
عرض وتعليق: د. عمرو درّاج
في حوار مطوّل أجراه الصحفي الأمريكي المخضرم كريس هيدجز مع الكاتبة والمحققة الأمريكية ويتني ويب، حذّرت الأخيرة من أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسير نحو إعادة تشكيل الدولة العميقة بما يخدم مصالح نخبة ضيقة من مليارديرات وادي السيليكون، لا بهدف تفكيكها كما كان يُعتقد، بل لتحويلها إلى آلة مراقبة واستبداد تكنولوجي غير مسبوقة في التاريخ الحديث
تحالف ترامب مع عمالقة التقنية
تؤكد ويب أن شخصيات مثل بيتر ثيل، مؤسس “بالانتير” وأحد المقربين من ترامب، يقودون مشروعاً لبناء دولة تسيطر فيها التكنولوجيا على كل تفاصيل حياة المواطنين، من عاداتهم اليومية إلى آرائهم وتحركاتهم. هذه الشركات، بحسبها، لا تسعى إلى تحرير الأمريكيين من قبضة أجهزة الاستخبارات، بل إلى توسيعها وتخصيصها بالكامل لصالح السلطة التنفيذية.
وتضيف أن إدارة ترامب شرعت في تطهير المؤسسات المدنية والأمنية من الأصوات المستقلة، لتضمن ولاء البيروقراطية الحكومية “لرغبات البيت الأبيض وحده”، معتبرة أن ما يحدث هو “انقلاب تدريجي على القوانين والضوابط الدستورية”.
جذور المشروع في برنامج “الوعي الكامل بالمعلومات”
تعود جذور هذه المنظومة، بحسب ويب، إلى مشروع أُطلق بعد أحداث 11 سبتمبر تحت اسم Total Information Awareness بقيادة “جون بويندكستر” مستشار الرئيس الأسبق رونالد ريجان، الذي أراد بناء نظام يربط كل البيانات الشخصية للمواطنين بهدف التنبؤ بالأحداث الإرهابية. وبعد فضيحة كبرى، تم تفكيك البرنامج شكلياً، لكنه أعيد إحياؤه من خلال شركة Palantir التي أسسها بيتر ثيل بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية.
من الحرب على الإرهاب إلى “الذكاء الاصطناعي الأمني”
تحوّل المشروع لاحقاً إلى شبكة تراقب ليس فقط المشتبه بهم بالإرهاب، بل المجتمع بأسره. فالشركة أصبحت متعاقداً رئيسياً مع وزارة الأمن الداخلي ووكالة الهجرة والجمارك (ICE)، حيث تُستخدم خوارزمياتها في التنبؤ بالجريمة عبر تحليل البيانات الضخمة – وهي تقنيات أثبتت الدراسات فشلها وعدم دقتها وانحيازها ضد الأقليات.
وتشير ويب إلى أن هذه التكنولوجيا امتدت لاحقاً إلى مجالات الصحة أثناء جائحة كورونا، حيث تولّت “بالانتير” تحليل بيانات ملايين الأمريكيين تحت شعار “الاستجابة الوبائية”، بينما تحوّلت في الواقع إلى بنية مراقبة صحية مركزية.
“مافيا باي بال” واستبدال الدولة بالشركات
تتحدث ويب عن شبكة من رجال الأعمال تُعرف إعلامياً باسم PayPal Mafia تضمّ بيتر ثيل، إيلون ماسك، وسام ألتمان، وغيرهم ممن أسسوا المنصة الرقمية المعروفة للتعاملات المالية. وترى أن هؤلاء يسعون إلى خصخصة الدولة وتحويل الرئيس إلى “مدير تنفيذي” يحكم مثل ديكتاتور، مستندين إلى فلسفة المفكر المحافظ “كيرتس يارفن” التي تدعو إلى إنهاء الديمقراطية الليبرالية لصالح “حكومة الشركات”.
دور إسرائيل وتداخل الأمن السيبراني
كما سلطت ويب الضوء على العلاقة الوثيقة بين شركات التكنولوجيا الأمريكية والإسرائيلية، وخصوصاً وحدة 8200 في الجيش الإسرائيلي، التي خرجت منها شركات تتعاون مباشرة مع الاستخبارات الأمريكية في مجالات الأمن السيبراني والمراقبة. وذكرت أن شركات إسرائيلية مثل Carbyne 911 — التي شارك في تمويلها بيتر ثيل وجيفري إبستين، وتداخل من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك — أصبحت تدير مراكز الطوارئ في عدة ولايات أمريكية.
نحو “رأسمالية شمولية” جديدة
وترى ويب أن ما يتشكل اليوم هو اندماج كامل بين السلطة السياسية ورأس المال التكنولوجي، حيث تُستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي والدعاية الرقمية لتوجيه الرأي العام وقمع المعارضة. واعتبرت أن “الديكتاتورية المقبلة لن تكون عسكرية، بل رقمية بواجهة مدنية وشعارات وطنية”.
التحذير من مستقبل “أورويلي”
في ختام الحوار، حذّرت ويب من أن الولايات المتحدة تتجه نحو نموذج شبيه بالصين في المراقبة والتحكم الاجتماعي، تحت غطاء الأمن القومي والفعالية الحكومية. ودعت الأمريكيين إلى “التحرر من الاعتماد على عمالقة التكنولوجيا مثل غوغل ومايكروسوفت وإيلون ماسك”، معتبرة أن مقاومة هذا النظام تبدأ من الوعي ورفض الطاعة الطوعية “قبل أن يُلغى الحق في الاعتراض ذاته”.
ما تصفه ويتني ويب هو ولادة “نظام مراقبة رأسمالي” يقوده تحالف بين البيت الأبيض ووادي السيليكون، حيث تتحول الحرية الفردية إلى بيانات رقمية خاضعة للرقابة، ويُعاد تعريف الدولة على أنها شركة تُدار بمنطق الربح والأمن، لا بمنطق القانون والمواطنة.
تعليق المعهد المصري – المؤسسة الأمريكية تجدد ثوبها وتسعى لفرض الهيمنة الداخلية والعالمية
على مدار عدة سنوات، يتابع المعهد المصري للدراسات عن قرب أهم التطورات الحادثة على الساحة الأمريكية، وأثر ذلك على النظام العالمي الجديد، الذي لازال في طور التشكل، حيث أن هذه التطورات تعتبر بالطبع عاملاً جوهرياً في طبيعة هذا النظام الجديد. على وجه الخصوص، تابعنا السلوك الأمريكي داخلياً وخارجياً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تحت حكم المحافظين الجدد، وما أعقب ذلك من هزائم في العراق وأفغانستان، وقمنا تفصيلياً برصد وتحليل مظاهر الأفول التدريجي للدور الإمبراطوري الأمريكي الذي كان متسيداً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما صاحب ذلك من تشكل مراكز قوة جديدة داخل الولايات المتحدة، اعتباراً من أوائل الألفية الحالية، تحاول تجديد طبيعة ما يطلق عليه “المؤسسة – Establishment” المهيمنة على القرار الداخلي والخارجي فيها.
تطرقنا أيضاً بالتفصيل لبحث طبيعة فترة حكم ترامب الأولى كأول محاولة عملية للإمساك بزمام الأمور بدلاً من القوى التقليدية للمؤسسة، وكيف أن هذه المحاولة فشلت عملياً في تحقيق هذا الهدف لأسباب كثيرة. إلا أن تولي ترامب في الفترة الثانية اجتمعت معه عدة أسباب أحدثت زخماً كبيرا وتقدما في المشروع الأمريكي لاستبدال جوهري في قوى المؤسسة القديمة، رصدناها أيضا في دراساتنا وتحليلاتنا المختلفة، ولعلنا نفرد لها دراسة شاملة بالتحليل والتدليل في القريب بإذن الله.
الصحفية الاستقصائية الأمريكية النابهة ويتني ويب، اشتهرت بتميزها في رصد وتفكيك وتركيب عدد من أهم عناصر المشهد الجديد، وذكرت أهمها في المقابلة الشاملة التي أجرتها مع الكاتب الصحفي المخضرم كريس هيدجز، وقمنا بتلخيصها واستعراض ما فيها هنا. وبهذه المناسبة وانتهازاً لهذه الفرصة، رأينا أن نستعرض في هذا التعليق، من وجهة نظرنا، إشارات لأهم مظاهر تطور المشهد الأمريكي باختصار في إطار التغيرات الكبرى التي نتحدث عنها، من واقع الحصيلة الواسعة لدراساتنا على مدى السنوات الماضية، على أن نفصل ذلك في دراساتنا المنتظرة.
أهم مظاهر تطور المشهد الجديد، من وجهة نظرنا، كالتالي:
- استلمت الولايات المتحدة قيادة العالم من أوروبا، وتحديدا بريطانيا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأقامت نظاماً عالميا قائما على أسس ومؤسسات متكاملة (ليس هنا مجال التفصيل فيها)، وصولاً إلى نظامٍ أحادي القطبية بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، تبنى نموذج العولمة والنيوليبرالية الاقتصادية في الهيمنة على العالم، ادعت فيه أمريكا النصر النهائي و”نهاية التاريخ”.
- تحت تأثير غرور القوة، تبنى المحافظون الجدد في بداية الألفية تحت حكم جورج بوش الابن نهجاً يقوم على الغزو الخارجي وتغيير الأنظمة واستخدام القوة المفرطة في فرض الهيمنة تحت ستار ما يسمى “الحرب على الإرهاب”. إلا أن هذا النهج أثبت فشلاً ذريعاً، وترتب عليه تراجعاً تدريجياً في النفوذ الإمبراطوري الأمريكي، خاصة في ظل صعود قوى أخرى أهمها الصين، استفادت من العولمة ومن انشغال الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب.
- إلا أنه بالتزامن مع أحادية القطبية الأمريكية، بدأت في الظهور إرهاصات لفرض تحكمٍ أكبر على المشهد الداخلي منذ زمن الرئيس الأسبق ريجان، وكان أهم عرّابي هذا التوجه جون بويندكستر، مستشار الرئيس، والعقل المدبر لما أطلق عليه فضيحة إيران – كونترا. بدأت مشاريع في دوائر الاستخبارات لتكوين قواعد بيانات الهدف منها إمكانية ملاحقة من يمكن وصفهم بمعارضي منظومة الحكم (بحجة محاربة الإرهاب)، لكن قيدين أساسيين منعا أن تحقق هذه الأفكار نجاحا، أولهما أن التكنولوجيا في ذلك الوقت لم تكن تسمح بفعالية هذه النظم. ثاني القيود تمثل في أن تولي إدارات حكومية، خاصة أجهزة الاستخبارات، القيام على مثل هذه المشاريع في ظل مساءلة الكونجرس لم يكن ممكناً من الناحية القانونية. أدى ذلك إلى تأخر تطبيق مثل هذه الأفكار بشكل فعال.
- بحلول بدايات الألفية، تصاعدت بشكل كبير إمكانية تطبيق استراتيجيات ما يمكن أن يطلق عليه “دولة المراقبة”، فمن الناحية السياسية هيأت بيئة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر الظروف المناسبة لمثل هذه الأعمال دون اعتراض يذكر. أما من الناحية التقنية، فقد بدأت تطبيقات التعامل مع البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في التطور الكبير، وصاحب ذلك إمكانية الحصول على قواعد بيانات ضخمة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيس بوك، فضلاً عن تطبيق الباي بال في التعاملات المالية. أما من الناحية القانونية فقد تم تجاوز مراقبة الكونجرس بإيكال المهام المطلوبة لشركات خاصة، أهمها على الإطلاق شركة بالانتير، التي أسسها الملياردير المثير للجدل بيتر ثيل وأخرين، وكان مدخلهم للدخول في أروقة أجهزة الاستخبارات ريتشارد بيرل أحد أهم صقور المحافظين الجدد، والذي أوصلهم مع جون بوينديكستر، المستشار الأسبق للرئيس ريجان، والذي سبقت الإشارة إليه، وما وراءه من عالم المخابرات.
- المتغيرات الجديدة أوجدت بالتدريج طبقة رأت أنها مؤهلة لاستلام زمام قيادة الولايات المتحدة والعالم بما تمتلكه من أدوات، وكان من الضروري لديها إيجاد قوة دفع سياسية تحمل مشروعها وتستلب مكامن القوة من المؤسسة الأمريكية التقليدية، ووجدت ضالتها في ترامب ليكون رأس حربة هذا المشروع. لم يكن هذا الموضوع قد نضج بما يكفي خلال فترة رئاسة ترامب الأولى وبالتالي لم ينجح في تفكيك هذه المؤسسة، أو ما يطلق عليه الدولة العميقة، إلا أن الوضع كان جاهزاً في فترة ترامب الثانية على النحو الذي سنشير إليه لاحقاً.
- ما يطلق عليه “المؤسسة” التقليدية كان يتكون من عدة عناصر، بالإضافة إلى المؤسسات الرسمية مثل الرئاسة والكونجرس والقضاء، من عدد من المؤسسات والهيئات الأخرى التي تتخذ أشكالاً مختلفة. من أهم هذه المؤسسات ما يطلق عيه إعلام التيار الرئيس Mainstream Media، الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك والمؤسسات المالية الكبرى والشركات متعددة الجنسيات، وزارة الدفاع (البنتاجون) وترتبط بها شركات صناعة السلاح الكبرى (شركات خاصة)، أو ما يطلق عليه مجازاً “مجمع الصناعات العسكرية”، فضلاً عن أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية المختلفة. كانت هناك أدواراً تقوم بها عناصر هذه “المؤسسة” بشكل علني، إلا أنه كانت هناك الكثير من الأنشطة الخفية داخلياً وخارجياً تقوم بها أجهزة الاختبارات خارج نطاق القانون، وارتبط العديد من هذه الأنشطة بعناصر الجريمة المنظمة (المافيا)، فضلاً عن أجهزة استخبارات أجنبية أهمها على الإطلاق جهاز الموساد الإسرائيلي (قضية اغتيال الرئيس كنيدي، فضيحة إيران- كونترا، شبكة مافيا دعارة الأطفال وغسيل الأموال المرتبطة برجل الأعمال المثير للجدل جيفري إبستين…إلخ، كأمثلة).
- في إطار التدافع بين القوى الجديدة الساعية للهيمنة وقوى المؤسسة التقليدية، تمحورت نواة جديدة شكلت مركز القوة الرئيس للمنظومة الجديدة حول مجموعة من أباطرة التكنولوجيا الكبار من السليكون فالي من أمثال إيلون ماسك ولاري إليسون وجيف بيزوس وسام ألتمان ومايك زوكربيرج وأخرين، الذين اعتمدوا أولاً على النفوذ الضخم الذي تتيحه لهم السيطرة على مفاتيح التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ثم على الثروات الهائلة التي تمكنوا من مراكمتها من أعمالهم في هذا المجال (أكبر 7 شركات في القيمة الآن في السوق الأمريكية جميعاً من شركات التكنولوجيا، وتعدت قيمة بعضها السوقية الآن 4 تريليونات دولار، بل وصلت إلى 5 تريليون في حالة شركة إنفيديا). تصاعد نفوذ هذه المجموعة كثيراً خلال السنوات الأخيرة، وظهرت رموزهم لأول مرة في حفل تنصيب الرئيس ترامب في ولايته الثانية في الصفوف الأولى، إيذاناً بإقرار نفوذهم.
- من متابعة تجاذبات وممارسات القوة الجديدة، يظهر لنا أن أهم هذه الشخصيات دون منازع، في رأينا، بيتر ثيل مؤسس ورئيس شركة بالانتير (بالشراكة مع رئيسها التنفيذي الآن أليكس كارب)، الذي نشرنا عنه الكثير في دراساتنا خلال العامين الماضيين. ثيل هو أحد أهم مؤسسي منصة باي بال الشهيرة، الذين اصطلح البعض على تسميتهم “مافيا الباي بال”، حيث أن أنشطتهم بعد أن بيعت المنصة اتجهت إلى تأسيس العديد من الشركات التي تخدم على الأجندة الجديدة، وأهمها بالانتير بالطبع.
احتلت بالانتير حجر الزاوية في الكثير من الأعمال التي كلفها بها عميلها الرئيس، وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهي تستحوذ حالياً على نفوذ هائل بتداخلها مع أغلب المؤسسات الفيدرالية الأمريكية والشركات العابرة للجنسية في جميع المجالات، ما تذخر به الدراسات المنشورة، وخاصة كلاعب رئيس في الدولة المتغولة الجديدة، دولة المراقبة، فضلا عن نفوذها الحالي خارج الولايات المتحدة، خاصة في بريطانيا. لا يتمثل مركز القوة الجديد في بالانتير كشركة فقط، ولكن في بيتر ثيل نفسه، الذي يروج لنفسه “كزعيم روحي” للأيديولوجية التكنولوجية الجديدة، ويصف كل من يسعى لفرض القيود عليها “بالمسيح الدجال”، وكعدو للتوجهات الداعية لحكومة عالمية واحدة، وللدولة الأوتوقراطية، بينما في حقيقة الأمر، فإن كل ممارساته تتجه إلى السيطرة والهيمنة المتغولة للدولة ذات النفوذ العالمي، لكن بشكل جديد يختلف عن نموذج العولمة الليبرالية ومؤسساتها الداعمة ومن أهمها المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس).
تجدر الإشارة أيضاً إلى النفوذ الكبير لبيتر ثيل وأليكس كارب فيما يسمى بمنتدى “بيلديربرج” والذي يجمع الكثير من قادة العالم السابقين والحاليين، والذي يطلق عليه البعض “مجلس إدارة العالم”.
- هناك عدد من القوى الأخرى التي التحقت بأباطرة التكنولوجيا في تشكيل نواة الشكل الجديد للمؤسسة الأمريكية. من أهم هذه القوى، الشركات المالية العملاقة لإدارة الأصول، وأهمها بلاك روك، لكن هناك أيضاً شركات أخرى أهمها فانجارد وستيت ستريت، وهذه مرتبطة ببلاك روك أيضا بشكل أو بأخر. هذه الشركات تدير أصولا ضخمة في الشركات العملاقة في شتى الأنشطة الاقتصادية الكبرى مثل صناعة السلاح والأدوية والأغذية والمشروبات والعقارات والصحة والإعلام والتجميل والتمويل والعملات المشفرة والذكاء الاصطناعي وغير ذلك. شركة بلاك روك بمفردها تدير أصولاً تزيد الآن عن 13 تريليون دولار، لكن الخطوة المقبلة التي أفصحت عنها تتعلق بالتوجه في الاستثمار في البنية الأساسية حول العالم بحيث تستهدف أن يصل حجم أصولها في هذا النشاط نحو 68 تريليون دولار خلال عدة سنوات. المشاريع المستهدفة ستركز على إعادة تعمير المناطق التي دمرتها الحروب، ما يعطيها نفوذاً سياسيا هائلاً حول العالم. هنا يبرز التساؤل عن دور مثل هذه الشركات في إشعال الحروب لمصلحة شركات الأسلحة العملاقة التي تدير أصولها، ثم تهدئة الحروب لتحقيق مكاسب ضخمة في عمليات البنية الأساسية وإعادة التعمير.
- رغم أن وسائل الإعلام الرئيس لازال لها تأثير كبير، إلا أن الإعلام الجديد مثل وسائط الاتصال الاجتماعي يكتسب نفوذاً متزايدا في تمكين المنظومة الحديثة عن طريق الاستحواذ على أهمها مثل منصات إكس والفيسبوك والتيك توك وغير ذلك.
اما فيما يتعلق بصناعة السلاح، فقد اكتسبت التكنولوجيا الجديدة أيضاً زخماً كبيرا في أشكال الحروب الحديثة المتنامية والتي تستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والمسيرات، وغير ذلك من مدخلات التكنولوجيا الفائقة (ظهرت تطبيقات ذلك بشكل واضح في الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة، واستهداف حزب الله وإيران، وغير ذلك).
- بالطبع تظل أجهزة الأمن والمخابرات في قلب منظومة المؤسسة الجديدة، إلا أنه تجري لها عمليات كبيرة لإعادة الهيكلة واستبدال النظم والأفراد من خلال إدارة ترامب، كما أصبحت أكثر اعتماداً على التكنولوجيا الحديثة والتعهيد بأعمال لشركات خاصة، ما يعطي أيضاً نفوذا كبيرا لشركات التكنولوجيا. كما أوضحنا سابقاً، أسهمت التكنولوجيا في تكريس ما يعرف بدولة المراقبة من خلال القدرات الكبيرة على تتبع أي نشاط وتحجيم أعمال النشطاء، وبالتالي زيادة سيطرة وتحكم الدولة. يجادل البعض أيضاً إلى أن أجهزة الاستخبارات لم تعد بحاجة للتعاون المكثف مع الجريمة المنظمة كالسابق نظراً لما تتيحه التكنولوجيا من إمكانيات.
- مما سبق يتضح أن عناصر المؤسسة الجديدة، بقيادة أباطرة التكنولوجيا والمال، قد أصبحت شبه مكتملة، وهي في حالة من التدافع مع القوى المحلية والعالمية التي تمثل المؤسسة السابقة، لكن نتيجة الصراع تبدو محسومة. اكتسبت هذه العناصر زخماً سياسياً هائلاً بتولي ترامب الرئاسة الثانية، واستطاعت أن تفرض أحد رجالها، جي دي فانس، لمنصب نائب الرئيس، وهو من كان مدعوماً من بيتر ثيل منذ أن كان طالباً في جامعة ييل، مروراً بدعمه لدخول مجال الأعمال والتكنولوجيا، وصولاً لدعم دخوله لمجلس الشيوخ لمدة عامين فقط، قبل التأثير على ترامب ليلحقه بتذكرته الانتخابية كمرشح نائباً للرئيس، وهو بالكاد في سن الأربعين. أيضاً وضع ترامب إيلون ماسك مباشرة على رأس هيئة تحسين كفاءة الحكومة، ما مكنه من إحداث تغييرات كبيرة في الأجهزة الفيدرالية خلال وقت قصير.
وقد احتاجت هذه المنظومة الجديدة رافعة شعبية لتصل للنفوذ السياسي من خلال إدارة ترامب، وهو ما وجدته في أتباع حركة “الماجا / أمريكا أولاً ” التي تشكل القاعدة الشعبية لترامب. إلا أنه بالتدريج ظهر التباعد الواضح بين أجندة القوى الجديدة، وبين الكثير من أتباع الماجا والتيار اليميني المحافظ بشكل عام، وامتدت الخلافات حول أمور جوهرية مثل الدعم الأمريكي لإسرائيل، واستمرار الاعتمادات المرتفعة لنفقات الحروب الخارجية، وكذلك خفض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى، مع زيادة ميزانية الدفاع، على حساب الكثير من الخدمات الأساسية للمواطنين البسطاء. نتج عن هذا أن هناك تياراً شعبياً متناميا، ليس فقط في اليسار، ولكن في قطاعات يمينية أصلاً، أخذ في التشكل ضد توجهات عناصر المؤسسة الجديدة، حيث اتضح لهذا التيار الشعبي أن الهدف لم يكن مجرد القضاء على المؤسسة التقليدية والدولة العميقة والنخب الفاسدة، ولكن استبدالها وتغيير جلدها بتطوير نموذج المحافظين الجدد والنيوليبرالية بشكل جديد، قد يكون أكثر توحشاً.
- التجانس والتماهي التام لعناصر المؤسسة الجديدة مع الكيان الصهيوني أوضح من أي شرح، فأغلب أباطرة التكنولوجيا والمال المشار إليهم هم إما من اليهود أو الصهاينة أو داعمي الكيان الصهيوني بقوة. هناك تداخل كبير في الإنتاج التكنولوجي والذكاء الاصطناعي بين البلدين، خاصة ما يخدم منه الأغراض العسكرية، مع تواجد مباشر في الترتيبات المشتركة من قبل شخصيات من أمثال إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق. انعكس النفوذ الصهيوني بشكل أكبر أيضاً على تشكيل إدارة ترامب التي يكاد يشغل جميع مناصبها صقور من داعمي الكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق، وهو ما انعكس على التماهي بين الأجندتين الأمريكية والإسرائيلية أثناء إدارة ترامب الثانية بشكل شبه كامل.
- تتضح بالتدريج الأجندة الأمريكية والعالمية التي تتبناها عناصر المؤسسة الجديدة التي تم توضيح عناصرها. هؤلاء يسعون لاستغلال التحكم في انتاج وإدارة التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وكذلك الثروات المتراكمة لديهم، في الهيمنة على القرار السياسي الأمريكي، ومنه إلى باقي العالم. الدولة العميقة عندهم ستسيطر على البشر باستخدام أدوات المراقبة والمتابعة في شتى نواحي الحياة ، وتتجه بشكل عام نحو حكم دكتاتوري تحكمي(على غرار نموذج أورويل في روايته الشهيرة 1984)، ظهرت مظاهر متعددة له، منها مثلاً في التضييق على الجامعات وترحيل الطلاب الأجانب المحتجين على ما يحدث في غزة إلى خارج الولايات المتحدة، الدفع بقوات من الجيش والحرس الوطني لقمع الاحتجاجات، ملاحقة وتعقب المهاجرين والسعي لترحيلهم بالقوة، الإسراف في الاعتماد على الأوامر التنفيذية الرئاسية لإنفاذ السياسات، وغير ذلك. يضاف إلى ذلك التوجه إلى الرقمنة الكاملة للمعاملات المالية، ما يضمن المزيد من القدرة على السيطرة والتحكم. يغلف كل ذلك ادعاءات كاذبة بالليبرتارية ورفض تحكم الدولة، كما يزعم بيتر ثيل، بينما كل ممارساتهم تقود إلى ذلك.
خارجياً، تدرك هذه المنظومة استحالة استمرار الهيمنة الأمريكية العالمية كما كانت في نهاية القرن الماضي، وتدرك تراجع النفوذ الإمبراطوري الأمريكي حول العالم، لذلك تركز السياسة الخارجية الأمريكية على فرض الهيمنة على نصف الكرة الغربي، وفقاً لعقيدة مونرو، بكافة الوسائل وأنواع الضغط الاقتصادي والعسكري وإثارة القلاقل الداخلية، وتسعى لذلك لإيكال الدور الرئيس للكيان الصهيوني في السيطرة على قلب العالم في منطقة الشرق الأوسط بتنسيق كامل معها. أما بالنسبة للصين، فرغم أنها الخصم الرئيس للولايات المتحدة طبقاً للاستراتيجية الرسمية الأمريكية، إلا أن الأوليجاركية التكنولوجية إذا رأت مصلحتها في الاستفادة بصعود الصين فلن تتردد في تغيير سياساتها، فالوطنية والانتماء الوطني هي أخر ما يسعى إليه هؤلاء، خاصة في ظل التراجع الداخلي الضخم في قوة وتماسك المجتمع الأمريكي، وحالة الاستقطاب الحاد، وكذلك الأزمات المالية المنتظرة، ما يشي بمستقبل أمريكي مظلم، قد يجعل القوى المهيمنة الجديدة، والتي تسعى لإدارة شئون العالم بشكل أو بأخر، تغير بوصلتها في اتجاه مستقبلي غير أمريكي.




