الأزمة اللبنانية الراهنة: الأسباب والسيناريوهات المتوقعة
يكاد ُيجمع القادة السياسيون والدينيون والمراقبون المحليون، وأقرانهم في الخارج، على أن أسباب الانهيار اللبناني الأخير ترتبط ببنية النظام الطائفي الذي أسّسه الفرنسيون في مرحلة ما بعد استقلال لبنان عن الاستعمار الفرنسي في العام 1943، والذي فتح الباب واسعاً فيما بعد لترسيخ نظام محاصصة سياسية وطائفية مقيتة، أدّت إلى تفشّي الفساد في مفاصل هذا النظام الذي كان يقتات على اقتصاد ريعي هش، قوامه السياحة والخدمات، والمساعدات أو القروض الخارجية المشروطة، والذي كرّسه مجدداً اتفاق الطائف 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية في العام 1990.
وقد أسهمت التدخلات الخارجية المرتبطة بمصالح الدول الإقليمية والأجنبية، والسياسة العدوانية الإسرائيلية، في مفاقمة أزمة النظام اللبناني على الصعد السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، من ضمن معادلة مؤذية تمّ إرساؤها منذ عقود، بوجوب إبقاء لبنان في حالة دائمة من الاضطراب وعدم الاستقرار مع منع انهياره تماماً، لما لذلك الانهيار من تداعيات لا يمكن لتلك الدول تحمّلها.
وقد شهد لبنان منذ أربعينيات القرن العشرين أزمات سياسية واقتصادية ومالية كبرى وحروباً عسكرية مدمّرة واجتياحات واعتداءات إسرائيلية عدة، وصولاً إلى انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر من العام 2019، والتي شكّلت البداية الفعلية للانهيار الكبير الذي لا يزال لبنان في خضمّ تداعياته الكارثية حتى تاريخه.
أسباب الانهيار الكبير
1ـ في الجانب السياسي:
يمكن القول – بإيجاز شديد – بأن تركيبة لبنان السياسية والطائفية الهجينة، وموقع لبنان الحسّاس في قلب الصراع العربي- الإسرائيلي، قد أدّيا إلى أزمات سياسية وأمنية واقتصادية خطيرة ومتتالية، منذ مرحلة الاستقلال وحتى الانهيار الأخير، وذلك لوجود رؤى متناقضة ومتصارعة بين الفئات اللبنانية حول مختلف القضايا، وبما أفسح المجال واسعاً أمام استشراء نظام المحاصصة والفساد من جهة؛ وشرع الأبواب أمام التدخلات الخارجية التي أرهقت البلاد والعباد طيلة عقود مضت، والتي لا يتسع المقام لتعدادها وتحليلها.
وتكفي ملاحظة اختلاف القوى السياسية اللبنانية المرير، منذ مرحلة اتفاق (دستور) الطائف وحتى اليوم، بشأن تطبيق نصوص الاتفاق فيما يخص صلاحيات رؤساء السلطات الثلاث، وإلغاء الطائفية السياسية، ودور لبنان الإقليمي والدولي، وطبيعة نظامه الاقتصادي والمالي.
2ـ في الجانب الاقتصادي والمالي:
يمكن الحديث عن أسباب داخلية وخارجية للانهيار الذي شهده لبنان في العامين 2020 و2021:
(أ) العوامل الداخلية:
يذهب البعض إلى أن هناك أكثر من عامل وراء الأزمة الاقتصادية في لبنان:
(أ – 1) السياسات الاقتصادية التي كرّسها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في تسعينيات القرن الماضي، عندما وضع سياسة نقدية ريعية تعطي مجالاً للخدمات على حساب الاقتصاد المنتج. هذه السياسة كان من المنتظر أن تصل إلى مرحلة يفلس فيها الشعب اللبناني وتفلس مؤسساته، لأن الاقتصاد لا يمكن أن يقوم على الريع دون إنتاج فعلي، بحسب بعض المحللين والخبراء الاقتصاديين.
(أ – 2) الفساد والنهب المنظّم لخزينة الدولة اللبنانية. فهناك تقارير تشير إلى نهب حوالي 52 مليار دولار من خزينة الدولة لا يُعرف كيف صُرفت ولا أين تبدّدت! والمطلوب من التدقيق الجنائي إذا تم، أن يتابع مسار تلك الأموال المنهوبة. لكن هناك طبقة سياسية مارست نهباً منظّماً لخزينة الدولة على مدى 30 عاماً لا تريد لهذا التدقيق الجنائي أن يتم، وبالتالي هي تتلاعب بسعر الدولار لكي تغطّي على فسادها، والخروج من هذه الأزمة بريئة من أي تهمة ومحافظة على امتيازاتها السياسية والاقتصادية وتمثيلها في البرلمان والحكومة والمؤسسات كافة.
(أ – 3) التهريب، وخصوصاً الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج، إضافة إلى جشع التجّار.
(ب) العوامل الخارجية:
منذ أن بدأت ضغوط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إيران وحلفائها ضمن سياسة “أقصى ضغط، أدّت هذه السياسة إلى الضغط على الاقتصاد اللبناني ونظامه المصرفي، ما أدّى إلى وقف التحويلات الخارجية وإلى عدم التعامل الخارجي مع القطاع المصرفي اللبناني بشكل مريح، وصولاً إلى العقوبات الأميركية المباشرة على مصرف “جمال تراست بنك” الذي يملكه مساهمون لبنانيون شيعة إذ اتهم المصرف بتسهيل إيداعات وعمليات لحزب الله وتمت تصفية المصرف من قبل مصرف لبنان.
ويرى مراقبون أن ثمّة أسباب رئيسية تلخّص مشهد الانهيار المالي في لبنان وتفسّر كيف وصل لبنان إلى هذه الحالة المستعصية.
(ب – 1) أن إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية تعثّرت بسبب نخب فاسدة؛ وعليه، كان لا بدّ من جذب البنوك لأبناء لبنان العاملين في الخارج ليدّخروا أموالهم لدى مصارف لبنان. واتّبع مصرف لبنان المركزي “هندسة مالية” جديدة. لكن سرعان ما نفدت أموال المودعين بسبب إدمان الحكومة على الاقتراض لسداد فواتير النخب الحاكمة.
(ب – 2) وقف دول الخليج الدعم المالي والاستثمارات في لبنان مع تنامي نفوذ إيران في البلاد.
(ب – 3) الإنفاق غير المحسوب من قبل السياسيين الذي أعاق البلاد تماماً في نهاية المطاف وانهارت العملة، ممّا دفع قطاعاً كبيراً من السكان نحو الفقر.
لقد باشر لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) الاقتراض لتمويل إعادة الأعمار، وأعاد بناء اقتصاد اعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الخارجية؛ وهي قطاعات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما، محلياً وإقليمياً. في المقابل، لم تحصل إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب البيروقراطية والمحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية الذي تكرّس بعد الحرب. وقد تراكم الدين تدريجياً، وبالتالي خدمة الدين المترتبة عليه جرّاء الفوائد المرتفعة، تزامناً مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. وقد رصدت الحكومات على مرّ السنوات اعتمادات مالية لإصلاح قطاع الكهرباء تعادل نحو نصف الدين الخارجي، إذ كلف الإنفاق على الكهرباء نحو 45 مليار دولار، وفق تقديرات البنك الدولي. ويشكّل هذا القطاع أبرز مكامن الهدر، فيما لا يزال اللبنانيون حتى اليوم يدفعون فاتورتي كهرباء، واحدة للدولة وثانية لأصحاب المولّدات التي يستخدمونها لدى انقطاع التيار الكهربائي الذي يحرم منه المواطنون بين 12 ساعة في أحسن الأحوال و22 ساعة إلى 24 ساعة في اليوم في أسوأ الأحوال.
وهكذا، ازداد العجز في ميزان المدفوعات على مرّ سنوات من النمو المتباطئ، وقطاع مصرفي متضخّم يمنح فوائد خيالية على الودائع. وتجاوز الدين العام أكثر من 170 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي. ومع تراجع احتياطات المصرف المركزي الذي لطالما اعتُبر عرّاب استقرار الليرة منذ عام 1997، بدأت ملامح الانهيار المتسارع مع أزمة سيولة حادة وشح في الدولار. وفرضت المصارف قيوداً على سحب الدولار وتحويل الأموال. وتزامن ذلك مع انهيار الليرة التي لامس سعر صرفها مقابل الدولار أخيراً عتبة ال24 ألف ليرة في السوق السوداء، بينما السعر الرسمي مثبت على 1507 ليرات. ولعب تدهور سعر العملة الوطنية دوراً أساسياً في هذا التدهور الاقتصادي الذي سبّبته أزمات سياسية متتالية تخلّلتها حروب واعتداءات واغتيالات، خلّفت انقسامات وشللاً في المؤسسات الدستورية، وأرخت بثقلها على آليات صنع القرار ووضع السياسات العامة وخطط التنمية.
اغتيال رفيق الحريري
بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط / فبراير 2005، شهد لبنان انقساماً بين فريقين، أحدهما معارض لسوريا ومؤيّد للمحكمة الدولية التي ُأنشئت للنظر في قضية الاغتيال، وآخر مؤيد لدمشق ومعارض للمحكمة. وتبعت ذلك أربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي، مع تفجيرات واغتيالات، ثم حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله. وفي عام 2008، شهدت البلاد أزمة سياسية حادة انعكست باشتباكات مسلّحة في مناطق عدة.
وتجدّد الانقسام عام 2011 على وقع النزاع في سوريا المجاورة، ووقعت اعتداءات وتفجيرات حتى عام 2013. وبقيت البلاد من دون رئيس إثر انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان في أيار/ مايو 2014، لعام ونصف العام.
من هنا، يقول خبراء اقتصاديون إن الأزمة الاقتصادية اللبنانية هي نتاج لمجموعة عوامل تراكمية عمرها عدة عقود. لكن ما أدّى إلى تسارع التدهور المعيشي والانفجار الاقتصادي هو ما سمّاه أحد الخبراء الاقتصاديين بـ”صراع الجبابرة”، معتبراً أن انتقال الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى الأرض اللبنانية، وبالتحديد على الجبهة المصرفية، ترتّب عليه حظر قدوم الدولار إلى لبنان بحكم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على النظام السوري وعلى حزب الله، واتهام بعض المصارف اللبنانية بخرق تلك العقوبات. وأكد هذا الخبير أن الإجراءات التي قامت بها الحكومة اللبنانية الحالية لم تكن على قدر مستوى الحظر الأميركي. وأشار إلى أن خوف المستثمرين والمواطنين على ودائعهم البنكية دفعهم إلى الزحف لسحبها من المصارف، وهو ما كشف ضعف قدرة المصرف المركزي على تلبية هذا الطلب الهائل من الدولار، والذي بدأ يستنزف الاحتياطي من العملات الأجنبية، ما دفع المصارف إلى الامتناع عن إعطاء الدولارات لعملائها؛ وهو ما تسبّب في تفاقم الأزمة.
كما أن تفشّي الفساد منع وجود هيكلية اقتصاد منتجة، وأضعف مؤسسات الدولة، وتسبّب في زيادة عجز الموازنة وارتفاع معدّلات الدين العام إلى 90 مليار دولار؛ وهو رقم كبير جداً بالنسبة للناتج المحلي اللبناني. هذه الطبقة السياسية كرّست الفساد بعد اتفاق الطائف، تحت غطاء طائفي باسم “الحفاظ على السلم الأهلي” ثم عزّزت حماية الفساد وتقنينه بغطاء حزبي وطائفي.
وقد انتقلت أزمة الثقة من أزمة بين القطاع الخاص والحكومة إلى أزمة بين القطاع الخاص والمواطن اللبناني من جهة، والحكومة والسلطة السياسية من جهة أخرى، نتيجة لتقاعس الحكومات المتعاقبة في تنفيذ الإصلاحات والوعود التي تم إطلاقها منذ 2001، في مقابل الاستمرار في فرض مزيد من الضرائب. أزمة الثقة ترتّب عليها أزمة السيولة التي يعيشها الاقتصاد اللبناني، وتعدّد سعر صرف الدولار، وحدوث انكماش اقتصادي، واختلالات المالية العامة، وعجز ميزان المدفوعات حتى قبل أزمة تفشّي وباء كورونا.
انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وتفجير 4 آب/ أغسطس 2020:
كان من المتوقع أن تؤدّي السياسات والممارسات المذكورة آنفاً إلى انفجار الغضب الشعبي المتراكم منذ سنوات طويلة. وهذا ما حصل بعدما قرّرت حكومة سعد الحريري، في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019 زيادة الضريبة على مستخدمي تطبيق “واتسآب” الذي يمنح خاصّية الاتصال المجّاني، لتأمين واردات إضافية للخزينة المفلسة.
استمر هذا الحراك الشعبي ضد السلطة لأشهر عدة ثم توقف بعد تفشي وباء كورونا، ليتجدّد، ولو بحجم أقل، بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت بتاريخ 4 أغسطس / آب 2020. لكنه فشل في تغيير المسار الانحداري في البلاد، بل فاقم من حدّة الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية، والتي يؤشّر عليها سعر صرف الدولار، بعدما اقترب أخيراً من 25 ألف ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء.
ومثلما استقالت حكومة سعد الحريري بتأثير الحراك الشعبي في العام 2019، قدّمت حكومة حسان دياب التي خلفتها استقالتها بتأثير تفجير الرابع من آب، والذي أودى بحياة نحو 220 شخصاً، وتسبّب بخسائر مادية فادحة، ووجّه للاقتصاد اللبناني المتداعي ضربة قاضية.
لكن سقوط حكومتين خلال عام واحد لا يُعدّ إنجازاً نوعياً لانتفاضة 17 تشرين والتي واجهت الفشل أيضاً، وضاعفت من تداعيات الأزمة على مختلف الصعد، مع بقاء نواة النظام، أو ما يسمّى الدولة العميقة، التي أعلن المحتجون أنهم سيسقطونها بهدف إنشاء سلطة جديدة على أنقاضها بعد إجراء انتخابات مبكرة من قبل حكومة انتقالية محايدة.
وهناك ثلاثة أسباب رئيسية أفشلت هذه الانتفاضة هي:
السبب الأول هو عدم تمكّنها من إنتاج قيادات تقود الناس، معتقدة أنها وبترك الكلمة للمنتفضين في الشارع تحقّق هدفها، فكانت النتيجة عكسية، إذ نصّب عدد من الأشخاص أنفسهم قياديين لـ «الحراك» من دون امتلاكهم حداً أدنى من المؤهّلات، ما وجّه ضربة شبه قاضية للانتفاضة.
أما السبب الثاني، فنجاح الأحزاب في خرق صفوف المنتفضين، ما سيّس الحراك وأسقط شعار «كلّن يعني كلّن»، وهو العنصر الأهم الذي ميّز انطلاقة الانتفاضة وأعطاها الزخم المطلوب.
أما السبب الثالث، فهو تشتّت الرؤى والأهداف وأجندات المجموعات التي لم تتمكن من التوحد، ولا بحدٍ أدنى توحيد رؤاها، فكان الصراع في ما بينها الذي أطاح الحراك. فيما اتهمت هذه المجموعات بتلقي تمويل ودعم من بعض السفارات وخصوصاً السفارة الأميركية وبعض السفارات الخليجية، وتوجيهها في إطار الصراع ضد حزب الله وحلفائه.
ولا يجب تجاهل التأثير المباشر للتدخلات الإقليمية والدولية تمويلاً أو تحريضاً في مسارات الحراك الشعبي، لتحقيق أهداف سياسية لدى هذه الدولة أو تلك، بعيداً عن مطالب الحراك الشعبية المطلبية، إذ إن المأزق السياسي المزدوج الذي تواجهه السلطة اللبنانية، بمختلف مكوّناتها، والقوى المعارضة لها، ومن ضمنها مجموعات الحراك الشعبي، انعكس وينعكس في المزيد من الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والأمنية والتي تكاد تطيح بركائز البلاد الحيوية، أي مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة، وفي طليعتها الجيش اللبناني وصولاً إلى تهديد استقرار لبنان ووحدة كيانه ومجتمعه.
اعتذار سعد الحريري
بعد تسعة أشهر من تكليفه لتشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب، اعتذر سعد الحريري عن مهمة تأليف “حكومة اختصاصيين”، بسبب خلافه المستحكم مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل. وهذه الأزمة هي من أخطر الأزمات التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال؛ فقد كشفت عجز القوى اللبنانية الأساسية عن التوصل إلى حلول وسط أو تسويات مرحلية، كما كان يحدث غالباً، مع إقرار الجميع بأن الأزمة باتت أزمة نظام وأن الأوضاع ربما تفرض تعديل الدستور وتوقيع اتفاق “طائف” جديد لا تبدو أغلب الأطراف الفاعلة مستعدة له في هذه المرحلة.
ولا شك بأن السلطة بأغلب مكوّناتها، السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية، وأبرزها الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، تتحمل وزر الأوضاع الراهنة، مع القطاع المصرفي والمصرف المركزي، وبعض القطاع الخاص(كارتيلات احتكار المواد الحيوية للاقتصاد والشعب، مثل البنزين والدواء والغذاء)، وصولاً إلى شرائح واسعة من المسؤولين والمدراء وكبار الموظفين في القطاع العام، والتي كانت تتقاضى رواتب أو تعويضات خيالية؛ ناهيك عن حالات الفساد التي استشرت في مختلف الدوائر والمؤسسات، والصفقات المشبوهة التي امتصّت جزءاً كبيراً من موازنات الدولة على مدى عقود.
سيناريوات متوقعة
في الأسبوع الأخير من يوليو 2021 تمت تسمية رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي من قبل أكثرية النواب لتأليف الحكومة، وقد بدأ ميقاتي استشارته مع النواب حول تشكيل الحكومة. وهناك سيناريوهان يلوحان في الأفق:
أولاً: سيناريو نجاح ميقاتي في تشكيل حكومته بالاتفاق مع رئيس الجمهورية والكتل النيابية الأساسية ومحاولته إنقاذ ما تبقى من البلاد ووقف الانهيار المالي والفلتان الأمني، والقيام ببعض الإصلاحات الاقتصادية والحصول على دعم من صندوق النقد الدولي وبعض الدول الصديقة، وخاصة عبر مؤتمر سيدر في باريس.
ثانياً: عدم توافق ميقاتي مع الرئيس ميشال عون وصهره باسيل على التشكيلة الحكومية وتكرار سيناريو الحريري ومن ثم اعتذاره، وبالتالي مزيد من الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والأمني، عندها قد يتم تأجيل الاستشارات النيابية لتسمية رئيس حكومة جديد حتى يتم التوافق مع قادة الطائفة السنية على مرشح جديد حتى لا يتم استفزازها بمرشح لا يحظى بدعم أغلبيتها، مما قد يستمر حتى موعد الانتخابات النيابية في مايو / أيار 2022، التي إن جرت ستنتج أغلبية نيابية تقوم بتسمية رئيس حكومة، وصولاً إلى موعد الانتخابات الرئاسية في خريف العام نفسه، حيث من الصعب التكهن بإمكانية التوافق على مرشح أو احتمال تأجيل جلسة الانتخاب حتى يحصل هذا التوافق. في هذه الحالة، تتابع حكومة حسان دياب تصريف الأعمال بحدٍ أدنى أو أعلى، تمهيداً لإجراء الانتخابات التشريعية في موعدها، مع محاولتها منع الانهيار الشامل قدر المستطاع، والذي قد يحصل إذا ما تأجّلت الانتخابات لأي سبب كان.
وقد تؤدّي تطورات غير متوقعة إلى تداعيات كبيرة على الوضع السياسي والأمني والاجتماعي، بما يطيح بالواقع الراهن وربما بالانتخابات المقبلة، مثل حصول عدوان إسرائيلي واسع على لبنان، أو تحوّل الاحتجاجات الحالية إلى ثورة شعبية عارمة تقلب كل الحسابات؛ واحتمال تحقّق هذا السيناريو ضعيف على أي حال.
خلاصة
لقد كشفت حالة الاستعصاء الأخيرة فيما يخص تشكيل حكومة جديدة عن مكامن خلل بنيوية وخطيرة في دستور الطائف، ترتبط بصلاحيات رؤساء السلطات الثلاث، كما بمسألة العلاقة الملتبسة بين طوائف ومذاهب وفئات المجتمع اللبناني، ومصالحها ورؤاها المتناقضة أو المختلفة حيال سياسات البلاد الداخلية والخارجية، وتحديداً فيما يخص العلاقة مع المحيط العربي والإسلامي، والغرب، والموقف من الصراع العربي – الإسرائيلي، وهي القضايا ذاتها التي اختلف اللبنانيون حولها منذ الاستقلال أو منذ إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920.
ومع المتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال العقدين الماضيين وخصوصاً الغزو الأميركي للعراق، واغتيال رفيق الحريري والخروج السوري من لبنان، والعدوان الإسرائيلي على لبنان، والحرب السورية، وسقوط عملية السلام، بموازاة تحولات دولية كبرى، كان من المتوقع أن تفشل التسويات الموقتة في لبنان، بعدما بلغت التوازنات الداخلية مرحلة مفصلية في ظل مراهنات خائبة على انتصار محور على آخر في المنطقة (محور المقاومة ومحور الاعتدال)، مع اقتراب الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان، واحتمال توقيع اتفاق جديد قريباً بين الولايات المتحدة وإيران بشأن ملفها النووي.
وعليه، ومهما كانت طبيعة السيناريو الذي سيشهده لبنان خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة، فإنه من الأجدى للقوى اللبنانية الأساسية، ومن ضمنها مجموعات الحراك الشعبي، أن تعتمد لغة الحوار المعمّق والمفتوح فيما بينها حول القضايا الجوهرية، مثل هوية لبنان ومصير اتفاق الطائف وإلغاء الطائفية السياسية وعلاقة لبنان مع محيطه، والدور المستقبلي للمقاومة والجيش اللبناني في أي استراتيجية دفاعية للبلاد، إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية المستقبلية، والتي يجدر أن تكون عادلة ومتوازنة، لحماية لبنان من أي هزّات أو انتفاضات أخرى. فالتوافق حول قواسم مشتركة هو قدر اللبنانيين المحتوم، ولدى اللبنانيين كل مقوّمات النهوض المادية والمعنوية ببلدهم إذا ما اجتمعت إراداتهم وطاقاتهم الهائلة، بعيداً عن التأثيرات والضغوط الخارجية أياً كان مصدرها.
د. عصام حجي عجز ميزانية المياه في مصر وسياسات مقترحة لتخفيف سيناريوهات ملء سد النهضة