائماً وعلى نحو فطرى للنزوع لاكتشاف المستقبل، ذلك أن الزمن الآتى ظل هاجساً ملحاً رافق البشرية فى رحلتها عبر الحياة، وهدف الإنسان على البقاء والاستمرار فى سياق مواجهاته لتحديات تواصلت أو استجدت، وظل الإنسان مدفوعاً بفطرته للاستعداد للمستقبل بصورة عملية،.وحين توسعت مدارك الإنسان وارتقى، عمد إلى محاولة اكتشاف مجاهيل المستقبل بطرائق أكثر تطورا، فابتكر التنجيم والتكهن والتنبؤ وغيرها، وصار من يقومون بهذه الوظائف الأكثر حظوة، بالنظر لما ينطوى عليه اكتشاف المجهول القادم من أهمية كبرى لدى الجميع دون استثناء . وفى المقابل سعت الأديان السماوية لصرف أنظار الإنسان عن المناهج الخرافية فى التبصر بالمستقبل فوضعت له مناهج تربط المستقبل بالغيب ورؤيا الأنبياء وتحديد ميدان حركته وفعله فى إطار الإرادة الإلهية والجزاء الأخروى. ثم جاء الإسلام كخاتمة للرسالات متصفا بالكمال والتكامل والتمام والتوازن بين التنظير والعمل مانحا الإنسان منهجية صادقة وراقية وفاعلة فى التعرف على المستقبل، بل والإسهام فى صنعه دافعا إياه نحو رؤية عمرانية شديدة العمق شديدة العم والفاعلية تجعل من الكون ساحته الحضارية، يحقق الإنسان فيه هدفه فى الاستخلاف وإعمار الأرض وبناء الدنيا للآخرة ” يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه “، هذا الكدح الحضارى الموصول بالله، جعل من أهم تكليفات الإنسان المؤمن ذلك الاستشراف المستقبلى :”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد “.

بيد أن المسلمين فى عصور تراجعت فيها فاعليتهم ووهنت قدراتهم، انساقوا بعيدا عن هذا المنهج الاستشرافى المحرك لعناصر تفكير وتدبر وتغيير فاعلة، وعاشوا حالات الانفعال والاستسلام، وتجاهلوا مكامن الفاعلية وعيا وسعيا ورعاية، مما أدى إلى وهن علاقاتهم وإدراكهم فى الحاضر والمستقبل، واقترن ذلك بأنماط عليلة فى التدبير والتفكير.

إلا أن ذلك لم يكن ليعنى التوقف عن ممارسة الاستشراف المستقبلى، بل ظل الحكماء والمؤرخون والعلماء يواصلون جهودهم فى محاولات اكتشاف مناهج لدراسة المستقبل، وقد أشرفت محاولاتهم إلى وضع معايير ومعادلات، بعض منها انطلق من معتقداتهم الدينية أو رؤاهم الفلسفية والعلمية، فظهرت آثار لذلك فى علوم الفلسفة، وفلسفة التاريخ، وعلم اجتماع الحضارات، وتاريخ الأفكار ومسيرتها وسيرورتها، حتى أسفرت هذه المحاولات عن نظريات عصر النهضة الأوروبية والتقدم وصولاً إلى الدراسات المستقبلية الحديثة.

وبدت هذه الدراسات المستقبلية فى تطورها مستمسكة بفلسفة التقدم ومعايير التطور، ومحاولة استنباط قوانين له، وفقاً لنظرة علمية استراتيجية فى سياقات مفهومها للعلم ؛ هادفة إلى اكتشاف المستقبل وتحديد خياراته وبدائله، وظلت الدافعية النظرية تنتج بمرور الزمن –واستشرافا للمستقبل – انساقا ومناهج علمية، اختلفت فى محتواها وأهدافها الكلية، فارتكزت الحضارة الغربية فى حديثها عن المستقبل إلى مناهج وأنساق علمية خاضعة لتصورها الكونى الوضعى وغاياتها المادية فى الحياة، وإن تغلف فى بعض صوره وتصوراته بأبعاد دينية أو رؤى معنوية غير مادية اكتسبتها من دون أن تشكل صلب هذه الرؤية الاستشرافية، واعتبرت هذه الدراسات المستقبلية رهان الغرب فى السيطرة على المستقبل، بل عدها “آلفن توفلر ” ضماناً لاستمرار حياة المجتمعات فى المستقبل، وأطلق عليها تسمية “استراتيجية البقاء”، وكأنه يريد القول بأن المجتمع الذى يفتقد التخطيط الاستراتيجى فى إطار دراسة المستقبل دراسة علمية معمّمة، ومواجهة متغيراته، فإنه لا يريد البقاء، وربما من طرف خفى لا يستحق البقاء، ذلك أن احتمالات بقائه ستتقلص بشدة فى خضم موجات التغيير السريعة وصدماتها المتلاحقة . وهذه الرؤية رغم أبعادها الوضعية المادية المتضمنة والكامنة فى رؤيتها، كما أنها لم تكن مهملة فى الرؤية الإسلامية إلا أنها كانت موصولة بسنة كونية قائمة واسترشاد يحفز الفاعلية والدافعية ” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا “، فتؤكد على مسار هذه الفاعلية ووصلها باليوم الآخر المحرّك الدائم لفاعليات الإنسان فى سياق المسئولية والأمانة والاستخلاف العمرانى فى الكون، وهو أمر يتأكد وظيفياً فى مقولة لسيدنا على (كرم الله وجهه) ” من استبصر الأمور أبصر، ومن استدبر الأمور تحير.

إن هذه الكلمات الجامعة تدل على تفسير كثير من وضع الحياة الذى يعيشه عالم المسلمين، ذلك أن المستقبل تفكيراً وتدبيراً وصناعة صار أمراً هامشياً على أرض الواقع، ووصلاً بمقولة سيدنا على ” فإن الإنسان الذى يدير ظهره للمستقبل سيكون خارج دائرة القرار، بل لن يجد له مكاناً حتى فى الهامش، لأنه سيصير موضوعاً لا فاعلاً ومنفعلا أو مفعولا به لا فعالا، فيكون البقاء – ولو حتى فى دائرة الهامش – بقرار من دائرة التحكم التى يمسك بها من استقبل الأمور وأبصرها وعرف الزمان واستعد له “.

ولا يمكن من الاستعداد للمستقبل أن يكون ناجحاً فاعلا ومؤثراً استناداً إلى أساليب عفوية أو دراسات عشوائية أو اهتمامات آنية، أو بلغة وعظية، أو بحديث عن آمال وأمانىّ، تكتسي ثوب نصوص دينية، تؤول من كل طريق، وبكل طريق متعسف، يحرك كل معاني الانتظار والقعود عن الفاعلية.

بل وجب تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل تستند إلى رؤيتنا للعالم (الرؤية الكونية التوحيدية: استخلافا وإعمارا)، وتستقى من أصولنا الإسلامية، وما تؤصله من قواعد ومناهج للنظر والتفكير والتدبير، ومن تاريخ البشرية وخبراتها وتجاربها: (قل سيروا فى الأرض فانظروا … ).

وإذا كان عالم المسلمين بضعفه وعدم قدرته قد تراجع فى إسهامه فى استشرافه المستقبلى، وإذا كانت الحضارة الغربية قد ابتكرت أشكالاً متعددة ومتنوعة من الدراسات المستقبلية، وفقا لتصوراتها وغاياتها، منسجمة مع تطلعات تلك الحضارة وما تريد من المستقبل. وربما هذا فى ذاته يشكل نقطة كاشفة وفارقة فى آن واحد.

أهم عناصر كاشفيتها تكمن فى إشارتها إلى عناصر الضعف الذي اعتور العقل المسلم، وعدم قدرته على مواجهة تحدياته، وعدم مناسبة استجاباته لتلك التحديات التى تتراكم وتتعقد، وهو أمر لابد أن يدفع عالم المسلمين إلى أن يعتقدوا أن التفكير المستقبلى ضمن صياغاته العلمية والتوحيدية صار من أهم فروض الوقت لتحقق للعقل المسلم قدراته وفعالياته فى مواجهة تحدياته، وأن تكون استجاباته على المستوى المطلوب تفكيراً وتدبيراً وتغييراً وتأثيراً.

أما عن مكمن أن يشكل ذلك الوضع الذى شكل فيه العقل الغربى دراسات مستقبلية على شاكلته وانسجاما مع غايته، فإن ذلك يعبر عن علامة فارقة تتعمق ضمن ضرورات تأصيل رؤية إسلامية للاستشراف المستقبلى تتمايز فى المنطلقات والمحركات والغايات.

هذه الرؤية الهادفة إلى استشراف المستقبل فى منظوره الإسلامى ليست حديث أمانى وآمال، أو حديث توقعات ونبوءات، أو حديث مراهنات على سقوط الحضارات والمدنيات الأخرى التى سيكون الإسلام بديلاً لها، بل إنها تعبير عن نظر عميق وعمل دقيق، حديث علم ومعرفة موصولة بحبل من الله (الإيمان والأمانة ) وبحبل من الناس (الاستخلاف والعمران)، وكل ذلك ضمن الصلة الأكيدة بين حياة الإنسان الدنيوية بحياته الأخروية.

بناء المستقبل تتحرك أوصاله فى صلة حميمة بين الحلقات الزمنية الماضى والحاضر والمستقبل، “. ولأننا مهددون فى حاضرنا فلا خيار لنا إلا ببناء مستقبلنا، وبناء المستقبل هو قرار الحاضر، فحاضرنا كان المستقبل بالنسبة لماضينا، وفى حينه لم نتخذ قرار بناء الحاضر، فبتنا مهددين .وتتمثل العلاقة النظرية للماضى بالمستقبل . فى اكتشاف تطبيقات سنن التاريخ “، وتلمس سنن القوة والضعف، والنظر إلى التاريخ كمعمل تجارب،وهذه الرؤية ليست ذات طبيعة تراجعية نحو الماضى، ولكنها عودة متكاملة الأركان لأصول مرجعيته تجعل من الدين ومرجعته الحافزة للاهتمام بصياغة الحياة وإعمارها بمنهج تلك المرجعية، واهتمامها بالواقع، لتكون مجمل هذه الرؤية المنطلق والمحرك والهدف فى بناء المستقبل، ومن هنا تبدو هذه الرؤية الاستشرافية فى عودة للماضى لا للجمود عليه بل للاعتبار منه، ولا تهرب من ضغوطات الحاضر للمستقبل فتتحدث حديث الأمانى أو الانتظار بل هى أصول فعل وفاعلية، إنها تعبير عن الوعى المتكامل لمعادلة العلاقة بين الماضى والحاضر والمستقبل . فهذه المعادلة الموصولة والمتواصلة هى التى بإمكانها وضع الأسس العلمية والتربوية لبناء المستقبل.

إن الأمة التى تقترب من نهايتها أو تشارف على الموت، أو تحدد أجلها القريب (عمر أمة الإسلام )، وما يفيد ذلك من قرب القيامة أو يستعجلونها ” أتى أمر الله فلا تستعجلوه “، إنها العظمة القرآنية فى التعبير بالماضى ثم المضارع ليحول النظر الإنسانى إلى أن أمر الله آت لا محالة، وأن ليس على الإنسان استعجاله بل العمل حتى بلوغه، ها هو النبى (r ) يحيلنا إلى العمل المتواصل ” إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها” .

إن هذه الأمة قد تنكفئ على نفسها وتبدأ بالاستغراق فى استحضار أمجاد الأمة فى الضمائر والعقول ، لأنها لم تعد ترى من جدوى فى الحديث عن المستقبل أو الاستعداد له، فالذى يشارف على الموت يعلم أن مستقبله هو اللحظة التى يعيشها بأزماتها وأوجاعها، فتبقى هذه اللحظة بالنسبة له مجرد استعراض لشريط الذكريات، كما أن هذه الأمة قد تجعل من الحديث عن عمر أمة الإسلام وقرب أجلها وما يترتب على ذلك من تكثيف الأحداث فى الأعوام المتبقية قد يورث ثقافة انتظار لا ثقافة نظر، وثقافة قعود واتكال  لا ثقافة فعل وفعالية، ينتظرون البشارة فتقع فى أيديهم باردة، ولا يتفاعلون من الإنذار معتبرين أنهم ليسوا معنيين به بل غيرهم هم المعنى (بالدمار والهلاك). بينما تريد مجتمعات أخرى ضمن نظرها العليل وفعلها الكليل (عبد كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير)، أن ترى فى ذلك نظرية لخرق المراحل والمسافات والقفز عبر الزمان والمكان، فتحاول رسم صور مستقبلها بالتشبه بمجتمعات تختلف عنها، مارست سيرها الطبيعى فى جادات التاريخ والجغرافيا، واكتشفت صور مستقبلها بالمناهج التى أفرزتها مسيرتها. وعندها لا يكون هذا التشبه سوى صور كاريكاتورية لا تعبر عن الواقع بشئ .( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر الضب لدخلتموه معهم .).

ومن هنا فإن استشراف المستقبل وبناءه ليس تجاوزا للحقائق الكونية،ولا خرقا للزمن والواقع أو الاستغراق فى واحدة من حلقات الزمن (من ارتكان للماضى، أو الوقوع فى أسر الواقع وضغوطاته أو الانطلاق للمستقبل بلا عمل يركن إلى حديث الأمانى )، بل هو نظر بعيد، وحركة تدبير تمتلك ثلاث عيون بصيرة، عيناً تنظر على الماضى وتستلهم منه، وأخرى تتأمل الحاضر وتنطلق منه، وثالثة تتبصر المستقبل وتستشرفه، فى إطار نظرة تكاملية واحدة.

أما عن كون هذه خاتمة لأنه لم يبق لنا لا أن نختم بحثاً كهذا يهتم بالدراسات المستقبلية فى عالم المسلمين، أما عن كون تلك فاتحة، فإنما تلك إشارة إلى الضرورات التى تلح علينا فى أن يكون للمسلمين، منهاج خاص يعالج قضايا ومستقبل المسلمين، لأن المكتبة الإسلامية والعربية على حد قول البعض تحتاج إلى إضافات هذا النوع المفيد بعد أن أضحت حبلى بآلاف الكتب التى تجعل من الحديث عن المستقبل شيئاً مكروهاً، وربما مناقضا للإيمان عند فريق، ومجافيا للتعليم عند فريق آخر. والذي ينظر فى أحوال أمتنا الإسلامية وفى ثقافتها، لعله يفجأ – وربما يفجع – بأنها أمة لا تعمل للمستقبل بمعناه الحقيقى وليس فى إنتاجها الثقافى شئ يساعدها على ذلك، وأدى ذلم مع تراكم الأحداث إلى أن تفقد الأمة صدارتها وريادتها، بل ربما تفقد هويتها؟!

إلا أن هناك فريقا حينما وقع تحت ضغوط هذا الإشكال، صار يبحث عن الحل فزاد الإشكال إشكالاً، فرأى فى استرداد هذه الأمة بعض من قيمتها فى الحديث عن بشارات منتظرة وإنذارات متوقعة وأمارات بارزة، وأن قضايا الأمة التى تراكم فشل عالم المسلمين فى حلها لفترة طالت ستجد الحل الناجح والسريع والمكثف، فى نبوءات بدنو أجل أمة الإسلام، وبما أن ما تبقى قليل فإنه سيحمل أحداث جسام لابد أن تحدث تعيد لهذه الأمة كرامتها وعزتها هذه الأحداث تتراوح ما بين هلاك أمريكا المنتظر ودمار حضارة الغرب الحتمى، ونهاية دولة إسرائيل، ومع وقوع الأحداث ستبرز فتن (يأجوج ومأجوج والمسيح الدجال)، وتبرز شخصيات (المهدى العادل ونزول المسيح .)، وبدا لهؤلاء يستنفرون الخلق تحسبا لذلك، بل وحسابا رياضيا ورقميا يحدد سنوات الوقوع ومواعيد الحدوث ومواقيت الظهور والنزول .

وضمن “سوق النبوءات ” على ما يسميه الشيخ سفر الحوالى، أو “صدام النبوءات” على ما يسميه أحد من أسهموا فى ترويج بضاعة هذا السوق، وفى سياق نفسيات واهنة يائسة بائسة قابلة لمثل هذه التصورات وصناعة التنبؤات بدا هذا يسرى مسرى النار فى الهشيم، فى ظل أسواق الحيرة التى حملت من أزمات متتالية “وفتن لقطع الليل المظلم البهيم تذر الحليم حيرانا”، فى ظل هذا المناخ النفسى عرض هذا التوجه نفسه بشكل متراكم، من تراكمه مثل توجها وظاهرة وجب الوقوف عندها. هذه النظرة حول “نهاية التاريخ ” على طريقة بعض المسلمين لا قتل خطورة فى آثارها وتأثيرها عن مقوله نهاية التاريخ عند فوكوياما، وكذا تلك النظرة حول “صدام النبوءات” لا تقل فى تضميناتها ومكنوناتها من تأثيرات خطيرة عن مقوله هنتنجتون حول “صدام الحضارات”.

إن ثقافة الحيرة والانتظار تجعل المستقبل يفلت من بين أيدينا، لأن صناعة المستقبل علم واسع الرجاء وجب النهوض به، وإن صياغه علم مستقبلى هو جزء لا يتجزأ من صناعة المستقبل ذاته، وهو علم يقوم بتأسيس مستقبل يكون لنا لا علينا نمتلك فيه أزمة مستقبلنا لا يعبث بها غيرنا أو يتحكم بها، وحتى لا يصنع غيرنا مستقبلنا لنا.

أما ثقافة التدبر والفاعلية فهى أسس الصناعة المستقبلية الدقيقة والثقيلة (التخطيط – الوقت- الاستراتيجية ) هذه الثقافة تجعل عينها على الأمة بعوالمها المختلفة، وتجعل شهودها غايتها سواء أكان هذا الشهود يتعلق بدنيا المسلمين موصولة بأخراهم من حساب ومسئولية، المستقبل الموصول بحبل من الله وحبل من الناس، وحبل من الدنيا موصول بالآخرة البحث فى المستقبل بحث فى عالم الإمكانية والطاقات والاستثمار، إذا كان عالم الإمكانية يعبر عن طاقات كامنة متنوعة ممتدة، وإذا كان امتدادها وتنوعها الطبيعى يحيلنا إلى ضرورات التكامل، وإذا كان العصر يدفعنا إلى فرضية التعاون فرضا فى عصر العولمة الاقتصادية والتكتلات الاقتصادية عبر الدول، وإذا كان التاريخ يحيلنا إلى ذاكرة تؤكد وجود بنى أساسية واعية لذلك التكامل والتعاون وداعمه له وإذا كان الدين والرابط العقيدى يحرك كل عناصر التوحيد، والوحدة فى إطار التنوع والخروج من اختلاف التنوع إلى ائتلاف الاختلاف . وإذا كان الواقع الفعلى على غير ذلك، والابتلاء تعدد فى عالم المسلمين بين (نقص فى الأنفس )، (ونقص فى الثمرات ) (وحالات مكن الجوع والمخمصة)، ( وحالات من افتقاد الأمن وتآكله)، وإذا كان منطق كفران النعمة يكمن فى (عدم استثمارها الاستثمار اللائق، أو (إهدارها بأى من صور الإهدار )، أو تعنى (احتكار النعمة وحجبها بعدم الدوران المحرك لطاقة العمل فيما بينها وتوزيع العائد على المجموع والأفراد )، إذا كان هذا وغيره قد يشكل عناصر لظواهر وتجليات يشهدها عالم المسلمين، وإذا كان هذا وغيره قد يشكل عناصر لظواهر وتجليات يشهدها عالم المسلمين، وإذا كانت العلاقات بين عالم المسلمين فى أدناها، بينما مقارنتها بعلاقات بينية (بينهم فرادى وبين الخارج، الغرب أو خلافه) يعنى أم حجم العلاقات البينية الإسلامية لا يقارن بحجم العلاقات الغيرية، وإذا كانت المؤسسات تنشأ على الورق ولا تؤسس فى عالم الواقع، أو كانت فاعلة وتآكلت مستويات فاعليتها، أو تكتفى بالحد الأدنى من العلاقات الرمزية ذرا للرماد فى العيون، وقيام مؤسسات إبراء الذمة، وأن السيادات لا يصدع بها إلا فى العلاقات البينية، وتستباح فى العلاقات الغيرية، وأن شبكة العلاقات فى عالم المسلمين قد ترهلت بحيث صارت خالية من المعنى والمغزى، أو تقطعت وتشرذمت فصارت أقرب ما يكون إلى علاقة الإخوة الأعداء، يجترون كل عناصر وخرائط الصراعات المانعة من الجامعية، والخاذلة لكل دافعية، وإذا كانت الاستجابات فى كل الأحوال ومع تواترها تؤكد عيوبا فى الإدراك وصدعا فى الوعى، وتباطؤا فى عمليات السعى،وإذا كانت خرائط التجزئة يركن إليها وعيا وسعيا، وشروط التبعية يذعن لها من دون محاولة لتعديلها، وحقائق التخلف بادية للعيان لا تخطئها عين أيا كان هذا التخلف (فقر، جهل، مرض ) أو هدر لإمكانية، أو استهلاكا لمنتوجات الحضارة لا إسهاما فى صنعيها وإبداعها .إذا كان كل ذلك كذلك فإننا حقا أمام تحد حضارى فى جوهرة يتعلق بمدى الإرادة الحضارية وأنماط صنع القرار الاستراتيجى الحاضن لكل الفاعليات والمحرك لها، والقدرة على تحويل الإمكانية إلى عدة تقوم بأدوارها الوظيفية : الإمكانية – الإمكان – المكنة – المكانمة – التمكين، ويعنى كيف يرتبط التحدى الحضارى فى شرطه الداخلى بشرطه الخارجى ضمن القابليات الداخلية للتمكين الخارجى، وقابليات استمرارية عناصر الضعف والوهن، وقابلية إهدار عناصر القوة والقدرة والفاعلية . ويعنى أن المستقبل “صناعة” تتطلب مناهج تفكير، ومناهج تسيير، ومناهج تدبير ومناهج تغيير، ومناهج تأثير، ومناهج تمكين، وهي صناعات ثقيلة تسير على قدمين هى الضامنة لحرؤكيتها وفاعليتها مدخل الرؤية السننية ومدخل الرؤية المقاصدية فى رؤية حلقات الزمن المترابطة والمتكاملة (التاريخ، والحاضر، والمستقبل)، وهى رؤية تؤصل المقصد والعلاقة بينه وبين الوسائل، والسنن والعلاقة بينها وبين الطرائق تلخصها المعادلة القرآنية للتحدى والاستجابة والفاعلية والتمكين “ولو (أرادوا) (الخروج) (لأعدوا) له (عدة) “.

فإذا امتنعت الإرادة امتنع الخروج وضاعت العدة أو ضيعت، وإذا تعاظمت الإرادة كان ذلك مفتاح الخروج واستثمرت العدة أو عظمت.

وبدت صنوف الحفظ متكافلة متساندة ين حفظ الابتداء، وحفظ البقاء، وحفظ البناء، وحفظ النماء، وحفظ الارتقاء، محفوفة جميعاً بحفظ الأداء الحاضر معها وفيها جميعا، ولصنوف الحفظ سنن تتعلق بامتدادات الزمن، وبتنوعات الاجتماع وبصياغات النفوس، وبمؤشرات الوعي بالسنن الكونية، وسنن استشراق المستقبل وذلك ضمن صياغة معادلة أخرى تأسيسية تكمل سابقتها “إن (الله) (لا يغير) ما (بقوم) حتى (يغيروا) ما (بأنفسهم)”. فى صياغات المعادلات السننية الشرطية فى إطار فعل وعى وسعى الشرط وتحقق وتمكن جواب الشرط، وضمن هذا السياق ترى التحديات الحضارية والسياسية منها والداخلية والدولية فيها.

فهل آن للمسلمين مع توالى أزماتهم، وترافقها مع تفاقم حيرتهم، وتراكم فتنهم، وتعاظم تحدياتهم، وتراكم مشكلاتهم، أن يتعلموا درس السنن فى صياغة المستقبل. أم سنظل ننتظر الأزمة تلو الأزمة تتحرك فيها الشجون والانفعالات والافتعالات والإغفالات، وقبل أن نخرج من أزمة تفاجأنا الأخرى، لأننا لم نتعرف على سنن الصياغة المستقبلية “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون “.

موضع الرؤى المستقبلية فى عالم المسلمين من التحديات الحضارية فى العالم الإسلامي:

نحن أمام عدة استجابات يجب رصدها فى سياق الاستجابات العليلة والكليلة والسلبية لما يمكن تسميته بالتحديات المستقبلية فى عالم المسلمين أو ما هو فى حكمها. هذه الاستجابات تتمثل فى أربعة أشكال:

الأول: الاستجابة البلاغية والانفعالية، وهي حالة تخرج عن حد المعالجة العلمية والبحثية إلى خطاب مكرور يتسم بالإنشائية، وفائض الكلام، من دون البحث فى الأسباب والعوامل الظاهرة والكامنة خلف الظواهر المتعلقة بالتحديات (التى تواجه عالم المسلمين فى الحاضر والمستقبل) والقدرة على الوعي بها والاستجابة إليها والتعامل معها، وتحديد التحديات (المستقبلية) تأثيراً وأوزان.

الثاني: الاستجابة الإغفالية، وهى التى تغفل عناصر مهمة فى التحديات واضطرادها فى المستقبل مثل: إغفال (السياسى) وإغفال (الداخلى فى السياسى)، وإغفال كل ما يتعلق (بالسلطة فى الداخلى )، عناصر الإغفال غالباً ما تترجم ضمن لغة اختزالية لا تضع الأمور فى مقامها، وتحدد خريطة العلاقات بين التحديات المختلفة ووزن السياسى، ومسئولية الداخلى، والسلطة ذاتها تكويناً وسياسات باعتبارها تحدياً ضمن العلاقات السلبية فى العلاقة السياسية الداخلية بأطرافها ومكوناتها . وتنمية سنن الرضا والاختيار داخل هذه العلاقة، بينما تحل محلها سنن الاستبداد والعلاقة السياسية الفرعونية.

الثالث: الاستجابة الافتعالية، وهى التى تحرك عناصر إدراك للتحدى حالا واستقبالا، يتحرك صوب عناصر تهويل فى الرؤية بما يورث استجابة تعبر عن الاستسلام لواقع التحديات السلبى وتكريسه وإقراره سكوتاً أو يأساً، وهى استجابة مانعة من بناء الرؤية الحضارية والاستراتيجية القادرة على تأسيس الوعى الإدراكى لها، وفاعلية السعى فى التعامل معها. الاستجابة الافتعالية ربما تساعد على إقرار عناصر الأمر الواقع والوقوف عن الاستجابة والمواجهة. وهي أمور غالباً ما تنعكس على خطاب التحديات فى هذا المقام، والتقليل من قيمة وقدرات المواجهة وفاعلية المجابهة واستثمار هذه الطاقات ضمن فاعلية الاستجابات والتخطيط لها استراتيجيا وحضارياً فى الحال والاستقبال.

ويمكن الإشارة كذلك إلى نمط ما يمكن تسميته بالاستجابات القاتلة، والتى تشكل الاستجابات الإدراكية مقدمة لها، حرب الخليج الثانية والأولى مثال واضحا فى هذا المقام، تضاؤل فاعلية الأوبك البترولية وانخفاض أسعار النفط لأدنى مستوى لها يعبر عن نمط آخر يمكن تسميته بالاستجابات التى ترتبط بنمط الاستجابات المخذولة، وهى أوصاف من المهم استعارتها من مالك بن بنى نبى فى هذا المقام.

أما الشكل الرابع من الاستجابة فيتعلق بالمعنى التآمرى فى تفسير ليس فقط التاريخ وإنما امتداد التاريخ فى المستقبل، وسنفرد له بعض التفصيل ممثلاً فى أحد النماذج فى إشارة واضحة لنمط هذه الاستجابة وتداعياتها على موضوع التحديات.

أما الشكل الأخير فيتمثل فى الاستجابة المتوهمة فى إطار منهج تفكير يتعلق بالأمانى لا بالعمل الحقيقى على الأرض، وهو ما سنفرد له أيضاً بعض التعليق المهم والإسناد له، وذلك للتذكير بخطورته ضمن نمط الاستجابات السلبية.

فى إطار البحث عن مستقبل التحديات (الداخلية والخارجية) الحضارية التى تجابه العالم الإسلامى يحسن أن نتصور هذه الرؤى ضمن عناصر ثلاثة نعتبرها بمثابة الخاتمة لهذا البحث:

الأول: يشير إلى ضرورة الدراسات المستقبلية عند دراسة موضوع التحديات فى عالم المسلمين، وذلك ضمن اقتراب علمى يقدم بعض نماذج من هذه لدراسة مستقبل العالم الإسلامى وخرائط تحدياته المختلفة.

الثانى: يشير إلى الاستجابات العليلة والسلبية للتفكير بالمستقبل وتحدياته يتمثل ذلك فى أكثر من اتجاه نستعرض أهم اتجاهين منها:

الاتجاه الأول: اتجاه التفسير والاستجابة من خلال نظرية المؤامرة وهو يجد فى التفسير التاريخى الذي يزكى معانى المؤامرة على عالم المسلمين مسوغاً للانطلاق من التاريخ فى المستقبل، ليزكى نفس التقسيم المؤامرتى، لتسويغ القعود عن الوعى بطبيعة التحديات والقدرة على استشراف مستقبلها فى إطار يربط بين الوعى والسعى المترتب عليه.

الاتجاه الثاني: اتجاه التفسير والاستجابة من خلال الاستجابة المتعلقة بانتظار نهاية التاريخ، والتى لا تختلف من حيث تأثيراتها عن الاتجاه السابق، من القعود عن الفعل والفاعلية والتعامل مع هذه التحديات فى إطار الوعى والإرادة والعدة.

والثالث: يتعلق بإمكانية النظر التقويمى للحالة الإسلامية ومواجهتها للتحديات وأنماط الاستجابة، فضلاً عن النظر المستقبل من خلال السنن وعناصر شرطيتها فى التعامل. وذلك فى سياق النظر الجامع بين المقاصد الكلية “المقومة ” والسنن المستشرفة للمستقبل وتدبره فى إطار الوعي بالتحديات إدراكاً ووعياً وسعياً للتعامل معها من خلال مناهج تفكير ملائمة، ومناهج تدبير لائقة، ومناهج تسيير فاعلة.

هذه العناصر الثلاثة نحاول الإشارة إلى كل واحد منها على سبيل الإجمال؛ لأن كل ذلك يحتاج لدراسات مستقلة ونحن بصدد دراسة التحديات الحضارية للعالم الإسلامى. والتى تحدد مناهج التفكير المتداول منها، والغائب، المتداول منها والسائد عليل، والغائب منها والمفتقد مطلوب، وجب إرساء الوعي به والسعى لتحقيق عناصره ومقاصده.

الاستجابة ومنهج عقلية المؤامرة:

إشكالية منطق “المؤامرة ” فى تفسير الأحداث والتاريخ:

لا تكاد تمر أزمة من الأزمات المتلاحقة التى تحل بالمسلمين فى مختلف بقاع الأرض إلا ويظهر منطق فى تفسير تلك الأزمة يؤكد على أن ما يجرى إنما هو “مؤامرة “، سواء كان ذلك متعلقاً بأسباب الأزمة أو وقائعها أو نتائجها العملية. وربما يختلف حجم القناعة بذلك المنطق والإصرار عليه من موقع لآخر ومن جهة لأخرى، لكن المؤكد أن هذا المنطق لا يزال يتحكم فى طريقة تفكير شرائح واسعة من العرب والمسلمين فى قضاياها التى مضى زمانها، أو تلك الآتية أو المستقبلية، خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا التى تمس وجود المسلمين فى هذه البقعة أو تلك من العالم، وما أحداث كوسوفا الأخيرة إلا مثالاً واحداً فى هذا المجال.

والمشكلة فى هذه العقلية تكمن بطبيعة الحال فى ما يمكن أن ندعوه الاجتهاد الخاطئ فى تفسير الأحداث والتاريخ، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير؛ لأنه يمثل خطأ فى منهجية وطريقة التفكير والتحليل من الأساس، على عكس الاجتهاد الخاطئ الذي ينبنى على منهجية تفكير سليمة ولكنه ينتج الخطأ بسبب نقص فى المعلومات أو غير ذلك من العوامل. والخطأ فى منهجية التفكير أمر بالغ الخطورة لأنه يضع الأفراد والجماعات على “السكة” الخطأ منذ اللحظة الأولى، بحيث لا يعود هناك مجال بعدها للتصحيح والتصويب، وبحيث يصبح هذا الخطأ الأساسى الخطوة الأولى فى سلسلة متتالية من الأخطاء على صعيد اتخاذ المواقف والقرارات وغيرها من ردود الأفعال النظرية والعملية.

ولكن هل يعنى الرفض لاستعمال منطق “المؤامرة ” فى تفسير الأحداث والقضايا أن نقع بالمقابل فى فخ السذاجة الفكرية والطفولة السياسية التى تفترض أن تلك القضايا تقع وأن أحداثها تتالى بمحض العفوية الكاملة دون أن يكون وراءها تخطيط وتدبير؟ لا بالتأكيد. فمنطق “المقابلة ” و”المتعاكسات ” و”الثنائيات” هو بحد ذاته خطأ آخر بل وشكل آخر من أشكال الإصابة الفكرية التى يتخبط فيها أحياناً العقل العربى والمسلم فى هذا العصر، هذا المنطق الذي لا يرى إلا وجهين لكل قضية ومسألة، فإذا نفيت له أحد الوجهين قفز إلى استنتاج مؤكد بأنك بالضرورة تثبت الوجه الآخر وتؤكده وتوافق عليه. فإذا كنا نتحفظ على مناهج التفكير المستندة إلى التفسير المؤامرتى، فإن ذلك لا يعنى الوقوع فى براثن الغفلة ونظرياتها، أو هو ما أسماه على شريعتى من ضرورة أن نواجه عمليات الاستحمار بما تقتضيه من النباهة. والنباهة ذكاء وتنبه وتدبر وتخطيط وعبره وتذكر ويقظة.

ومفرق الطريق للخروج من هذه الإشكالية إنما يتمثل فى تحرير الفرق بين معنى “المؤامرة ” بالشكل والتعريف الذي يصاحب استخدام المصطلح عند العقل العربى المسلم خاصة، وعند الإنسان أيا كان، وبين مسألة التخطيط والتدبير كما يمكن فهمها وتعريفها بناء على الرؤية الموضوعية لهذه المسألة.

أما منطق المؤامرة فإنه يمتد على مستويين للتفكير: أحدهما عام كلى،والآخر جزئى محدد . فعلى المستوى الأول ينظر المرء إلى الأحدث الكبرى التى تقع من حوله فلا يجد تفسيراً لها إلا أن وراءها مجموعة من العوامل التى تتفاعل وتحرك الأحداث بأشكال عجيبة وطرق معجزة تستعصى على الفهم والإدراك. وبتحليل مثل هذه الرؤية، نجد فى خلفيتها أشخاصاً يتحركون فى الظلام كالأشباح، ونجد جهات خفية مجهولة تمسك بالخيوط وتحركها مباشرة من وراء الستر الكثيفة لتصل إلى غايات لا فكاك ولا مهرب منها وكأنها قدر من الأقدار. من هنا مصطلحات وتعابير من مثل “المخططات الجهنمية ” وما إليها …لتختصر وتختزل المعانى السابقة ونعبر عنها فى لفظ أو لفظين، بحيث يصبح من السهل استدعاء تلك المصطلحات من الذاكرة الثقافية واللغوية واستعمالها فى أى وضع تنطبق عليه الرؤية السابقة، الأمر الذى لا يترك أى فرصة لمحاولة التفكير فى الحدث الجديد بغية تحليله بشكل منهجى وموضوعى ؛ والتعرف على مسبباته ومحركاته ومفاصله ومآلاته .

أما على المستوى الثانى، فإن تفسير الحدث المعقّد يصبح منصبا على عامل واحد محدد عنده قدرة هائلة على التأثير فى كل شئ،وبالتالى على تفسير كل شئ، ويمكن أن يكون هذا العامل شخصا (مثل زعيم أو قائد معين ) أو جهة (مثل أمريكا أو حلف شمال الأطلسى ) أو معنى عاما ( مثل الاستعمار أو الصليبية العالمية أو حتى المال ) أو بروتوكولات حكماء صهيون . وبنفس الطريقة، تتواجد فى خلفية هذه الصورة قوة جبارة مخيفة تحرك الأحداث وتتحكم فى الأمور وتسيّر مصائر البلاد والعباد دونما قدرة منهم على الرفض أو المقاومة. ولكن الفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة أن القوة المسيطرة هنا محددة معروفة، وليست متمثلة فى مجموعة من العوامل المجهولة الخفية.

وفى كلتا الحالتين يتضح لنا أن استخدام منطق “المؤامرة ” ليس منبثقا من فراغ، وإنما يأتى من حاجة إنسانية غريزية لتفسير كل شئ يجرى من حول الإنسان فى هذه الحياة، وفى هذه الحالة بالذات يشعر ذلك الإنسان بالحاجة إلى اللجوء لاستخدام هذا المنطق لأنه ينطلق من خلفية إنسان عاجز عن الفعل تماما .إنسان يشعر فى أعماقه أن تلك الأحداث خارجة كليا عن إطار سيطرته وقدراته .فإذا أضفنا الساحة العالمية بمنظمة “حلف الناتو ” وأن يدرك ارتباط هذا الدور بمصالح الغرب المتشابكة وبالمبادئ المعلنة التى تقوم عليها حضارته من جهة ثانية، بحيث يستطيع الإنسان المتابع – بعد ذلك أن يرسم إطارا عاما يفهم ويقرأ من خلاله الوقائع والأحداث التى تجرى عمليا على أرض الواقع، وأحيانا حتى قبل أن تقع، دون الحاجة إلى اللجوء إلى منطق “المؤامرة” السالف ذكره فى فهم الأحداث .

وباختصار، فإن ما نريد الإشارة إليه هو ضرورة الانتقال فى فهمنا للأحداث من استعمال منطق “المؤامرة “، إلى استعمال العقل والعلم والمنهجية بغية البحث عن العلل والأسباب المنطقية الكامنة وراء تلك الأحداث.

وكما أشرنا سابقاً، فإن إشكالية فهم الظواهر والأحداث وفقا لذلك المنطق ليس مشكلا بحد ذاته فقط، وإنما هناك إشكاليات أخرى تنبع عنه على مستوى الفعل، وربما تكون أكثر خطورة فى التأثير على مصائر الشعوب، ويتضح هذا أكثر ما يتضح حين يقوم منطق “المؤامرة ” بإعطاء زخم هائل لمشاعر العجز والاستسلام، باعتبار أن القوى التى تحرك الأحداث أكبر وأقوى بمراحل من مجرد التفكير بكيفية التعامل معها ومواجهتها مواجهة الند للند؛ بحيث تدخل العقلية التى تستخدم منطق “المؤامرة ” أصحابها فى حلقة مفرغة خائبة، لأنها تصدر – من ناحية – مشاعر فى قلب الإنسان وعقله تؤكد وترسخ واقع العجز والكسل والارتخاء ذاك، ولا تسمح له برؤية طريق منطقى ومنهجى واستراتيجى وحضارى ممكن لتفسير الأحداث ثم التعامل معها بشكل إيجابى يوقف متتالية الخذلان والاستسلام والتراجع، ويعود بالخير على الأمة وعلى البشرية جمعاء.

إن ما نحصده فى الزمن المستقبل ليس إلا زرعنا فى الزمن الحاضر، وليس إلا نتاجا لاعتبارنا بخبرة الماضى. “قل هو من عند أنفسكم “.

نظرية الفاعلية والسنن الشرطية: قراءة في التاريخ وفي نظرية المؤامرة

في هذا السياق ينطرح بادئ ذي بدء تساؤل مهم: أين هي الدراسات التاريخية التحليلة والتفسيرية التي تقدم أحداث التاريخ الإسلامي وفق رؤية منضبطة؟ كيف يفهم المسلم المعاصر أحداث الفتنة بين الصحابة (رضي الله عنهم)؟ إن جملة الاختلالات في التصورات التي تحدثنا عنها آنفًا، والسلبيات في الممارسات، ينبغي لكتاباتٍ تتعلق بالنقد الذاتي أن تتكفل بتصوبيها مع تعميق المفهومات التي تسعى لتقرير “بشرية مناهج العمل الإسلامي المعاصر” و”إنسانية اجتهادية الإسلاميين”؛ إذ إنها خاضعة للنقد لا تستعلى على الأخذ والرد.

وغاية الأمر تؤكد أن عناصر الفعل الحضاري ودوافعه الرافعة للهم والدافعة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن.

إن الروح السلبية المستشرية في أواسط العقل العام، أنتجت حالة مزرية يتحلل فيها المسلم من أية التزامات تخدم عملية التغيير، وتسهم في مشاريع إنهاض الأمة -وهو أمر يجب ألا يبتعد في تفسيره عن أنماط التدين السائدة كالفكر الإرجائي الانتظاري والفكر الجبري الحتمي، والتدين الذي ينفصل عن حركة الحياة.

إن الرؤية الإسلامية في هذا المقام يجب أن تستند إلى رؤية سُننية، ولن تستقيم إلا حين تنسجم مع السُّنن الإلهية وتتوافق معها، وعند وقوع تصادم معها فإن ثمة فسادًا واختلالاً يؤثران في المسار سلبيًا؛ سواء أكان ذلك الفساد أو الاختلال في مناهج التفكير أو في مناهج التفسير أو في مناهج التدبير أو في مناهج التغيير أو في مناهج التسيير.

وإن عناصر الأزمة الحضارية تؤدي في التحليل الأخير إلى أنماط عليلة أو كليلة في التفسير والتدبير، أنماط وهنٍ تتضافر معها تحديات كثيرة تحاصر الأمة في هذا الواقع الجديد وأسباب مختلفة تقف عائقًا عن استرجاع أصول نهوضها ومسارات فاعليتها.

إن “الفاعلية” بهذا الاعتبار هي مبدأ حضاري يجب التعامل معه، بما يدفع إلى رؤاه البحث في عناصر “الفاعلية” في التاريخ الإسلامي، تركيزًا على التفسير الإسلامي للتاريخ وقيمة الإنسان فيه، ثم البحث في أبرز المعوقات التي تحول دون تحقيق شروط الفاعلية التي يفترض أن تصب في عافية الكيان وتؤصل عناصر حركة إيجابية في الواقع المعاصر إمكانية وإمكانًا ومكنة ومكانة وتمكينًا.

والمتأمل في التاريخ يدرك أن أخطر ما واجه عناصر الفاعلية إنما ارتبط بعالم الأفكار، الأفكار القاتلة التي تسربت إلى عالم المسلمين منذ زمن بعيد، والتي أدت إلى حالة من الانحسار الحضاري، مثّلت حالة من القابليات التي مكنت -بفعل استعماري- من بث الأفكار الميتة وبعث روح الهزيمة ومركّبات النقص في النفوس مما ساهم في تراجع مستوى الفاعلية بل ربما فقدها في التفكير والتدبير، إلا أن الأمر الصواب في هذا الموضوع إنما يرتبط بأننا لا نستطيع ولا يمكن بأي حال أن نحمل الاستعمار تبعة ما نحن فيه؛ لأن قضية “الفاعلية” قضية نفسية مرتبطة بالبناء النفسي والرؤية الحضارية، وهي تقع حقيقةً حيث تتحقق مبررات وجودها. والبحث في شأن القابليات (قابليات الفعل الحضاري إيجابية كانت أو سلبية) إنما يرتبط بالحالة النفسية والعقلية والحضارية ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ .﴾(سورة آل عمران- الآية165) وإذا كان مالك بن نبي يرى أن نقصان الفاعلية في العمل ناتج عن مواقفنا تجاه الأشياء، فنحن إما أن ننظر إليها على أنها سهلة وأما أنها مستحيلة، وكلتا النظرتين نقصان في الحركة والنشاط؛ لأن السهولة تقود إلى نشاط “أعمى”، وأما الاستحالة فتصيب النشاط بالشلل، فنحن نرى أن نقصان الفاعلية ناتج عن أسباب كثيرة معقدة تتصل بالنفس البشرية أو بالمحيط التي تربَّت فيه أو بالثقافة التي شربت منها.

ومن هنا يبدو لنا أن معظم المخالطات والأخطاء في التفكير تتأتى من تلك النظرة الحدّيّة في تصور الأشياء أو في طرائق التعامل معها ما بين السهولة والاستحالة، وما بين التبنّي من جهة والنفي والتجنّي من جهة أخرى.

فالفاعلية التي نريد هي “الفاعلية” التي يتحرك بها الإنسان مع ما لديه من وسائل محدودة ليحقق نفعًا خاصًا أو عامًا، ويمكن في هذا المقام أن نؤكد على مفهوم شامل للفاعلية بأنها قوة في النفس تنتج حالة حضارية فاعلة وتستوجب الحرص على النفع وترك العجز.

وفق هذه الرؤية فإنه يمكن النظر إلى التاريخ باعتباره عملاً وكسبًا وحركة ونشاطًا، وهو سلسلة من الأسباب والأحداث التي تُصنع بجهد البشر، وإن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم، ولكن حدوث النتائج بسنن.  كما أن الإنسان حين يغفل عن سنن الله فإنه سنن الله لا تغفل أن تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل، وحينئذ لن يتمكن الإنسان أن يرى للتاريخ أسبابًا، وإنما يرى أحداثًا حتمية، لا دخل لجهد الإنسان فيها؛ فمن هذه النظرة تنشأ (القَدَرية).

وتبين مما قدمنا أن القرآن يؤكد تدخل جهد البشر في صناعة أحداث التاريخ، وبمقدار وضوح هذه الحقيقة في آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة لكثير من المسلمين.

والإنسان حين يفقد قيمته الاجتماعية يتحول من إنسان فعّال إلى كائن عاجز لا يحسن استثمار الوسائل التي بين يديه في تحصيل أحسن النتائج؛ لأنه فقد أساسًا حسن التعامل مع السنن الإلهية، ويصبح حينئذ عالة على المجتمع.

وحين تفقد الفكرة وظيفتها الاجتماعية تبدأ القيم المعنوية بالانحسار لتترك المجال مفتوحًا للغرائز والشهوات التي تقوم بدور المخدِّر الذي يدخل الجسم السليم فيسلبه كل طاقاته الإيجابية ويحوله من جسم فعال متحرك إلى جسم عاجز عن آداء أي حركة، وهو الشيء الذي حدث للمجتمع الإسلامي في فترة سقوطه الحضاري.

وعلى الرغم من هذه الأسباب المعطلة للطاقات المكبلة للقدرات التي عرفها التاريخ الإسلامي كنا نشهد من فترة إلى أخرى تجدد الفاعلية لمواجهة المشكلات الصعبة والأخطاء التي تهدد الأمة التي تمس الكيان والوجود، كما حدث في عصر الحروب الصليبية والهجمة المغولية وما حدث في العصر الحديث من ثورات ضد الاستعمار الغربي.

إن الخلل الذي أصاب الأمة في سعيها نحو المشروع الحضاري هو قلة الفاعلية في العمل وعدم تقديم الجهد المطلوب وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة. وهو أمر يحيلنا إلى ثلاث رؤى تشكل عناصر “لمثلث الفاعلية

الضلع الاستراتيجي:

من أهم أضلاع النظر والتفكير والتدبير ذلك الضلع الذي يتعلق بمعاني الاستراتيجية باعتبارها عملية ترتبط بإطار تفعيل السنن في الوعي والسعي في التفكير والتخطيط والتدبير، ولسنا هنا في مقام البحث في مفهوم “الاستراتيجية” وأصولها، وإنما الغرض أن نحدد العناصر السُّننية في ذلك الفكر الاستراتيجي في إطار تحديد الأهداف، الذي يفرض –بدوره- وضع الخطط بشكل محدد ومحسوب، ويترجم إلى وضع بدائل متعددة بحيث يختار أفضلها من حيث الوصول إلى الهدف بنجاح تام وبأقل خسائر ممكنة ماديًا ومعنويًا.

إنها حالة وعملية تشير إلى عناصر التخطيط المتكامل التي تفرض بدورها مداخل ومسارًا للحركة الفاعلة، فيسمى الأول تخطيطًا ويسمى الثاني تكتيكًا.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن المتخصصين في مجالات متنوعة قد استقرت رؤاهم على ضرورة تبني مفهوم “الاستراتيجية الحضارية” للحاجة الأكيدة إلى هذا المفهوم في تحقيق خطوات الانتقال من الواقع إلى المستوى المأمول، فاستخدموا الكلمة ذاتها “استراتيجية” التي أصبحت تعرف بأنها علم براعة التخطيط أو علم براعة التدبير.

ومن ثم تعني الاستراتيجية أيضًا: “الخطة” أو “الاتجاه” أو “منهج العمل” الموضوع لتحقيق هدف ما، وهي “الممر” أو “الجسر” الذي يأخذنا من هنا إلى هناك. وهي “الأسلوب” أو هي “طريقة العمل” والثبات على سلوك معين وهي مكان أو “موقع”؛ أي تحديد “مكانة” تريد الوصول إليها، وهي “منظور” أي إنها نظرة مؤسسة للعمل؛ فهي “الرؤية الشمولية” وهي الطريقة الشاملة التي يتم اختيارها لتحقيق الأهداف على المدى البعيد، بحيث تشمل كل الاعتبارات الزمانية والمكانية والمادية والبشرية والحسابات الواقعية والمستقبلية.

الفكر الاستراتيجي –بهذا- هو نقلة موضوعية في إطار التفكير السُّنني: من تفكير المؤامرة إلى أصول التفكير والتدبير؛ ومن هنا تبدو المقومات الأربعة للاستراتيجية تتكامل مع بعضها البعض، وأي خلل في أي واحد منها يؤثر على البناء الاستراتيجي.

أول هذه المقومات هو الفكر الاستراتيجي، وثانيها التخطيط الاستراتيجي، وثالثها الخطة الاستراتيجية، ورابعها الإدارة الاستراتيجية. ومن ثم يبدو إمكان تنفيذ الاستراتيجية –باعتبارها عملية- في إطار ما أسمى المحطات الخمس لوضع الاستراتيجية:

الأولى- تتعلق بالبدء والانطلاق، والثانية- تتعلق بالبحث عن الفرض واستكشافها، والثالثة- تتعلق بتحديد الأهداف، والرابعة تتعلق بالتشغيل والتنفيذ، وقائمة هذه المراحل إنما تتعلق بتقويم النتائج ومواصفات الأداء ومدى النجاح للوصول إلى الأهداف الاستراتيجية، وهذه هي المحطة الخامسة.

هذه الأضلاع الثلاثة لمثلث الفاعلية (السنن، الاستراتيجية، التدبير المستقبلي) إنما تعبر عن منظومة متتالية لهذا التفكير الذي يخرج عن صبغة “التفكير المؤامراتي”، ولكنه لا ينفي حدوث المؤامرة في حد ذاتها، بالاعتبار الذي يؤكده معاني التخطيط الاستراتيجي والرؤى المستقبلية والسيناريوهات.

ليس من هدف الرؤية أن تعفي الذات وتبرئ الذمة كما أنه ليس من هدفها أن تصدر إلى العقل نظرية الغفلة وعدم التنبُّه، بين هذا وذاك يجب أن تحفظ مناهج التفكير والتفسير والتدبير والتغيير والتأثير.

خاتمة

نحو بناء نموذج تفسيري لحوادث التاريخ :

رؤية نقدية للتفسير بالمؤامرة وللإنكار المطلق لها: دراسة في مثلث الفاعلية:

يمكننا أن نقدم ذلك النموذج التفسيري لحوادث التاريخ مستندا إلى رؤية سُننية تنتظم الحوادثَ والنماذج التاريخية، لا ترى في المؤامرة تفسيرًا حتميًا أو جبريًا للتاريخ، كما ترفض الصياغة المؤمراتية لحوادث التاريخ، كما أنها لا تعني التشكيك التاريخي بحدوث المؤامرة، ولكنها ضمن هذه الرؤية السُننية لا ننفي حقائق “الاستهداف” و”أصول المصالح المتباينة” وحركة التدافع المتبادل كسنة ماضية، وبناء الاستراتيجيات لتحقيق الأهداف، ورؤية للمستقبل مقرونة بأصول تدبير وعناصر تخطيط وفي كل الأصول تكون هذه الفاعليات رؤية دافعة إلى أصول التنبه واليقظة والوعي، والقدرة على صياغة فاعليات وقدرات للتعامل والمواجهة والممانعة قد تصل إلى حد المقاومة.

إن عمليات الاستهداف قد تكون حقيقية، وعمليات الاستدراج لا تنفيها السياسات الدولية، وتوزيع الأدوار لا تواريها التحالفات وسائر السياسات والعلاقات. إن عناصر الاختراق للدولة وإحداث حالة من “التسميم السياسي والمعنوي” أمر قائم لا يمكن نفيه نفيًا مطلقًا. إن الأمر هنا لا يمكن معه نفي البناء التاريخي لفكرة المؤامرة، وتحكم المؤامرة في صياغات التاريخ ومساراته: لكي يوجه طرف ما إلى حالة من حالات الغفلة أو التغافل أو التهوين أو التهويم على مسائل ومعطيات موضوعية، الأمر هنا يرتبط بأصول مهمة يجب التأكيد عليها:

* أن “المؤامرة” ليست فقط خارجية، فهي قد تكون مؤامرة على الذات ومنها وفيها؛ ذلك أن القابليات الداخلية لا تنفي الدور الخارجي، وأن الدور الخارجي لا يتمكن من الداخل إلا بمقدار ما يمكن له الداخل ويقدم له القابليات الداعية للاستغلال والتوظيف. ومن هنا فإن جدل “الداخل والخارج” عملية أساسية في التفكير والتدبير، إلا أن هذا الجدل يجب ألا ينزلق إلى عمليات تورث غفلة في التفكير والتدبير، كما يجب ألا تحاول إسناد فشلها لعناصر خارجية إبراء للذمة وإحالة على الغير من دون مسوغ واضح يغطيّ بها الداخل على جملة معايبه وسوءاته في التفكير والتدبير.

وغاية الأمر في هذه المنافاة ألا تعتبر “المؤامرة” في حد ذاتها خارجية فحسب بل هي داخلية كذلك؛ ومن هنا فإن مؤامرات الداخل على نفسه بالتواطؤ أو بالنفاق، أو بالضعف والعجز، والفشل الاستراتيجي في توظيف الفرص واستثمارها أو إهدار القدرات في إدارة الصراعات والاختيار بين بدائل إنما هو من صميم المؤامرة: أي الظاهرة والقابلية لها.

* أن المؤامرة ليست فقط “سرية”، فقد يرى البعض أن من أركان المؤامرة أن تكون في إجراءاتها -صياغة وتنفيذًا- “سرية” غير معلنة، وأن إعلانها ينفي عنها معنى “المؤامرة” بمعناها السلبي، والواقع أن هذا التصور يتخطط عليه بأمرين:

الأول– أن علنية المؤامرة قد يعني استهانة الطرف القوي بالأطراف المتآمر عليها، وهو لا يعنية أن يكون تنفيذ مخططه والصياغة في العلن أو في غيره. إن تخطيط السيناريوهات صار عملاً سياسيًا في تخطيط السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، فمن السيناريوهات ما يشكل بدائل للفعل والفاعلية، ومنها ما يصار إليه كتوجيه لمحاولة تنفيذه والتمكين له على الأرض، عمليات يجب ملاحظتها في معنى “السرية” في التخطيط صياغة وتنفيذًا .

الثاني– عمليات الترويج لوضع ما وتشييعه من خلال علاقات القوى ووسائل تخطيط وتنفيذ السياسات الخارجية، وهو أمر يفترض العلنية وتحقيق حالة من الحشد لموقف بعينه مهما كان يتضمن فعلاً مشروعًا أو غير مشروع: “قوات التحالف” أو القوات المتعددة الجنسيات واحدة من آليات قد تستخدم فيها الأمم المتحدة باعتبارها أداة أو أحد أجهزتها بوصفه إحدى آليات الترويج والإسناد لمواقف سياسة. ويبدو العمل في هذا المقام مع آليات إعلانية والبغي بالكلمات في إطار أن عكملية العدوان على العراق ليست إلا تحريرًا وأن عمليات التدمير في العراق ستكون مدخلاً لحركة تعمير يقودها من دمر؟!!

وواقع الأمر أن دخول متغير العلنية على قضية المؤامرة يجعل منطق الطرف القابل ضيعفًا، وتعلله بذلك واهنا وغير مقدر من جانب أطراف كثيرة، ويؤكد حالة العجز والوهن عن الفعل والفاعلية ليتأكد أن الأمر ليس في حدوث المؤامرة أو وجودها بل في الفاعلية في التعامل مع حوادث التاريخ وقضاياه دون تسويغ للقعود أو العجز أو الوهن.

* أن المؤامرة لا يعني وجودها الخضوع لها، ولا يعني الحديث عنها الاستسلام لمقتضياتها فهذا أمر لا يسوغ القعود أو العجز أو الاستقالة الحضارية أو عدم الفاعلية، كما أنه لا يعني الغفلة وعدم التنبُّه، ويعني ضمن ما يعني أن السؤال الصواب ليس في وجود المؤامرة من عدمه، ولكن في أصول الفاعلية وسُننها، وكيف يحاول الإنسان أن يسترد عناصر فاعليته تفكيرًا وتفسيرًا، تسييرًا وتدبيرًا، تغييرًا وتأثيرًا.

وخطورة التفكير المثبِت مطلقًا لها إنما يستثمر بوصفه مسوغا للتبرير للفشل والعجز والوهن، وكذا فإن خطورة التفكير “النافي مطلقًا” لها إنما يكمن في الوقوف في هذا النمط من التفكير عند حدود (الاتهامية) وعدم الخروج به إلى حالة استرداد عناصر الفاعلية (وعيًا وسعيًا) والسنن المؤسسة لها.

وضمن هذا المقام تبدو لنا عناصر “مثلث الفاعلية” باعتباره نموذجا تفسيريا لحوادث التاريخ بحيث تكتمل عناصر منظوميتها في إطار شبكة تفسيرية متكاملة:

  • التفكير السنني في مواجهة التفكير العبثى والارنجالي والعشوائي والخرافي.
  • والتفكير الاستراتيجي في مواجهة النمطين: المثبت مطلقا والنافي مطلقا للتفكير التآمري، وعناصر تشييع تفكير الغفلة وقابلياتها.
  • والتفكير التدبيري والمستقبلي في مواجهة ثقافة الانتظار وحالة الاستقالة الحضارية وإذا كانت الأنماط الإيجابية تكون مثلث الفاعلية فإن الأنماط السلبية تكون مثلث العجز واللافاعلية.

ومن هنا فإن النظرة للتاريخ باعتباره معملا تجربييا للحوادث والنماذج التاريخية ودراستها إنما تشكل أصل النظرة للتاريخ، أما النظر إلى التاريخ باعتباره مؤامرة فهو مبالغة، والنظر للتاريخ باعتباره مصدرا من مصادر المؤامرة هو حالة من التزيد، كما أن النظر إليه باعتباره معملا للتجارب المؤامرتية هي صياغة تحاول إعفاء الذات من المسئولية، والنظر في أن التاريخ (حوادثَ وصياغة وتنفيذا) لا تفسره إلا المؤامرة، وأن الحركة التاريخية لا تجد تفسيرًا إلا في الخط المؤامراتي للتاريخ إنما يشكل أخطاء جوهرية في التفكير والتفسير والتسيير والتدبير، والنظر إلى التاريخ  على أنه خلو من معاني المؤامرة أو ما هو في حكمها نوع من التغافل عن حوادث وقضايا بادية للعيان قد تحرك عناصر بدورها تضع القائل بمؤامرة ما في وضع دفاع حيال الاتهام بالتفكير المؤامراتي؛ وهو أمر لا يقل إرهابًا -منهجيًا وعلميًا- لا يقل في تأثيره السلبي، عن ذلك الذي ينظر للتاريخ باعتباره مؤامرة كبرى تحركه أيادٍ خفية.

إن نظرية المؤامرة بوصفها حالة إدراكية وحالة نفسية وعقلية، وحالة موقفية وسلوكية، إنما تتحرك في وسط ثقافة الانتظار وثقافة الصناعة والترويج، وثقافة العبيد والاستبداد، لا ترتبط بتيار سياسي بعينه. ولكنها طريقة متكاملة في التفكير والتدبير.

ومن هنا يكون التصور لنظرية المؤامرة على هذا النحو: نظرية الوعي الحضاري والسعي الاستراتيجي. والتأصيل السنني في رؤية المسار التاريخي. وينظر للتاريخ باعتباره معملا وميدانا لحركة نسميها حركة “الاعتبار”: الاعتبار من التاريخ وبه: (الفكرة- الخبرة- العبرة). كل هذا ضمن رؤية لا تغفل الأبعاد الثقافية والحالة العقلية والحالة النفسية الجماعية.

حوادث التاريخ أداة ومادة خام للصياغة المنهجية في التفكير والتفسير والتسيير والتدبير والتغيير والتأثير، . عمليات بعضها من بعض، ضمن تفكير سنني رشيد وفاعل ( *).


(* ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close