fbpx
ترجمات

نيويورك تايمز: عاصمة جديدة جديرة بالفراعنة تقام في مصر، ولكن بأي ثمن؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 8 أكتوبر 2022 تقريراً بعنوان: “عاصمة جديدة جديرة بالفراعنة تقام في مصر، ولكن بأي ثمن؟”، حيث يقول التقرير إن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر هو المشروع الأضخم بين عدد كبير من المشاريع العملاقة التي يشرف على إنشائها السيسي. ويستدرك التقرير بقوله إن هناك شكوك كبيرة حول ما إذا كانت البلاد تستطيع تحمل أحلام السيسي ومشاريعه من هذا الطراز، بينما تعيش مصر، أكثر الدول العربية اكتظاظاً بالسكان، في خضم أزمة اقتصادية حادة، لم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل. ويمضي التقرير على النحو التالي:

تمتد العاصمة الإدارية الجديدة بمصر، والتي يغلب عليها مظاهر التباهي والتفاخر، وتغلب عليها الصبغة الإمبريالية، من حيث حجمها وأسلوب إنشائها، عبر رقعة من الصحراء تبلغ أربعة أضعاف مساحة واشنطن العاصمة، حيث تجسد الطموحات الخيالية للجنرال عبد الفتاح السيسي ونظام حكمه، باعتباره الحاكم الذي لا ينازعه أحد في البلاد.

وتضم العاصمة الإدارية الجديدة، التي تقع خارج نطاق القاهرة، أعلى مبنى في إفريقيا، وهرماً بلورياً، وقصراً رئاسياً مشيداً شديد الرحابة للسيسي، تم تصميمه على شكل قرص، مستوحى من رموز لإله الشمس في مصر القديمة. وتعد العاصمة الجديدة هي المشروع الأكبر بين عدد كبير من المشاريع العملاقة التي أمر بإنشائها الجنرال الذي يبدو مصمماً على إعادة تشكيل مصر، حيث استغرقت عمليات الإنشاء في العاصمة الجديدة، حتى الآن، ست سنوات بتكلفة تقدر بـ 59 مليار دولار.

وتقطع طرق سريعة تضم ثمانية حارات شوارع القاهرة المتهالكة، متفادية المقابر المصرية القديمة وأهرامات الجيزة؛ حيث تمتد جسور عملاقة تم بناؤها حديثاً عبر نهر النيل. ومن بعيد تتلألأ في الأفق عاصمة صيفية جديدة على ساحل البحر المتوسط (العلمين) ​​، خارج حدود مدينة الإسكندرية.

هذه المشاريع، التي شيد أغلبها العسكر الذين يُحكمون قبضتهم القوية على اقتصاد البلاد، تجعل من السيسي الأحدث ضمن سلسلة طويلة من القادة المصريين، الذين حكموا البلاد عبر قرون مضت، وكانوا يسعون دائماً إلى تجسيد مظاهر سلطتهم من خلال فرض إنشاء هياكل من الأبنية السامقة دأبوا على تشييدها في قلب الصحراء.

ولكن في الوقت الذي تمر فيه مصر بحالة من التباطؤ الاقتصادي الحاد، تتعرض مواردها المالية لهزّات شديدة الخطورة، وتتزايد الشكوك وتتعالى الأصوات حول ما إذا كانت البلاد قادرة على تحمل خيالات السيسي المتكلَّفة. ففي السنوات الست الماضية وحدها، منح صندوق النقد الدولي مصر ثلاثة قروض يبلغ مجموعها حوالي 20 مليار دولار، بالإضافة إلى استمرار تدفق المساعدات الأمريكية. ومع ذلك، فإن البلاد تعيش في مأزق جديد مرة أخرى.

قال ماجد مندور، المحلل السياسي المصري، إن السيسي “يقترض المال من الخارج لبناء مدينة ضخمة للأثرياء”. لكنه أضاف أن المصريين من الفقراء وممن ينتمون للطبقة المتوسطة هم الذين يدفعون ثمن تلك المشاريع العملاقة من خلال الضرائب المتصاعدة التي تُفرض عليهم، وانخفاض الاستثمار في الخدمات الاجتماعية وخفض الدعم، بالإضافة إلى أن كون الجدوى الاقتصادية لتلك التطورات في الأساس موضع شكوك كثيرة.

وعلى الرغم من أن تمويل المشاريع الجديدة لا يزال غامضاً، إلا أنه يتم تمويلها جزئياً من رأس المال القادم من الصين، بالإضافة إلى السندات عالية الفائدة التي سيكون سدادها مكلفاً على البلاد في السنوات المقبلة. ويعمل أيضاً بعض المستثمرين الإماراتيين أيضاً في إنشاءات العاصمة الجديدة.

لقد كانت الأوضاع المالية في مصر بشكل عام هشة، حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير الماضي. حيث اقترض السيسي بكثافة لتمويل تلك المشاريع العملاقة، بالإضافة إلى مليارات الدولارات التي أنفقها على مشتريات الأسلحة الدولية، مما ساعد على مضاعفة الدين الوطني أربع مرات على مدى عقد من الزمان.

وفي نفس الوقت، فمصر لا تكاد تفعل شيئاً يُذكر من أجل تغطية ديونها.

لقد عزف معظم المستثمرين الأجانب عن مصر، بسبب هيمنة الجيش على الاقتصاد وإحكام قبضته عليه. هذا، إلى جانب عدم التركيز على تطوير الصناعات المحلية، مما أدى إلى تراجع أداء القطاع الخاص، خارج الأنشطة المتعلقة بالنفط والغاز، بشكل مستمر على أساس شهري منذ ما يقرب من عامين.

وقد قدّر بنك جولدمان ساكس للاستثمار مؤخراً أن مصر بحاجة إلى خطة إنقاذ بقيمة 15 مليار دولار من صندوق النقد الدولي للوفاء بالتزاماتها لدائنيها. وقال زير المالية المصري، الذي يؤكد باستمرار أن بلاده تسعى للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، إن المبلغ الفعلي الذي يُتوقع أن تتلقاه من الصندوق أقل بكثير من هذا المبلغ، بينما قدّر دبلوماسيون المبلغ المتوقع بثلاثة مليارات دولار.

وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ترنح النظام المالي المصري. ومع ارتفاع أسعار الفائدة وأسعار المواد الغذائية هذا الصيف، زادت الضغوط على المالية العامة بشدة حتى إن الحكومة أمرت مراكز التسوق والملاعب والمرافق العامة الأخرى بترشيد تشغيل أجهزة تكييف الهواء والتقيد بخفض الأنوار حتى تتمكن من بيع المزيد من الطاقة في الخارج.

ويحذر الاقتصاديون الآن بأن مصر تُعد واحدة من قليل من البلدان التي تتعرض بشدة لخطر التخلف عن سداد الديون، حتى إن مؤيدي السيسي أنفسهم يعبرون عن قلقهم تجاه بشأن الآلام الاقتصادية القادمة.

فقد قال عمرو أديب، المذيع التلفزيوني الشهير والمؤيد للسيسي منذ وقت طويل، مؤخراً: “سيكون عام 2023 مظلماً ومرعباً”.

وكما حدث من قبل، فقد ينقذ حلفاء مصر البلاد من كارثة محققة. حيث استثمرت السعودية والإمارات وقطر في مصر هذا العام ما لا يقل عن 22 مليار دولار. وتوفر الولايات المتحدة، التي دعمت خطة الإنقاذ التي قدمها صندوق النقد الدولي في عام 2016، تدفقاً ثابتاً من المساعدات العسكرية للبلاد.

وعلى الرغم من أن السيسي تعرض لانتقادات نادرة من بعض مؤيديه بشأن المشاريع العملاقة التي تستهدف الإبهار في الأساس، إلا أنه أصر على المضي قدماً في تنفيذها.

لكن هذا لا يعني أن اقتصاده المتعثر يمكن أن يدعم تلك المشاريع.

ففي حين وعدت الحكومة بأن توفر المدن الجديدة ملايين الوظائف والمساكن التي تبدو البلاد في أمس الحاجة إليها، يقول الاقتصاديون إن غالبية الوظائف التي تم إتاحتها حتى الآن هي وظائف البناء منخفضة الأجر.

ويقول الاقتصاديون إن جدوى المشاريع الجديدة ستكون قصيرة الأجل، ما لم يُقدم السيسي على عمل تغييرات اقتصادية أكبر، مثل تخفيف قبضة الجيش على الاقتصاد والبدء بسرعة في دفع وتشجيع الصناعة الخاصة.

لقد دفع عامة المصريين، الذين تعرضوا للضغوط جرّاء ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة، تكاليف مشروعات السيسي المبالغ فيها من قبل. ففي عام 2015، سارع السيسي بتوسيع قناة السويس بتكاليف تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار، والتي بشّرت الحكومة بأنها “ولادة جديدة لمصر”؛ لكنها فشلت في تحقيق المكاسب الكبيرة الموعودة.

حيث حققت قناة السويس إيرادات بقيمة 6.3 مليار دولار العام الماضي، وهو رقم أقل بكثير من التوقعات الحكومية الأساسية التي تُقدَّر بـ 13 مليار دولار بحلول عام 2023.

وكانت هناك بوادر لتفجر سخط  المصريين على أحدث المشاريع العملاقة للسيسي حدثت في عام 2019، عندما ردد المتظاهرون، خلال احتجاجات نادرة مناهضة للحكومة في القاهرة، شعارات تسخر من زوجة السيسي، في إشارة إلى بعض الطلبات التي كانت قد اقترحتها وتم الإنفاق عليها ببذخ أثناء تجديد أحد القصور الرئاسية.

ثم قال السيسي بعد أسابيع من تلك المظاهرات، بعد أن تم سجن الآلاف بسببها: “وفيها إيه (وماذا فيها) لمّا (عندما) يكون عندي قصور؟”، “هي عشاني؟ (هل هي من أجلي؟)، دي عشان مصر (إنها من أجل مصر).”

وبعد أن أدت  تداعيات الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية هذا العام، انتشرت الهاشتاجات المناهضة للسيسي على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك “ثورة الجوع” و “ارحل يا سيسي” و “غضب الفقراء قادم لا محالة”.

وكان من المفترض أن تكون العاصمة المصرية الجديدة وسيلة للتخفُّف قليلاً من فوضى القاهرة التي يخنقها الدخان، حيث تجاوز عدد سكانها 20 مليون نسمة.

وعلى الرغم من أن أول من حلم بهذه الفكرة حسني مبارك، الزعيم المستبد الذي أطيح به في انتفاضات الربيع العربي عام 2011،، فقد انتقل السيسي إلى آفاق جديدة في تنفيذ هذا الحلم: حيث أقام بالمدينة الجديدة ناطحة سحاب صينية الصنع تسمى “البرج الأيقوني” يصل ارتفاعها إلى 1،293 قدماً، كأطول مبنى في أفريقيا.

وتم بالفعل بناء عشرات الآلاف من الشقق، على الرغم من أن القليل منها تم تأثيثه أو حتى تشطيبه، مما يصور المدينة الجديدة بأنها تجسيد لموقع بناء شاسع مترامي الأطراف.

لكن التصورات التي تقدمها البرامج الإلكترونية عن المدينة تقدم لنا صوراً لشوارع خضراء، وخطوط ترام تنشط فيها بوفرة، واستخداماً مكثفاً للتكنولوجيا الرقمية: حيث ستخضع  شوارع المدينة الجديدة للمراقبة من خلال حوالي 6000 كاميرا؛ وستستخدم السلطات أساليب الذكاء الاصطناعي لتحسين استهلاك المياه وإدارة النفايات؛ وسيرسل المقيمون بالمدينة شكاوى باستخدام تطبيقات على الهاتف المحمول.

كان السيسي في الأساس قد وعد بتمويل العاصمة الجديدة من قبل المستثمرين الأجانب والمحليين وبيع الأراضي الحكومية في وسط القاهرة. وتعرض المستثمرون المصريون، بما فيهم من لهم صلات بالجيش، ضغوطاً من الحكومة للمساهمة في بنائها.

لكن مع تضاؤل ​​اهتمام المستثمرين بالمشروع، أعلن السيسي أن الحكومة ستدفع لشركة “العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية” المملوكة للجيش، الشركة الاستثمارية التي تمتلك وتشرف على بناء العاصمة الجديدة، ستدفع لها حوالي 203 مليون دولار سنوياً كإيجار لمباني الوزارات والمباني الرسمية الأخرى في حي المباني الإدارية الجديدة بالعاصمة الإدارية. حيث وضع هذا القرار عبئا إضافياً مباشراً على دافعي الضرائب.

ولكن السيسي يصر على أن المصريين سيشكرونه يوماً ما. حيث قال في فبراير الماضي: “عندما بدأنا في بناء مدن جديدة، قيل إننا ننفق الكثير من الأموال دون سبب وجيه”، مدافعاً عن المشاريع من خلال سرد أسماء أحياء القاهرة الفقيرة. وكان يتساءل بشكل صريح: “كيف يعيشون؟”

لكن احتمالية أن يشعر الكثير من المصريين العاديين بالارتياح وأنهم في وطنهم وهم في العاصمة الجديدة، هو في الحقيقة أمر قابل للنقاش.

في ظهيرة أحد الأيام وأثناء سير أعمال البناء بالمدينة، وقف محمد محمود، البالغ من العمر 27 عاماً، وعمر شيخ، البالغ من العمر 28 عاماً، وهما عاملا بناء كانا يرتديان الجينز الضيق، ويقفان وسط الرافعات والغبار في انتظار أن تصل الحافلة التي ستوصلهم إلى سوهاج، على بعد 350 ميلاً جنوباً على امتداد النيل. وكانوا قد قاموا بحشو أمتعتهم في أكياس من القماش، قالوا إنهم يشكّون في أنهم سيعودون إلى تلك المدينة الجديدة البراقة، حيث تصل تكلفة أرخص شقة إلى 80 ألف دولار، بمجرد الانتهاء من بنائها، (قبل إضافة تكاليف التشطيب والتأثيث).

قال السيد محمود، مشيراً أولاً إلى المباني ذات الواجهة الرخامية، ثم إلى لوحة إعلانية كبيرة عليها صورة السيسي: “لا شيء من كل هذا يُعتبر من أجلنا”، “إنه من أجله هو”.

قليلون هم من يجادلون أن مصر، التي يزيد عدد سكانها عن 100 مليون نسمة ويزداد عددهم بأكثر من مليون سنوياً، تحتاج بشكل عاجل إلى المزيد من المساكن. لكن مخططي المدن يقولون إن من الأفضل للسيسي أن يسعى لإصلاح مدنه المتداعية بدلاً من بناء مدن جديدة.

إن تكلفة رأس المال الجديد الذي تتطلب هذه المشاريع توفيره تتجاوز كثيراً الموارد المالية للبلاد.

وتهدد المدن الجديدة المتعطشة للمياه بابتلاع مقدرات المياه الثمينة القادمة من نهر النيل، مصدر المياه الرئيسي في البلاد، والذي بدأ ينضب بالفعل. وبهدف إفساح المجال لإنشاء الطرق السريعة الجديدة التي تقطع شوارع القاهرة، لتؤدي إلى المدينة الجديدة، قام عمال البناء بتجريف مساحات شاسعة من الأشجار في حي مصر الجديدة (القديم) الأنيق.

وعلى الأقل فمن المرجح أن تصبح العاصمة الإدارية الجديدة رمزاً للحكم الإمبريالي المتصاعد للسيسي، إلى جانب أشياء أخرى.

وبفضل التعديلات الدستورية التي غيّرت حدود ولاية الفترات الرئاسية والتي فرضها السيسي من خلال البرلمان في عام 2019، فإنه يمكنه  أن يظل في السلطة حتى عام 2030 أو حتى لفترة أطول.

وقد أنشأ مجمع عسكري مترامي الأطراف على حافة المدينة الجديدة، ثُماني الأضلاع (أوكتاجون)، حيث يفوق حجمه حجم مبنى وزارة الدفاع الأمريكية خُماسي الأضلاع (بنتاجون)، بسبعة أضعاف – وهو سياج جديد من القوة العسكرية يقع على بعد أميال عديدة من ميدان التحرير في وسط القاهرة، الميدان الذي احتشد فيه الثوار في عام 2011 للإطاحة بحسني مبارك.

قلة هم من يتوقعون أن يواجه السيسي، الذي تقوم أجهزته الأمنية الوحشية بقمع أي معارضة بلا رحمة، ثورة مماثلة في أي وقت قريب.

ولكن مع ارتفاع تكلفة العاصمة الجديدة، جنباً إلى جنب مع المباني ذات الواجهات العاكسة، سيتعين على السيسي مواجهة استياء المصريين الساخطين على مدى اتساع الفجوة ما بين وعوده الكثيرة التي أطلقها والواقع المرير الذي يعيشون فيه.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close