اقتصاددراساتمجتمع

التداعيات الاجتماعية لظاهرة ارتفاع الأسعار في مصر

أصبح تزايد الأسعار ظاهرة مركبة متعددة الأوجه تتحدد ملامحها في عجز فئة معينة من الناس – على اتساعها – من تحقيق المستويات الدنيا من الاحتياجات الأساسية كالرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية بالإضافة إلى عجز القدرات المختلفة للمشاركة في عمليات التنمية وجني ثمارها.

فالبطالة والفقر والإرهاب والفساد وتلون الفكر والهوية وغيرها من المظاهر أصبحت من أهم أمراض هذا الزمن، وأصبحت كل الجهات المختصة كالأكاديمية والإعلامية والخبراء والمهتمين معنيين بضرورة الاهتمام بمعالجة تلك المشكلات وبرصد تلك التداعيات الناتجة عن الظاهرة. ولعل هذا يشير إلى أن الأزمات الاقتصادية أصبحت لها عواقب وخيمة في المجتمع ويُلاحظ أيضاً أن ارتفاع الأسعار ترافق معه زيادة في عمليات السطو المسلح على البنوك وتزايد عمليات السرقة والتسول والعنف والقتل لسداد الاحتياجات المختلفة.[1]

كما قد سجل المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر 24 ألف حالة طلاق خلال الأشهر الخمسة الأخيرة في المحافظات، بخلاف حالات الطلاق الناتجة عن الزواج العرفي التي رصدت ما يعادل 4800 حالة شهرياً و160 حالة يومياً، وأكد المركز أن الصعوبات المعيشية التي تمر بها البلاد والناتجة عن ما يسمي بالإصلاح الاقتصادي تقف وراء ارتفاع حالات الطلاق وتزايد حالات التفكك الأسري وزيادة أطفال الشوارع، كما أشارت تقارير صادرة عن المركز القومي للبحوث على تزايد حالات الانتحار بين الأزواج والزوجات فضلاً عن تفاقم المشكلات الزوجية والتي تُفضى إلى القتل بين الزوجين هروباً من تحمل المسؤولية؛ إذ وصل عدد المطلقات في مصر إلى نحو 3 ملايين مطلقة تزدحم بهن في الوقت الحالي محاكم الأسرة، وبالإضافة إلى ما أوردته الإحصاءات من تنامي ظاهرة العنوسة والزواج السري والعرفي والشذوذ الجنسي والإدمان[2]

كما اهتمت دراسات متعددة بالدوافع الاجتماعية والاقتصادية لجرائم القتل وخاصة في الأسر المصرية، ووجدت أن جرائم القتل العائلي في مصر تمثل من ربع إلى ثلث إجمالي جرائم القتل ومن أهم أسبابها الفقر والبطالة[3]، تلك الظاهرة الغريبة والصادمة لمجتمعنا المصري والتي انتشرت بشكل مخيف كــ أب يذبح أبناءه وآخر يقتل زوجته ويقضى على أسرته بالكامل نتيجة غلاء المعيشة[4]، لذا فقد أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقريراً جديداً يشير إلى قفزة في معدلات التضخم، فقد بلغت معدلاته نحو 30% خلال هذه السنة في ظل ارتفاع مؤشر أسعار السلع الغذائية نحو 40%، وأفاد الجهاز أن 27.8% من سكان مصر لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية، ونسبة الفقر هي الأعلى منذ عام 2000 وأن سوهاج وأسيوط أكثر المحافظات فقراً بنسبة 66%، تليهما محافظة قنا بنسبة 58%، وأن أقل نسبة للفقراء في مصر في محافظة بورسعيد بنسبة 6.7%، تليها محافظة الإسكندرية بنسبة 11.6%، وأن 18% من سكان القاهرة من الفقراء. وأشار التقرير إلى أن 10.8% “أكثر من 11.8 مليون مواطن” في أدنى فئة إنفاق في مصر، حيث يبلغ معدل إنفاق الفرد سنويا أقل من 4 آلاف جنيه سنويا “أي أقل من 333 جنيه شهريا”، وأوضح أن 14.7% من إجمالي الأفراد في مصر في أغنى فئة وينفقون أكثر من 12 ألف جنيه سنويا.[5] وفي إطار هذا الاهتمام أوضحت دراسات أخرى أن الفقراء في المجتمع أصبحوا يفتقرون إلى ستة أنظمة كبرى أخرى من رأس المال ومنها:

  • رأس المال البشرى: الصحة والتغذية والمهارات المطلوبة للعمل ليكون شخصاً منتجاً اقتصادياً.
  • رأس مال الأعمال: الآلات والمرافق والنقل الآلي المستخدم في الزراعة والصناعة والخدمات.
  • البنية التحتية: الطرق والكهرباء والمياه والمطارات ونظام الاتصالات وكلها مدخلات حاسمة في انتاجية الأعمال.
  • رأس المال الطبيعي: أراض صالحة للزراعة، وتربة ملائمة، وتنوع البيولوجي، ونظم بيئية تعمل بكفاءة وتقدم الخدمات البيئية المطلوبة للمجتمع البشري.
  • رأس مال مؤسسي: قانون التجارة والنظم القضائية والخدمات الحكومية.
  • رأس المال المعرفي: الخبرة العلمية والتكنولوجية التي ترفع الانتاجية في ناتج العمل وتضمينه وتعزيز رأس المال المادي والطبيعي[6].

وهكذا كانت وضعية المجتمع ومشكلاته وتوابعها تضطرنا لإعادة التفكير في سياسات بديلة ومواجهة لتلك المشكلات المستحدثة، لذا فقد تواترت كثير من الدراسات المتخصصة بهدف البحث والدراسة، وثانية لوضع حلول، وأخرى للمطالبة والتمكين والتشريع. فمن المتعارف عليه أن تعدد أشكال الحرمان رغم تشابه النتائج فهي حلقة مفرغة من المشكلات وكل منها يؤدي للأخر فغلاء الأسعار وانخفاض سوق العمل وعدم الانضباط وضعف التوازن بين القوى التنافسية وتردى الدخول تُوقعنا في شرك البطالة /الفقر /الجريمة /العنف /الاستبعاد /التميز الجائر /الانتحار.

فتصور النظام الاقتصادي لابد وأن تتبعه كل أنظمة المجتمع سياسية وثقافية واجتماعية وأسرية وغيرها، فتقلص فرص المساواة في حصول المواطنين أفراداً وجماعات على حقوقهم وإشباع احتياجاتهم وعدم الاستفادة الكاملة غير المشروطة لكل الخدمات المجتمعية مع انعدام المشاركة الفعلية الواقعة في كافة مناشط الحياة السياسية والاجتماعية والارتباط الإيجابي بالمجتمع تأتي نتيجة لها كافة مظاهر العزلة في شكليها الطوعي والقسري للفرد أو الجماعة في المجتمع، وفي اطار ذلك سوف نبرز بشكل أكثر وضوحاً بعض التداعيات لغلاء الأسعار وإبراز بعض تلك النتائج التي تقف أمام تحديات الحياة الكريمة ومنها الفقر، المواطنة، الاستبعاد الاجتماعي، الجريمة، العنف الأسرى.

أقراء أيضاً
خريطة الفقر في مصر: مؤشرات ومقترحات

وفيما يلي نتناول هذه النتائج بشيء من التفصيل:

الفقر:

اختلف العلماء في وضع تعريف محدد للفقر يمكن بمقتضاه تصنيف الأفراد أو المجتمعات إلى فقراء وأغنياء، ولاحظَ بعضُ الباحثين هذه الصعوبة لأنه من المفاهيم النسبية التي تختلف باختلاف ظروف المجتمعات وأدوات القياس فضلاً عن اختلاف الاخلاقيات إلا أن جميع تعريفاته تشترك في صفة الموضوعية وتدور حول الحرمان النسبي لفئة معينة من المجتمع[7]

ويُعرّف الفقر تحت المنهجية الاقتصادية المهيمنة على التحليل الكمي لظاهرة الفقر بأنه حالة من عدم الحصول على مستوى للمعيشة يُعتبر لائقاً أو كافياً بواسطة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد. نجد أن هذا التعريف لا يختلف جوهرياً عن التعريف الذي جاء به الإمام أبو حامد الغزالي (1058: 1111 م) في سفره الموسوعي “إحياء علوم الدين” حيث عرف الفقر بأنه كل فاقد للمال نسميه فقيراً، وميز بين خمسة أحوال للفقر هي الزهد والرضى والقنوع والحرص والاضطرار، ويعرف حالة الاضطرار بأنها الحالة التي يكون ما فقده الشخص فيها مضطراً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب وعلى أساس هذا التعريف العريض تقوم الأدبيات النظرية والتطبيقية بتحديد مستوى أدنى للمعيشة يعتبر من لا يحصل عليه ضمن الفقراء ويسمى هذا المستوى الأدنى من المعيشة “خط الفقر” ويحسب خط الفقر عادة على أساس مفهوم الدخل في هذه الدول المتقدمة كمؤشر لمستوى المعيشة[8]، ولم يُقدم التقرير دخل خط الفقر وأكتفى بتعريف الفقير بأنه الشخص الذي يقل دخله عن 30% من متوسط الدخل على المستوى القومي وذلك بالمناطق الريفية أو يقل دخله عن 40% بالمناطق الحضرية[9].

وبسبب التداعيات المستمرة للغلاء أصبح الفقر يأخذ تعريفات ومسميات مختلفة لتعدد مؤشراته وتداعياتها فأصبح يعرف بأنه عدم القدرة على تحقيق حد أدنى من مستويات المعيشة والمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية وذلك للارتباط القوي بين المؤشرات الاجتماعية وانتشار الفقر الذي يُعزى بصفة أساسية لانخفاض الدخل والذي يترتب عليه نقص الطعام وسوء التغذية مع تدني مستوى الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والثقافة بالإضافة إلى تدني أو انعدام المشاركة السياسية المجتمعية[10].

فالإحصاءات المعلنة والصادرة عن الحكومة المصرية عن أعداد الفقراء في مصر أقل من الحقيقة، حيث تشير أن مليوني ومائة ألف نسمة يعيشون تحت خط الفقر العام والمشكلة الأكبر أن الفقر زحف إلى الطبقة المتوسطة وتم محوها تقريباً وهى عماد المجتمع وعصبه بما يهدد المجتمع المصري بأسره[11]، ويرجع بعض المحللين ذلك إلى أن نظام تزايد الأسعار ونظام الأجور الجامد الذي لا يتلاءم مع تلك الزيادة هو من أهم العوامل التي أفقرت الطبقة المتوسطة التي تعتبر أساس المجتمع وهو ما يضع المجتمع المصري في مواجهة تهديد حقيقي[12]، إضافة إلى سوء توزيع الناتج وانعدام وجود استراتيجيات وبرامج لمكافحة الفقر حيث أن الكثير من تلك البرامج لا تستهدف الفقراء ولا تصل إليهم. وحول تحليل مضمون لجرائم الفقر في صفحات الحوادث بالصحف منها مصرية وأخرى عربية؛ وسجل التقرير زيادة عدد الجرائم التي كان الفقر دافعها الرئيسي إلى 197 جريمة بمعدل 1.6% جريمة يومياً فيما يبلغ عدد المواطنين الذين ارتكبوا الجرائم 360، مواطناً كما كان الفقر دافعاً رئيسياً في 98 جريمة قتل، 13 جريمة تسول بسبب الفقر وانتحار 15 جريمة بسبب الفقر.[13]

وبرصد الوضع الحالي والاطلاع على كافة المؤشرات السابقة يتضح اتساع دائرة الفقر وذلك للأسباب الآتية:

  1. تراكم مسارات التنمية وتتابع أخطائها واتباع أنظمة الحكم لاستراتيجيات لخدمة مصالحها وأغراضها الاقتصادية، بالإضافة إلى خبرات الفشل المتكررة في أداء تلك الأنظمة بوزاراتها وأجهزتها المعنية وعجز الممارسين غير المهنيين في التعامل مع احتياجات جميع المواطنين وتأكيداً لحقوقهم على كل المستويات حتى في الرقابة أو المشاركة في الرقابة على أجهزة الخدمات وتطبيق العدالة بين كافة الشرائح الاجتماعية.
  2. أدوار المجتمع المدني والتي أصبح أداؤها استجابة متأخرة لمثيرات خاطئة أشبه بممارسة عالقة بعجلة القصور الذاتي يحركه الوقت وطبيعة العصر أكثر منها الإرادة الواعية بالحقبة التاريخية ودورها الفعال في تلبية احتياجات المواطن بشكل أكثر عدالة الأمر الذي يؤمن وضع حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية موضع التطبيق.
  3. العلاقة بمكونات المجتمع المختلفة أصبحت مرهونة بالتراشق السياسي حتى أصبح الأمر إما بالرفض المطلق أو القبول المطلق لتلك السياسات وفق حسابات لا تتعلق بمكافحة الفقر وإنما استجابة لحالة الصراع المجتمعي أكثر مما يحققه الوفاق.
  4. الاجراءات المجحفة والسياسات التقديرية الصارمة للأداءات الاقتصادية في مجالات التجارة وحركة رؤوس الأموال حيث تكون القدرة التنافسية إما قيد التشكيل أو عدم التبلور وعدم التمرير والموت البطيء سبيلها.
  5. عدم نقل المعلومات للناس بشفافية ومسؤولية، والسيطرة على أجهزة الإعلام وعدم إعطاء رؤية صادقة لأوضاع الناس وآلامهم، بحيث يمكن توجيه وإرشاد جموع الفقراء إلى سبل تحسين حياتهم من خلال الأجهزة المعنية وتطوير وابتكار أساليب انتاجهم وزيادة دخولهم.
  6. الحذر والزهد في المخاطرة وانعدام الدافعية هو ما أقل ما يُوصف به النموذج التنموي في مجتمعنا اليوم مع عدم الحصول على الإعفاءات والدعوم وكافة الحقوق والإجراءات الاقتصادية المناسبة.
أقراء أيضاً
  1. بين الأمن والجوع: لماذا لا يثور الغلابة؟
    بين الأمن والجوع: لماذا لا يثور الغلابة؟

المواطنة:

تشير الأحداث التي يؤكدها الواقع المُعاش وتنشغل بها الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية والجماهيرية إلى تحد واضح متجدد لمبدأ المواطنة، وهو ذلك التغيير في نسيج المجتمع جراء اتساع دائرة حالة عدم الرضا الجمعي بسبب وقوع فئات واسعة من سفينة المجتمع بسبب تردي الأحوال الاقتصادية للعديد من الأسر وتأتي قضية ارتفاع الأسعار كرأس حربة في هذا التغيير مما يشوه لديهم نظرتهم للمجتمع وتنامي إحساس لديهم بالظلم الاجتماعي. وتعد المواطنة من القضايا ذات الأبعاد السياسية والأمنية التي تعبر عن معايير الانتماء ومستوى المشاركة من قبل الأفراد في حماية الوطن والزود عنه، كما تعبر عن وعي الفرد بالحقوق والواجبات والنظر للآخر وصيانة المرافق العامة والحرص على المصلحة الوطنية كما تعكس مدى إدراكه كمواطن لدوره في مجابهة التحديات التي تواجه المجتمع والدولة في آن واحد.

المواطنة والمواطن مأخوذة في العربية من الوطن، المنزل الذي يقيم فيه وهو موطن الإنسان ومحله، وطن يطن وطناً: أقام به وطن البلد.. اتخذ وطناً.. يتوطن بالبلد.. اتخذه وطناً[14]

والمواطنة هي العضوية الكاملة والمتساوية لجميع أفراد المجتمع، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية كأسنان المشط بدون أدنى تميز على أية أسس تحكمية مثل الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري[15].

ومن النادر أن تخلو موسوعة متخصصة في العلوم الاجتماعية من تناول لمفهوم المواطنة. فلقد تم تقسيمها إلى ثلاث مجموعات مختلفة مدنية وسياسية واجتماعية، ولقد ظهرت كل مجموعة من هذه الحقوق بالتتابع في العصر الحديث، وتشمل المواطنة المدنية التي تمتد جذورها في الليبرالية والحقوق التي تضمن الاحتياجات الفردية، وتكفل حرية الفرد في التعبير والتفكير والاعتقاد، وحق الملكية الخاصة، والحق في العدالة، أما المواطنة السياسية فتكون هي الحقوق الديمقراطية في المشاركة السياسية وتتمثل في المجالس المتعلقة بالحياة السياسية في البرلمان والمجالس المحلية، وأخيراً المواطنة الاجتماعية المعنية بتوفير الحد الأدنى في الرفاهية والدخل وتوفير المؤسسات الاجتماعية المرتبطة بهذه الحقوق[16].

وفي تطور آخر للبحث في مفهوم المواطنة ارتقت التحليلات من مستوى علاقة الفرد بالمجتمع إلى علاقة الفرد بالدولة، وما استحدثه المفكر الفرنسي (جان جاك روسو) وما تحدث به عن استقلالية الفرد، وحديثه عن حقوقه في مواجهة الدولة[17].

فالمواطنة ليست مفهوماً سياسياً أو قانونياً مجرداً، وليست كلمات تتردد دون وعي بمضمونها وجوهرها، وإنما هي ارتباط معنوي وشعوري بالحاجة إلى رابطة بمكان يجد فيه الإنسان ذاته ويشعر بناء على ذلك بأنه يدافع عن هذا المكان ويُلبى متطلباته واحتياجاته ولكي يترسخ الشعور بالمواطنة في نفوس الأفراد لابد وأن يتمتعوا بالاحترام الواجب لحقوقهم وحرياتهم الاساسية ليس فقط السياسية وربما هو الأهم في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وذلك في إطار عام يتسم بالعدالة كمبدأ حاكم لحركة الدولة والمجتمع ولتوزيع ثرواته وموارده، وتعني أيضاً أنها تمثل علاقة قانونية بين الإنسان ودولته القومية ويتم اكتسابها بالمولد أو القانون وهي تعتمد على محل الميلاد أو قومية الوالدين وبعض الدول تمنحها بالزواج أو الاقامة أو الدخول في الخدمات العامة والأعمال، وفي قاموس علم الاجتماع يتم تعريف المواطنة بأنها مكانه أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة) ومن خلال هذه العلاقة يقوم الطرف الأول (المواطن) بالولاء، بينما يتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة[18].

ولقد شهد مفهوم المواطنة تغيرات عديدة في مضمونه واستخداماته ودلالاته، فلم يعد فقط يصف العلاقة بين الفرد والدولة في شقها السياسي القانوني كما كان سابقاً، بل تدل القراءة في الأدبيات والدراسات الحديثة على عودة الاهتمام بمفهوم المواطنة كمفهوم مجتمعي له أبعاده المتعددة تربوية وسياسية وثقافية واقتصادية وفلسفية التي تصل من الحدود القومية إلى رحاب أوسع هي المواطنة العالمية[19].

إذن فالمواطنة تعيش الآن في حالة أزمة، بعض متغيرات هذه الأزمة داخلي بحت ينطلق من حدود الدولة القومية بالأساس، ويُعد اغتراب الدولة عن المجتمع سمة عصرية في المجتمعات التي ينتشر فيها الفقر، حيث لم يعد المجتمع أو الشعب يسيطران على الدولة بل يُقصى فيها المواطن عن المشاركة فيها بالإضافة إلى فشل الدولة القومية في كثير من الأحيان عن حماية المواطنة الاجتماعية بأبعادها المختلفة مما دفع المواطنين إلى المطالبة بإعادة التفاوض ومناقشة العقد الاجتماعي والمؤسسي للدولة[20].

وبنظرة تحليلية نجد أن المواطنة تشمل على عدى مستويات هي:

  • الحقوق والواجبات: إن مفهوم المواطنة يتضمن حقوقاً يتمتع بها المواطنون وهي في نفس الوقت واجبات على الدولة والمجتمع، وترتكز حقوق المواطن على مبدأ: هو أن المواطنة ترتب حقوقاً لكافة المواطنين دون تمييز بسبب النوع أو الأصل أو اللغة أو الدين والعقيدة وتمثل الحق في بيئة نظيفة، الحق في السلام الاجتماعي، الحق في التضامن وغيرها[21].
  • الانتماء: الانتماء هو الانتساب الحقيقي للوطن الذي يعني الشعب والأرض فكراً، وتجسده الجوارح عملاً، ورغبة في تقمص عضوية ما لمحبة الفرد لذلك، والاعتزاز بالانضمام للوطن. فالانتماء لا يتعارض مع مصالح الفرد والجماعة والمجتمع ذلك أن الفرد والجماعة ملتزمين وفقاً للعقد الاجتماعي والسياسي والقانوني والعقائدي التي اتفقت عليه الجماعة[22].
  • الوطنية: المواطنة قد تكون وجوداً مادياً فقط بمعنى تقف عند حدود وجود الفرد في وطنه الذي ولد فيه دون وجود حالة من الارتباط الوجداني والمعنوي بينهما، فالوطنية تدل على معاني ضرورية في حياة الإنسان، وتشمل فضل الوطن على الإنسان وواجب الإنسان نحو وطنه في آن واحد بما يتبع ذلك من الدفاع عنه وبذل المال والنفس من أجله والعمل الدائب في سبيل نهضته ورفعته.

وبهذا كانت حياة الإنسان ووجوده موصولة به وكرامته من كرامة هذا الوطن وهذه المعاني مجتمعه يمكن أن تعبر عنها بالوطنية فالوطنية مصدر للفعل (وَطَنَ) أي أقام وسكن واستقر[23]، ويرى بعض علماء المسلمين أن حب الوطن أثر من آثار الانتماء للإسلام، وهو يدعو إليه ويحصله في حياة المسلم فوق الحياة ذاتها وفوق المال والأهل والولد[24].

  • الوعي: الوعي بالمواطنة هو معرفة حقوقها وواجباتها، كما يتجلى في قدرة المواطنين على التعامل مع السياسة الوطنية والقضايا العامة على المستوى الوطني، ومن مظاهر التعامل مع القضايا العامة هو تكوين رأي حول قضية البيئة، أو توزيع الدخل القومي، أو العلاقة بالدول المجاورة، وتأصيل إدراك الأخطار التي تهدد الأمن القومي على أسس واقعية، والتسامح مع أصحاب الرأي المختلف، والقدرة على التعامل مع ضغوط الآخرين في المجتمع في المجتمع إزاء تكوين حكم على قضية معينة[25].
  • المسؤولية: وفي إطار قيم المواطنة يمكن أن تُفهم المسؤولية في ضوء العلاقة بين دور الفرد ومستقبل المجتمع ومقارنته في عالم الغد، والربط بين مهام دور الفرد ومستقبل المكانة يكون تجويد الأداء[26].
  • المشاركة المجتمعية: إن من أبرز سمات المواطنة أن يكون المواطن مشاركاً في الأعمال المجتمعية والتي من أبرزها الأعمال التوعوية، فكل إسهام يخدم الوطن ويترتب عليه مصالح دينية أو دنيوية كالتصدي للشبهات، أو تقوية أواصر المجتمع، أو تقديم النصيحة للمواطنين والمسؤولين يجسد المعنى الحقيقي للمواطنة.
  • القيم العامة: وتعني أن يتخلق المواطن بالأخلاق الاساسية التي تحض عليها الفطرة السليمة وتدعو إليها الشرائع السماوية والتي منها الأمانة، الإخلاص، الصدق، الصبر، التكافل.

إلا أن التداخل بين مفاهيم المواطنة كالانتماء والحرية والعدل والمساواة في المجتمع في ظل التغير السريع وسيطرة القطب الواحد وظهور العديد من المشكلات السياسية والاقتصادية والتركيز على خيارات الفرد الوحيدة وهي ضمان رزقه ومحاولة التعايش قضى على جميع الخيارات الأخرى ومن تأثيراتها الآتي:

  1. سحق الهوية والشخصية الوطنية المحلية، والتخلص من انتمائها وولائها لوطنها، وشيوع حالة من الاغتراب بين الإنسان الفرد وتاريخه الوطني ومورثاته الثقافية والحضارية.
  2. سحق المصالح والمنافع الوطنية فلا تستطيع النظم الإنتاجية الضعيفة امتلاك المزايا التنافسية ومن ثم يكون العمل على القضاء على تلك المشروعات، وتفقد الدولة وظائف لأبنائها وتفقد موارد مالية وتمويلية.
  3. استباحة الخاص الوطني وتحويله إلى كيان رخو غير متماسك، وبصفة خاصة عندما لا يملك الخاص القدرة على التطور وإعادة تشكيل ذاته ويكون قابل للتكيف مع المتغيرات الحديثة.
  4. السيطرة على الأسواق المحلية من خلال قوى فوقية تمارس سطوتها وتأثيرها (الطبقات الغنية والجيش والقضاة و..)، وتحويلها لمؤسسات تابعة لها وتوظيف كل ما هو محلي ووطني وتحويله إلى جزء من كيان محصن ويكون الاتجاه المستمر نحو التهميش والعزل تمهيداً للقضاء عليه.
  5. تغييب مفهوم الثقافة السياسية بما لا ينمي لدي الناشئين ضمانات المعرفة والالتزامات تجاه النظام السياسي والمجتمعي.
  6. عدم المساواة، والانحياز للجنس والفئة والطائفية، وعدم قبول التنوع، والانشغال بسداد الاحتياجات الأساسية في ظل تحديات تفوق القدرات والإمكانيات وبالتالي تظل المواطنة أبعد ما تكون عن الواقع.
  7. تظل المواطنة كقيمة مرتهنة بقدرة البناء السياسي على الاستجابة للبناء الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم يتوافر للإنسان القدرة على ممارستها وهذا ما يصعب تحقيقه فيما يتاح ممارسة المواطنين لحرياتهم الفردية بالكاد فلا يوجد مجال للنقاش أو تبادل آراء أو حوار مجتمعي حول سياسات الدولة الاقتصادية إلا من خلال الأصوات الإعلامية التي تمجد لتلك السياسات. وهكذا فإن غياب ترسيخ قيم المواطنة كان من خلال انعدام الرؤية الواضحة، وعدم الدراية بالحقوق والواجبات، وتغييب الممارسة الديمقراطية، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات في المجالات المختلفة، والتغييب والتهميش وانتشار الروح الفردية والأنانية، والعنف والجريمة وغيرها نتيجة الإخفاق في الحصول على حقوقهم الأساسية من مأكل وبيئة نظيفة ورعاية طبية، وفي ظل تزايد الأسعار لكل ما يحتاج إليه المواطن وفي ظل عدم قدرته على تحمل مسؤوليته الخاصة ضعفت لديه القدرة على تبني قضايا الوطن وهمومه بالإضافة إلى ارتباط الولاء والانتماء للدولة تم تحديده لشخص الملك أو الرئيس وتحددت فكرة الانتماء والمواطنة في ضوء هذا المحل.
أقراً أيضاً

الاستبعاد الاجتماعي:

إن مفهوم الاستبعاد الاجتماعي يمكن فهمه على أنه تراكم للعديد من المتغيرات حادة التأثير والمتعاقبة خلفتها ترهلات وتمزقات اقتصادية وسياسية في قلب المجتمع باعدت تدريجياً بين الأشخاص والجماعات والمجتمعات المحلية وشكلت موقفاً يقوم على مركب النقص في اتجاه علاقاتهم بمراكز القوة وموارد المجتمع والقيم السائدة فيه.

ويرتكز الفهم الأكثر شمولية لظاهرة الاستبعاد الاجتماعي كنتيجة مباشرة لغلاء الأسعار، وما يتبعه من تدني لفرص كسب العيش، وتقليص فرص العيش الكريم للمواطنين، وكذا خفض سقف المستقبل لكثير من فئات المجتمع، وتنامي المحسوبية والفساد في كافة مؤسسات الدولة بالإضافة إلى التهميش، والبطالة، والتفاوت الاقتصادي في المستويات والدخول، وكلما اتسع التفاوت الاقتصادي المرتبط بزيادة الأسعار مع التوزيع الغير عادل للموارد والعائدات كانت الانتهاكات والتجاوزات وكافة مظاهر الإقصاء والاستبعاد.

وتدل المؤشرات على أوجه الاختلاف في مستويات المعيشة بين المواطنين وكل مقومات التبعية والظلم الاجتماعي، كما توفر لصانعي السياسات كل الموارد والأدوات اللازمة على حساب بقية أفراد المجتمع ومنها:

  1. المؤشرات المتصلة بالصحة: ومنها عندما تتوفر بيانات دقيقة عن قدرة الذكور والإناث في المناطق الريفية والمناطق الحضرية على الحصول على خدمات صحية أفضل، أو عن الإنفاق العام على الصحة والوصول إلى أسرة المستشفيات وأطبائها بسبب ارتفاع أسعار الخدمات الصحية المرافقة عادة لغلاء أسعار السلع والخدمات.
  2. مؤشرات متصلة بالتعليم: وتتضمن النسب الإجمالية للالتحاق بالمدرسة، ومعدلات الأمية لدى الذكور والإناث في المناطق الريفية والمناطق الحضرية، أيضاً بسبب ارتفاع أسعار مُدخلات العملية التعليمية وتدني أجور القائمين عليها مقارنة بارتفاع التضخم.
  3. مؤشرات أخرى منها النسبة المئوية للسكان: وبخاصة أولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر، والذين يزدادون يوماً بعد يوم بسبب ارتفاع معدلات التضخم التي تسحق تحتها طبقات سكانية كبيرة.[27]

فالواقع يكشف عن صعوبة صياغة أي شكل للإنصاف الاجتماعي، فالقول بأن الحاجات الأساسية تتمثل في المأكل والملبس والمسكن أمر أصبح يأتي على حسابات أخرى كالتعليم والصحة، وبدأ يأخذ أشكالاً متفاوتة من الإشباع.

وفي ضوء ذلك فإن هناك أبعادا مرتبطة بقضية الاستبعاد ومنها:

بُعد الهوية وهي إلى أي مدى تمد كلا من الفرد والجماعة بالقدرة على التميز، ومدى تحفزه لتحقيق أهدافه وعملياته، ويشعر أنه في مجتمع واسع يحقق تطلعاته وآماله.

  • الإنسانية وهي الدرجة التي تجعل الفرد قادراً على أن يحيا متمتعاً بكامل ما أنتجته الحياة وما يمكن لها أن تمنحه.
  • القيم وهي الدرجة التي تجعل الفرد – أو الجماعات – قادرا على الحصول على حقوقه كمواطن، والقيم في مضمونها إنسانية تبرز خبرات الناس وتجعلهم فاعلين مؤهلين للتعامل مع بيئة تسمح بالإنجاز والاندماج في مجتمع يساعد الجميع على الحياة في رفاهية مادية.

وهذه الأبعاد مرهونة بوعي الإنسان بواقعه الاجتماعي، وإيمانه بأهمية المشاركة فيه، إلا أن هذا الوعي يواجه غالباً بالسياسات الاقتصادية المرتبطة بالتغيرات السياسية وإلقاء مزيد من الأعباء على المواطنين من خلال ارتفاع الأسعار، ومدى عدالة توزيع الدخول والراحة المادية أو الأمان الاقتصادي المنشود، وبناء عليه تكون النتيجة إما اندماجاً أو استبعاداً. ففي كل مجتمع تتعايش قطاعات من الناس من حيث موقعها من الإشباع: قطاع يتأثر بالخدمات وبأعلى درجات من الإشباع لمواجهة كل احتياجاته أو بعضها على الأقل، ويضم الفئات الغنية والمتوسطة، وقطاع آخر في المجتمع يحمل معه كل صور الحرمان والفقر ونعني به فئات من السكان تعيش في مستوى بالغ القسوة من الفقر، فهي تعيش على الارتزاق بقوت يوم بيوم، كما يترتب على ذلك أيضاً اللجوء إلى العنف والفوضى.

وفي تحديد علاقة الفرد بمجتمعه ولدراسة قضية الاستبعاد تبرز ثلاث اتجاهات فكرية (مدارس) وهي:

  1. المدرسة التي يتعاظم فيها دور الفرد وسلوكه والقيم الأخلاقية والاجتماعية التي توجه سلوكه استبعاداً أو اندماجاً وتجدد علاقته بالمجتمع وأنشطته العامة سواء أخذ في ذلك صورة إرادة فردية وفعلاً ذاتياً أو إرادة وفعل المجموع وهو ما يؤكد ويربط بنوعية من السلوك ترجع بأصولها غالباً إلى جذور طبقية على وجه أكثر تحديداً الطبقة الفقيرة أو الدنيا.
  2. المدرسة التي تؤكد وجود النظم والمؤسسات في المجتمع ومسؤوليتها عن تحديد اتجاه علاقة الفرد بالجماعة ومسار هذه العلاقة لكل منها بالمجتمع انعزالاً أو استبعاداً واندماجاً وتقوم على اعتبار “الخدمة أو الرعاية” محور الجذب أو التشتت في هذه العلاقة وتنضوي تحت هذه النوعية من التفكير في تعريف الاستبعاد النظم الاجتماعية كالشمولية في سابق عهدها والرأسمالية والعولمة.
  3. المدرسة التي تتعلق بالحقوق نقصاً (إقصاءً) أو تخصيصاً (استحواذاً) وهى تفسر الاستبعاد في ضوء متصل يضع التميز موضع الارتكاز فيه وينتهي طرفاه عند الحرمان (الاستبعاد) والانغلاق الفئوي (الهيمنة) والإخضاع الاجتماعي الواقع على الفئات المستبعدة هو الشرعية للحفاظ على هذه الوضعية كما يعد التمكين الحقوقي وسيلة المستبعدين لتصحيح هوياتهم الاستبعادية، وقد يكون الاستبعاد انعزالاً في مجتمعات فعلية “كالحي الصيني” في أمريكا، والتهميش وغير ذلك باختلاف المجتمعات وتعدد الثقافات ويتحدد الاستبعاد على أساس حق اللجوء التي يتيحها المجتمع للاجئين إليه[28].

وهكذا فإن غلاء الأسعار والفقر والجريمة والمخدرات وغيرها من تلك المشكلات جسدت أوضاعاً مادية للاستبعاد وبروزاً في تشخيص واقع المجتمعات وإمكانيات للتعامل معه والشعور بالعجز عن إدراك وحيازة ما يُشكل احتياجاً موضوعياً بصرف النظر عن طريقة التحديد لاحتياجه الأساسي من عدمه وسوسيولوجيته مما تحاصر الفرد عند زاوية الاعتراف المجتمعي بفقره وأحقيته في المساعدة الاجتماعية[29].

أقراء أيضاً
ظاهرة البلطجة النسائية في مصر

الجريمة:

عندما يحدث التفكك في البناء المنظم للعلاقات في مجتمع ما من المجتمعات وتفشل منظمات هذا البناء في تحقيق الإشباع والضبط اللازم هنا يبرز ما نسميه بالسلوك المنحرف الذي يؤدي مباشرة إلى الجريمة، وبتعدد العوامل المسببة لذلك ما بين عوامل ذاتية نفسية أو عوامل اجتماعية ترتبط بالبيئة والسياق الاجتماعي للفرد ما بين الفقر وتدني مستوى الدخل أو انخفاض المستوى الثقافي أو المستوى الاقتصادي.. إلخ، وتفصيل ذلك أن العوامل التي تكون ناتجة عن حرمان أو عدم اشباع الاحتياجات المختلفة لأفراد المجتمع وهي احتياجات نفسية واقتصادية وبيولوجية وصحية وتعليمية وسياسية ومن ثم تتعدد هذه العوامل بتعدد هذه الاحتياجات وتزيد معدلات الجريمة أو تقل نتيجة تداخل تلك العوامل.

إن المجتمع قائم على العديد من التناقضات منها عدم وجود بنية معايير ثابتة واضحة يلتزم بها الناس ويحتكمون إليها بل متغيرة وممولة وفقاً للأهواء والتبعية والمحسوبية لذا تتآكل منظومة القيم المجتمعية ويتشكل ما يسمى بالفعل الجمعي، وانهيار العلاقات الاجتماعية ويكون الانسحاب هو بمثابة الرفض السلبي لكل ما يحدث في المجتمع وينتج عن ذلك أيضاً:

  • تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وتهميش قيم العدالة والعطاء والخيرية والقيم الروحية الأخرى وحل محلها الأنانية والفردية والجشع والمحسوبية والوساطة… إلخ.
  • تقلص عملية المشاركة على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي وينعدم الشعور بالمسؤولية والمواطنة.
  • تعدد أشكال الضعف وانعكاساته على كافة أشكال السلوك في المجتمع وهي متضمنة للقوة أو تهديد لإلحاق الأذى وإتلاف المجتمعات وذلك لتحقيق أهداف سياسية مباشرة أو أهداف اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية لها دلالات وأبعاد سياسية[30].

وبرصد بعض الصحف ومنها الحكومية ما أوردته في أن الزيادة في أسعار المحروقات بالإضافة لزيادة السلع والخدمات عدم مقابلة ذلك بزيادة في الأجور تحافظ على توازن الأخذ والعطاء في حياة المواطنين، إلى غير ذلك من صور غياب العدالة الاجتماعية مما يزيد من حالة الفقر، وذلك في ظل توقف تدفق الاستثمارات وغياب خطط التنمية، وظهور تشريعات للعمل تغلب جانب أصحاب الأعمال على حساب العمال مما يؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة وتفاقم أخرى منها البطالة وارتباطها بجرائم متعددة مثل السرقة والإدمان والانتحار وحالات العنف الأسري وغيرها [31].

وأشارت صحف أخرى إلى ارتفاع نسبة الجريمة في مصر في ظل تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والغلاء الذى لا يرحم الفقراء إضافة إلى قلة فرص العمل مما يدفع البعض إلى الجريمة من أجل توفير الاحتياجات الأساسية للعيش، وأشارت إلى أن محافظات مصر في الوقت الحالي تعاني من ارتفاع معدلات الجريمة التي وصلت إلى حد القتل بسبب الفقر وهناك توقعات بزيادة نسبة تلك الجرائم، واستناداً إلى تقارير أمنية وصلت جرائم القتل بدافع السرقة في المحافظات المصرية في النصف الأول من العام 2018 إلى (296) جريمة عدا عن انتحار (13) شخصاً بسبب الفقر وتشير التقارير إلى أن غالبية جرائم القتل التي حصلت بسبب السرقة ارتكبها رجال عجزوا عن توفير احتياجات ذويهم، واحتلت محافظة القاهرة المرتبة الأولى تليها محافظة الجيزة بينما كانت محافظة القليوبية في المرتبة الثالثة ومحافظة الإسكندرية في المرتبة الرابعة ومحافظة أسيوط في المرتبة الخامسة[32].

العنف:

يعتبر العنف إحدى الصور السلبية من التفاعل الإنساني وهو ظاهرة شديدة التعقيد والعنف ظاهرة قديمة قدم الزمان وهي ظاهرة مركبة متعددة العوامل والمسببات ذات تأثير على كافة المجالات في الحياة ولها جوانبها السياسية تارة والاقتصادية تارة أخرى ولها عواملها الاجتماعية والثقافية كما أنها بلا شك ظاهرة نسبية تختلف من إقليم لآخر ومن زمن لآخر.

وتعتبر الأسرة مجالاً من مجالات التناقض فرغم أنها محيط للعواطف المتبادلة إلا أنها في كثير من الأحيان تكون مركزاً للعنف، ويشكل العنف الأسري خطورة كبيرة على حياة الفرد والمجتمع وتتعدد أشكاله بتعدد الأطراف المكونة للعلاقات الأسرية، وبما أن الأبناء داخل الأسرة التي تتسم بالعنف هم من أكثر المتضررين من هذه السلوكيات التي يتضمنها العنف الأسري لما للعنف من انعكاسات سلبية على نفسية الأبناء وسلوكياتهم الأمر الذي يساعد على تهيئتهم ليصبحوا أفراداً جانحين للعنف في المجتمع نظراً لفقدهم الجو الأسري الذي يشبع حاجاتهم النفسية والعاطفية والمادية والاجتماعية.

ويعرف العنف بأنه الاستعمال غير القانوني لوسائل القهر المادي أو البدني لتحقيق غايات شخصية أو سياسية أو اجتماعية وهذا التعريف قدم للأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العربي[33].

ويقصد بالعنف الأسري كل عنف يقع في سياق العائلة ومن قبل أحد أفراد العائلة بما له من سلطة ونفوذ وولاية على المجني عليه ويصنف العنف الأسري باعتباره أحد أنماط السلوك العدواني الناتج عن وجود قوى غير متكافئة بين طرفين مرتبطين في علاقة وينجم عنه أضرار جسدية ونفسية ويتعرض المجني عليه/عليها للخطر كالقتل أو الإيذاء الجسدي أو المعنوي أو الاعتداء الجنسي أو التحرش الجنسي أو الاهمال أو الحرمان المتعمد أو الايذاء اللفظي، وعلى ذلك فإن العنف الأسري هو أحد أنواع الاعتداء اللفظي أو الجسدي أو الجنسي والصادر من قِبل الأقوى في الأسرة ضد فرد/أفراد بدنية أو نفسية أو اجتماعية، وتظهر صور العنف داخل الأسرة في أنماط مثل:

  • العنف ضد الزوج/الزوجة.
  • العنف ضد الأطفال.
  • العنف ضد الوالدين.
  • العنف ضد المسنين.
  • العنف ضد العمالة المنزلية.

ولما كان المجتمع مليء بالتناقضات والمشكلات المختلفة، وقد يبدأ الانحراف بعجز أحد أفراد الأسرة عن إشباع احتياجاته واحتياجات من يعول ومن ثم تصبح الحياة واقعاً صعباً ويكون الاغتراب والانسحاب بمثابة رفض سلبي للمجتمع أو يكون حالة من الفوضى.

فالفقر هو أحد أشكال التجريد من القوة ومن ثم القدرة على التأثير في المعادلة الاجتماعية بحيث يؤدي هذا العجز عن امتلاك القوة إلى جعل السياقات الفقيرة وهي سياقات التوتر ومن ثم سياقات العنف والجريمة وتؤكد النظرية على أربعة أبعاد أساسية وهي:

  • البعد الاجتماعي والاقتصادي: ويشير إلى النقص النسبي المتاح للفقراء من الموارد اللازمة لتحصيل الرزق أو نفقات المعيشة الأمر الذي يعجزهم عن إشباع احتياجاتهم الأساسية بما يدفعهم إلى سلوك العنف ولا شك أن ارتفاع الأسعار يؤدى بشكل مباشر إلى تأجيج هذه الروح.
  • البعد السياسي: ويطلق على عدم وجود جدول أعمال سياسي واضح وصوت مسموع للفقراء الأمر الذي يهمش الفقراء بالنسبة لما يحدث في المجتمع مما ينعكس بآثاره على الأسرة حيث المكان والمتنفس الوحيد لممارسة الوجود والسلطة من قبل الوالدين وبالتالي يشوب سلوكهما كثيرٌ من العنف والعدوان تجاه الأبناء.
  • البعد النفسي: وهو الشعور الداخلي للفقراء بانعدام أهميتهم وخضوعهم السلبي للسلطة، ومن شأن ذلك أن يجعل علاقتهم بمجتمعهم ذات طبيعة سلبية ترتبط بها مشاعر الإحباط التي تخرج من خلال خطوات غير شرعية ممثلة في العنف والذي يتيح للوالدين الحق في التأديب أولادهم.
  • البعد الإعلامي: فظاهرة الانفاق البذخي في عصر الفضاء المفتوح حوَّل البلاد النامية (المستهلكة) إلى أسواقٍ خصبة لإعلام البلاد المتقدمة (المنتجة)، واكتساب الأفراد للعادات الاستهلاكية برغم ضعف موازنتهم الاقتصادية مما أثر على الاقتصاد الشخصي، وبالتالي زيادة انهيار التنمية الوطنية وحدوث اختلالات أمنية حيث ما قامت به أجهزة الإعلام والإعلان في ظل العولمة حوَّل الحاجات الثانوية للإنسان إلى حاجات أساسية مثل السيارة والأجهزة الكهربائية المتطورة …، مما يثقل كاهل الأسرة الفقيرة في تلبية الحاجات وتوفيرها نظراً لتطلع الأبناء للحصول عليها وانبهارهم بالإعلان السلعي مما يؤدي إلى السلوك العنيف من قبل الآباء ضد الأبناء والعكس وكذا من قبل أفراد الأسرة ضد المجتمع[34].

كما تغيب العدالة الاجتماعية المتمثلة في تفاوت توزيع الدخول والخدمات والمرافق الأساسية كالتعليم والصحة والإسكان والكهرباء بين الحضر والريف مما يحول الأرياف إلى حزمة من الفقر المدقع والذى بدوره يوفر بيئة خصبة وحاضنة للعنف، فانتشار الفقر والبطالة وتدني مستوى المعيشة وسوء توزيع الثروة وتزايد مظاهر الاستفزاز الاجتماعي وانهيار قيمة العمل وتكدس الأحياء العشوائية وزيادة أعداد الخريجين من المدارس والجامعات الذين لا يجدون فرصاً للعمل كل هذه وغيرها أسباب تؤدى للاحتقان وتمثل وقوداً للعنف الأسرى والمجتمعي يقدح شراراتها الغضب المكتوم بسبب تردى الأحوال المعيشية والذى قد ينذر بأخطار تتجاوز حتى فكرة العنف [35].


الهامش

[1] جمال سلطان، الجريمة تسيطر على مصر بسبب ارتفاع الأسعار، جريدة المصريون، 28 يونيو 2019

[2] مؤمن الكامل، الغلاء في مصر، انخفاض كارثي في الإقبال على الزواج وارتفاع جنوني في معدلات الطلاق، 2017

[3] محمد أبو العينين، الجرائم الأسرية كيف يهدد الاقتصاد، تماسك الأسرة المصرية، إضاءات

[4] محمد أبو زهرة، صدمة في الشارع المصري، ذبح أم وأبنائها الأربعة، جريدة النهار، 2018

[5] مدحت وهبة، تقرير الجهاز المركزي، اليوم السابع، 26 يوليو 2016

[6] جيفري وساكس، ترجمة أحمد أمين الجمل، نهاية الفقر: الاحتمالات الاقتصادية في عصرنا الحاضر، القاهرة، دار الكتب المصرية 2007

[7] سهير إبراهيم، الفقر وتوزيع الدخل في بحوث اقتصادية عربية، مجلة معهد التخطيط القومي، العدد الرابع والعشرون، 2001، ص136

[8] علي عبد القادر علي، الفقر، مؤشرات القياس والسياسات، الكويت، المعهد العربي للتخطيط، سلسلة جسر التنمية، العدد الرابع، 2002، ص2

[9] ابراهيم العيسوي، التنمية البشرية في مصر: ملاحظات في ضوء التقرير المصري لسنة 1994، المجلة المصرية للتنمية والتخطيط، المجلد الثالث، العدد الأول، يونيو 1995.

[10] زكريا طاحون، الإنسان المعاصر صانع الأزمات، سلسلة صوت البيئة، القاهرة، 2007 ص148

[11] أحمد النجار، الفقر في مصر في http://news.bbc.arabic.com 2008

[12] كرم الحلو، الفقر في العالم العربي في http://barasy.com 2007

[13] تحليل مضمون لجرائم الفقر، صفحات الحوادث (الأهرام، الوفد، الأسبوع، صوت الأمة) خلال الفترة من 1 مارس إلى 30 يونيو 2005

[14] أماني قنديل، المجتمع المدني في مصر، في مطلع ألفية جديدة، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، الأهرام، القاهرة، 2000، ص47

[15] مصطفى محمد عبد الله قاسم، التعليم والمواطنة، واقع التربية المدنية في المدرسة العصرية، الطبعة الأولى، مركز القاهرة للدراسات، حقوق الإنسان، القاهرة، 2006، ص89

[16] قايد دياب، المواطنة والعولمة، تساؤل الزمن الصعب، القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007، ص87

[17] عماد شاهين، المواطنة موضوعاً للفكر والبحث، الخطاب السياسي في مصر، بحث منشور، القاهرة، المؤتمر السنوي السابع عشر للبحوث السياسية، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2005، ص118

[18] محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1995، ص56

[19] السيد ياسين، المواطنة في زمن العولمة، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، التقرير الاستراتيجي، المقدمة، 2005

[20] منى مكرم عبيد، مفاهيم الأسس العلمية للمعرفة، ع15، ص2، القاهرة، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والإستراتيجية، 2006

[21] محمد فائق، حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية، سلسلة كتب المستقبل العربي، حقوق الإنسان، الرؤى العالمية والإسلامية والعربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص68

[22] الشراح، يعقوب أحمد، التربية والانتماء الوطني، تحليل ونقد، دار الفكر الحديث للنشر، الكويت، 2001

[23] إبراهيم عبد الله ناصر، المواطنة، عمان، مكتبة الرائد، 2003، 218.

[24] عزة فتحي علي، نموذج مستقبلي لمنهج التربية المدنية في المدرسة والثانوية، ط1، القاهرة، ايتراك للنشر والتوزيع، 2003، ص17.

[25] خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، سلسلة كتب المستقبل 39، التربية والتنوير وتنمية المجتمع العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص52

[26] عبد الودود مكروم، القيم ومستويات المواطنة (رؤية تربوية)، ط1، القاهرة، دار الفكر العربي، 2004، 324

[27] ميلتون فريدمان، (مترجم) الرأسمالية والحرية، مركز الكتب الأردني، الأردن، 1978، ص163

[28] David Stoesz and David Saunders: Welfare Capitalism: A New Approach to Poverty Policy? – The university of Chicago، social Service Review، Chicago، September 1999, pp (278-380)

[29] محمد البدوي الصافي، الرعاية الاجتماعية وتفاقم الفقر، في دراسات في الخدمة الاجتماعية والعلوم الإنسانية، جامعة حلوان، كلية الخدمة الاجتماعية، عدد 6، أبريل، القاهرة، 1999، (353,552)

[30] شادية قناوي، ﻗﻀﺎﻴﺎ ﻋﺭﺒﻴﺔ ﻤﻌﺎﺼﺭﺓ، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص 163

[31] عبد التواب بركات، تداعيات غلاء المحروقات في مصر، مجلة العربي، 4 يوليو، 2017

[32] العربي الجديد، الصفحة الرئيسية: مجتمع الخطوط الساخنة، الغلاء يدفع المصريين إلى الجريمة، 23 يونيو 2018

[33] عباس أبو شامة، جرائم العنف وأساليب مواجهتها في الدول العربية، جامعة نايف العربية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض، 2004، ص 24

[34] محمد الجوهري وآخرون، المشكلات الاجتماعية، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1995

[35] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى