نقصد بالتعدد في هذه المقالة تنوع الحركات والفصائل العاملة للإسلام واختلافها في بعض المسائل الفقهية أو الأساليب الدعوية أو المناهج الحركية. وكذلك تعدد الحركات السياسية الساعية لإقامة النظام الإسلامي في الحكم وإدارة الشأن العام. ونقصد بالاختلاف ما لم يكن في الأصول والقطعيات المجمع عليها التي لا تقبل الخلاف بطبيعتها، والتي يمثل إثارة الخلاف حولها بدعوى الاجتهاد نوعا من الهدم للثوابت، ويشمل الاختلاف هنا تعدد الآراء في الفروع الفقهية وتعدد الاجتهادات الفقهية في النوازل، واختلاف التقديرات للمصلحة فيما كان مبناه على تقدير المصلحة ونحو ذلك مما يتسع بطبيعته للتعدد والاختلاف.
أولاً: مقدمات تأسيسية:
هذا المقال يأتي في إطار سلسلة مقالات “كيف يصير العاملون للإسلام في خندق واحد” وسأحاول فيه أن أجيب عن سؤال التعدد في الحقل الإسلامي، وهو سؤال مركزي مهم بغير شك، وقبل الدخول إلى صلب الموضوع لا بد من استحضار المقدمات الآتية:
المقدمة الأولى التعدد سنة كونية:
يمثل التعدد والتنوع قانونا إلهيا حاكما لكل مظاهر الخلق، بحيث تبقى الوحدانية والأحدية وصفين خاصين بالله تعالى يتفرد بهما دون سائر خلقه، ولا ينازعه فيهما أحد من خلقه.
فالتعدد والاختلاف والتنوع والتباين سمات لازمة لكل المخلوقات لا تنفك عنها، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119] وفي الآية من الفوائد الجلية ما يأتي:
1- دلت على أن الاختلاف في أصله إرادة إلهية، ولو شاء الله أن يرفعه ابتداء لرفعه ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة﴾ ولو رفع الله الاختلاف في الخلق لفسدت الأرض التي أبدع الله نظامها منذ النشأة الأولى على مبدأ التعدد، وجعل هذا التعدد مفضيا إلى التكامل ليكون مظهرا من مظاهر الحكمة الإلهية في الخلق.
2- هذا الاختلاف باق ببقاء الحياة ولا يمكن دفعه أو إنهاء وجوده بحال من الأحوال: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾، ومن أراد في مواضع السعة أن يحمل الناس على حرف واحد فقد رام محالا وضيّق واسعا. والسلوك البشري هو الذي يوظّف هذا التعدد بشكل صحيح فيثمر التكامل والإصلاح للحياة وحسن عمارتها، أو يسيء توظيفه فيتحول إلى شر مستطير وفساد عريض.
3- كما أن هذا الاختلاف الطبيعي كاشف عن بعض حكم الله في خلقه ﴿ولذلك خلقهم﴾ خلقهم ليختاروا في كل أمر بين خيارات عديدة ويتحملوا مسؤولية اختيارهم، ولولا مبدأ التعدد لما كان ثمة موضع لمبدأ الاختيار الذي أقام الله عليه الحياة البشرية.
المقدمة الثانية: اتساع دائرة التعدد:
هذا التعدد في الخلق هو الأصل الغالب، وهو يشمل الألسنة واللغات واللهجات والألوان والأنساب والأفكار والعقائد والعادات وكل ما هو بشري، فالحياة البشرية لا تعرف النماذج المتطابقة ولا النسخ المكررة وحتى داخل التيار الواحد وداخل المدرسة الفكرية الواحدة وداخل البيت الواحد سيبقى قانون الاختلاف ساريا ومؤثرا، ودائرة المتفق عليه في كل مجال هي الدائرة المحصورة المحدودة، أما دائرة الاجتهاد وتعدد الآراء فهي الدائرة الواسعة الرحيبة التي تتمدد كل يوم بتمدد النشاط الإنساني.
المقدمة الثالثة: الخلاف البشري لا يعرف الكلمة الأخيرة:
لا بد من إدراك أن الصواب المطلق لا يملكه على وجه الكمال إلا صاحب العلم المطلق والقدرة المطلقة والبقاء المطلق – سبحانه وتعالى- وكل فعل أو وصف منسوب للبشر محكوم عليه باحتمال الخطأ إلا ما كان مصدره الوحي القطعي، وهو يستمد قطعيته من مصدره لا من متلقيه، أما الاجتهادات البشرية فهي تصدر استجابة لواقع متحرك وظروف متغيرة، وما يناسب ظرفا أو يلائم عصرا أو يخاطب بيئة قد لا يصلح لعصر مختلف أو بيئة مغايرة.
المقدمة الرابعة: الغاية من الاختلاف والتنوع:
يدلنا القرآن الكريم على أنه ثمة مقاصد كبرى للتنوع تتمثل في التعارف والتكامل والتنافس في العمل الصالح يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]
كما أن من مقاصد التنوع: التنافس والتدافع، يقول تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251] هذا التدافع الذي يصلح الأرض ويؤدي إلى عمارتها ويمنع عنها فساد الركود الطويل وفساد الانفراد بالسيطرة وفساد السلطة المطلقة.
والتنوع في ذاته ليس شرا لكن المُشكل يكمن في كيفية إدارته والتعامل معه والاستفادة منه ما أمكن، فالقبائل والأعراق المختلفة إما أن تكون بابا للتعارف والمصاهرة والتكامل أو تكون سببا للحروب والثارات التي لا تنتهي، والمذاهب الفقهية والمدارس الفكرية والحركات الدعوية إما أن تكون مشاريع صراع أو أن تكون وجوها متعددة لحقيقة واحدة متكاملة، والحركات السياسية الإسلامية إما أن تكون جداول تصب في نهر واحد وإما ان تكون أشبه بالشركاء المتشاكسين يعطّل بعضهم بعضا وتستغرقهم المعارك الجانبية عن معركة شعوبهم الكبرى وواقع أمتهم المرير.
المقدمة الخامسة: ليس كل الاختلاف خيرا:
من المهم أن تكون دائرة ما يقبل الخلاف وما لا يقبل واضحة متفقا عليها حتى لا تؤدي العصبية إلى مفارقة الأصول أو رد الحق لكونه صادرا عن الخصوم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة: 253] وكما أن رفض الخلاف في مواضع الاجتهاد فإن الاختلاف في الأصول والثوابت هدر للدين وهدم للدنيا.
ثانياً: القواعد الناظمة للتعامل مع ظاهرة التعدد:
1- الاختلاف المنضبط ظاهرة صحية وهو الأصل الموافق لسنن الله في خلقه، وقد اختلف الصحابة في عديد المسائل والمواقف الفكرية والفقهية والدعوية والحركية وكانوا من الوعي وحسن الفهم بحيث استوعبوا طبيعة هذه الخلافات وتقبلوها بصدور رحبة واتخذوها فرصة لتمحيص الآراء واستجلاء الحقيقة مع وفرة المحبة والتوقير فيما بينهم، وشواهد ذلك لا تحصى.
بل إن اجتهاد نبي الله سليمان في قضية الغنم التي نفشت في حرث القوم خالف قضاء أبيه الذي علمه وأدبه، قال الله تعالى ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 79] فلئن اختلفت تقديرات الأنبياء للمسألة الواحدة وهم في الفضل على مرتبته العليا فاختلاف من سواهم أوسع وأبلغ.
2- الاختلاف المنضبط في الفقه والفكر والدعوة والسياسة نعمة ربانية على هذه الأمة وهو من رحمة الله بها، فهذه الاختلافات ثروة تشريعية وبدائل قانونية وخيارات فقهية وسياسية تتميز بها الأمة: ” روى عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد من غير وَجه أَنه قَالَ لقد وسع الله على النَّاس باخْتلَاف أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي ذَلِك أخذت لم يكن فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْء. وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: مَا أحب أَن أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَخْتَلِفُوا؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ قولا وَاحِدًا كَانَ النَّاس فِي ضيق، وَإِنَّهُم أَئِمَّة يقْتَدى بهم، وَإِذا أَخذ الرجل بقول أحدهم كَانَ فِي سَعَة. “ [1]
3- الاختلاف ليس واقعا -ولا يجوز له أن يقع- في أصول الدين ولا قطعياته الكبرى وإنما هو حاصل في الفروع التي اختلف السلف فيها أو في نظائرها: “فالاتفاق كامل بين الأئمة في عقيدة المسلم التي تقوم على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، والاتفاق كامل في أركان الإسلام من الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، والإجماع على صحة القرآن الكريم ونقله بالتواتر، وأنه كلام الله تعالى، وأنه حجة على المسلمين دون اختلاف على حرف واحد منه، ولا نزاع في حجية السنة، وأنها مبينة لكتاب الله، ومصدر أساسي في التشريع، ولم ينكر ذلك إلا من خرج عن الإسلام وفارق الجماعة، وأما الاختلاف في الإجماع والقياس فهو على نطاق ضيق مع الاتفاق عليهما بين أهل السنة والجماعة.
وهذا الاتفاق على الأصول العامة هو من فضل الله تعالى على هذه الشريعة التي أنزلها خاتمة الشرائع والرسالات، وتكفل بحفظها إلى أن يرث الأرض ومن عليها، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
وأما الاختلاف في الفروع الفقهية، والأحكام التفصيلية فلا يضر بالأمة ولا يؤثر على كيانها وسمعتها ووحدتها، بل هو علامة على خلودها وصلاحها” [2]
4- لا إنكار في مواضع الخلاف: لقد استقر الفقه الإسلامي على أن الإنكار يكون في مخالفة المتفق عليه، وأن ما اختلف فيه السابقون اختلافا معتبرا يسع فيه اللاحقين ما وسع أسلافهم، يقول سفيان الثوري: “ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به .” [3]، ويقول النووي -رحمه الله-: “ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه أما المختلَف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب. وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم. ” [4]
5- الاختلاف له أسبابه الموضوعية التي لا يمكن تجاوزها ولا تجاهلها والتي تفرض علينا تقبل الخلاف، وقد بسطها الأئمة في كتب الاختلاف، ومردها من وجه إلى مساحة العفو التي تركها الشرع قصدا لتكون ميدانا للاجتهاد والتحري وقد روى أَبو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ لَكُمْ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَكَلَّفُوهَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكُمْ فَاقْبَلُوهَا» [5]
ومردها من وجه آخر إلى الاختلاف الواسع بين بني البشر، يقول الشيخ علي الخفيف: “ذلك أن عادات الناس مختلفة، وأعرافهم متعددة، وأعمالهم متنوعة، وآراءهم متعارضة، وأنظارهم متفاوتة، ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]، وإذا اختلفت المقدمات اختلفت النتائج” [6]
6- الله -تعالى شأنه- لم يأمرنا بالتقليد المطلق لأحد غير رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بل إن من خصائص المنهج الإسلامي تحرير العباد جميعا من سلطان رجال الدين، فهم مهما بلغوا من العلم لا يحتكرون الحقيقة ولا يقدمون آراءهم للأمة إلا مقرونة بأدلتها ومعروضة للتقييم والنقاش عبر مئات السنين، فالإسلام: ” قدر قيمة العقل والفكر، وأطلق عنانه من قيود التبعية والتقليد، ومنحه القدرة على رفض الذيلية والخضوع لطبقة معينة تسمى رجال الدين أو رجال السياسة … ولم توجب الشريعة إلزام المسلم برأي معين إلا ما أوجبه الله تعالى. [7]
ولئن ظهر في بعض أجيال الأمة شيء من التعصب للمذهب أو للإمام فذلك محمول على الخطأ ومخالفة النهج القويم يقول ابن تيمية :” وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَعَوَّدَهُ وَاعْتَقَدَ مَا فِيهِ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ،وَتَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ. بِحَيْثُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَبَيْنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، أَوْ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُقَلِّدَةِ النَّاقِلِينَ لِأَقْوَالِ غَيْرِهِمْ، مِثْلُ الْمُحَدِّثِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا، وَالنَّاقِلُ الْمَحْمُودُ يَكُونُ حَاكِيًا لَا مُفْتِيًا.” [8] وقد كانت أزمة الأمة ولا تزال في أولئك “الحكَّائين” الذين لا حظ لهم من الفقه ولا قدرة لهم على الاجتهاد وهم مع ذلك يخاصمون ويجادلون في مسائل لا يدركون مناط الحكم فيها ولا وجه الدليل!
يقول الشاطبي -رحمه الله-: “وَمَعَ أَنَّ اعْتِيَادَ الِاسْتِدْلَالِ لِمَذْهَبٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا يُكْسِبُ الطَّالِبَ نُفُورًا وَإِنْكَارًا لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مَذْهَبِهِ، مِنْ غَيْرِ إِطْلَاعٍ عَلَى مَأْخَذِهِ؛ فَيُورِثُ ذَلِكَ حَزَازَةً فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْأَئِمَّةِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَضْلِهِمْ وتقدمهم في الدِّينِ، وَاضْطِلَاعِهِمْ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ وَفَهْمِ أَغْرَاضِهِ” [9]
7- الاختلاف في الفروع لا يمنع التعاون في الأصول:
الأصل في أمة الإسلام التعاون والتواصل كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2] ويقول عز وجل : ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]
فالاختلاف في بعض المواضع لا يعني الضدية ولا يعني التنافر، قال الراغب الأصفهاني: “الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد، لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين. أي إن السواد والبياض مثلاً ضدان مختلفان، أما الحمرة والخضرة فمختلفان غير ضدين. والخلاف يحمل معنى الضدية، ومعنى المغايرة مع عدم الضدية” [10] ولا يصح شرعا أن يعامل المخالف في الاجتهاد معاملة الضد في الاعتقاد.
8- آفة التعصب الكبر والغرور، وأضر شيء على المسلم أن يغتر بنفسه حتى يزكيها ولا يرى عيوبها ويفترض في طريقته الصواب المطلق، وكلما ازداد الإنسان رسوخا في العلم ازداد تواضعا وإدراكا لحق غيره في الاجتهاد، ولله در الشافعي إذ يقول:
كُلَّما أَدَّبَني الدَهـ رُ أَراني نَقصَ عَقلي
وَإِذا ما اِزدَدتُ عِلماً زادَني عِلماً بِجَهلي
ومن ثم يجب تربية طلاب العلم على التواضع والرفق بالمخالف ونبذ الغرور والكبر، وامتحانهم في ذلك وقد حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتهام النفس تأدبا والتماس الأعذار للناس تلطفا، كما أمرنا بالرفق والأناة في سائر الأمور، وأولى الناس بالرفق إخوانك في الدعوة إلى الله والعمل لدينه، وفي الحديث عن جرير بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على الخَرَقِ، وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا أعطاه الرِّفقَ، ما من أهلِ بيتٍ يُحرَمونَ الرِّفقَ إلّا حُرِموا”[11]، وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” من أُعطِيَ حظَّه من الرِّفقِ فقد أُعطِيَ حظَّه من الخيرِ ومن حُرِمَ حظُّه من الرِّفقِ؛ فقد حُرِمَ حظُّه من الخيرِ. أثقلٌ شيءٍ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ حُسنُ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ لَيبغضُ الفاحشَ البذِيءَ”[12]
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه نَشَرَ اللهُ عليه كَنَفَه، وأَدخله الجنةَ: الرِّفْقُ بالضعيفِ، والشفقةُ على الوالدينِ، والإحسانُ إلى المملوكِ.”[13]
9- التعصب للإمام أو الرأي أو الجماعة أو الحركة … من اتباع الهوى المذموم الذي يورد صاحبه المهالك، والجهد البشري مهما كان متقنا لا يخلو من خطأ ولا يسلم من احتماله، “قال المزني قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة فما من مرة إلا وكنا نقف على خطإ فقال الشافعي: هيه أبى الله أن يكون كتاب صحيحا غير كتابه فالمأمول ممن وقف عليه بعد أن جانب التعصب والتعسف ونبذ وراء ظهره التكلف والتصلف، أن يسعى في إصلاحه بقدر الوسع والإمكان، أداء لحق الأخوة في الإيمان، وإحرازا لحسن الأحدوثة بين الأنام، وإدخارا لجزيل المثوبة في دار السلام، والله الموفق والمثيب عليه أتوكل وإليه أنيب”[14] وبعض الناس يذهبون في أئمتهم ما لم يذهبه المزني في الشافعي وهو من هو علما وذكاء وموسوعية!
10- الاختلاف المذموم والتفرق المرذول سبب للفشل وذهاب الريح؛ يقول الله تعالى ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46] فتنازع الدعاة وتفرق الرعاة سبب لتمكن الأعداء وتوطن الداء.
11- الاجتهاد لا ينقض بمثله، ولا يطل رأي في الشرع، فليس أحد الاجتهادين – في الغالب – مقطوعا بصحته، ولا يجوز مصادرة الرأي الآخر لمجرد مخالفتك إياه، وقد عدل عمر عن اجتهاده الأول في المسألة الحجرية في الميراث إلى اجتهاد جديد، وقال: “تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي”، ومن ثم فمواضع الخلاف لن تتحول إلى مواضع إجماع ولا يملك أحد أن يصادر آراء السابقين أو يمحوها، نعم يمكن الترجيح لمن ملك أدواته، لكنه لن يلغي الرأي المخالف بحال.
12- الخلاف لا يصلح علة للأحكام، أي لا يصلح سبباً تبنى عليه الأحكام الفقهية، لأنه نتاج للأدلة المتعارضة، ومن ثم فمواضع الخلاف مواضع بحث علمي متجرد، وترجيح متقن منضبط، ولا يسوغ فيها أن يجمع بين الآراء المتناقضة ويؤلف من مجموعها قول واحد استنادا إلى حصول الخلاف، يقول ابن تيمية: ” تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ.”[15]
ثالثاً: الإجراءات الضابطة لتعدد الحركات الإسلامية:
نحتاج للعودة بشباب الحركات الإسلامية إلى إدارة الخلاف على نحو منضبط بناء إلى إجراءات كثيرة لعلي أقترح بعضها من باب التنبيه وإلقاء حجر في الماء الساكن والأمر بطبيعة الحال مطروح لمزيد من الأفكار:
1- تقوية مؤسسة العلماء لتكون لها مرجعية الفتوى وسلطة الفصل في مواضع النزاع على أن يكون العلماء مستقلين في فتاواهم وأقوالهم عن سائر الحركات والفصائل، بحيث يكون صدورهم عن الشرع وحده، ويكون لهم الفصل عند التنازع المفضي إلى شر، وقد كان من مثالب القرن الفائت تراجع العلماء لحساب التنظيمات الحركية طورا ولحساب الأنظمة ومؤسساتها العلمية الموجهة طورا آخر، ولا أتصور أن تستعيد الأمة وعيها وعافيتها إلا بصحوة علمائية يعود فيها أهل العلم للصدارة والقيادة الفكرية والروحية.
2- عمل ميثاق للعمل الدعوي والسياسي الإسلامي، فلا تكاد مهنة تخلو من ميثاق لأدبياتها ولضبط العلاقة بين المشتغلين بها، ولئن كان ذلك مطلوبا في سائر “المهن” فإن أولى الناس بذلك الدعاة إلى الله الذين يتبوؤون من الأمة موضع القدوة ويحملون إليها ميراث النبوة، والذين أخذ الله عليهم الميثاق المؤكد والعهد المشدد: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأعراف: 169]. ومن شأن هذا الميثاق أن يضح للخلاف حدودا لا يتجاوزها، وأن يمنع – حال صدقت النفوس- من تحول الاختلاف إلى تنابز وتضاد وعداوة.
3- التواصل المستمر والتشاور الدائم بين كبراء هذه الحركات وعقلائها، ولا ريب أن اللقاء المباشر والتزاور المتكرر والتهادي المتبادل أمور تذهب الجفوة وتردم الفجوة وتصل بين الإخوة ما أمر الله به أن يوصل.
4- أن يهتم أبناء هذه الحركات بالعلوم الإنسانية وأن يصلوا الوشائج المقطوعة ظلما بينها وبين الإسلام، فيدرسوا السياسة والاقتصاد وعلم النفس … فإن دراسة هذه العلوم على قاعدة الإسلام مما تتسع به المدارك وتنضج به العقول ولا ينغلق التفكير.
5- المداومة على تنفيذ المشروعات المشتركة بين أبناء الحركات المختلفة والبعد عن الانغلاق فإن الإنسان عدو ما يجهل، والبعد المستمر باب إلى الجفوة، والجفاء بين المؤمنين معصية.
6- إدراك أن التنظيمات وما يتفرع عنها تقع في باب الوسائل لا في باب المقاصد، فإذا تعارضت مصلحة التنظيم الدعوي أو السياسي مع واجب الشرع يجب تقديم واجب الشرع، فالتنظيمات ليست إلاها يعبد ولا وحيا يتبع، وإنما هي اجتهادات بشرية يختلط فيها خطأ بصواب، وإذا أدرك الشباب ذلك ستقلُّ كثيرا حدة الخلاف.
7- أن يدرس الشباب في مناهجهم الثقافية كتب الاختلاف وأسبابه وأن يدرسوا كذلك سير الأمة الكبار الذين كانوا أساطير العلم وأساطين الخلق، لتتكون في مخيلة الشباب نماذج القدوة والمثل العليا من سير هؤلاء الأئمة.
8- أن يكون ثمة تنسيق وتعاون بين الإسلاميين في مختلف القضايا السياسية، فما دامت الأهداف واحدة فالتعاون يعين على تحقيقها ويسهل إنجازها والله تعالى يقول في كتابه ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]، ويقول: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الهامش
1- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (ص: 80)
2- الوجيز في أصول الفقه الإسلامي (1/ 79)
3- الفقيه والمتفقه للبغدادي، 2 / 135.
5- سنن الدارقطني (5 / 538) 4814.
6- محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، ص 8.
7- الوجيز في أصول الفقه الإسلامي (1/ 85)
8- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1 / 462)
10- معجم مفردات ألفاظ القرآن ص 157.
11- أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب وقال الهيثمي، في مجمع الزوائد: رجاله ثقات.
12- أخرجه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح.
14- كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 4).
15- الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2 / 295)
كيف يصير العاملون للإسلام في خندق واحد؟ (1)