ستيفن والت: الحالة الواقعية لعزل الرئيس الأمريكي
رابط مقال الحالة الواقعية لعزل الرئيس الأمريكي ترامب بالغة الانجليزي
الرئيس الأمريكي يحتاج إلى ثقة الشعب لتسيير شؤون السياسة الخارجية، وترامب قام بمصادرتها.
تعيش الدول في حالة من الفوضى، حيث لا وجود لأي فاعل أو مؤسسة لحماية بعضها من بعض. كما رغب عالم السياسية جون ميرشايمر في القول “إذا وقعت دولة في مأزق في النظام الدولي، لا يمكنها طلب الرقم 911”. لهذا السبب، يرى الواقعيون؛ السياسة الدولية كنظام مساعد لذاته، أين يتوجب على كل دولة الاعتماد على مصادرها واستراتيجياتها الخاصة من أجل البقاء. من أجل شرحها بطريقة أبسط، هي غابة في الخارج، والدولة التي تسعى لأن تكون آمنة تحتاج قيادة قوية، نشيطة، وسريعة، التي تستطيع أن تفعل ما يتوجب عليها فعله لتحافظ على الأمن.
لهذا يجب أن يعزل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
انتظر لحظة: ألا تقترح واقعية السياسة الخارجية العكس؟ في عالم خطير، ألا يتوجب على الأمريكيين إعطاء الرئيس الحق في ميزة الشك، وبذلك يكون له الحرية في تسيير سياسة خارجية نشيطة ويقظة؟ ألن يكون أفضل حالا للأمريكيين جنب أزمة دستورية، التي سوف تقوم فقط بتشتيتهم وتقسيمهم أكثر وتجعل الحياة أسهل لأعدائهم؟
لا، لا، دعوني أشرح
فهم الآباء المؤسسون بأنّنا نعيش ضمن عالم خطير، فالمستعمرات الـ 13 كانت ضعيفة وشديدة التأثر، واعترافها في نهاية المطاف بالحاجة إلى قدر أكبر من الوحدة والسلطة الحكومية ممّا أدى بهم للتخلي عن بنود الكونفدرالية واستحداث ما يعرف اليوم بدستور الولايات المتحدة الأمريكية. وأعطوا الكونجرس السلطة لإعلان الحرب، حشد الجيوش، وتوفير الدفاع الوطني لجهات أخرى، لكن أعطوا الرئيس كونه رئيس الهيئة التنفيذية السلطة على معظم جوانب الشؤون الخارجية، فالرئيس هو الذي يعين السفراء، يفاوض بشأن الاتفاقيات، يتعامل مباشرة مع باقي المسؤولين في الدولة، وهو المسؤول في نهاية الأمر عن تدبير سياسات الحكومة تجاه الأصدقاء والخصوم على حد سواء.
على مر القرنين السابقين، وخصوصا منذ الحرب العالمية الثانية، استولى الرؤساء من كلا الجانبين تدريجيا على المزيد من السلطة في هذا المجال، وفي مواجهة للتهديد السوفياتي والخطر الوشيك الذي تطرحه الثورة النووية، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتأسيس وإرساء مؤسسة عسكرية واستخباراتية كبيرة، وتولت المزيد من المسؤوليات في العالم. ومن غير المفاجئ أن ارتأى وبشكل عام رؤساء كلا الحزبين الحق في تسيير قدر كبير من شؤون السياسة الخارجية بسرية، ظاهريا من أجل الأمن القومي.
وليس من المستغرب أنّ معظم إن لم يكن كل رؤساء فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد استعملوا امتياز الأمن القومي لصرف الاستفسارات المحرجة أو المؤثرة سياسيا بشأن سلوكياتهم، ولا يوجد شك حول نظام التصنيفات الذي قد عاث في الأرض فسادا، حتى أنّ مستشار الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد اشتكى حول هذا النظام الذي يقود إلى أوجه قصور هائلة ويشجع انتشار الخروقات.
ولكن كما وافق زميلي جاك غولد سميث مؤخرا، هنالك مجال واحد أين يستحق الرؤساء قدرا معتبرا من السرية وهو المجال الخاص بهم، والمتعلق بالتعامل الفردي مع القادة الأجانب، ففي عالم خطير، يتوجب السماح للرؤساء (أو ممثليهم المعينين) أن يسيروا الحوارات الصريحة مع المنافسين أو الحلفاء حول المواضيع شديدة الحساسية متضمنة قضايا الحرب والسلام، من دون القلق حول نشر محتوى الحوار في الصفحة الرئيسية لنيويورك تايمز.
ولكن إتاحة هذا المستوى من الثقة مجددا لأي رئيس يعتمد على أدنى مستوى من النزاهة التي يتمتع بها الرئيس، بالاستناد إلى أنّ هذا المستوى ضروري لحماية الأمن القومي في عالم خطير للغاية. يجب على الأمريكيين أن يكونوا واثقين من أنّ تعاملات الرئيس مع القوى العامة يكون بنية تعزيز المصالح القومية الخارجية وليس أهدافهم الخاصة. يمكننا ألا نتفق حول كيفية إدارة الرئيس للعلاقات مع دولة أخرى أو قائد عالمي آخر، ولكن يجب أن نكون واثقين –ليس فقط متأملين وإنّما واثقين – أنّهم يقومون بما يظنون أنّه الأفضل لأجل الدولة وليس فقط من أجل مصالحهم.
ولقد ظلّ الرئيس ترامب يتباهى باستخفافه بهذا المبدأ منذ اليوم الأول من رئاسته، ورفض أن يتجرد من أداء عمله العقاري وأعلن نيابة عنه بشكل واضح على الأقل 70 مرة منذ أدائه لليمين الدستوري، وقد قضى جزءا من 378 على الأقل من فترة رئاسته في واحد من ملكياته (غالبا في منتجع الغولف) مكلفا دافعي الضرائب ملايين الدولارات، وتسعى الحكومات الخارجية لكسب ود الرئيس ترامب بدفع ملايين الدولارات في عقارات ترامب منذ تنصيبه، بينما ينفق كل من أيريك ترامب ودونالد ترامب الابن المزيد من الأموال على خدمات الحماية السرية عندما يسافرون من أجل إدارة منظمات أعمال ترامب.
فالحكومات الخارجية قد استشفت بسرعة هذا الجزء من أجندة الرئيس، كما كشفت المذكرة التي تضم تفاصيل حول مكالمة ترامب للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلانسكي أنّ القادة الخارجيين فهموا أن الإطراء على الرئيس ترامب، وتسريب بعض الدولارات لمنظمته هي الطريقة الوحيدة لكسب دعمه، لذلك سارع الرئيس الأوكراني في إخبار ترامب أنّه سيمكث في برج ترامب أثناء فترة تواجده في نيويورك، أملا منه بأنّ هذا النوع من المجاملة سيكسبه ود ترامب، وكل ما تمّ فعله بالطبع هو زيادة ملء جيوب ترامب أكثر قليلا.
لكن الآن أخذ الرئيس ترامب هذا العمل غير الأخلاقي إلى المستوى التالي، فحتى القراءة العقلانية لتقرير التبليغ عن المخالفين، ونص البيت الأبيض الذي أعيد بناؤه عن المكالمة مع الرئيس زيلاتسكي يوضحان أنّ الرئيس ترامب كان يحاول استعمال وعد المساعدة العسكرية لأوكرانيا للحصول على معروف (كلماته الخاصة) من الرئيس الأوكراني. ماذا كان هذا المعروف؟ هل كان تعاون استراتيجي وثيق ضد منافسي الولايات المتحدة الأمريكية؟ تبادل أكثر للمعلومات الاستخباراتية التي بإمكانها أن تعزز جهود مكافحة الإرهاب، أو مكافحة غسيل الأموال، الإتجار بالجنس، أو جرائم أخرى؟ دعم لبعض مبادرات السياسة الخارجية التي من الممكن أن تعزز من أمن الولايات المتحدة الأمريكية؟
المكالمة لم تكن متعلقة بأي سؤال سبق طرحه، فقد أوضحت هذه المكالمة أنّ ترامب لم يكن مهتم (أو حتى على إطلاع ملم) بالسياسة الداخلية الأوكرانية، صراع أوكرانيا مع روسيا، آفاقها نحو التطور الاقتصادي، أو أي من القضايا التي من شأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية البت فيها. فما أراده ترامب، وما قام محاميه الشخصي رودي جيولياني بمتابعته لبعض الوقت هو العمل اللاأخلاقي الذي يمكن استعماله في حالة واجه الرئيس ترامب جو بيدن في انتخابات 2020، على الرغم من أنّ الحكومة الأوكرانية قد أكدت على عدم وجود هذا العمل اللاأخلاقي. وبشكل صادق، فإنّ ترامب لم يطلب من زيلانسكي العمل على نحو وثيق مع سكرتير الدولة مايك بومبيو، مستشار الأمن القومي، أو وزارة الدفاع، بل أخبره بشكل متكرر أن يتعاون مع المحامي جوليان والمدعي العام ويليام بار، وطلب منه التحقيق في شأن بيدن وشركة الأمن السيبراني كراودسترايك (موضوع الجناح الأيمن لنظرية المؤامرة حول اختراق اللجنة الوطنية الديمقراطية التي خدمت في حملة 2016). وبلا مواربة: فقد أراد حكومة خارجية لمساعدته في أن يعاد انتخابه.
قد لا يتفق الناس العقلاء حول كيف يفترض أن تكون سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ما لا يجب أن يكون هو المخطط الابتزازي، حيث يحاول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحصول على قوة خارجية لخلق فضيحة قد تساعد على رفع حظوظ إعادة انتخاب هذا الرئيس.
والأهم من ذلك أنّ القضية ليس حول ما إذا قد قام ترامب بخرق أي قانون خاص بالولايات المتحدة الأمريكية، كما يشير العالم السياسي كوري بريتشنايدر “الجرائم الكبرى والجنح” التي ينص الدستور على توجيه الاتهام فيها “هي صنف لا يوجد في أي جزئية في القانون الجنائي”، فواضعو الدستور قصدوا معنى أعمق: إهانة أو تقويض المكتب. الجرائم الكبرى هي أنشطة تنتهك ثقة الشعب في الرئيس، بالطبع، الجرائم القانونية من الممكن أن تكون جرائم كبرى، وكذا سرقة أموال من الخزينة العمومية فكلاهما غير قانوني ومحل اتهام، لكن الرئيس لا يحتاج إلى تجاوز القانون من أجل ارتكاب جريمة كبرى.
لا للخطأ: هذه القضية ليست حول الموافقة على تعامل ترامب مع السياسية الخارجية. فقد اقترف كل رئيس سابق أخطاء فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وقد جسد البعض منها مشاكل فعلية، فقد كان قرار جورج دبليو بوش بغزو العراق خطأ جسيما، كما أخطأ باراك أوباما عندما ساهم بإسقاط معمر القذافي، وأخفق بيل كلينتون عندما رفض الشراكة من أجل السلام وآثر التوسيع المكثف للناتو أو عندما أضرم النار في صواريخ كروز في مصنع المواد الصيدلانية في السودان. لكن لا يوجد أي دليل على أنّ أي منهم قام باتخاذ هذه القرارات من أجل خدمة أنفسهم أو توجيه مسار الانتخابات بالتهم الزائفة، فالمكافئ الأقرب الذي يمكنني التفكير به هو جهود الرئيس ريتشارد نيكسون في محادثات سلام الفيتنام في عام 1968، وبذلك التقدم المحرز في هذه المحادثات سوف يحول دون إعطاء الميزة للمترشح الديمقراطي هاربرت هامفري. فالرئيس نيكسون لم يكن قد تسلم الرئاسة بعد، ومع ذلك، فالكل يعلم كيف تحولت رئاسته بعد تسلمها فيما بعد.
من الملاحظ أنّ ترامب الآن يترك نيكسون خلفه، فــ كمواطن عادي، قام ترامب بإدارة تجارة مشبوهة وملتوية، وقد كان واضحا منذ فترة من الزمن أنّه يدير المهام الرئاسية بطرق ملتوية، فلا يمكن أن يكون محل ثقة سلطة الرئاسة ويتحصل على امتياز الثقة الذي يسير متطلبات السياسة الأمنية الوطنية والخارجية للأمة. لماذا؟ لأنّه في كل مرة يلتقي بمسؤول خارجي لم يكن من المعلوم أنّه كان يحاول بالفعل تحسين المصالح القومية، أو أنّه يسعى فقط إلى التخلص من صفقة سيئة السمعة لصالحه الخاص، الآن ما يثير المزيد من الشكوك، إصراره على اللقاء مع مسؤولين على غرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدون حضور أي من معاونيه.
يوجد سبب واقعي ثاني يعزز العزل، بما أنّه لا يوجد شخص معصوم، فإنّه من الضروري أن يتم مناقشة الخيارات بطريقة واضحة، وتقييم النتائج بأكبر قدر مستطاع من الصدق، فعندما يرتكب القادة الأخطاء-وهو ما يحصل من وقت لآخر-فالمجتمعات المنفتحة والتي لها حرية الولوج إلى المعلومة والحوار أكثر احتمالا في رصد الأخطاء وطرح البدائل. الدكتاتوريات على غرار الاتحاد السوفيتي لجوزيف ستالين، وصين ماوتسي دونغ، وعراق صدام حسين، وبالمقابل، فالسياسات الكارثية يمكن أن تستمر لسنوات، لأنّ لا أحد يمكن أن يصرح بأنّ الطاغية على خطأ. ترامب ليس ديكتاتور(على الرغم من أنّه يرغب في أن يكون) لكنه قد أظهر بشكل ثابت ومستمر عداء كبير تجاه المؤسسات الأساسية التي تُعمل الديمقراطية، وأدان الصحفيين الذين يستعملون عبارات ستالينية على غرار “أعداء الشعب”، كما أمر معاونيه بتجاهل الاستدعاء القانوني من طرف الكونجرس، والآن يلمح إلى أنّ المخبرين عن المخالفات كانوا أشبه بالجواسيس، ويجب إعدامهم، هذه النظرة العالمية هي ملائمة بشكل جيد للدكتاتورية ذات الخلل، ولكن ليست ملائمة للجمهورية التي يمكن لقراراتها حول الحرب والسلم أن تؤثر على أرواح ملايين الأشخاص.
اقرأ ايضا ستيفن والت: تراجيديا سياسة ترامب الخارجية
لماذا يفضل العزل في الوقت الراهن، تسليما بأنّ اعتلالات شخصية ترامب قد غدت ظاهرة للعيان لمدة من الزمن؟ لأنّ العزل هو فعل سياسي، والمؤطرون جعلوه صعبا من أجل الحصول على الأصوات، لأنّهم فقهوا مخاطر جعله سهل للغاية. وعملية العزل تحرز تقدما لأنّ تقارير المخبرين هي حالة شفافة لاستخدام ترامب لمنصبه وسيطرته على السياسة محاولا انتزاع منافع شخصية، وقد تأكد طاقم البيت الأبيض مباشرة ممّا فعله، لذلك حاولوا التستر عليه، فوضوح هذه الحلقة –مقارنة بالتعقيدات القاتمة لتقرير ميولر-أدى إلى تغيير التوازن السياسي. من بين الأمور الأخرى، فقد أدى ذلك إلى إدلاء حوالي 300 مهني بالأمن القومي من ضمنهم رجال ونساء خدموا الإدارة الجمهورية والديمقراطية بيان علني عن تأييدهم لحالة العزل.
فبيت القصيد أصبح واضحا الآن، سواء كنت (ديمقراطي، جمهوري، أو مسقل)، فلا يمكنك الوثوق بأنّ دونالد ترامب سوف يفضل المصالح الوطنية على المصالح الشخصية، أو أن يقود بأمانة سياسة خارجية تحرز تقدما في المصالح الوطنية. في العالم الواقعي الذي نعيش فيه، في عالم أين لا يمكن في بعض الأحيان حتى للولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظيمة أن تواجه المخاطر الفعلية، وهو الخطر الذي لا ينبغي على أي منّا أن يكون مجبرا على مواجهته. ولهذا يتوجب عزل ترامب وتنحيته في نهاية المطاف من كرسي الرئاسة.