لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
نشرت مجلة “وورلد بولتيكس ريفيو” الأمريكية في 31 أكتوبر 2024، مقال تحليلي بعنوان: “مستقبل مصر يمر بشكل متزايد عبر منطقة القرن الأفريقي”، لـ فرانسيسكو سيرانو، الصحفي والكاتب والمحلل السياسي الذي يغطي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وينشر تقاريره و مقالاته في “وورلد بوليتيكس ريفيو”، “فورين بوليسي”، “ذي مونيتور”، “ذا آوتبوست”، وغيرها.
ويرى سيرانو أنه على الرغم من الصراع الإقليمي المتصاعد على عتبة بابها في غزة المجاورة، أصبح مستقبل مصر مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالأحداث الواقعة بعيداً إلى الجنوب من حدودها. ومع اعتماد موارد مصر المائية وعائدات قناة السويس حالياً على الأحداث الجارية في المنطقة، فقد أصبحت منطقة القرن الأفريقي بمثابة محور استراتيجي للقاهرة، التي تسعى الآن بدأب إلى تعزيز حضورها هناك.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
على الرغم من تصاعد الصراع الإقليمي على عتبة دارها في قطاع غزة الفلسطيني المجاور لها، أصبح مستقبل مصر مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالأحداث التي تجري في أقصى الجنوب من حدودها.
فمع تحول سد النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق إلى أمر واقع، شعرت مصر بالفعل بحاجتها إلى تعزيز وجودها في منطقة القرن الأفريقي. ولكن الحاجة إلى ممارسة النفوذ في المنطقة أصبحت أكثر إلحاحاً بعد الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر على المستوطنات في غلاف غزة العام الماضي والحرب الإسرائيلية التي أعقبت ذلك على قطاع غزة والمستمرة حتى الآن.
وفي إطار مساعيها المعلنة لدعم حركة حماس، هاجمت ميليشيات الحوثيين المتمركزة في اليمن بانتظام الشحن التجاري على البحر الأحمر. وقد أدى هذا إلى تقليص العبور عبر الممر البحري المؤدي إلى قناة السويس، وخفض عدد السفن التي تمر عبر القناة بنسبة 66% وبالتالي توجيه ضربة مالية شديدة للاقتصاد المصري.
ومع اعتماد موارد مصر المائية وعائدات قناة السويس على الأحداث الجارية حالياً في المنطقة، أصبحت منطقة القرن الأفريقي محوراً استراتيجيا للقاهرة، التي تسعى الآن بدأب إلى تعزيز وجودها هناك.
فأبرمت مصر خلال الصيف اتفاقية دفاع وتعاون مع الصومال. حيث تنص الاتفاقية، التي تم توقيعها خلال زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى القاهرة في شهر أغسطس، على تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والدفاعية. ومنذ ذلك الحين، أرسلت مصر على الأقل شحنتين من الأسلحة إلى مقديشيو .
والأهم من ذلك، أن الاتفاقية تتضمن نشر ما يصل إلى 10 آلاف جندي مصري في الصومال خلال الأشهر المقبلة. حيث سيعمل ما يصل إلى 5 آلاف منهم ضمن بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، والتي تساعد الحكومة في محاربة مسلحي حركة الشباب. لكن الاتفاقية تنص على إرسال القاهرة خمسة آلاف جندي إضافي، مع تفويض لا يزال غير واضح.
وقال نائل شاما، وهو باحث مقيم في القاهرة متخصص في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، لـ “وورلد بوليتيكس ريفيو”: “إذا تم نشرهم على طول الحدود بين الصومال وإثيوبيا، على سبيل المثال، فهناك خطر إثارة التوترات العسكرية بين إثيوبيا ومصر، واحتمال نشوب مناوشات بين الجانبين”. وأضاف شاما: “إن إرسال قوات إلى الصومال يشير إلى أن مصر تريد وجوداً عسكرياً هناك”. ولكن في الوقت الحالي، ليس من الواضح كيف قد يؤثر هذا النشر للقوات على المفاوضات مع إثيوبيا بشأن سد النهضة”.
وقد حاول المسؤولون المصريون على مدى سنوات تأمين اتفاق مع إثيوبيا لضمان تدفق ثابت للمياه إلى نهر النيل، والذي يأتي 80% منه من النيل الأزرق في المنبع.
وكانت مصر والسودان وإثيوبيا قد وقعت في عام 2015 على إعلان مبادئ كان من المفترض أن يؤدي إلى اتفاق رسمي برعاية الاتحاد الأفريقي حول كيفية تقاسم موارد مياه النهر، ولكن ذلك لم يتحقق أبداً.
وفي أوائل عام 2022، بدأت إثيوبيا في إنتاج الكهرباء من السد الذي تبلغ تكلفته 4.2 مليار دولار. وعندما أعلنت أديس أبابا في سبتمبر 2023 أنها قد أتمت ملء السد، وصفت القاهرة الإجراء بأنه “غير قانوني”، لأنه لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بين دول حوض النيل – وأبرزها السودان – التي ستتأثر قطعاً بإنشاء هذا السد.
ويوفر النيل حوالي 90% من إمدادات المياه العذبة في مصر. وزعمت السلطات المصرية أن مجرد خسارة 2% فقط من تدفق مياه النيل من شأنها أن تقضي على 200 ألف فدان من الأراضي التي تُروى بماء النيل في مصر، مما يعرض القطاع الزراعي والاقتصاد الكلي في البلاد للخطر. ولكن مع اكتمال سد النهضة الآن، لا تتمتع القاهرة بنفوذ كبير لتأمين كميات المياه التي تحتاجها.
وعلى هذا النحو، رأت مصر فرصة في التوترات المحتدمة بين الصومال وإثيوبيا، حيث أدى استعداد أديس أبابا الواضح للاعتراف بإقليم “أرض الصومال” المنشق عن الدولة الصومالية إلى إثارة غضب مقديشيو بشكل خاص.
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وزعيم إقليم “أرض الصومال” موسى بيحي عبدي قد وقّعا في شهر يناير مذكرة تفاهم تمهد الطريق لإثيوبيا، الدولة غير الساحلية، لتأمين عقد استئجار لمساحة تمتد لـ 13 ميلاً من ساحل “أرض الصومال” لمدة 50 عاماً، حيث ستبني فيها قاعدة بحرية. وفي المقابل، ستكون إثيوبيا، التي فقدت القدرة على الوصول إلى البحر عندما انفصلت إريتريا عنها في عام 1991، أول دولة تعترف باستقلال “أرض الصومال” المُعلن من جانب واحد من الانفصاليين هناك.
ومن شأن الوجود الإثيوبي على البحر الأحمر أن يزيد من التحدي لثقل القاهرة في المنطقة.
ويقول شاما: “تاريخياً، كانت مصر تعتبر البحر الأحمر بمثابة فِنائها الخلفي”. وأوضح شاما أنه عندما بدأت القوى الجديدة في زيادة نفوذها في المنطقة على مدى العقد الماضي، لم يكن ذلك بالضرورة يمثل مشكلة لها، لأنها (تلك القوى) كانت حليفة لمصر إلى حد كبير. “ولكن إذا حصلت إثيوبيا على قاعدة بحرية على البحر الأحمر، فستواجه القاهرة قوة معادية تسيطر على تدفق مياه النيل الأزرق ويمكنها التأثير على طرق التجارة في البحر الأحمر”.
ولن يؤدي المزيد من اللأواء في البحر الأحمر إلا إلى تفاقم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مصر. وكما أشرنا من قبل، فقد أدت هجمات الحوثيين على الشحن التجاري عبر البحر الأحمر إلى تقليص عائدات قناة السويس المصرية، حيث اختارت شركات الشحن حالياً إعادة توجيه حركة المرور حول جنوب إفريقيا لتجنب المرور عبر البحر الأحمر. وكان حوالي 70 إلى 80 سفينة تمر عبر المعبر الاستراتيجي يومياً قبل الأزمة، ولكن هذا العدد انخفض بالكاد إلى حوالي 20 سفينة اليوم.
وصرح رأس الدولة المصري عبد الفتاح السيسي في شهر سبتمبر أنه منذ بدأ الحوثيون في استهداف الشحن في البحر الأحمر، خسرت مصر حوالي 6 مليارات دولار من عائدات قناة السويس، أو حوالي 50 إلى 60 في المائة. وفي نفس الخطاب، قال السيسي إنه إذا استمر الوضع على هذا المنوال، فستكون هناك عواقب وخيمة لذلك “في منطقتنا وربما في جميع أنحاء العالم”.
ولكن لسوء الحظ بالنسبة لمصر، فإنه يبدو أن شركات الشحن الكبرى مستعدة الآن لتحمل أعباء الواقع التشغيلي والتكاليف المترتبة على إعادة توجيه حركة المرور البحري حول رأس الرجاء الصالح في الطرف الجنوبي من أفريقيا لنقل البضائع بين آسيا وأوروبا في المستقبل المنظور. وتستمر السفن الأكبر حجماً التي تحمل شحنات قيّمة في تجنب المرور عبر البحر الأحمر، ويرجع ذلك أساساً إلى أن التكلفة الإجمالية للتأمين الأكثر كُلفة ورسوم قناة السويس تظل، بشكل عام، أعلى مما تدفعه شركات الشحن في شكل وقود إضافي للتنقل حول أفريقيا، وفقاً لبحث أجرته شركة أزور الاستشارية.
وعلى الرغم من العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات البحرية الغربية في البحر الأحمر وقصف أهداف الحوثيين في اليمن من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن حرية الملاحة – وخاصة في مضيق باب المندب الاستراتيجي – تظل بعيدة المنال. ويبدو أن استعداد الدول الغربية لتخصيص أصول عسكرية إضافية للمنطقة لتأمين طرق التجارة ضئيل، وخاصة في الوقت الذي من المرجح فيه أن يتم النظر في إعداد خطط طوارئ عسكرية أخرى للصراع المتصاعد في المنطقة. وهذا يعني أن الشحن التجاري من غير المرجح أن يعود إلى أنماطه الطبيعية في الأمد القريب.
وتُعتبر مصر هي الخاسر الأكبر على الصعيد الاقتصادي من هذا الوضع المستجد الذي أصبح معتاداً في البحر الأحمر، ولكن القاهرة تظل عاجزة عن التأثير على الأحداث في المنطقة بمفردها. وباعتبار أن منطقة القرن الأفريقي هي منطقة ذات أهمية استراتيجية للتجارة العالمية والأمن الإقليمي، فقد أضحت أيضاً واحدة من الساحات الرئيسية التي تشهد صعود عالم متعدد الأقطاب. وبصرف النظر عن الموارد التي يمكن لمصر توجيهها نحو تعزيز مكانتها هناك، فإن القاهرة تصل متأخرة نسبياً مقارنة بالقوى الخارجية الأخرى، وتحت وطأة الضغوط الجيوسياسية والاقتصادية. ومن غير المرجح أن يلهم هذا الأمر التفكير الواضح والتخطيط الاستراتيجي من جانب القاهرة.
وعلى مدى سنوات، كانت الولايات المتحدة والصين وروسيا تهدف إلى توسيع وجودها في القرن الأفريقي. ولكن دول الخليج – وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة، بل أيضاً المملكة العربية السعودية وحتى إيران – هي التي نجحت في تأمين الولاءات السياسية هناك لتعزيز قبضتها على الموارد والأصول التجارية والمواقع العسكرية في تلك المنطقة. كما تعمل تركيا أيضاً على توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي هناك.
وبدلاً من الاعتماد على جيشها وحده في تشكيل الأحداث في منطقة القرن الأفريقي، ستضطر مصر بدلاً من ذلك إلى التنقل عبر شبكات معقدة من التحالفات الإقليمية المعاملاتية والمتناقضة في كثير من الأحيان، في وقت لا تملك فيه سوى القليل من الأدوات الاقتصادية تحت تصرفها بسبب الأزمات المالية والاقتصادية التي تعيشها حالياً. وتهدف القاهرة إلى تأمين نفوذها هناك، لكن التأثير الذي يمكن أن يُحدثه النفوذ العسكري المصري في منطقة القرن الأفريقي لا يزال أمراً غير مؤكد. أما الأمر الأكثر أهمية فهو أن تعميق المشاركة العسكرية المصرية في المنطقة قد يساعد في تأجيج التوترات هناك دون أن يسمح للقاهرة بالضرورة بتأمين مصالحها.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.