fbpx
دراسات

10 سنوات بعد ثورة يناير: (3) في مواجهة القمع

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يُمكن التمييز في إطار خرائط التفاعلات التي قامت بها القوى الثورية في مصر بين يناير 2011 ويناير 2021، وما شهدته هذه الخرائط من تحولات بين ثلاث مستويات أساسية، وذلك على النحو التالي:

أولاً: الحراك الميداني: أنماط ومؤشرات

شكلت الحركات الاجتماعية المصرية محركاً أساسياً لاندلاع ثورة يناير 2011، واستمرت أهمية هذه الحركات الاجتماعية واتسع دورها أثناء الثورة وبعدها خلال السنوات العشر الماضية، الأمر الذي يجعل من فهمها وتحليل أبعاد وأنماط تفاعلاتها مع سياقها السياسي والاجتماعي، أمراً مهماً لفهم هذه الثورات ومآلاتها المستقبلية.

1- التفاعل الاستراتيجي مع السياق السياسي:

يقصد بالتفاعل الاستراتيجي للحركة الاستراتيجيات والسياسات التي تتبناها عند تفاعلها مع سياقها السياسي والاجتماعي، بما يؤدي إلى رفع قدرة الحركة على تحقيق أقصى استفادة من الفرص السياسية المتاحة، وتمكنها من التحرك على الرغم من انحسار هذه الفرصة وانغلاق المجال السياسي في أحيان أخرى.

وفي التطبيق المصري، نجد أن الحركات الطلابية التابعة “للأحزاب المدنية” وحركة 6 إبريل؛ كان التفاعل الاستراتيجي مع السياق السياسي الجديد بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 مختلفاً عن التفاعل الذي قمت به التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وجاءت نتائجه أيضاً مختلفة باختلاف الاستراتيجية المتبعة، فقد غيرت الحركة الطلابية التابعة لحزب الدستور استراتيجيتها، فانتقلت من التركيز على السياسات الميدانية إلى تبني سياسات خدمية وثقافية للتفاعل مع انحسار المجال السياسي بعد الانقلاب مما مكنها من الاستمرار (مثل المعارض الفنية، وعرض الأفلام التثقيفية، وتنظيم المناقشات الجماعية، والتي هدفت من خلالها إلى الاستمرار في نشر ثقافة احتجاجية) بأقل تكلفة ممكنة.

هذا التغير على مستوى التكتيكات صاحبه تغير على صعيد الشكل التنظيمي للحركة، حيث زادت المرونة في التعامل مع شكلها المؤسسي، فقد شكلت الحركة بعد ثورة يناير قوام حزب الدستور عند تأسيسه، قبل إنشاء مكتب للطلاب داخل الحزب وأسر الميدان الطلابية في الجامعات.

أما حركة 6 إبريل فقد عجزت عن تغيير أنماط التفاعل الاستراتيجي المرن مع تغير السياق السياسي وانغلاقه؛ لأن استراتيجياتها كانت قائمة على الاحتجاج والتظاهر السلمي والاستمرار في الميدان، وهي سياسات مثّلت جزءاً من الهوية الجماعية للحركة وسبب مشروعيتها الرئيسي، وهو الأمر الذي دفع إلى مزيد من استنزاف الحركة التي دخلت في مواجهات مفتوحة سواء مع المجلس العسكري الذي تولى حكم البلاد في مصر بعد ثورة يناير أو مع نظام الانقلاب، كما رفضت الحركة التحول إلى حزب سياسي.

2ـ التنظيم والقدرة على التعبئة:

تُعد موارد الحركة وقدرتها على التنظيم والحشد والتعبئة أحد أهم معايير نجاحها أو فشلها في تحقيق أهدافها، فقدرة هذه الحركات على بناء هياكل رسمية (منظمات، مؤسسات) وغير رسمية (الروابط الاجتماعية والعائلية) للحشد والتعبئة هي شرط أساسي لبناء تنظيم قوي قادر على تحقيق أهداف الحركة.

ومن بين هذه الحركات روابط الألتراس أو روابط مشجعي الكرة، والتي برزت في الاحتجاجات والتظاهرات سواء أثناء وبعد ثورة يناير، وهي تنظيمات من روابط اجتماعية مختلفة، ترتبط حياة أعضائها ببعضهم البعض ليس فقط في مدرجات إستاد الكرة بل في الحياة اليومية لكل منهم، عبر شبكات التواصل والترابط الاجتماعي.

وشكلت روابط الألتراس، بقدرتها على التنظيم، علامة فارقة في تاريخ الحركات الاجتماعية في مصر حيث نجحت في جعل صوتها مسموعاً خلال الثورة وبعدها، بل واستمر تأثيرها حتى مع انحسار المجال السياسي بعد انقلاب 2013، رغم كونها ليست في الأساس تنظيماً سياسياً، وعانت من عدم قدرتها على بناء تنظيم قوي قادر على الضغط على السلطة العسكرية لتحقيق أهداف الثورة، وتحويلها إلى سياسات ملموسة، بجانب عن عدم قدرتها على تقديم بديل سياسي واقعي ذي مصداقية لدى الجمهور.

الأمر الذي شكَّل أحد ملامح الضعف البنيوي لثورة يناير، وحال دون تعبئة الطاقات المجتمعية لتحويل الاحتجاج الشعبي والحراك المجتمعي إلى مشروع سياسي قادر على مواجهة النظم العسكرية المتعاقبة، وتغيير قواعد الصراع، بدلاً من هيمنة الجيش والإفراط في استخدام الأدوات القمعية، وتحويل المسار السياسي الذي نشأ بعد ثورة يناير إلى مسار عسكري بعد انقلاب 2013.

3ـ العلاقة بين زيادة القمع وإمكانية التعبئة:

شهدت مصر في أعقاب الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013 انحسار الحراك السياسي وتواري الحركات الاجتماعية، وترجع أسباب الانحسار أو ضعف التعبئة إلى عدة عوامل منها: الخوف الذي نتج عن استخدام نظام الانقلاب استراتيجيات مختلفة للقمع “غير المحسوب”، والخوف من المجهول أو من مصير دول أخرى في المنطقة، وهو ما استثمره النظام لصالحه. لأن المواطنين يخافون من الدولة، وعليها، أي يخشون من بطشها في الوقت الذي يخشون فيه من تحللها، هذا بجانب الشعور بالهزيمة (على مستوى المسار العام والشعور الشخصي وليس على مستوى نجاح الثورة أو فشلها) وتراجع الأمل([1]).

وفي إطار هذه الاعتبارات، يمكن القول إن أنماط الحراك السياسي والاجتماعي قد تعددت في مصر بعد انقلاب 2013، حيث ظهرت عدة أنماط رئيسية:

الأول: حراك المنظمات الحقوقية، أو ما يسميه البعض، حراك القضية الواحدة التي تتناول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات وتدافع عن الضحايا([2]).

الثاني: حراك النقابات المهنية التي تعني بحقوق وحريات أعضائها خاصة حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم وتواجه التدخلات الأمنية المتكررة في شؤونها

الثالث: حراك المجموعات الطلابية التي تطالب بحريتي التعبير والتنظيم في الجامعة وترفض إلغاء السياسة داخل الحرم الجامعي

الرابع: الحركات العمالية التي تكتسب زخما متزايدا مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والممارسات القمعية التي يطبقها الحكم إزاء النشطاء بين العمال

الخامس: حراك المواطنين العفوي والغاضب في مواجهات سياسات الحكومة في بعض الأحيان، أو عنف الأجهزة الأمنية في أحيان أخرى ([3]).

السادس: الحراك الموجه، الذي تقف خلفه بعض الشخصيات أو الكيانات، ضد فساد واستبداد النظام الحاكم (ثورة الغلابة في نوفمبر 2016، وحراك سبتمبر 2019، وحراك سبتمبر 2020).

وبعد مرور عشر سنوات على ثورة يناير 2020، و7 سنوات على انقلاب 2013، لم تتمكن سلطة الانقلاب، من القضاء على حيوية الحراك السياسي والمجتمعي الذي لم يتوقف، بل إن هذا الحراك الجديد أجبر سلطة العسكر في بعض الأحيان على تقديم بعض التنازلات (بغض النظر عن حجمها، ومصداقيتها أو الهدف منها).

ومن بين صور هذه التنازلات: إحالة منتهكي حقوق الإنسان من عناصر الأجهزة الأمنية إلى القضاء للمساءلة والمحاسبة، تنفيذ بعض مطالب الاستقلال النقابي قبل الانقلاب عليها، والاستجابة إلى مطالب العمال ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التراجع الوقتي عن الاستخدام العنيف لأدوات القمع المباشر وغير المباشر، كما حدث في حراك سبتمبر 2020، وتراجع سلطات العسكر المؤقت عن هدم منازل المواطنين.

وفي إطار هذه الأنماط للحراك السياسي والاجتماعي بعد انقلاب 2013، تبرز عدة مؤشرات وملاحظات أساسية:

(أ) المبادرات الاحتجاجية:

تطورت مبادرات احتجاجية ارتبطت بانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة، وضمت بين صفوفها طلاب وشباب ونشطاء وحقوقيين، وغابت عنها الأطر التنظيمية المحددة، والتزمت كل منها بقضية واحدة مثل جريمة الاختفاء القسري أو سلب حرية مواطنين بسبب القوانين القمعية كقانون التظاهر أو جرائم التعذيب داخل السجون وأماكن الاحتجاز (مثال: كمبادرة “الحرية للجدعان” التي تولت الدفاع عن حقوق الطلاب والشباب والإعلاميين المسلوبة حريتهم).

(ب) النقابات المهنية:

نشطت نقابات مهنية اشتبكت مع سلطة الانقلاب بشأن قضايا تتعلق بالدفاع عن استقلال النقابات وغل يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية عن العبث بداخلها والانتصار لحقوق وحريات الأعضاء، ومن بينها حرية اختيار ممثليهم والحماية من التعرض لاعتداءات الأمن وللممارسات القمعية والتعبير العلني عن الرأي فيما يخص قضايا نقابية أو قضايا عامة (مثال: نقابة الأطباء، ونقابة الصحفيين).

(ج) الحراك الطلابي:

لم تتمكن سلطة الانقلاب من الضبط الأمني للجامعات الحكومية والخاصة ومن القضاء التام على الحراك الطلابي، ففي الوقت الذي استخدمت السلطة كل ما لديها من أدوات للقمع والتعقب، وللحصار باسم القوانين واللوائح والإجراءات، بل واستعانت بشركات أمن خاصة للتواجد داخل حرم الجامعات ودفعت الإدارات الجامعية لإنزال عقوبات قاسية بالطلاب غير الممتثلين وسلبت حرية بعضهم وأحالتهم إلى المحاكم. وفي المقابل استمرت الجامعات ساحات رئيسية لمقاومة السلطوية تارة بالتظاهر وتارة بالاعتصام وتارة بالمشاركة الكثيفة في انتخابات الاتحادات الطلابية لإنجاح مرشحين غير مرشحي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

(د) الحراك العمالي:

أخفقت سلطة الانقلاب في القضاء على الحراك العمالي، ولم ينجح المزج بين القمع والتعقب وبين إجراءات الترهيب المتراوحة بين الفصل التعسفي من مكان العمل وبين إحالة بعض العمال المحتجين إلى القضاء العسكري في إنهاء الاحتجاجات العمالية، فقد تواصلت الاحتجاجات العمالية باستخدام أدوات التظاهر والاعتصام والإضراب، وللمطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية، وامتدت خريطة الاحتجاجات العمالية لتشمل القطاعين العام والخاص ولتجمع بين العمال وبين الموظفين.

(هـ) شبكات التواصل:

نظراً لأن سلطة الانقلاب أحكمت سيطرتها على المساحات الإعلامية التقليدية، اضطلعت شبكات التواصل الاجتماعي بأدوار رئيسية في كشف الانتهاكات وخلق حالة رأي عام حولها، وحفزت البعض على الاحتجاج العفوي في مواجهتها، ولم تتوقف هذه الاحتجاجات العفوية على الرغم من القمع الممنهج من جانب النظام في مواجهتها، والكلفة الباهظة التي يتحملها بعض المحتجين

(و) دعوات التظاهر:

تكرر خروج بعض المواطنين إلى المساحات العامة للاحتجاج على قرارات وإجراءات وممارسات حكومية بعينها كتورط عناصر أمنية في تعذيب وقتل مصريين داخل أماكن الاحتجاز الشرطي، أو للاعتراض العلني على سياسات النظام الانقلابي (مثل توقيع اتفاقية التنازل على جزيرتي تيران وصنافير) ([4])، وكذلك الخروج استجابة لدعوات سياسية صدرت عن بعض الشخصيات أو الرموز، كما حدث في حراك سبتمبر 2019 وسبتمبر 2020:

  • حراك سبتمبر 2019:

قبل الذكري التاسعة لثورة يناير 2011م، جاءت دعوات للنزول في 20 سبتمبر 2019م بعد توقف الحراك الثوري في الشارع المصري لقرابة ثلاث سنوات تقريباً، وتحديداً منذ “الدعوة الي ما يسمي بثورة الغلابة نوفمبر 2016م؛ وجاء حراك 20 سبتمبر نتيجة التفاعل مع دعوة الفنان والمقاول محمد علي، وكان مؤشراً على كسر حاجز الخوف بشكل نسبي، داخل نفوس المصريين، بسبب حالة القمع غير المسبوقة الذي عمل عليها نظام السيسي خلال سنوات ما بعد انقلاب 2013، وأظهر أن الاستجابة لدعوات التظاهر، جاء لعدة أسباب منها طبيعة الخطاب الجديد من شخص مثل “محمد علي” ووجود دلائل على إمكانية التغيير إذا وقف جانب من النظام وراء دعوة النزول.

وكشف تفاعل المصريين على شبكات التواصل الاجتماعي مع حراك 20 سبتمبر2019م، عن مدي استعداد الجماهير للنزول إذا وجدت قيادة فعالة موثوقة تقود الحراك، وتوقعت أن يؤدي نزولها إلى إحداث تغيير.

كما أظهر حراك 20 سبتمبر 2019م، ودعوات التظاهر التي أعقبته تأثير الخطاب الشعبوي بشكل إيجابي في التأثير على الجماهير، فالخطاب الذي قدمه محمد علي، أثّر بشكل كبير على قطاعات واسعة من المواطنين، من الداخل وفي طبقات ومستويات مختلفة، حيث كان خطاباً شعبوياً بسيطاً، بعيداً عن الخطاب السياسي المعهود الذي يستخدمه المعارضون.

كما كانت هناك قناعات بأن أغلبية من شارك في حراك 20 سبتمبر2019م، سواء من الأفراد أو من بعض القوي المعارضة، كان يعلم بوجود تدافع دائر داخل المؤسسات السيادية بين طرفين لكل منهما قوي وإمكانيات، وأن الثورة الحقيقية ليست لها قوي وإمكانيات تمكنها أن تكون طرفاً ثالثاً للدخول في مثل ذلك الحراك. وكان الهدف من الاشتباك مع هذه الحالة هو تحقيق أهداف تكتيكية مرحلية من هذا الصراع. وهذا الوعي تنامى مرحلياً طبقاً لمفهوم وضع الأهداف بناء على الإمكانيات والقدرات[5].

  • حراك سبتمبر 2020:

توافق مع تطبيق النظام العسكري لقانون هدم وإزالة ما أسماه مسؤولو النظام المباني المخالفة لأحكام البناء، وطالبت المظاهرات برحيل رأس النظام، وكان الأخطر في هذه الاحتجاجات أن مطلب رحيل السيسي لم يصدر عن رموز وتيارات المعارضين أو الرافضين للسيسي بل صدر كذلك عن عدد من مؤيديه؛ ممن تضرروا من سياساته الاقتصادية والاجتماعية. وتحولت الاحتجاجات من مطالب اقتصادية إلى هتافات سياسية وتصاعدت لتصل إلى مطالبة السيسي بالرحيل، وهو الهتاف الذي أصبح صداه يتردد بقوة في الشوارع المصرية، وذلك بعد أن كان مقتصرا على مواقع التواصل بسبب القمع الأمني[6].

 

واتسمت هذه المظاهرات بعدة سمات، من بينها:

  • التوقع المسبق لحدوثها: كانت السلطات المصرية تتحسب لنطاق احتجاجات واسعة، وهو ما دفعها في 28 أغسطس، لتوقيف القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، محمود عزت، المحكوم عليه بالإعدام والسجن المؤبد في عدة قضايا، كما انتشرت قوات من الشرطة في الميادين والشوارع، وارتبط بهذا الانتشار إقامة “كمائن” تستوقف المارة، وتقوم بمطالعة هواتفهم المحمولة، وتفتيش تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» لمعرفة انتماءات الموقوفين السياسية، كما قامت السلطات بغلق المقاهي، في 14 سبتمبر، وشددت على أصحابها بعدم الفتح مجددا إلا بتعليمات أمنية، وحشد الأغاني الوطنية في الإذاعات المحلية، وهو ما استنكره قطاع من النخبة المصرية.
  • اتسم نطاق الاحتجاجات بعدم الاقتصار على الاعتراض بسبب قانون مخالفات البناء، ولكنه ارتبط بعدة ملفات منها: واقعة مقتل الشاب الشهير باسم “إسلام الأسترالي”، وهي الواقعة التي تسببت باحتجاجات واسعة في حي المنيب، غرب القاهرة الكبرى. وأدت لاشتعال المظاهرات في المنيب، وردد المحتجون هتافات أبرزها “الداخلية بلطجية”. كما أن الاحتجاجات التي شهدتها مدينة العاشر من رمضان، والتي انتهت بهروب قوات الأمن بعد إلقاء قنابل المولوتوف عليها لم تكن بسبب هدم المنازل، بل حدثت بين عدد من الشباب وبين سيارتي دورية للشرطة.
  • اتساع نطاق الاحتجاجات جغرافيا: حيث بدأ رصد الاحتجاجات المتعلقة بقانون مخالفات البناء مع تداول رواد موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» مقطع فيديو، يظهر فيه عشرات الأهالي من منطقة سرياقوس بالخانكة بمحافظة القليوبية، في 27 أغسطس 2020، وهم يرشقون الجرافات، المكلفة بهدم عدد من البيوت المخالفة، بالحجارة، فيما ألقت قوات الأمن القبض على 15 منهم. ومن الخانكة إلى الاحتجاجات في القاهرة (منطقة الدويقة) والإسكندرية (منطقة المنشية) والجيزة (قرية الكداية)، وفي محافظتي بورسعيد والسويس (شمال شرق مصر)، وفي محافظة أسيوط (في صعيد مصر).
  • الاستمرارية: فرغم أن بداية الاحتجاجات كانت محدودة؛ إلا أن تطور الوقت رافقه ارتفاع منسوب العنف، ولم يخفف خروج رئيس الحكومة في مؤتمر صحفي مفاجئ للحديث عن أزمة هدم البيوت المخالفة من مخاوف المصريين أو يهدئ احتجاجاتهم التي كانت أخذت منحى تصاعدي.
  • أنه مع مراعاة حجم وتأثيرات حراكي سبتمبر 2019، و2020، إلا أنه يمكن القول إنهما اتسما بقدر عال من الوعي لدى المحتجين، لأنه ربط اتساع نطاق الحراك بتوفر شروط توافر القيادة؛ وتوافق النخب المعارضة، وانخراط القوات المسلحة في ترتيبات اتساع نطاق الحراك، وهي شروط يراها البعض ناتجة عن تفكيك تخوفات الشارع المصري الذي يريد انتقالا مستقرا محميا، ولا سبيل للاستقرار والحماية إلا عبر توافر هذه الشروط[7].

ثانياً: الحراك السياسي: خرائط المبادرات

شهدت مصر خلال فترة ما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، اتجاهين رئيسيين من المبادرات([8]):

أولاً: مبادرات الوعي:

والذي يُشير إلى أن مصر تعاني أزمة، وأن هذه الأزمة تحتاج من كل مصري الإدلاء بدلوه للخروج من هذه الأزمة، وفي هذا الإطار تتعدد المبادرات ومؤشرات الحراك، التي يهدف بعضها لإنتاج حراك على أرضية الجماهير، وبعضها لتحريك العلاقة بين الإخوان وقادة الانقلاب، وبعضها لإنتاج قوة سياسية بديلة للإخوان:

1ـ دعوات 11 نوفمبر 2016: التي عرفت باسم ثورة الغلابة، ولم يكن لها من برنامج سوى ما أعلنته من تعبئة منضبطة لما توقعته من ثورة جياع، ما يمهد الطريق لاحتوائها والحيلولة دون تحولها لإعصار لا يبقي ولا يذر. غير أن هذه الحركة اصطدمت بغياب القوى الراعية، وفقدان الرؤية العملية، فضلا عن فقدان سائر عناصر رأس المال السياسي اللازم لتفاعل القواعد الجماهيرية التي خاطبتها الدعوة.

2ـ مبادرة الجماعة الإسلامية المصرية، والتي قدمت الدعوة لكل من قادة الانقلاب وجماعة الإخوان، لاتخاذ خطوة إلى الخلف، لكن الأحداث قد تجاوزتها، لأن خطوات قادة الانقلاب في إغلاق المجال العام ومصادرته تجاوزت الحديث عن قانون التظاهر ومنح بعض الحريات بعد تدفقات القوانين التأميمية، ومن بينها قانون الجمعيات الأهلية وقانون الهيئات الإعلامية.

3ـ مبادرة لنصنع البديل: التي أطلقها المعارض المصري حمدين صباحي، والتي كان مضمونها الدعوة لإنقاذ مصر من حالة الخواء السياسي التي تعانيها، والتي تفتقد في إطارها وجود تنظيم سياسي قادر على أن يمثل قيدا على انفراد قادة الانقلاب بالحكم، وهو ما من شأنه أن يورد مصر موارد مهلكة في حال تعمق وخلت الساحة إثره ممن بإمكانه توفير ضغط يحول دون مزيد من التردي والفراغ السياسي في مصر. وقامت دعوة صباحي لتوحيد حزبي الكرامة والتيار الشعبي في تنظيم واحد قادر على توفير تنظيم سياسي بديل.

4ـ دعوة القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان إبراهيم منير لحكماء مصر للعمل لإيجاد مخرج لمصر من الوضع السياسي المأزوم، وهي دعوة تتضمن تفويضا نسبيا من الإخوان لما أسماهم منير الحكماء بالتحرك وتقديم مبادرة وطنية للإخوان، ولم يستبعد منير استعداد الجماعة سماع مبادرات من قادة الانقلاب.

ثانياً: مبادرات الإنقاذ:

شهدت مرحلة ما بعد انقلاب يوليو 2013، عدداً من المبادرات منها: وثيقة بروكسل (مايو 2014)، ومبادرة دعم الشرعية التي عدلت وثيقة بروكسل في 17 مايو 2014، وبيان القاهرة، وصدر في 23 مايو 2014 لتفادي النقد الذي تم توجيهه إلى وثيقة بروكسل كونها صدرت من خارج مصر، ومبادرة “إحنا الحل” (15 يناير 2015)، ومبادرة الإفلات من السقوط (فبراير 2016)، ومبادرة الفريق الرئاسي للدكتور عصام حجي (أغسطس 2016)، ومبادرة واشنطن التي صدرت بتوافق قوى سياسية مصرية في أعقاب مجموعة ورش عمل عقدت في واشنطن (سبتمبر 2016)، ومبادرة وطن للجميع، التي أطلقها الأكاديميان المصريان عماد شاهين وعبد الفتاح ماضي.

وتبرز عدة ملاحظات على هذه المبادرات، منها:

1ـ أنها مبادرات تحمل لقادة الانقلاب نظرة مبدئية ترى فيها المدخل لاستمرار مسيرة التدهور التي ميزت أداء إدارة مبارك قبل ثورة يناير 2011، وترى أن العلاج الناجع لتردي أوضاع دولة بحجم مصر يكمن في منظومة كفء على الصعيد السياسي تتسم بالأبعاد الأساسية لمفهوم الديمقراطية من مسؤولية ومساءلة وسيادة للقانون ومساواة أمامه وشفافية وتوسيع دائرة المشورة بما يحقق الانتماء للمصريين، ويدفعهم جميعا للمشاركة البناءة في إعزاز الوطن.

2.أن هذه المبادرات تضمنت التأكيد على ضرورة تعزيز منظومة إنفاذ القانون بجناحيها، جناح التطبيق (القضاء) وجناح التنفيذ (الشرطة)، بما يحفظ للوطن تماسكه وقوته، وتُمكن القانون الذي يعد السبيل الوحيد لإنجاح الدولة في مرحلة تهيمن فيها على مصر منظومة أمنية تحركها علاقات القوة والإرادات الظرفية، وتحمل رؤى غير متماسكة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو السيادي.

  1. تتفق المبادرات على أن المؤسسة العسكرية المصرية، مؤسسة وطنية، وأن وطنيتها تنبع من وظيفيتها المرتبطة بالمرابطة على ثغور مصر، وحمايتها، والحيلولة دون اختراق مصر في ظل بيئة إقليمية ودولية شديدة الاضطراب، تحتاج رؤية واضحة للتعاطي معها.

4ـ أن هذه المبادرات تضمنت التأكيد على أن النخبة العسكرية ليس من مهامها إدارة اقتصاد البلاد، وأن تدخلها في إدارة منظومة الاقتصاد ترتب عليه إفساد كامل لاقتصاد مصر.

  1. حققت هذه المبادرات تقدماً مهماً على أرضية بناء أجندة وطنية عابرة للتيارات، حول قضايا لا يمكن إغفال أولويتها، مثل قضية الهوية، ومع بناء هذه الأجندة بدا وكأن كل تيار في مصر قد انقسم إلى قسمين، قسم مرتهن لقادة الانقلاب وحساباته معها، وقسم مُرتهن لبناء أجندة وطنية يتفق عليها الجميع.
  2. حرصت بعض المبادرات على تقديم أطر مؤسسية ورموز سياسية لإدارة الأزمة التي تشهدها، حيث تضمنت ترشيحات لرأس جديد للسلطة التنفيذية، سواء عبر تفويض الشرعية لرئاسة الحكومة، أو عبر إنتاج رأس جديد متمثل في مجلس، فضلا عن قوائم حكومية تنفيذية تحمل أسماء محددة، وتحمل في بعض الأحيان بدائل لهذه الأسماء ([9]).

وترتبط فعالية المبادرات السياسية بقدرتها على التأثير في المشهد السياسي المصري، وقدرة القائمين على هذه المبادرات على الاستفادة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها مصر، وتوظيف هذه الظروف في الحشد السياسي والتعبئة الجماهيرية خلف هذه المبادرات، في مواجهة نظام عسكري، معياره الأول في الحكم هو فرض الهيمنة على الدولة ومقدراتها، مهما كانت التداعيات على حاضر هذه الدولة ومستقبلها.

ومن بين هذه الظروف الأزمة الاقتصادية التي طالت كافة السلع والخدمات، سواء في توفرها أو في تسعيرها، وتصاعد المنهج القمعي الحكومي، والذي تحول من منهج في مواجهة الأفراد عبر الاختفاء القسري والاعتقال والتصفية، إلى منهج قمع مجتمعي شامل، عبر ترسانة من القوانين التي تكبل الحقوق وتنتهك الحريات.

بجانب انتكاسات السياسة الخارجية المصرية، بدءً بالتفريط في أراض مصرية تيران وصنافير، والتفريط في غاز شرق المتوسط، والتوقيع على اتفاق المبادئ الخاص بسد النهضة الإثيوبي، وتورط النظام في العديد من الأزمات الخارجية ذات التأثيرات السلبية على الأمن القومي المصري، مثل ليبيا والسودان ([10]).

ثالثاً: الإسلاميون: صمود رغم القمع

تُمثل ثورة 25 يناير 2011 علامة فارقة في تاريخ مصر المعاصر، فقد أنهت 30 عاما من الفساد والاستبداد والتسلط التي كانت سمات عهد الرئيس السابق حسني مبارك، ونجحت في الحد من هيمنة الحزب الوطني على مقدرات الحياة السياسية في مصر، وفتحت المجال لبروز العديد من الجماعات والتيارات للمشاركة في إدارة العملية السياسية في مرحلة ما بعد الثورة.

إلا أن هذا البروز، رغم ما ترتب عليه من إيجابيات أفرز العديد من التحديات، يأتي في مقدمتها كيفية إدارة التفاعلات بين هذه الجماعات، في ظل تصاعد حدة الانقسامات السياسية والفكرية بينها، حتى بين تلك الجماعات التي تشترك في المرجعية الفكرية الواحدة، وخاصة الجماعات والتيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية ([11]).

وهنا يمكن التمييز في إطار دور التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، في الثورة المصرية، بين مرحلتين:

المرحلة الأولى: من الثورة إلى الانقلاب:

جاء أداء القوى الإسلامية في العامين الأول والثاني بعد الثورة، نتاج مفهومها عن الثورة كثورة إصلاحية بما يتطابق مع طبيعة الثورة كثورة شعبية لم يكن لها قيادة منذ البداية، حررت إرادة الشعب، الذي اختار من يمثله وكيف سيُحقق أهداف الثورة، وكشف هذا الأداء عن كونهم القوة الوحيدة المنظمة وذات القواعد العريضة في نظام ومجتمع تآكلت تنظيماته وجماعاته في ظل الاستبداد، كما ترنحت في نهاية عهده أركان الدولة التنفيذية والتشريعية والأمنية”([12]).

وخلال الفترة من ثورة يناير وحتى الانقلاب العسكري، برزت مجموعة من الملاحظات على أداء القوى الإسلامية ([13]):

1ـ وجود ميل شديد للانتقال من النشاط الديني إلى النشاط السياسي، وهو ما يمكن تفسيره بأكثر من سبب، أولها: ضمان عدم إنتاج نظام معاد لهم ولأفكارهم وتوجهاتهم، وحرصهم الشديد على التواجد في كافة مجالات العمل السياسي، وثانيها، الاستفادة من حالة الانفتاح التي خلفها الفراغ السياسي في مصر بعد حل الحزب الوطني الديموقراطي، وثالثها، زيادة فكرة تديين المجال العام ونقل الرؤية الأيديولوجية من المسجد إلى المؤسسات السياسية.

2ـ إن العلاقة بين الأحزاب والتيارات الإسلامية اتسمت خلال هذه المرحلة بالسيولة الشديدة، وهي وإن كانت أخذت أحياناً شكلاً تعاونياً إلا أن الصراع والتنافس كان السمة الغالبة على هذه التفاعلات، فالعامل المحدد لهذه التفاعلات كانت الاعتبارات المصلحية، وليس الانتماءات الفكرية والأيديولوجية.

3ـ إن القوى الإسلامية كانت أكثر رغبة وحرصاً على الانخراط في السياسة الرسمية بدلاً من البقاء خارج أطر وقواعد اللعبة السياسية وذلك مقارنة بنظرائهم في التيارات الليبرالية واليسارية. فهناك تفوق عددي في الأحزاب الإسلامية التي تسعى بقوة للمنافسة على السلطة وملء فراغات المجال العام بكافة أشكاله ومؤسساته.

4ـ وجود انفصال بين شعارات وخطابات القوى الإسلامية من جهة ورؤاهم وسياساتهم العملية من جهة أخرى. وهو ما يعكس في جانب منه ضعف الخبرة السياسية لعدد من هذه القوى وتلك التيارات، بمن فيهم أولئك الذين يمارسون العمل العام منذ عدة عقود.

5ـ كشف الأداء السياسي للقوى الإسلامية عن تراجع في عدد من المقولات التقليدية التي يستند إليها خطاب عدد من هذه القوى، كمقولات المشروع الإسلامي والدولة الإسلامية، وهو ما تم تفسيره بأنه يعكس تراجعاً في رأس المال الفكري والأيديولوجي والإقناعي لدى هذه القوى، وأن اللجوء الكثيف إلى شعار “تطبيق الشريعة”، و”مواجهة المد الشيعي”، والحرص على تضمين دستور 2012 نصوصاً ترسخ الهوية الإسلامية للدولة المصرية، كانت كلها مجرد محاولة لإنقاذ صورة القوى الإسلامية لدى قواعدها الرئيسية ولدى جمهور الناخبين.

6ـ أنه رغم حالة الصحوة السياسية التي عاشتها القوى الإسلامية خلال العامين الأولين بعد ثورة يناير، إلا أن هذه الصحوة لم يصاحبها انتعاشاً فكرياً وثقافياً للخطاب السياسي الإسلامي ومدى قدرته على مواكبة التطورات السريعة التي ولدتها الثورة، أمام سيطرة نزعة الغلبة والهيمنة على إدارة القوى الإسلامية لقضايا التعددية والتفاعل السياسي خلال هذه المرحلة، وهي نزعة تعكس ضعفاً في فهم عدد من هذه القوى لقضايا وأبعاد التحولات الديموقراطية في المراحل الانتقالية، وخاصة تلك التي تكون بعد ثورات شعبية.

7ـ أنه رغم تصاعد بل وكثافة الحديث عن مفاهيم “الأسلمة” و”الأخونة” و”السلفنة/ التسليف”، من الثورة حتى الانقلاب، إلا أن الممارسة الفعلية للقوى الإسلامية كشفت عن وجود العديد من “القيود والحدود الهيكلية” و”التحديات العملية” التي تعترض طريق هذه القوى الإسلاميين نحو إعادة صياغة الدولة والمجتمع والمجال العام وفقاً لتصوراتهم ومنطلقاتهم الأساسية ([14]).

المرحلة الثانية: بعد الانقلاب العسكري

تراوحت مواقف التيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية بين المعارضة الواضحة للسلطة العسكرية والتعرض المستمر لعنفها وممارساتها القمعية، من ناحية، وبين الالتصاق بها بحثاً عن دور وسعياً نحو مكاسب سياسية أو مادية أو طلباً للحماية من التهديد الدائم بالتعقب والقمع، من ناحية.

فقد تعرض الإخوان المسلمون لعنف رسمي ممنهج وقمع أمني متواصل، فتم اعتقال الرئيس محمد مرسي ومعاونوه المباشرون من قيادات الصف الأول من جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وتم زج المئات من قيادات الجماعة إلى السجون، إضافة إلى أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة وحزبها ومن المتعاطفين معها ومن قيادات وعناصر الأحزاب السياسية المتحالفة معها كحزب الوسط، وحزب البناء والتنمية، وغيرهما. وكذلك أعضاء بعض الجماعات السلفية التي قررت، على خلاف الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب النور، معارضة الانقلاب والمطالبة بإعادة الرئيس السابق محمد مرسي إلى منصبه[15].

وبحلول خريف 2013، وباستثناء من تمكن من الخروج من مصر من قيادات الصف الأول لجماعة الإخوان المسلمين، ومن قيادات الصف الأول في حزب الوسط (مثل الدكتور محمد محسوب، وزير الشؤون البرلمانية)، ومن حزب البناء والتنمية (مثل رئيس الحزب طارق الزمر) كان العدد الأكبر من قيادات الصف الأول قد سلبت حريته وأصبح في مواجهة عمليات تقاضي متنوعة.

وتواصلت عمليات توقيف قيادات أخرى بهدف إضعاف جماعة الإخوان وحلفائها تنظيميا وفكرياً، فقامت الشرطة في 1 تموز/ يوليو 2014 بالقبض على بعض قيادات الأحزاب المتحالفة مع الإخوان (منهم: مجدي حسين رئيس حزب الاستقلال، ونصر عبد السلام وصفوت عبد الغني من حزب البناء والتنمية، وحسام خلف من حزب الوسط).

في ظل تغييب الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للقانون وانتهاكاتها الممنهجة للحقوق والحريات، تكررت عمليات القتل خارج إطار القانون إزاء قيادات وأعضاء الإخوان (مثل ما حدث في جريمة قتل النائب البرلماني السابق ناصر الحافي في صيف 2015، وعضو مكتب الإرشاد محمد كمال في خريف 2016)، كما تكررت جرائم التعذيب والإهمال الطبي المفضي إلى الوفاة داخل السجون وأماكن الاحتجاز.

وبجانب العنف الرسمي الممنهج والقمع الأمني المتواصل، وظفت السلطة العسكرية كل أذرعها القانونية والقضائية لحصار جماعة الإخوان المسلمين وكل المعارضين، فقامت بتصنيف جماعة الإخوان جماعة إرهابية، وصدر قرار بحلها من قبل السلطة التنفيذية، وألغيت رخصة حزبها السياسي، حزب الحرية والعدالة، من قبل القضاء الإداري، وشكلت السلطة العسكرية الحاكمة لجنة تنفيذية وليست قضائية لحصر “أموال الإخوان”، وإحالة التصرف بها إلى الحكومة، وتوالت قرارات التحفظ على أموال المئات من المواطنين بدعوى الانتماء لجماعة إرهابية، وأغلقت الأجهزة الأمنية، بقرارات تنفيذية وليس وفقا لأحكام قضائية، وسائل إعلام صحفية وتليفزيونية كانت تتبع الجماعات الإسلامية.

وبين 2013 و2020، نفذت الأجهزة الأمنية عمليات تقاضي سريعة ومتعاقبة ضد قيادات الصف الأول والصفوف الوسيطة للإخوان والسلفيين المعارضين وضد آلاف المعتقلين، وصدرت أحكام سريعة وجماعية بالإعدام والسجن لسنوات طويلة، دون مراعاة لضوابط التقاضي العادل.

وانتقل النظام العسكري من تعقب الجماعات الإسلامية إلى تعقب أي معارض لسياساته من أي تيار، بذات السياقات وبنفس الأدوات، فتم الزج برجال أعمال امتنعوا عن تقديم الدعم المالي “لمشروعاته الكبرى” إلى لجنة حصر أموال الإخوان، وتم الزج بصحفيين ونشطاء إلى محاكمات صورية واتهامهم بالانتماء إلى “جماعة الإخوان الإرهابية”، واستخدمت القوة المفرطة داخل حرم الجامعات للتعامل مع الاحتجاجات الطلابية وأنزلت بالطلاب المحتجين العديد من صور العقاب، بين الاعتقال والفصل من الدراسة أو عقوبات تأديبية أخرى.

ومع استمرار الأزمات والملاحقات، برزت عدة انشقاقات داخل جماعة الإخوان، بين شيوخ وشباب أو بين حمائم وصقور، لكن مثل تلك الانشقاقات والصراعات الداخلية على المناصب والسياسات المتبعة تظل دوما متوقعة الحدوث داخل كيان ضخم ككيان جماعة الإخوان، وتزداد احتماليتها في مراحل القمع والتعقب وفي لحظات الحصار الممنهج من قبل السلطة الحاكمة([16]).

إلا أنه رغم هذه الممارسات استطاعت جماعة الإخوان المسلمين الحفاظ على البقاء، بل وراكمت خبرات استخدمتها في مواصلة معارضة السيسي، من خلال الفضائيات، والمواقع الإلكترونية، ودعم السجناء وعائلاتهم، واستمرت هذه النشاطات لأن خطوط الاتصالات والخطوط الإدارية داخل الإخوان بقيت سليمة، الأمر الذي ذهبت معه “باربرا زولنر” إلى القول إنه لا يمكن وقف هذا التنظيم عبر جدران السجون والمنافي([17]).

وانتهت “زولنر” إلى أن هناك أربعة أسباب بنيوية تفسّر ظاهرة بقاء جماعة الإخوان قوية رغم كل ما تعرضت له من ممارسات خلال 7 سنوات بعد انقلاب 2013:

1ـ هيكليتها التنظيمية الهرمية: فالجماعة استمرت لأن مكتب المرشد العام ومكتب الإرشاد بقيا كمراكز رمزية قوية للقيادة، حتى حين تأقلم التنظيم مع الظروف المتغيّرة، ورغم أن قدرة المرشد وأعضاء مركز الإرشاد على إدارة الشؤون اليومية للتنظيم محدودة، إلا أن إدارة الأزمة واتخاذ القرارات التنفيذية نُقلت إلى قادة موثوقين في المنفى.

2ـ أن كادرها الأعلى كبير ومتنوّع. وهذا يجعل من المستحيل تقريباً على النظام أن يُخضع القيادة برمتها إلى سيطرته، حتى لو استخدم وسائل إخضاع كثيفة. والأهم أن عداء النظام للجماعة أدى إلى ردود فعل معاكسة. فقد أثبتت قيادة التنظيم أن النظام غير قادر على كسر وحدة الجماعة. ولذلك، ربما تكون المشاهد العامة لمحاكمات القادرة المسجونين قد ساعدت على استعادة الاحترام لهذه الشخصيات في أوساط قواعد الجماعة الأكثر ثورية. وهذا يعني أنه على رغم جهود السيسي لتدمير الهيكلية التراتبية للتنظيم، إلا أنها بقيت متماسكة إلى حد كبير.

3ـ تنوّع عملياتها الإدارية التي دُعِّمت بشبكات الاتصال الموسّعة. ففي حين أن الجماعة احتفظت بهيكلية قيادية هرمية، حيث السلطات الرئيسة تعود إلى مكتب المرشد العام ومكتب الإرشاد، إلا أن خطوط الاتصالات التنظيمية الداخلية لم تحذُ بالضرورة حذو الأنماط التراتبية. وأدخلت الجماعة تحسينات على نظام الاتصالات الذي لا يعتمد على نموذج متدرّج من القمة إلى القاعدة، بل يستخدم بدلاً من ذلك قنوات متعددة سمحت للقيادة بمواصلة تدفق المعلومات بشكل متواصل نسبياً. وراكمت الجماعة مهارات تمكّنها من نقل المعلومات بين الأعضاء في السجن والخارج أو في المنفى، من خلال شبكة أفقية معقدة تعتمد على العلاقات الشخصية، وليس على الخطوط العمودية للسلطة.

هذه العلاقات الشخصية تُستكمل بنوع جديد من الإعلام يسمح نسبياً بتأمين نشاط الشبكات، مثل مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات إلكترونية على شبكة الإنترنت، بجانب عدد من القنوات الإعلامية التي تبث من خارج مصر، وبما أن معظم محطات التلفزيون المُرتبطة بالإخوان موجودة في أوربا، ولأنه من الصعب عرقلة المواقع على الإنترنت بشكل شامل، أدركت الحكومة المصرية أنه يستحيل تقريباً منع نشر بيانات قيادة الجماعة أو الأخبار حول الجماعة.

4ـ أن القياديين من ذوي الرتب العالية داخل الجماعة يُمكنهم أن يعملوا بشكل مستقل لأنهم لُقّنوا أيديولوجيا التنظيم، وأهدافه، ودعوته، فضلاً عن البيعة، وتفاني الأعضاء كثيفي التدريب للمثل العليا التي وضعها مؤسس الجماعة حسن البنا، يضمن وجود قواعد تتميّز بالولاء والوفاء، ولا تعتمد في الوقت نفسه على التوجيه من أعلى إبان الأزمات. وهكذا، يستطيع الجسم الأساسي في التنظيم أن يواصل العمل لفترة طويلة من دون تعليمات يومية وتوجيهات إدارية أو أوامر استراتيجية. والضامن الرئيس لبقاء الجماعة هم الأعضاء المُلتزمون القادرون على مواصلة العمل في أحلك الظروف وأصعبها [18].

([1]) نادين عبد الله، بعد 7 سنوات من الثورات العربية: الحركات الاجتماعية في مصر وسوريا بين المقاومة والانحسار والتحول، مبادرة الإصلاح العربي، 31 مايو 2020. الرابط

([2]) يبرز في هذا السياق ما قامت به المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وقدرتها على الإفراج عن قادتها الذين اعتقلتهم السلطات المصرية في نوفمبر 2020، بعد إدارة حملة واسعة من العلاقات العامة الدولية، أفرزت ضغوط واسعة على النظام الذي رضخ للضغط الدولي عليه في هذا الملف

([3]) د. عمرو حمزاوي، عن الحراك المجتمعي الجديد في مصر – مقاومة السلطوية بعيدا عن السياسة الرسمية، بيروت، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، تاريخ النشر 5 نيسان/أبريل 2017، تاريخ التصفح 25 نوفمبر 2020، الرابط: https://carnegie-mec.org/2017/04/05/ar-pub-68583

([4]) د. عمرو حمزاوي، عن الحراك المجتمعي الجديد في مصر – مقاومة السلطوية بعيدا عن السياسة الرسمية، بيروت، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، تاريخ النشر 5 نيسان/أبريل 2017، تاريخ التصفح 25 نوفمبر 2020، الرابط: https://carnegie-mec.org/2017/04/05/ar-pub-68583

([5]) وحدة التحليل السياسي، الموقف المصري عقب الذكري التاسعة لثورة يناير، المعهد المصري للدراسات، 4 فبراير، 2020، تاريخ الزيارة 27/11/2020. الرابط

([6]) احتجاجات الإسكندرية بداية ثورة ضد السيسي، بوابة “الشرق” الإلكترونية، 10 سبتمبر 2020. https://bit.ly/2FN0S9X

([7]) وسام فؤاد، احتجاجات وضع الحدود في مصر، المعهد المصري للدراسات، تقارير سياسية، 23 سبتمبر 2020، تاريخ الزيار 30-11-2020، الرابط https://bit.ly/2ViUJqe

([8]) وسام فؤاد، مصر: المبادرات ـ الركن الثالث أو الموات، المعهد المصري للدراسات، تقارير سياسية، تاريخ النشر 9 يناير 2017، تاريخ الزيارة 17 نوفمبر 2020، الرابط

([9]) وسام فؤاد، مصر: المبادرات ـ الركن الثالث أو الموات، المصدر السابق.

([10]) وسام فؤاد، مصر: المبادرات ـ الركن الثالث أو الموات، المصدر السابق.

([11]) د. عصام عبد الشافي، إدارة التفاعلات بين الجماعات السياسية في المراحل الانتقالية: خبرات وسيناريوهات، القاهرة، المركز العربي للدراسات الإنسانية، نوفمبر 2013.

([12]) د. نادية مصطفى، تقييم الأداء السياسي للقوى الإسلامية.. لماذا الآن؟، شبكة أون إسلام 15_19فبراير 2012. النص متاح على الرابط

([13]) خليل العناني، “حالة الإسلاميين في مصر بعد عامين على الثورة”، صحيفة الحياة، لندن، الأربعاء, 23 يناير 2013.

([14]) خليل العناني، “حالة الإسلاميين في مصر بعد عامين على الثورة”، مصدر سابق.

([15]) شهدت حملات الاعتقال الممنهج عدداً من التواريخ المهمة، من بينها:

(أ) في 3 تموز/ يوليو 2013 ألقت الشرطة القبض على كل من محمد سعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب (مجلس 2012) ورئيس حزب الحرية والعدالة، ورشاد البيومي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، ووجهت إليهما اتهامات عدة بقتل المتظاهرين في الأحداث التي شهدتها البلاد بعد 30 حزيران/ يونيو 2013.

(ب) في 5 تموز/ يوليو 2013، ألقت الشرطة القبض على خيرت الشاطر النائب الأول للمرشد العام ووجهت إليه ذات الاتهامات.

(ج) في 29 تموز/ يوليو 2013، تم القبض على أبو العلا ماضي رئيس حزب الوسط وعصام سلطان نائب رئيس الحزب، بتهمة التحريض على قتل المتظاهرين وإهانة القضاء.

(د) في 20 آب/ أغسطس 2014،38 تم القبض على المرشد العام محمد بديع، وتبعه محمد البلتاجي أمين عام حزب الحرية والعدالة في 29 من ذات الشهر، ووجهت إليهما اتهامات بالتحريض على العنف والقتل في “أحداث رابعة العدوية والنهضة” وبالتخابر مع دول أجنبية.

(هـ) في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، أوقفت الشرطة عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة ووجهت إليه ذات الطائفة المعتادة من الاتهامات.

([16]) د. عمرو حمزاوي، عن الحراك المجتمعي الجديد في مصر – مقاومة السلطوية بعيدا عن السياسة الرسمية، بيروت، مركز كارنيجي الشرق الأوسط، تاريخ النشر 5 نيسان/أبريل 2017، تاريخ التصفح 25 نوفمبر 2020، الرابط: https://carnegie-mec.org/2017/04/05/ar-pub-68583

([17]) باربرا زولنر، البقاء على رغم القمع: كيف استطاعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية الصمود والاستمرار؟، (بيروت، مركز كارنيجي الشرق الأوسط) تاريخ النشر 18 آذار/ مارس 2019، تاريخ التصفح 22 نوفمبر 2020، الرابط: https://carnegie-mec.org/2019/03/18/ar-pub-78605

[18] باربرا زولنر، البقاء على رغم القمع، المصدر السابق.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close