fbpx
قلم وميدان

نريد الحقيقة: فقط من أجل ريجيني

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تعددت التفسيرات التي أعطتها مصر لإيطاليا بخصوص مقتل جوليو ريجيني، باحث الدكتوراه في جامعة كامبريدج الذي اختفى في القاهرة يوم 25 يناير ووجد في حفرة بعدها بأسبوع؛ قالوا أولا أنه كان حادث سير، ثم بعد فترة أنها عملية للموساد للإضرار بعلاقتنا بإيطاليا، أحد أكبر شركاء مصر الاقتصاديين، ثم قالوا أنها كانت من عمل الإخوان المسلمين ضمن محاولاتهم زعزعة استقرار بلادنا، ثم قالوا كانت من أفعال داعش، وقالوا تقف خلفها عصابة للمخدرات، وأنه كان حادث سرقة، وأنه تصفية حسابات شخصية، ربما من منافس له في الحب، وكانت دَينا مستحقا، و أخيرا قتلته عصابة متخصصة في قتل الأجانب وتم تصفية جميع أعضائها! وفي النهاية، ظلوا ملتزمين بتعهدهم: سنحقق في هذه القضية. وقد فعلوا، كأنها كانت قضية مواطن مصري.

نحن لن نحصل على الحقيقة أبدا

لكن الحقيقة غير مهمة في الواقع، لأن حقيقة ما حدث لجوليو ريجيني، الذي عثر عليه مصابا بعدة كسور، وحروق أعقاب السجائر تغطي جسده، وستة أضلاع مكسورة، وقد قطعت أذناه، وتعرض لنزيف دماغي، هي حقيقة نعرفها بالفعل؛ هي حقيقة ما يحدث لمئات المصريين الذين تملأ أسماؤهم وقصصهم تقارير منظمة العفو الدولية. لسنا بحاجة إلى الاستفسار عن مصر تحت حكم “عبد الفتاح السيسي”، نحن نعلم جيدا أن المظاهرات ممنوعة، وأنك يلقى القبض عليك من دون سبب، وأنك تختفي ولا نعلم عنك شيئاً، نعلم أن رجال الشرطة يطلقون الرصاص الحي في الشوارع ويمارسون التعذيب في السجون، نعلم أن البرلمان غير موجود، نعلم كل شيء – ولذلك لم يعد أحدنا يجرؤ على قضاء الإجازات في شرم الشيخ.

ومع ذلك، للأسف، ففي أوروبا لا يعني الوقوف مع أو ضد السيسي الوقوف مع أو ضد حقوق الإنسان، بل يعني الوقوف مع أو ضد الإسلام، ولذلك فالحقيقة لا تهم كثيرا. عندما عزل الجيش، في 3 يوليو، 2013، محمد مرسي – الرئيس المنتخب في انتخابات حرة وعادلة، لم يُسمّ أي من الصحفيين الغربيين ذلك انقلابا: كما كانوا سيسمّونه بلا شك إن كان مرسي الإسلامي هو من قام بخلع السيسي العلماني، كنا سنرى الضربات الجوية الأمريكية تبدأ خلال نصف ساعة، لكن أي شيء سيكون أفضل من الإخوان المسلمين، في مصر، وفي سوريا، وفي الجزائر، في غزة، أي شيء سيكون أفضل من الإسلام؟!

لأنه من الواضح أن الرجال أمثال السيسي، أمثال مبارك، مثاليون. إنهم الطريقة الأسهل لحماية شؤوننا التجارية. لدى إيطاليا استثمارات داخل مصر بقيمة 2,6 مليار دولار. وقد اكتشفت مؤخرا شركة “إني” شركتنا الرائدة في مجال الطاقة، حقلا للغاز يقدر بما يزيد عن مائة مليار دولار. بالتأكيد ارتكب مرسي الكثير من الأخطاء، وهو من ناحية أمر طبيعي، لأي شخص يأتي إلى الحكم بعد عقود من الحكم السلطوي في دولة يتجاوز عدد سكانها 80 مليونا وتعاني من اقتصاد منكمش – لكن خطأه الرئيسي، الذي هو مسجون بسببه منذ أشهر، دون اكتراث من أحد، كان واحدا فقط: أنه أوقف إسرائيل، أثناء الحرب الثانية على غزة، وأرغمها على اتفاق وقف إطلاق النار، أظهر مرسي للعالم ما تعنيه مصر قوية ومستقلة، وما تعنيه مصر قادرة على التمسك بموقفها، وعلى التفاوض، وليس فقط الموافقة والإذعان، أظهر مرسي للعالم أن الربيع العربي لم يتعلق بتغيير الشرق الأوسط فحسب.

تقول صُحُفنا بأن مصر بدون السيسي كانت تسير نحو انهيار محتم. يقولون أنه ربما ليس الرئيس الأفضل على الإطلاق – لكنهم العرب، أليس كذلك؟ غير مؤهلين للديمقراطية. السيسي أعاد الاستقرار. لكننا حين ندافع عن السيسي، فإننا في الواقع لا ندافع عن مصر؛ بل ندافع عن أنفسنا، وليس عن الاستقرار، بل عن الوضع القائم.

بالنسبة لصحفية غربية، فلا شيء أكثر إحباطا من أن تكون مراسلا من الشرق الأوسط. أغلبية قرائك، وكذلك محرريك للأسف، هي من أولئك الذين يقررون من روما، ومن لندن، ومن واشنطن، ما يُنشر، وما يحدث في العالم وما لا يحدث، ويعرفون كل شيء سلفا. بالكاد أمضوا أسبوعا من حياتهم على البحر في جربا، ولا يستطيعون ذكر اسم مخرج أفلام عربي، أو روائي عربي، أو مغنٍ عربي، لا شيء؛ لا يستطيعون تحديد موقع اليمن على الخريطة، لكنهم واثقون دون شك، أن النساء تتعرضن للقمع، وأن الشريعة تعني قطع يد السارق وجلد غير المؤمنين في الميادين العامة؛ وأنه لا منطق من الاستمرار وإهدار مواردنا الضريبية لنحاول تصدير الديمقراطية، السنة والشيعة يقتلون بعضهم البعض منذ الأزل، والشيء الوحيد الذي يتفقان عليه هو أنهما يكرهان حريتنا، لأن الإسلام دين دمٍ وعنف، وهو، بالطبع، مفروض فرضا، لهذا تزدحم المساجد بالعرب: لأنهم مُجبرون على ذلك. فالإسلاميون يبتزون الناس من خلال توفير الخدمات الاجتماعية، رغم أن ذلك في نهاية الأمر مثير للاهتمام، هناك حزب في أوروبا يشبه الإخوان المسلمين، ولديه البنية ذاتها، حزب “سيريزا” في اليونان، الحزب الذي يتمنى كل اليسار الأوروبي لو يشبهه، والذي يدير في كل أرجاء أثينا مطاعم للفقراء وحضانات للأطفال ومستوصفات وغرفا سكنية، إنه يقدم شتى أنواع الخدمات الاجتماعية. لكن اليونانيين انتخبوا سيريزا لأن ذلك اختيارهم: أما المصريون فلا، المصريون ينتخبون الإخوان المسلمين فقط لأنهم فقراء. ليست هناك جدوى من عدم الاعتراف: العرب، كل العرب، هم سود هذا القرن، وضد العرب كل شيء مباح.

العدالة لريجيني:

مقتل جوليو ريجيني لم يغير شيئا. كنا نعلم بالفعل كيف هي مصر تحت السيسي. والآن ما نريده هو فقط العدالة لجوليو ريجيني: وليس أكثر من ذلك. صدمنا مقتله لأننا، رغم كل ما يحدث، نشعر أننا محميون بنوع من الحصانة بصفتنا مواطنين أجانب، المراسلين، والباحثين، والعاملين بمنظمات المجتمع المدني، أسوأ ما قد يحدث أن يلقى القبض علينا ونطرد، لكن أن نعذب ونقتل، لا – هذا للعرب فقط. وهذا ما يفسر لماذا لم تقم إيطاليا خلال هذه الأسابيع بأكثر الأمور بداهة: تجميد علاقاتها الاقتصادية مع مصر، واستخدامها لممارسة الضغط، لأن ما تقصده الحكومات كحكومتي في الواقع عندما تطالب بحق “جوليو ريجيني” هو: ليس حماية حقوق الإنسان، بل حصانتنا وامتيازاتنا، سواء كانت حصانة وامتيازات “إني” أم حصانة وامتيازات باحث دكتوراه، لأن هذا ما نريد وجود “السيسي “في السلطة من أجله، ليضمن الاستقرار، ليس لمصر، ولكن لمصالحنا.

السائق محمد:

في 18 فبراير 2015، دخل محمد سيد، سائق التاكسي في أحد شوارع القاهرة، البالغ من العمر 24 عاما، في مشادة حول الأجرة مع الراكب – وكان رجل شرطة – وقُتل بطلق ناري، الرصاصة، بحسب السلطات المصرية، أُطلقت بالخطأ، لم تغطِّ أي صحيفة إيطالية هذا الخبر، رغم أن الصحف جميعا تناولت مصر في عدة صفحات يومها، لأنه اليوم الذي طُلب منا جميعا تعليق لافتات صفراء مكتوب عليها: “نريد الحقيقة حول ما حدث مع جوليو ريجيني.” ولكننا لا نريدها سوى لجوليو ريجيني فقط، “هكذا نحن”.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close