إشكاليات المعارضة المصرية
في هذه الورقة نحاول بيان معالم الخلل الذي أصاب المعارضة بشكل عام (1). مع تقديم عدد من المقترحات لعلاج إشكالية التنازع والاختلاف فيما بينها على وجه الخصوص، بما يمكنها من الانتقال من حالتها الراهنة إلى حالة تكون فيها أكثر فاعلية وجدوى وتأثير في المشهد.
نقاط الضعف الرئيسية للمعارضة المصرية:
أولاً: البنيوية:
تعاني معظم حركات المعارضة المصرية من اختلالات بنيوية كثيرة، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى النظم والهياكل، فبعض هذه الكيانات هي كيانات الشخص الواحد الذي تتلخص الحركة جميعها في شخصه، ولا توجد بنية تنظيمية محكمة تسمح بتداول الأفكار أو تداول السلطة بحُرية بين أعضاء هذا الكيان، بحيث نجد أن الطبيعية الاستبدادية الفردانية للسلطة في مصر قد انعكست على هذه المعارضة والتي من المفترض أنها وجدت نظريًّا لإنهاء هذه الحالة السلطوية الفردية.
هذه البنيوية يمكن تقسيمها من حيث السلوك والفعل السياسي إلى ثلاث حزم (2):
أ) مجموعات سياسية:
وأقصد بها الكيانات الحزبية والثورية، التي تحركها دوافع سياسية ذاتية، وليس بإرادة فوقية أمنية أو مصالح مباشرة، مع الإقرار بأنه نتيجة ظروف القمع الأمني داخل مصر يصعب استقلال قرارات هذه الكيانات بعيدًا عن الضغوط عليها، والأمثلة على تلك الكيانات في الداخل والخارج (تحالف دعم الشرعية – الإخوان لمسلمون – مصر القوية – البناء والتنمية – الوسط – جناح في 6 إبريل – شخصيات فردية).
ب) مجموعات وظيفية:
كيانات ليست في الأصل ذات مشروع سياسي حقيقي، ولكنها تؤدي أدوارًا محددة لها من قِبَل الأجهزة الأمنية أو المخابراتية، أو مجموعات المصالح التي تحركها مباشرة، وهذه المجموعات لا يعنيها على الإطلاق التوافق الوطني أو الشراكة أو المفاهيم والمضامين التي يمكن توحيد الثوّار عليها، وهي وإن كان لبعضها مشاريع سياسية، إلا أنها شكلية أكثر منها واقعية، ومن أمثلتها (التجمع – جبهة الإنقاذ سابقا – الوفد – المصريون الأحرار – حزب النور – الأحزاب التي تأسست داخل مصر في أعقاب الانقلاب) (3).
ج) مجموعات ثورية غير مؤدلجة:
وهي كيانات نشأ أغلبها بعد الانقلاب، كرد فعل لممارسات السلطة، ويغلب عليها الطابع النخبوي، ومعظمها تأسس خارج مصر، كالمجلس الثوري المصري، الائتلاف العالمي للمصريين في الخارج (4)، تحالف مصريون في الخارج لدعم الديمقراطية (5)، وغيرهم.
ثانياً: غياب القيادة للمعارضة:
مثّل انسحاب الإخوان من قيادة المعارضة بعد الانقلاب قاصمة الظهر للحراك الثوري، وتحديدا في الربع الأخير من عام 2015 م، مع بدء الأزمة الداخلية للإخوان في الظهور للعلن، ثم استفحال هذه الأزمة، وانتهاءً بالانشقاقات الطولية والعرضية في الجماعة، والتي تسببت بشكل مباشر في توقف الحراك على الأرض (6).
ونتيجة للأزمة البنيوية التي تحدثنا عنها سابقًا، لم تستطع أيّ من القوى الثورية أو الحركات السياسية ملء الفراغ القيادي الذي تركه انسحاب الإخوان من المشهد، رغم محاولات البعض سد هذا الفراغ إلا أن أيًّا منها لم يُكتب له النجاح. وبالتالي أصبحت الثورة المصرية تتحرك فعليًّا بلا رأس، فتخدر الجسد، وتوقف عن الحركة والفاعلية. ومن خلال تجارب الثورات عبر التاريخ نجد أنه لا توجد ثورة واحدة ناجحة دون وجود قيادة فاعلة قادرة على إدارة الصراع، واقتناص الفرص، والبحث عن البدائل.
ثالثاً: غياب مشروع التغيير:
حتى الآن، ورغم مرور نحو سبع سنوات من عمر الانقلاب، إلا أننا لم نجد أي جهة أو حركة قدمت نموذجًا لمشروع التغيير المنشود، والذي يمثل البوصلة والوجهة لإدارة المعركة والأزمة في مصر (7). واكتفت معظم قوى المعارضة برَدِّ الفعل على ما يفعله النظام، بحيث أصبح النظام المصري في الحقيقة هو من يوجه بوصلة المعارضة في هذا الاتجاه أو ذاك. وكل المبادرات التي خرجت تركز أغلبها في الحديث عما بعد الانقلاب، وإدارة الفترة الانتقالية، وتحدثت عن قواعد عامة.
وكانت أولى هذه المحاولات هي وثيقة مبادئ بروكسل، التي أعلنتها قوى وشخصيات سياسية ودبلوماسية مصرية في السابع من مايو 2014 م، من أجل استرداد ثورة يناير واستعادة المسار الديمقراطي، كما جاء فيها (8).
لكن لم يجب أحد عن التساؤل الرئيسي، وهو كيف نسقط الانقلاب في مصر؟ أو كيف تحل الأزمة المصرية لصالح الثورة؟
وتركزت الجهود في هذا الجانب في حالات فردية (9)، أو كيانات قالت إن لديها رؤية لحل الأزمة، لكن دون أن تعلن عنها منذ الانقلاب وحتى الآن.
رابعاً: الفُرقة وضعف الثقة:
انفجرت المعارضة وتشظت لأجزاء كثيرة متنافرة، وبطبيعة الحال فلم يبدأ ذلك مع بداية الانقلاب العسكري، بل كان منذ شهور الثورة الأولى في 2011 م. لكن بعد 3 يوليو 2013 م، واضطرار المعارضة للسفر خارج مصر؛ نتيجة القمع الأمني، وافتقاد الرؤية للتعامل مع الأزمة، مما أدى لبدء الفرقة في قيادة المعارضة حينها، متمثلة في تحالف دعم الشرعية (10)، الذي بدأت الانشقاقات فيه مبكرًا، ثم الانقسام الداخلي في جماعة الإخوان المسلمين، ثم المجلس الثوري، فضلاً عن الخلافات والتخوينات بين الأطراف المختلفة؛ مما أضعف الثورة، وجعلها في أسوأ حالتها كما هو الآن.
والأدوار التي قامت بها بعض رموز الثورة في الخارج بعد الانقلاب، في محاولة للمِّ الشمل وتجميع الأطراف وطيّ صفحة الماضي، دليل على صحة هذا الطرح، بل الشاهد أنه في الوقت الذي زاد فيه الحديث عن الوحدة ولم الشمل والتوحد الثوري في العام الأول بعد الانقلاب، خرجت بعدها أحزاب الوسط والوطن والاستقلال والجبهة السلفية من تحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب.
والشاهد هنا أنه رغم الجهود التي بُذلت لم يحدث تقدم نهائي في الموضوع، بل على العكس ازدادت الأمور سوءًا بانسحاب عدد من الأحزاب الرئيسية في التحالف. كذلك لم تكن أزمة المعارضة في الفرقة والاختلاف فقط، لكن كانت كذلك في احتراق معظم نخبها المتصدرة حاليًا وفقدانها لمصداقيتها لدى القطاع المؤيد للثورة في مصر وخارجها، مما أفقدها الفاعلية والحركة والقدرة على التأثير.
بل تسبب ذلك في انفضاض حلفاء الثورة عنها، فبعد أن كانت الدول التي تحتضن المعارضة تتعامل معهم على أنهم الأمل في إنقاذ مصر، تغير الوضع من السياسي للإنساني، ثم تحولوا إلى عبء في نظر بعض هذه الدول (11).
النتائج:
بناءً على ما سبق، لا يمكن التعويل على تغير نوعي في طبيعة القوى السياسية، ولا في نمط العلاقات بينها، ولا حتى في المنظور القريب داخل مصر، ما دام الانقلاب العسكري ومنظومة قمعه كما هي لم تسقط. فمع القمع الحاد للمعارضة، والسيطرة الأمنية المخابراتية، يصعب إيجاد بيئة حاضنة لأي حوار سياسي ناجح أو ناضج داخل مصر. وتُصبح التغيرات الحاصلة في غالبها تكتيكية أو إجرائية لتسجيل المواقف، أو ضغوط أمنية في اتجاه معين توظف لصالح بقاء الانقلاب.
هذه الأجواء تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، البحث عن توافق وطني بأدوات العمل السياسي الطبيعية المتوفرة في الأنظمة الديمقراطية، والتعويل على إحداث شراكة وتحالفات في ظل هذه البيئة هو صعب الحدوث بشكل كبير.
بالنسبة لمعارضة الخارج كذلك لا يتوقع حدوث أي تغيير حقيقي في العلاقات بين قواها المختلفة في اتجاه توحدها واصطفافها معًا؛ لغياب القيادة ومشروع التغيير والضعف البنيوي، لكن يمكن وضع أسس يمكن بناء حالة من الاصطفاف الوطني عليها.
التوصيات:
(1) على كيانات المعارضة في الخارج بداية أن تصطف معًا، وفقا لتحزباتها الأيديولوجية والفكرية، بحيث يكون هناك مجموعتان أو ثلاث مجموعات متوافقة فكريًّا وسياسيًّا، بدلاً من أن يكونوا مجموعات متناثرة متنافرة. ثم تتحول هذه المجموعات المتوافقة إلى كيانات، تُنظم العلاقة بين أعضائها سياسات واضحة لإدارة العمل والاختلافات البينية، ومن ثمّ يُمكن أن ننتقل بعدها إلى مستوى التنسيق بين هذه الكيانات المختلفة على أساس التوافق على الإجراءات أولاً، قبل التوافق على المنهجيات.
(2) العمل من خلال أن تنسق هذه الكيانات العمل بينها في مهام محددة لا تحمل صبغات سياسية تسبب حالة استقطاب واختلاف مجددًا، مثل ملف المعتقلين، وملف سد النهضة، والملفات الاقتصادية المختلفة، وملف سيناء، هذه ملفات نوعية يمكن للمعارضة التوافق حولها دون خشية الوقوع في فخ الاستقطاب والأدلجة، أو الخوض في القضايا الخلافية.
(3) أن يدير هذه الملفات فنيًّا رجال تكنوقراط في المراحل الأولى من العمل، حتى يمكن استعادة الثقة تدريجيًّا بين جبهات المعارضة المختلفة، وتوفّر بيئة نجاح تمكنها من تحقيق إنجازات في هذه الملفات، تسمح ببناء تفاهمات في القضايا السياسية الخلافية، مما يمثل طريقًا رحبًا لتوحيد صفوف المعارضة، وبناء تحالف قوي ضد النظام وسياساته.
(4) يظل لكل فصيل منصاته الإعلامية، وقناعاته السياسية عن الثورة ومستقبلها، بينما تكون هناك مؤسسات مستقلة تُشعل الحالة الثورية عبر تبني خطاب إعلامي يدافع عن قضايا الوطن والمظلومين والضعفاء فيه، دون طرح سياسي محدد، فالدفاع عن الفلاحين أو العمال أو حق مصر في مياه النيل لا يتطلب أن تكون إخوانيًّا أو ليبراليًّا أو اشتراكيًّا أو غير ذلك. وهذا الطرح من شأنه أنه يُوفر نقطة التقاء بين الفرقاء، فضلاً عن أنه سيعيد الثقة تدريجيًّا بين الشعب والمعارضة؛ لأنه سيعبر حينئذٍ عن احتياجات الناس الفعلية وليس المتوهمة. كما أنه من الصعب تفخيخ هذا العمل من قِبَل أحد؛ لأنه لا يتبنى مطالب سياسية مختلف عليها، ولا يطالب أحدًا بتبني موقف بعينه أو التخلي عنه، وبالتالي لن يكون هناك مزايدة منطقية.
الهوامش:
- د. ممدوح المنير، الإخوان وإدارة العلاقات مع القوى السياسية المؤيدة للثورة، المعهد المصري للدراسات، تاريخ النشر 20/1/2015 م.
- المصدر السابق.
- يمكن الرجوع لتقرير نشره موقع “نون بوست” بتاريخ 21/5/2018 م، تحت عنوان “عسكرة الأحزاب”، يتحدث عن الأحزاب ذات الخلفية العسكرية التي نشأت في أعقاب الانقلاب.
- خريطة المصريين في الخارج: الانتشار والتأثير، إدارة الرصد والتوثيق بالمعهد المصري، نشر بتاريخ 9/1/2016 م.
- المصدر السابق.
- تقرير ” ماذا يحدث داخل أروقة إخوان مصر؟”، نون بوست، تاريخ النشر 30/5/2015 م، تاريخ الدخول 8/2/2020 م.
- قدم تحالف دعم الشرعية في مارس 2014 م وثيقة قال إنها تمثل خريطة طريق للثورة المصرية، ولاقت صدى واسعًا حينها، على أساس أنه كان يمثل قيادة الحراك وقتها.
- “الجماعة الإسلامية تتحفّظ على وثيقة بروكسل”، العربي الجديد، تاريخ النشر 16/5/2014 م، تاريخ الدخول 9/2/2020 م.
- راجع ملف “مشروع إنقاذ الثورة”، د. ممدوح المنير، تاريخ النشر 12/4/2015 م، ملف محدث، تاريخ الدخول 10/2/2020 م.
- “تحالف دعم الشرعية”، موسوعة الجزيرة نت، تاريخ النشر غير مسجل، تاريخ الدخول 10/2/2020 م.
- “الإخوان المسلمون” هم أساس أزمة قطر، إريك تراغر، معهد واشنطن، تاريخ النشر 2/7/2017 م، تاريخ الدخول 9/2/2020 م.
إقرأ أيضا: المعارضة المصرية نحو تصعيد المواجهة