تحليلات

الأزمة الليبية والمصالحة الوطنية

الأزمة الليبية والمصالحة الوطنية

إن المصالحة الوطنية هي مشروع سياسي؛ يهدف إلى استعادة السلم والأمن الاجتماعي في الدولة من ناحية، وإلى المحافظة على الاستقرار السياسي من ناحية أخرى؛ فيكون هدف الدولة الواقعة في أزمات أو حروب للبحث عن الطريقة المُثلى للخروج من الوضع الذي هي فيه؛ فعادةً تلجأ هذه الدولة إلى استيراد الحلول التي وضعتها مثيلاتها من الدول للخروج من أزماتها، إلا أن بعض الدول تُركز على إيجاد الحلول بنفسها انطلاقاً من واقعها، باعتبار أن الحلول المبنية على نجاح التجربة في دولة أخرى ليست بالضرورة أن تنجح في دولتها، وخاصةً أن التجربة هي في الواقع لتحقيق الاستقرار السياسي، ولو كان بأية وسيلة، باعتباره عاملا مهما في الارتقاء بمكانة الدولة داخلياً وخارجياً، وذلك لأن الفرق واضح بل شديد الوضوح بين دولة تتمتع باستقرار سياسي وأخرى تفتقد لذلك، وخاصةً إذا ما كان السبب ناتجا عن الفراغ السياسي، وتدهور الأوضاع الأمنية في داخل الدولة، وتفشي العنف بين أطياف شعبه.

مفهوم المصالحة الوطنية

إن مصطلح المصالحة متعدد الأبعاد من حيث التعريف به، وخاصةً في حالة عدم ربطه بجانب من الجوانب التي تعطيه الصبغة المُعرفة له بحسب الحالة التي تصاحبه في التعريف؛ فمثلاً في مجال علم النفس من خلال مصالحة الذات، وفي المجال الاجتماعي من خلال المصالحة الأسرية، وفي المجال السياسي من خلال المصالحة الوطنية.

حيث إن صفة مصطلح المصالحة هي من أصل كلمة الصُلح، وهذا لِما ورد في أصول اللغة التي تؤسس لكل كلمة بيان، ومعنى، ومضمون، ومفهوم.

تعريف المُصلح في اللغة

هو الشخص الذي يُصلح وينظم شيئاً أو يُصالح ويفض النزاعات، هو الشخص الذي يسعى لحصول المُصالحة بين الأطراف المتنازعة، هو الشخص الذي يحاول بحرص على أن يصل الناس للاتفاق، هو الشخص الذي يُصحح أو يُشير إلى الخطأ، هو الشخص الذي يُلفت الانتباه إلى الأخطاء ويعمل على تصحيحها، هو الشخص الذي يكون سببا للناس في أن يُصبحوا أصدقاء مرة أخرى بعد الشجار، هو الشخص الذي لديه ميل فطري للإصلاح، هو الشخص الذي يقوم بكل ما سلف ذكره دون أي مصلحةً خاصة ينتظرها، أو فائدة شخصية يرتقبها.

وفي التأسيس من صَلُحَ يُصلح أي زالَ عنه الفساد، وفي الأصل الإصلاح ضد الفساد، والحقيقة أن الإصلاح نقيض الإفساد، وأصلح الشي بعد فساده أي أقامه، وأصطلح القوم أي زال ما بينهم من عداوة وشقاق.

إذاً المعنى الرئيسي للفظ الصلح في اللغة هو إزالة الشقاق، وإنهاء الخصومات، ووقف العداءات، وإحلال المودة والوئام، ومن ثم يحل السلام، وإحلال الخير والإصلاح بشكل عام.

تعريف المصالحة في الاصطلاح الشرعي

هي مُعاهدة يُرفع بها النزاع بين الخصوم، ويتوصل بها الخصوم إلى اتفاق بين المختلفين أي بمعنى وقف العنف بين الخصوم واللجوء إلى القواسم المشتركة لتأسيس ما يصبوا إليه الطرفان، وهذا بحسب سبب النزاع أو الاختلاف فمثلاً في حالتنا هذه نقول لتأسيس حكومة وطنية موحدة.

إذاً مضمون المعنى للمُصالَحة هو الاتفاق الذي يعقده المتنازعون ليفضوا نزاعاً قائماً، أو ما إذا كان متوقعاً، بحيث يتنازل أحد أطراف النزاع عن شيء من مطالبه.

تعريف المصالحة في الاصطلاح الإجرائي

هي استراتيجية تنتهجها الدولة من أجل حل النزاع أو الخروج من أزمةٍ ما، والتي قد تصيبها جراء أعمال العنف، أو ما شابهها، وهذا من شأنه أن يُمكن الدولة من استعادة السلم والأمن، والقضاء على الصراعات الداخلية التي يمكن أن تهدد استقرار الدولة.

تعريف المصالحة الوطنية

هي توافق وطني يستهدف تقريب وجهات النظر المختلفة، ورأب الصدع، وردم الفجوات بين الأطراف المتخاصمة أو المتناحرة، حيث إن المصالحة الوطنية في حقيقتها هي السعي المشترك نحو إلغاء عوائق الماضي، واستمراريتها السياسية، والتشريعية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وتصحيح ما ترتب عنها من الأخطاء والانتهاكات، والعمل على القطع النهائي من قِبل الجميع في اللجوء إلى العنف في معالجة الملفات المختلف عليها، والحث بشكل مستمر في النظر بتفاؤل إلى المستقبل، وذلك من خلال التأسيس في الحاضر للبوادر غير المزيفة أو الكاذبة للديمقراطية.

وهي تلك التي تُعد شكلاً من أشكال العدالة الانتقالية التي تكون ضرورية لمساعدة المجتمع على الانتقال من ماضٍ يسوده الانقسام إلى مستقبل يتشارك فيه الجميع؛ بتأسيس المجتمع على أُسس شرعية، وقانونية، وتعددية ديمقراطية في ذات الوقت، كما أنها وسيلة من وسائل حل الخلافات، والمنازعات، والأزمات بين الأشخاص والأطراف، وحتى الدول في إطار ودي وسلمي، حيث تمتاز عن غيرها من الوسائل الرسمية لتسوية الخلافات وحل المنازعات، بأنها الأكثر بساطة ورشادة من حيث التكاليف، والجهود، والوقت، والفعالية، والشمولية، ومن حيث جذرية الحل أيضاً، حيث تُعد أيضاً بأنها قرار سياسي عقلاني يحظى بقبول غالبية الشعب، لأنها تهدف إلى تحول ديمقراطي يساهم بشكل فعال في بناء دولة تحترم حقوق الإنسان، وهنا نجدها تندرج كسياسة ضمن الاستراتيجيات العامة للدولة.

وبطبيعة الحال لن يتمكن هكذا مشروع من بلوغ النجاح إلا إذا توفرت له شروط، منها؛ وجود الحُكماء، والُنزهاء، والأكفاء، والعادلين، والمقبولين، من قِبل مجموع أطراف النزاع، وقبول الأطراف المتنازعة الجلوس إلى بعضهم جلسة الند للند، وإظهار القابلية الحقيقية للإصغاء النشيط للآخر، وتحديد الغايات البعيدة من المصالحة وأهدافها المرحلية، وتدقيق بنود هذه الأهداف، وجدولة إجراءاتها بحسب الزمان والمكان المُعين لها، وتحديد المعتدي والمعتدى عليه، ومراجعات كل منهما، وربط المصالحة بالإصلاح الشمولي مع العمل سوياً من أجل ضمان عدم تكرار الاعتداء المعني وعدم التساهل، سواءً في الحاضر أو المستقبل، مع باقي الاعتداءات الممكنة على حقوق الناس وحرياتهم.

المصالحة الوطنية بين النظرية والواقع في ليبيا اليوم

إن المصالحة الوطنية لم تنجح، ولم تتحقق بالرغم من تبنيها كشعار، لأنها انحسرت في فكرة المستوى النظري على كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، بالرغم من جهود الصُلح التي تُبذل فيما بين بعض المناطق بين الحين والآخر.

فعلى الصعيد الوطني والقومي والرسمي، ظلت المصالحة بنداً أساسياً ضمن خطابات النخبة السياسية داخل دوائر صناعة واتخاذ القرار، لكنها لم تتحول عند هذه النخبة إلى مشروع متكامل الأركان على المستوى العملي، حيث لم يتم تفعيله على كافة المستويات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، من خلال تبنيه كبرنامج وطني توظف له كل الإمكانيات، وتوفر له كافة ضمانات النجاح.

المصالحة الوطنية من حيث النظرية

إن أهمية المصالحة الوطنية بخلاف العفو والمسامحة، لأن المفهومين يختلفان في المنطق القانوني، فالأول هو أن المصالحة الوطنية تعني التوصل إلى تسوية أو وفاق، والثاني يعني بلغة بسيطة جداً أن المسامح كريم أي بمعنى الاعتذار والتقبل.

وحتى يقبل المواطن بمشروع المصالحة الوطنية؛ يجب أن ينهض المُبادرون بالمصالحة عن الكراسي السيادية والشرفية، للجلوس على الأرض، حتى تُبعث الثقة في المواطن البسيط لأنها قضية محورية وضرورية، ولها ضوابطها، وقواعدها، وقوانينها، وهي حاجة ضرورية وعنصر حيوي لإعادة الوئام الاجتماعي والسلم الأهلي، كما أنها معنية بكل أبناء الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية، ودرجة تعليمهم أيضاً أي بمعنى ليست مجرد لقاءات إعلامية، أو بيانات سياسية، أو أطروحات نظرية لأن طرح مشروع المصالحة الوطنية يجب أن يستبقه خطة أمنية تستهدف تحقيق الاستقرار ووقف النزيف في البلاد، لتوفير الأجواء والأرضية الصالحة للبدء بحوار جاد وفعال، وبمنهجية مغايرة، وترك اللون السياسي جانباً وهذا لم نجده واضحاً في معظم الدول التي طرحت مشروع المصالحة الوطنية بأجندةٍ سياسية، ولم تفلح فيه.

إذاً الأمر الوحيد الذي يجدي نفعاً هو مشاركة كافة قطاعات المجتمع كمشروع شامل لا تتبناه فئة معينة، بل من الضروري إنشاء فريق المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، وهيئات مدنية تجمع مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، حيث تكون فاعلة تعكف إلى التعارف والتقارب وقبول الأخر، فالتواصل الاجتماعي هو ركيزة من ركائز المصالحة الوطنية، وواحد من أهم عناصر تجنب عوامل التباعد والتناحر وتخفيف حدة الاستقطاب، وما دون الوطنية كالعشائرية والقبلية والطائفية، كما أنه القوة المعنوية التي تحطم حاجز الجليد بين المكونات الاجتماعية المختلفة أي كُلما كان المجتمع المدني يتمتع بالتنوع والتعدد والاتساع والقدرة على الانتشار داخل المؤسسات التعليمية، والدينية، والثقافية، كان قادراً على لعب أدوار هامة في إنقاذ الوطن، وصيانة وحدته، وتحقيق المصالحة بين أبنائه، حيث له تأثير يضاهي أحياناً دور القوى والتيارات السياسية المكبلة بأجنداتها الحزبية وأيديولوجياتها الفكرية، حيث لا تلعب الأحزاب السياسية دورا كبيرا في تحقيق المصالحات الوطنية لانشغالها غالباً بقضاياها الكبرى باستنفاذ طاقاتها في بناء التجاذبات السياسية.

بحيث يكون الشعار في المرحلة القادمة الوطن لكل المواطنين سواءً بسواء، لهم نفس الواجبات ونفس الحقوق، هذا هو المنطق الذي يحكُم صلب المصالحة الوطنية لأنه يُعيد الحقوق لأصحابها، ويُعلي من شأن المواطن، ويُكرس الوطن كحاضن وجامع وحامٍ للجميع دون استثناء.

فالتغيير في السياسيات والإصلاح وحده لا يكفي للانتقال إلى حالة الاستقرار والأمن الاجتماعي، إذ تشكل المصالحات الوطنية إجراءً ضرورياً وحاجة مُلحة لإتمام الانتقال والتغيير في البلاد.

حيث إن المصالحات الوطنية في العالم قد شكلت دوماً منعطفاً يُهتدى به، وكسبت تقدير واحترام الأمم والشعوب على السواء، وهذا لِما تُمثله من قيم الانتصار على الذات، وتغليب المصلحة الوطنية والعامة على الأهداف والمصالح الخاصة بالأفراد والجماعات، حيث إن هذه التجارب التي مرت بالعالم قد وضعت خارطة طرق واضحة لأي شعب يقف على مفترق الطرق، ويرغب أبناؤه في الولوج للمستقبل وهم أكثر ثقة بأنه سيكون أكثر حرية وعدالة، إلا أن كل تلك التجارب الخاصة بالمصالحة الوطنية على الصعيد العالمي تُشير إلى أنه ليس هناك شكل واحد باستطاعته تحقيق المصالحة الوطنية في دولة ما، وأن السياق الخاص بكل واقعة، أو حادثة، أو أزمة، أو ثورة، يختلف عن السياق الآخر، ولهذا لنا أن نأخذ بعض الأفكار المؤسسة لتلك الدول في مجال المصالحة الوطنية مع مراعاة اختيار وسائل متعددة أو مختلطة تصور المضمون الذي ترمي إليه المصالحة الخاصةِ بنا، وذلك للاختلاف العادات والتقاليد والأعراف المعمول بها في داخل نسيجنا الاجتماعي.

المصالحة الوطنية من حيث الواقع

في الواقع إن تجربة المصالحة الوطنية ظلت حقلاً مفتوحاً لجهود مجموعات وأفراد خيرين صدقوا النوايا وبذلوا جهوداً جبارة، إلا أنهم لم يحصدوا ثمار عملهم نتيجةً لإشكاليات كانت دائماً ما تواجههم في استمرار تحقيق بنود المصالحة التي توصلوا إليها، وهذا بالرغم من أهمية هذه الجهود في وقف العنف وإيقاف نزيف الدم وتسهيل الحياة العامة لسكان في تلك المناطق التي استطاعوا الوصول لاتفاق فيها، إلا إنها لم تكن ضمن خطة وطنية شاملةً في هذا الإطار، كما أنها اعتمدت على مسار وحيد من مسارات المصالحة، وبالتالي لم تتطور إلى وضع إنساني إيجابي، بل تعرضت للانتكاس بعد الاتفاق على الصلح.

وهذا لأن الصلح ليس مطلبا حقيقيا لأبرز الأطراف السياسية والعسكرية حتى هذه اللحظة، وما يزال رهان تلك الأطراف على تغيير المعادلة السياسية والأمنية من خلال تدافع القوة المادية، وليس بالحوار الجاد الشامل المباشر الذي يضع على الطاولة كافة نقاط النزاع الرئيسية كالثروة والنفوذ، وضمان توزيعها بشكل مُرض، لضمان استمرار ما تم الاتفاق عليه.

أما عن واقعنا الحالي وبتجرد من عاطفة الانتماء، ووصلاً بتجارب الماضي في الصلح الاجتماعي، يتبين بأن المصالحة الوطنية في حد ذاتها سواء كانت بصفتها المجتمعية أو بصفتها الشاملة في شكلها الحالي، قد انحرفت من كونها وسيلة لتصبح غاية، حيث إنها تقف عند عقبات عديدة أهمها غياب ضمانات التنفيذ وحسن النوايا وهو ما سبب في فشل جُل المحاولات التي استقت معاييرها من العرف الاجتماعي، وهذا لأن الوضع الحالي في ليبيا الآن مختلف تماماً، والمسار التصالحي ذو الطابع التقليدي لن يصل إلى حل مجتمعي شامل لعموم الوطن أي بمعنى مصالحة وطنية تُرضي كِلا الطرفين المتضرر والمتسبب في الضرر.

كما نستطيع القول؛ بأن كافة تلك الجهود من الخيّرين الذين صدقوا النوايا وبذلوا جهوداً جبارة التي اتخذت من المصالحة الوطنية هدفهاً، إلا أنها قاصرة عن بلوغ المصالحة الوطنية الشاملة حتى الآن، وما حققته ﻻ يعدو إلا جزءاً بسيطاً من الحل في أزمة وطنية كبرى، وهذا بسبب أنه لم يعد الأمن والسلم الاجتماعي، والاستقرار، وعودة المهجرين والنازحين في الداخل والخارج إلى حياتهم الطبيعية في مُدنهم في كافة ربوع ليبيا، وأيضاً إشكاليات انتشار السلاح والمخدرات، وانهيار القيم الأخلاقية، وتعدد التيارات المتطرفة والمتشددة.

حيث إن إشكالية ما سلف الذكر فيه حول مقومات المصالحة تكمُن في تطبيقها على المستوى العملي، فهي تظل أسيرة النظرية، لاصطدامها بالواقع المظلم ومعوقاته العديدة لتصبح ضرباً من التمني؛ فبعد مرور 8 سنوات تقريباً نجد أن بلدنا لم تخطو خطوة واحدة حقيقيّة باتجاه المُصالحة الوطنية الشاملة، بل يزداد الوضع تأزُماً يوماً بعد يوم، بل تتفاقم أحداثه حدثاً بعد آخر، وخاصة أن الوعي المجتمعي للثقافة الليبية اليوم لا يُعول عليه كثيراً، فهو وعي تُسيره العاطفة، ويتبع الأوهام، ويجري مُتلهفاً خلف الإشاعات، وعي يزدري العقل ويفتقر للصقل، فضلاً عن محدودية تأثير مؤسسات المجتمع المدني مِما يحول دون الاستفادة الجيدة منها من حيث التوعية، والتثقيف، والتطوير.

أيضاً من التحديات التي تواجهها المُصالحة هو خطر تسيسها واستمرار الحرب الحالية (الشرق والغرب)، وتزايد أعداد النازحين والمُشردين في الداخل والخارج، وكذلك الفُرقة السياسية، حتى أصبحنا دولةً داخل دولة، أما أخطرها وأكثرها تهديداً انتشار السلاح، والتطرف الديني السلوكي جُذوراً وامتداداً وتشعباً.

كما لا نجد أبسط من أول خطوة في الإصلاح والتي تتمركز في إمكانية تقديم تنازل ضروري من أجل المُضي قُدماً، لأنه لا توجد مُصالحة فعالة بين طرفين دون تقديم تنازلاتٍ حقيقيّة تدفعها الرغبة العازمة بصدق للمُصالحة، وهذا يتبين من الحقيقة المُثلى في أن الأحقاد لا تبني الدول، والظلم لا يُقيمها، والتمني لن يُصلحها.

خــاتــمـة

مما سبق يمكننا القول إن المصالحة الوطنية هي مشروع سياسي بالدرجة الأولى، وهذا لِما لهذا المشروع من دور حيوي وفعال في تحقيق الاستقرار المجتمعي بصفة عامة، واستقرار سياسي بصفة خاصة، وهذا لدورها الفعال في الحفاظ على هذين النوعين من الاستقرار، ولتحقيق ذلك يجب على الدولة المتمثلة في أياً من حكوماتها اليوم بتوفير مجموعة من الشروط والعوامل، فإذا أحسنت الدولة كيفية توفيرها وإدارتها، فسيكون هذا سبباً في نجاح المصالحة الوطنية لتتحقق الأهداف المرجوة منها، والتي من شأنها أن تحقق الاستقرار السياسي، والذي بدوره يضفي حالةً من السلم والطمأنينة للمواطن البسيط، والذي يسري عبره إلى الأسرة، ومنها إلى العائلة، ومنها إلى القبيلة، حتى يصل إلى المنطقة؛ ليعم المدينة فيحظى به عموم المجتمع.

إلا أن هذا النجاح يتوقف على مدى استعداد الأطراف المتنازعة للدخول في المصالحة، وتقديم التنازلات والتضحيات من أجل إنجاح مشروع المصالحة الوطنية؛ بعمل وطني شامل يتجاوز سلبيات الحروب، وتصفية الحسابات، حيث ينأى بالبلد عن الصراعات السياسية والأيديولوجية في تأثيره على السلم الاجتماعي، والتنمية، والاستقرار، والوحدة الوطنية، إلا أن ذلك كله لا يتوفر بشكل سليم إلا بضبط الحالة الأمنية، وإنهاء فوضى السلاح، وبناء الجيش والشرطة على أُسس وطنية بحتة دون أي توجه أو تأويل، ومنها يتم الدفع بعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي إلى الأمام، والذي تحتاجه البلد في يومنا هذا بشكل عاجل وحثيث؛ لتستطيع الانتقال إلى مرحلة التوافق والانسجام.

وأخيراً وليس آخراً، بعد أن تقدمت باليسير في هذا المجال الواسع “مشروع المصالحة الوطنية”؛ نخلص ببعض التوصيات التي من شأنها أن تكون لبنة أساس لمشروع طريق مستقبلي مطلعه النور والتآخي والاستقرار.

توصيــات

  1. إقامة حكومة قوية ومتجانسة ومستقرة؛ تحظى بالقبول المجتمعي كافة، على أن تقام هذه الحكومة وفق أُسس ديمقراطية صحيحة وسليمة.
  2. تأسيس وبناء قوات وطنية مسلحة تسليحاً جيداً يتناسب مع حجم الواقع الموجود على الأرض، وخاصةً أنها في مواجهة بيئة إقليمية مضطربة، وأيضاً قوات أمنية قوية ومجهزة تجهيزاً يتناسب والمرحلة الحالية، على أن يكون ولاء هذين المكونين لله وحده، ثم الوطن، ثم المواطن، وليس لأي توجه سياسي أو قبلي أو مناطقي.
  3. صياغة مشروع المصالحة الوطنية بمنهج ولغة قانونية؛ ليضمن مشاركة فاعلة لممثلين عن النُخب الثقافية والاجتماعية والدارسين والباحثين في الشأن الداخلي، ومؤسسات حقيقية للمجتمع المدني، في هيئة عُليا لمشروع المصالحة الوطنية، وعدم اقتصار الأمر على عقد المؤتمرات التي لا تحوي الجميع، ولا يؤخذ بتوصياتها حتى عذراً فقط لأن المرحلة جدُ خطيرة في الوقت الراهن.
  4. تضمين اتفاق لصياغة مشروع المصالحة الوطنية بخصوص حل المجموعات المسلحة ونزع السلاح وحصره بيد السلطة التنفيذية فقط، وتفعيل قانون الحد من السلاح، وتلتزم الحكومة الوطنية الموحدة بتنفيذه فور مباشرة عملها.
  5. تأسيس جهاز رقابي من الخبراء في الشؤون الدولية والمحلية من أهل المعرفة بحقيقة النسيج الاجتماعي الليبي، وذلك لمتابعة عمل الهيئة من جهة، وفي رجوع تلك الهيئة لهم في طلب أي مشورة من جهة أخرى.
  6. توفير اعتراف رسمي بشأن الوقائع التي شكلت انتهاكاً لحقوق الإنسان والإقرار بمبدأ محاسبة مرتكبي الجرائم والمتسببين في إهدار حقوق الأبرياء، ويتم ذلك بشكل تصالحي يشمل كافة الجوانب السياسية والاجتماعية.
  7. توفير الدعم المادي والمعنوي للأشخاص والأهالي المتضررين من عمليات العنف، بحيث يكون هذا التعويض مبدأ رسميا مُقررا ويُعمل به.
  8. العمل بشكل جدي وفعال في بذل كافة الجهود لأجل الكشف عن جميع المختفين والمفقودين وتحديد صور اختفائهم، والتكفل بعائلاتهم ومساعدتهم في العثور على ذويهم.
  9. وضع حلول سلمية للمنازعات، على أن تكون هذه الحلول مُرضية لجميع الأطراف المتنازعة، وقادرةً على الوفاء بحاجاتهم الأساسية، والاستجابة لتطلعاتهم الجوهرية، لأنه من الممكن أن تكون لكل طرف حاجاته التي يعتبرها مبرراً لرفضه الصلح، كما أن التنازل عنها بالضغط أو الضعف لا يعتبر إعاقةً للمصالحة فقط بل يُعد تمهيداً لنزاع آخر في المستقبل القريب.
  10. دعم المؤيدين لمسار المصالحة الوطنية من أفراد وجماعات ومنظمات بهدف إقناع المترددين أو المعارضين بأهمية المصالحة الوطنية، وأنها هدف وطني لابد من بلوغه، وهذا من شأنه أن يُنتج مقاربة فعالة لتمتين العلاقات السليمة بين أعداء الأمس.
  11. تجنيد المؤسسات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وأيضاً مؤسسات المجتمع المدني لدعم المصالحة الوطنية من جهة، وأيضاً للعمل في مجال التعليم السليم للنشء الجديد للحد من تفاقم الضغائن والفتن في المستقبل من جهة أخرى.
  12. بناء وتأسيس إعلام موضوعي ومحايد، يساهم في إشاعة روح التسامح ونبذ العنف ونشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي، واحترام الرأي والرأي الآخر، ودعم مشروع المصالحة الوطنية، ويلتزم بالثوابت السياسية السليمة والاجتماعية والثقافة الوطنية.
الوسوم

خالد التومي

أكاديمي ليبي، دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية، باحث بالمركز القومي للبحوث والدراسات العلمية، طرابلس

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى