fbpx
قلم وميدان

هل يثور المصريون ؟ متى وكيف ؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

تمهيد:

مسكين ذلك الشعب الذي ظلت طليعته ونخبته تزدريه طوال عقود، فالمؤدلجون ظلوا يقدمون لشعبهم أسوأ خطاب سياسي فى العصر الحديث، يضعون به أنفسهم فى مواطن الإنتهازية والنفعية وغير ذلك من الإتهامات والنقائص، ثم يلومون الشعوب حين يصفوهم بها .

ظلت تلك النخبة وتلك الطلائع المجتمعية تقدم أسوأ برامج وأسوأ خطاب حتى تَملّك الطغاةُ من الشعب وأخرج أسوأ ما فيه، ظلت تلك النخبة وتلك الطلائع لا يتحدثون إلا مع أنفسهم ولا يدورون إلا حول ذواتهم، حتى كان النتاج شعوبا لا ترى الجميع إلا خصما لها، ولا ترى الكل قد جاء إلا لاستغلالها، فقد قدموا لهم شعارات جوفاء من كل إسقاط وتنزيل، وقدموا لهم برامج تغيير خالية من أى مضمون أو تطبيق، فصارت قطاعات من تلك الشعوب رافد من روافد الإستبداد بخطيئة تلك النخب والطلائع ابتداءا. فحين أراد المصريون الثورة والتغيير فى بداية القرن الثامن عشر لجئوا إلى الأزهر حيث نخبته الموثوقة وحدّثوا ” عمر مكرم “ ليكن قائدا للتغيير وينزوون تحت قيادته، والآن لمن يلجئون، وجميع النخب وحركات التغيير قد أشهرت افلاسها فى رصيد القيادة والمسئولية؟!

 

شعب مصر .. وشعار ” الثورة مستمرة “:

لم نكن مبالغين حين نقول أن الشعب المصري غاضب بطبيعته، ولا يصبر على الضغط إلا لينفجر انتهاءا، فقد ثار الشعب المصري فى عهد المماليك على البرديسي وخلعوه، ثم ثاروا على خورشيد باشا وخلعوه ، ثم واجهوا الحملة الفرنسية فى ثورتين عظيمتين بالقاهرة، ثم قاموا بانتفاضات الأقاليم حتى خرج الفرنسيون صاغرين، وحتى محمد على الذي استبد بالحكم فقد خرجوا عليه غاضبين فى الدلتا والصعيد والأسكندرية والقاهرة فى مرات متفرقة حتى قصفهم بالمدافع من أعلى المقطم فى استخدام للقوة المفرطة، ثم خرج الجيش مع عرابي بثورة كذلك، ثم لم يلبثوا حتى خرج بهم سعد زغلول فى ثورة انتهت بجلاء الإنجليز، ثم لما ضاقوا بالأحزاب والملك ثاروا ومعهم الضباط الأحرار ليخعلوا الملك وتبدأ حقبة سياسية جديدة، وخرجوا كذلك غاضبين فى انتفاضة غضب عارمة فى حكم السادات، ثم اجتمعوا غاضبين فى ميدان التحرير وخلعوا مبارك، ثم خرجت جموع كثيرة فى الثلاثين من يونيو حتى انتهت بانقلاب عسكري على الرئيس محمد مرسي.

فالشعب المصري فى حالة ” الثورة مستمرة ” طوال تاريخه الحديث، وتكمن المشكلة فى مآلات تلك الثورات أنها لا تأتى إلا بمن هو أسوأ، لفقدانها الرؤية والخطة وفقدان العزيمة فى اللحظات الأخيرة.

والمتأمل فى تاريخ المصريين الحديث يجد أنهم طاقة ثورية هائلة لا تهدأ إلا لإستعادة نفسها من جديد، وتفتقد دائما إلى السياسي المحنك والقائد المخلص الذي يُحوّل نصر المعارك إلى نصرٍ بالحرب. (1)

 

الشعوب ومعركة التغيير:

عكف خبراء الاجتماع السياسي لفهم طبيعة حراك الشعوب الغاضب سواء أفضى إلى ثورة تُغير المكونات السياسية برمتها أو إلى غير ذلك من الإخفاقات أو المكاسب الجزئية ، ولا يزال مصطلح ” الثورة ” محل الدراسة والفهم والتمحيص لكل المهتمين بعلوم الإجتماع السياسي. فالثورة ليست عملا تطبيقيا ملموسا يمكن حسابه بسهولة، وانما هو عمل اجتماعى معقد تتداخل وتتشابك فيه كم هائل من المتغيرات مما يجعل رصده وحسمه أمرا غاية فى الصعوبة، ولكن من الممكن أن نتفق على أن الشعوب تنقسم إلى ثلاثة مستويات من حيث الفعالية فى مشروعات التغيير:

 

أولا: القلة المبدعة:

وهؤلاء هم الطلائع المجتمعية ونخبة الشعوب وهم الذين يقودون معارك التغيير ويحملون ألويتها، ويعدون الخطط ويرسمون الخرائط السياسية والبنائية وكذلك يقومون على برامج التفكيك لنظام المستبد والطاغية. وهؤلاء يجب أن يتميزوا بالمسئولية والحنكة والإخلاص لشعوبهم وأمتهم وأن يتميزوا بالمهارات القيادية التى تمكنهم من تجميع الناس على رؤيتهم وخططهم، ويجب أن يكونوا على وعى وافٍ من طبائع وخصائص شعوبهم، وكذلك يجب عليهم أن يكونوا محل ثقة من شعوبهم والا يكونوا قد لُوثوا فى معارك فرعية مسبقة.

 

ثانيا : الفرق الجريئة :

هى تلك الكتل المجتمعية التى تتبع القلة المبدعة فى مشروعاتها وبرامجها، وتلبي دعواتها، وتستجيب لنداءاتها، وتتفاعل معها فى الرؤية والطرح، وهؤلاء هم الوقود الحقيقى لعملية التغيير، وقوام المسار الحركى ومادته على طول الخط بداية من بعثه إلى تحقيق المأمول من التغيير، وهؤلاء يجب أن يتسموا بالجسارة والإقدام والمخاطرة والجرأة، ويجب أن يكونوا على قناعة بالقلة المبدعة سواء شخوصهم أو رؤيتهم، فمدى الصلابة بين الكتلتين يؤول فى النهاية إلى مدى قدرة صمود معسكر الثورة أمام المستبدين والطغاة.

 

ثالثا : الجماهير العريضة :

وهم عوام الناس والجماهير التى لا تنسجم مع دعوات التغيير فى بدايتها، وتظل ترقبها وتخاف من التفاعل ايجابيا معها حتى تنضج ويتبين لها رشدها، وهؤلاء يتخذون قرار التعاطي الايجابي مع دعوات التغيير بناءا على ثلاثة محددات : 1- التكلفة ، 2- العائد ، 3- الإمكانية. ففى المراحل الأولى من مسار التغيير تكون تكلفة التغيير باهظة مع عائده القليل وامكانية النجاح الضعيفة، ولهذا يُحجم هؤلاء عند البداية.

تظل الفرق الجريئة بقيادة القلة المبدعة تناضل ضد المستبد الطاغية، ويظل الصراع محتدما وتعتمد نتائجه على كفاءة وحنكة القلة المبدعة وبسالة وجسارة الفرق الجريئة، فكلما كانت القلة المبدعة قد وضعت الخطط المبدعة حقا، وكذلك نضّجت الخطابات السياسية، وأعدت كافة الإعدادات والبرامج الفعالة، بشكل يجعل الفرق الجريئة تستميت على رؤية التغيير مما يزيد من ضراوتها وبسالتها وجسارتها وثقتها كذلك فى قيادتها، فإن كان هذا فإن احتمالية النجاح تصل لدرجة التأكيد، وسيظل المستبد يتلقى الضربات حتى تأتى لحظة نسميها ” لحظة الانتقال الحدي “، وهى اللحظة التى يتغير فيها شيء صغير فى المشهد السياسي ومعطيات الصراع ولكنه يؤدى إلى تغير كامل ودراماتيكى فى نتائج الصراع برمته(2).

 

فعند هذه اللحظة يبدأ تدخل ” الجماهير العريضة “ لأنه عادة ما تكون تلك اللحظة تتسم بالأمان النسبي نتيجة خفوت أو إخفاق المستبد فى شيء ولو طفيف، وهذا الأمان النسبي يقلل بالضرورة من معامل التكلفة ويزيد من معاملي العائد والامكانية مما يجعل تدخل الجماهير العريضة ممكنا ومحفزا، هنا يتغير كل شيء ويتحول مسار الثورة  الى لحظة نسميها ” لحظة الحسم الوهمى “ وهى تلك اللحظة التى يتوهم الشعب أنه انتصر وحان جني الثمار، ومعظم ثورات الشعب المصري كان دائها تشخيصا وقرءاة خاطئة للحظة النصر والحسم الوهمى على أنها نصر نهائي وحسم حقيقي، وفى هذه اللحظة بالذات تكمن الضرورة القصوى والأهمية الحرجة ” للقلة المبدعة “ فهم القادرون بحنكتهم على تحويل لحظة النصر الوهمية الى لحظة حقيقية يتم فيها الإجهاز الكامل على الخصم(3).

بعبارة أخرى .. إن الجماهير العريضة بطبيعتها لا تخوض مشاريع التغيير منذ بدايتها ولا تلبي تلك الدعوات فى مهدها، وأى قيادة ثورية تصمم برامجها للتغيير وخططها بناءا على هذا فهي واهمة ولا تدرك طبيعة الشعوب، ولكنها هى العنصر الأساسي فى الحسم، وتدخلها فى اللحظات الأخيرة بثقلها ووزنها يحسم المعركة، باختصار فإن القاعدة تقول ” ابدأ بدونهم وكن موقنا أنك لن تحسم أيضا بدونهم”.

 

اسقاط النظرية على الثورة المصرية:

إن معضلة الثورة المصرية أنه ليس لها حتى الأن تلك ” القلة المبدعة “، وفى الوقت نفسه فإن الفرق الجريئة موجودة، وبشكل يجعل نسبة النجاح عالية لو تواجدت تلك القلة المبدعة التى تجمع تلك الفرق على مشروع جامع وخطة ورؤية موحدة. إن الفرق الجريئة المصرية هى تلك التى تقول فى المظاهرات ” الرصاصة مكتوب عليها اسمي فلا أبالى أن أقتل “ فهذه الفرق تتسم بالجسارة الغير مسبوقة ولكنها تُهدر طاقتها بسبب غياب القلة المبدعة.

والفرصة الأخرى التى لا تقل أهمية عن سابقتها أن الجماهير العريضة من الشعب المصري فى حالة من الغضب الشديد، ومكامن الثورة متمكنه فى كل مفاصله الحيوية، مما يجعلهم جميعا على حافة الانتقال إلى مربع الفرق الجريئة إذا ما قُدم لهم خطاب ثورى حقيقي ومشروع متماسك ورؤية واعدة.

 

والمشكلة الآنية أنه إذا تحركت الجماهير بدون القلة المبدعة وهو الشيء الذي يسميه البعض أن الشعوب تتجاوز نخبتها وطليعتها، فإن هذا نذيرا بالخطر، خاصة فى حالة التصحر السياسي الذي تعيشه مصر نتيجة فقدان الساحة السياسية لمكوناتها كالأحزاب والبرامج والرؤى السياسية والتدافع السياسي المدنى، فإن هذا سيؤول فى النهاية بلا شك أن تنتقل السلطة من مستبد ضعيف عاجز إلى مستبد أكثر منه قوة وعنفوانا وحنكة، والشعوب هى التى دفعت الثمن بدمائها وتضحياتها، ولم يكن هذا إلا نتاج غياب أولئك الذين نسميهم ” القلة المبدعة ” أو قُل إن شئت ” القيادة والرؤية ”

  1. من أراد الإستزادة والبرهان على هذه الفكرة، فليرجع لكتاب الدكتور/ خالد فهمى ” كل رجال الباشا “، وهو يعد من أروع الدراسات فى الاجتماع السياسي التى كشفت حقائق غير مسبوقة عن الشعب المصري.
  2. أمثلة: موقف انسحاب أول جندى من الجيش الإيرانى إلى الثوار، موقف النساء العجائز حين تظاهرن أمام قصر بينوتشيه فى تشيلي، موقف اغتيال جندي صينى على يد جندي أخر بالثورة الصينية، كل هذه المواقف الصغيرة حولت مسار الثورة تماما الى “لحظة الانتقال الحدي”.
  3. من أهم عوامل فشل الثورات المصرية ومشروعات التغيير بها هو سذاجة قياداتها أو عدم نضجهم السياسي، مما مكن المستبد من إعادة التشكل وترتيب صفوفه للبدء بالهجوم المعاكس الكاسح، وكان من أهم عوامل نجاح الثورة الإيرانية وتحقيق مشروعها حرفيا هو حنكة وعبقرية قائدها، فالقلة المبدعة هى الكتلة الحرجة فى معركة التغيير وبدونها أو بضعف امكانياتها وقدراتها تتحول معارك التغيير إلى كوارث.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close