باكستان والتنافس الإقليمي بين تركيا والسعودية: الإشكاليات والمسارات
مقدمة
هناك العديد من المشتركات التي تجمع الدول الثلاث، باكستان وتركيا والسعودية. فكلها دول إسلامية تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي. وكذلك يجمعها نسق إقليمي، وهو الشرق الأوسط، إذا ما استندنا لمفهوم الشرق الأوسط الكبير، وبالتالي فإن أوجه التشابه والتشابك بين هذه الدول في الميدان الإقليمي عديدة، وهو ما يدفع لدراسة دور باكستان فيما تشهده العلاقات التركية السعودية من توتر وتنافس عميقين.
ففي السنوات القليلة الماضية، شهدت العلاقات التركية السعودية حالة من التوتر الشديد، عمّق من حدة التنافس الإقليمي بينهما؛ وفي سياق سعيهما نحو كسب المزيد من الأطراف التي يُمكن أن تمثل عامل ترجيح لموازين القوى والتحالفات الإقليمية، فإن باكستان تبرز كأحد أهم هذه الأطراف.
فما هي الإمكانيات والقدرات التي تمتلكها باكستان لتؤهلها لهذا الدور؟ وما هي أبعاد العلاقات السعودية الباكستانية؟ وكذلك أبعاد العلاقات التركية الباكستانية؟ وما هي انعكاسات قمة كوالالمبور على السياسة الخارجية الباكستانية تجاه التنافس التركي السعودي في الإقليم؟
أولاً: باكستان الإمكانيات والقدرات
تمثل باكستان حالة جدلية في إطار بنية النسق الإقليمي الشرق أوسطي، نابعة من امتلاكها مقومات تؤهلها لأن تكون قوة إقليمية مركزية في هذا النسق، في الوقت ذاته تعتريها العديد من نقاط الضعف في بنيتها، كانت ولا زالت سبباً في تحجيم وإضعاف دورها الإقليمي.
(1) نقاط القوة
تتمثل أهم نقاط القوة التي تتمتع بها باكستان في:
(أ) القدرة الحيوية:
تبلغ مساحتها 880,254 كم2، تتضمن كل الأقاليم المتنازع عليها[1]. وفي عام 2019 بلغ عدد سكانها 216 مليون نسمة[2]، وتحتل المرتبة السادسة عالمياً من حيث عدد السكان. ويحدها شمالاً الصين وجنوباً بحر العرب وشرقاً الهند وغرباً أفغانستان وإيران. ومن ثم فإن موقعها يعد استراتيجياً من عدة نواحي:
- تماسها الجغرافي مع دولة بحجم الصين كقوة دولية كبرى، والهند كقوة إقليمية في منطقة جنوب آسيا.
- قربها من منطقة قلب العالم التي رأى عالم الجيوبولتك “ماكيندر” أن من يسيطر عليها يسطر على الجزيرة العالمية (آسيا وأفريقيا وأوروبا) وبالتالي يسيطر على العالم كله. ووقوعها ضمن منطقة الهلال الداخلي، التي رأى عالم الجيوبولتيك “سبيكمان” بأن من يسيطر عليها يسيطر على العالم.
- تماسها جغرافيا مع منطقة الشرق الأوسط، إذا ما استندنا لمفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي يجمع الدول العربية الــ22 بجانب إسرائيل وإيران وتركيا. ويبرز هذا التماس من خلال محورين بري “إيران”، وبحري “بحر العرب”. أو وقوعها ضمن المنطقة ذاتها، إذا ما استندنا لمفهوم الشرق الأوسط الكبير الذي يجمع الدول العربية الــ22 بجانب (إسرائيل) وإيران وتركيا وباكستان وأفغانستان.
وبالتالي من الناحية الجيوسياسية فإن باكستان تربط المشرق العربي ودول الخليج بالهند وجنوب شرق آسيا، كما تربط الصين وروسيا بجنوب آسيا. ويمكن أن تقوم باكستان بدور بارز في تقليل تكلفة ومسافة نقل الطاقة من الخليج العربي لدول آسيا بالأخص الصين. فالصين سيكون أمامها أن تمر بممر بري بطول باكستان ثم ممر بحري في بحر العرب ومنها للخليج. هذا بجانب لدور باكستان البارز ضمن ما يعرف بطريق الحرير الصيني، أو مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”.
ويمكن أن تقوم بدور بارز بموقعها وحجم قوتها في مواجهة وحصار إيران من ناحية، ومن ناحية ثانية دورها في حفظ ومراقبة الأمن في الخليج، ومن ناحية ثالثة دورها كمرجح لموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تصاعد سياسة التحالفات والمحاور المتعارضة في الآونة الأخيرة.
وتعتبر باكستان أقرب طريق للبحر بالنسبة لجمهوريات آسيا الوسطى، مما يؤهلها لأن تكون ممراً حيوياً لثروات بحر قزوين نحو ميناء كراتشي ومنه إلى الأسواق العالمية، كما يمكن هذا الموقع باكستان من عضوية عدة تنظيمات إقليمية، كمنظمة التعاون الإسلامي، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، ومنظمة التعاون الاقتصادي[3].
شكل (1): خريطة توضح حدود باكستان
المصدر: الجزيرة نت.
(ب) القدرة العسكرية:
يحتل الجيش الباكستاني المرتبة الـ 15 عالمياً، في قائمة أقوى جيوش العالم لعام 2020، وفقاً لتصنيف مؤسسة “غلوبال فاير باور”. حيث يصل عدد أفراد الجيش الباكستاني إلى 1,204,000 جندي، بينهم 654 ألف جندي فاعل، و550 ألف جندي في قوات الاحتياط، ويمتلك الجيش الباكستاني 1372 طائرة حربية متنوعة و2200 دبابة و7330 مدرعة و429 مدفع ذاتي الحركة و1226 مدفع ميداني، إضافة إلى 100 راجمة صواريخ، ويضم الأسطول البحري قرابة 100 قطعة بحرية، وأخيراً تصل ميزانية دفاع الجيش الباكستاني إلى 11.4 مليار دولار[4]. كما تمتلك باكستان ميزة نسبية في هذا السياق، حيث تعد الدولة الوحيدة بجانب (إسرائيل) في منطقة الشرق الأوسط، التي تمتلك سلاح نووي، وهو ما يمثل عامل مرجح لحجم قوتها الإقليمية.
(2) نقاط الضعف
تتمثل أهم نقاط الضعف في:
(أ) القدرة الاقتصادية:
يعد الاقتصاد من أكبر نقاط الضعف الباكستانية، ويعود التدهور في هذا القطاع لأسباب هيكلية بنيوية داخل الاقتصاد ذاته، وأسباب سياسية أمنية داخلية، بجانب المشاكل الحدودية مع الجارة الهند. ووفقاً لبيانات البنك الدولي لعام 2018، بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لباكستان، 314 مليار دولار[5]. ومتوسط دخل الفرد 1,461 دولار[6]. وهي أرقام ضعيفة. وفي يونيو 2019، أعلن البنك الدولي عن منح باكستان قرضاً بقيمة 722 مليون دولار، بما يجعل الحكومة الباكستانية الأكثر اقتراضاً خلال عام واحد من مصادر أجنبية، حيث وصل مجموع القروض لأكثر من 16 مليار دولار خلال عشرة أشهر فقط[7]. أما الاستثمار الأجنبي المباشر، فلا يتجاوز الـ 3 مليارات دولار سنويا؛ بسبب حالة عدم الاستقرار الداخلي والإقليمي[8]. ومنيت موازنة الدولة الباكستانية لعجز كبير وصل في 2018 إلى 6.6 %[9]. وتبلغ قيمة واردات إسلام أباد السنوية حوالي 60 مليار دولار مقارنة بصادراتها التي تصل إلى 24 مليار دولار فقط[10]. أي أن هناك عجز كبير في ميزان مدفوعاتها يبلغ 36 مليار دولار.
وبلغ حجم الدين العام الخارجي 84.5 مليار دولار، وهو ما يعادل 30% من الناتج المحلي الإجمالي[11]. كما تعد قيمة العملة الباكستانية الروبية متدنية، حيث يعادل 1 دولار 159 روبية، وذلك في تاريخ 25 مارس 2020[12]. ويقوم الاقتصاد الباكستاني في جزء منه على المساعدات الاقتصادية، ومنها تلك التي تقدمها الولايات المتحدة لها، والتي أوقفتها في 2018، تحت مزاعم دعم باكستان لحركة طالبان وشبكة حقاني، وتقدر إجمالي هذه المساعدات بـ 800 مليون دولار[13].
(ب) التماسك الجغرافي:
عانت باكستان تاريخياً ولازالت من صراعات حدودية، فبينما استقلت باكستان الشرقية “بنغلاديش حالياً” عن باكستان عام 1972، فإن أزمة كشمير لازالت تلقي ظلالها وتداعياتها عليها إلى الآن[14]. تتمثل أزمة كشمير في أنه حينما أعلنت بريطانيا استقلال الهند، وانفصال باكستان عنها، أعطت الحرية لشعوب الولايات في هذه المنطقة في اختيار الانضمام بين باكستان والهند. وبينما طبقت هذه القاعدة بنجاح، كانت هناك ثلاث ولايات استثناء لها، منها ولاية كشمير. وهي ذات أغلبية مسلمة ومن ثم كان يجب أن تنضم لباكستان، لكن الهند سيطرت عليها بالقوة[15]. انتهى الوضع بسيطرة الهند على حوالي 48% من كشمير “جامو كشمير”، فيما يخضع نحو 35% منه إلى سيطرة باكستان، أما الصين فتسيطر على 17%[16]. وفي 5 أغسطس 2019، أعلنت الهند إلغاء المادة 370 من الدستور، التي تمنح إقليم “جامو كشمير” حكم ذاتي، يمنحها حق وضع قوانينها الخاصة. واعتبرتها باكستان خطوةً “غير شرعية”، مؤكدة أن هذه المنطقة معترف بها دولياً كأرض متنازع عليها[17].
(ج) التماسك الاجتماعي:
تبرز إشكالية الهوية في باكستان ومدى قدرتها على تكوين أمة متماسكة، ويتجلى ذلك من خلال عدد من الأزمات، سواء أزمة كشمير أو الفشل في الحفاظ على الوحدة مع بنغلاديش، أو أزمة اللغة حيث معظم المتحدثين باللغة الأردية في باكستان يتحدثون بها كلغة ثانية[18]. المعضلة الأكبر في هذا السياق هو المكون الشيعي، حيث يشكل المسلمون 95% من سكان باكستان. ويُمثل المسيحيون والهندوس غالبية النسبة المتبقية. وعلى صعيد التوزيع المذهبي، تشير التقديرات إلى أن 75% من سكان البلاد هم من المسلمين السنة، و20% من المسلمين الشيعة. وهم يمثلون ثاني أكبر وجود شيعي في العالم الإسلامي[19]، مما يمثل عامل توتر للأوضاع الداخلية في البلاد.
من المعطيات السابقة، فإن باكستان بهذه الوضعية تمثل حالة جدلية في المنطقة، ففي الوقت الذي تمتلك فيه مقومات فاعلة للقوة، فإنها تعاني من عدة ثغرات ونقاط ضعف بالغة التأثير. وهو ما تستغله القوى الإقليمية والدولية الفاعلة الأخرى، عبر دخولهم من بوابة نقاط الضعف الباكستانية لاستغلال نقاط قوتها، في سياق أدوراهم ونفوذهم وتحالفاتهم الإقليمية والدولية، فضلاً عن التأثير في موازين القوى في المنطقة. وتركيا والسعودية غير بعيدتين عن هذا السباق.
ثانياً، أبعاد العلاقات السعودية الباكستانية
تعد العلاقات السعودية الباكستانية تاريخياً وحالياً، برغم ما شابها في بعض فتراتها من فتور، من العلاقات القوية، دعمتها شراكات استراتيجية عديدة. شملت الأبعاد السياسية والدبلوماسية مع الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية. مع غلبة نسبية للجانبين الأمني والاقتصادي، وهي الثنائية التي تعبر عن دوافع تحركات الطرفين تجاه بعضهما البعض. فبينما تحتاج السعودية للأمن، فإن الحاجة الباكستانية تتمثل في الاقتصاد.
(1) الأبعاد السياسية والدبلوماسية
لقد كانت السعودية من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال باكستان عام 1947. وفي الحرب الباردة اصطفت الدولتان ضمن المحور الغربي، ليصبحا من أهم شركاء الولايات المتحدة في تلك الفترة كل في منطقته[20]. وبجانب الإمارات كانت باكستان والسعودية الدولتان الوحيدتان اللتان اعترفتا بطالبان، حينما وصلت للسلطة في أفغانستان من منتصف التسعينيات وحتى عام 2001[21]. وفي الفترة من 2008 و2013 استلم “حزب الشعب الباكستاني” سدة الحكم، والذي اعتبرته السعودية منحازاً إلى إيران بشكل كبير، لذلك مثل خروج الحزب من الحكومة ووصول نواز شريف – وهو رئيس حزب “الرابطة الإسلامية الباكستانية” الموالي للجيش – إلى سدة الحكم ارتياحاً كبيراً للسعودية، نظرا إلى العلاقة التاريخية الجيدة بين الطرفين[22].
ومع ذلك كان لحكومة شريف موقفان متعارضان مع السياسة السعودية، الأول رفض البرلمان الباكستاني المشاركة في حرب اليمن في إبريل 2015[23]. والتزام باكستان سياسة الحياد في الأزمة الخليجية في يونيو 2017[24]. وفي سبيل احتوائها للغضب السعودي، وافقت باكستان على الانضمام للتحالف الإسلامي العسكري، الذي أعلنت عنه السعودية في ديسمبر 2015، وتعيين قائد الجيش الباكستاني السابق “رحيل شريف” قائداً للتحالف[25].
ومع فوز “عمران خان” في الانتخابات الباكستانية التي أجريت في يوليو 2018، كان هناك قدر من القلق انتاب القيادة السعودية، نظراً لخسارة حليفها شريف من ناحية، ولموقف خان من إيران ثانياً[26]. لكن هذا القلق زال نسبياً، بعد أن قام رئيس الوزراء “خان” بأول زيارة خارجية له للسعودية في سبتمبر 2018[27]. والتي حملت دلالتها السياسية معها، فضلاً عن تتابع الزيارات المتبادلة بين الطرفين بعدها. فبعد شهر واحد من الزيارة الأخيرة في أكتوبر 2018، التقى خان بالملك “سلمان بن عبد العزيز” وولي العهد “محمد بن سلمان”، وذلك في سياق حضور خان لمؤتمر مستقبل الاستثمار في السعودية. وفي نفس العام في ديسمبر، استقبل الملك سلمان رئيس الجمهورية الباكستاني “عارف علوي”[28]. وفي عام 2019، قام عمران خان بأربعة زيارات رسمية للسعودية، في مايو وسبتمبر وأكتوبر وديسمبر[29]. هذا بالإضافة للزيارة الهامة التي قام بها “محمد بن سلمان” لباكستان في فبراير 2019[30].
من الناحية السياسية يحتاج كل طرف الآخر في صراعه المركزي مع خصمه، فبينما يبرز صراع السعودية مع إيران في منطقة الشرق الأوسط، فإن الهند تظهر كخصم رئيسي لباكستان في منطقة جنوب ووسط آسيا. إن حاجة السعودية لباكستان في هذا الصراع يمكن من خلال عدة زوايا، أولا القوة العسكرية والنووية الباكستانية يمكن أن تمثل موازن للقوة العسكرية الإيرانية والنووية المحتملة. ثانيا من الناحية الجيوسياسية، ونظراً لموقع باكستان وتشاركها مع إيران بحدود تصل لــــ 500ـ كم وإطلالها على بحر العرب، فقد تقوم بدور في مواجهة وحصار إيران من ناحية، ومن ناحية ثانية دورها في حفظ ومراقبة الأمن في الخليج، ومن ناحية ثالثة دورها كمرجح لموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط.
أما باكستان وصراعها الحدودي التاريخي مع الهند، سواء حول بنغلاديش سابقاً، أو كشمير حالياً، فإن حاجتها لدعم المملكة في هذا الصراع تبرز من خلال المنظمة الإقليمية التي تتشاركان عضويتها مع 57 دولة أخرى وهي منظمة التعاون الإسلامي. وتعد أحد دوافع تمتين أواصر علاقاتهما البينية. فبينما تحول المنظمة نتيجة كون أحد أعضائها إيران، من استخدام السعودية لها في صراعها مع إيران. فإنها تعد وسيلة ناجعة في صراع باكستان مع الهند، بالأخص حول أزمة كشمير، خاصةً وأنها ذات أغلبية مسلمة. وبينما أثبتت السعودية ذاتها كونها الفاعل الأكبر والمؤثر في المنظمة ودورها وقراراتها، فإن الحاجة الباكستانية للسعودية من هذا المنظور تبرز بشكل كبير. أيضا يمكن للسعودية استخدام ورقة العمالة الهندية على أراضيها وغيرها من دول الخليج كأداة ضغط على الهند في هذا السياق.
وعلى الرغم من المعطيات السابقة، إلا أن هناك مؤشرات تشير إلى عدم وجود تضافر بين الدولتين في صراعاتهما المختلفة، باستثناء خطوات شكلية. فباكستان لا تبدو مستعدة لتحمل تكلفة المواجهة مع إيران، في ظل تواجد حوالي 40 مليون من سكانها يدينون بالمذهب الشيعي، وقدرة إيران على استخدام هذه الورقة في مواجهة باكستان في أي لحظة. وهو ما يفسر دعوة “عمران خان” الولايات المتحدة لرفع العقوبات المفروضة على إيران[31]. كما قام بدور في الوساطة بين السعودية وإيران[32].
ولا يغيب عن هذا السياق، ما ذكره خان قبل وصوله للحكم، أن بلاده لا ينبغي أن تصبح جزءًا من أي تحالف ولا أن تنخرط في أي حرب بالوكالة ضد طهران، فأحد أطراف الصراع، في إشارة إلى الرياض، كان صديقًا مقربًا من باكستان، والطرف الآخر، هو جار، في إشارة إلى طهران[33]. فالتصعيد مع إيران، بالأخص عسكرياً وامتداده للداخل الإيراني، سوف ينعكس كارثياً على باكستان. ورفض البرلمان الباكستاني إرسال قوات لليمن معطى هام في هذا الإطار. وبالتالي تفضل باكستان دور المحايد والوسيط في هذه الأزمة.
أما السعودية فلا يبدو أنها مستعدة لخسارة الهند في سبيل الاصطفاف مع باكستان في أزمة كشمير. فالأرقام الاقتصادية هنا تبدو معبرة لحد كبير، فميزان التبادل التجاري الهندي الخليجي وصل إلى 150 مليار دولار، مقابل 60 مليار دولار فقط للتجارة الخليجية الباكستانية[34]. كما عقدت السعودية اتفاقية دفاع مع الهند عام 2014، والتي أغضبت الجانب الباكستاني[35]. ووقعت في أبريل 2018 اتفاقا بقيمة 44 مليار دولار لبناء مصفاة نفط ضخمة ومجمع للبتروكيماويات غرب الهند[36]. هذا بجانب لإمكانية استخدام السعودية الهند كورقة ضغط في مواجهة باكستان. وهو ما يفسر مؤخراً ما أثير حول معارضة السعودية طلب باكستان الدعوة إلى انعقاد طارئ لـ”منظمة التعاون الإسلامي” على مستوى وزراء خارجية الدول الأعضاء، لمناقشة قضية كشمير[37]. وبالتالي ليس هناك رغبة من الدولتين للاصطفاف مع الأخرى في صراعاتهما الخاصة.
(2) الأبعاد الأمنية والعسكرية
تعد الأبعاد الأمنية والعسكرية في العلاقات السعودية الباكستانية ذات أولوية مركزية. ففي ستينيات القرن الماضي؛ بدأت باكستان في تقديم المساعدات لإقامة الجيش السعودي، وقام الطيارون الباكستانيون بقيادة الطائرات السعودية، خلال حرب اليمن عام 1969، كما شارك أفراد من القوات الخاصة الباكستانية في عملية تحرير المسجد الحرام عام 1979[38].
وأصبح الأمن جزءًا لا يتجزأ من العلاقة بين البلدين مع اتفاقية التعاون في مجال الدفاع، التي أرسلت بموجبها باكستان مدرّبين في المجال العسكري والقوة الجوية إلى السعودية في أعقاب حرب 1967. وبعد الثورة الإيرانية، جاء البروتوكول المبرم عام 1982 بشأن إيفاد عناصر القوات المسلحة الباكستانية لتضفي طابعًا أكثر نظاميةً على التفاهم الأمني بين الطرفين، فمهّد الطريق أمام نشر نحو 15 ألف جندي باكستاني في المملكة[39]. وانضم إليهم 1600 جندي في فبراير 2018، للتدريب وحماية الأماكن المقدسة وفقا لاتفاقية 1982[40]. كما أن هناك لجنة مشتركة عليا للتعاون العسكري بين البلدين، وتجتمع بشكل دوري[41]. وكان وزير الدفاع الباكستاني قد أعلن، عام 2018، أن قرابة عشرة آلاف جندي سعودي موجودون في “باكستان” للتأهيل والتدريب[42].
وفي هذا الإطار، يعد البعد الأهم هو استثمار السعودية في الجيش الباكستاني وسلاحه النووي، عبر تمويله طيلة السنوات الماضية[43]. وهو يعكس رغبة سعودية في استخدام هذا السلاح كمظلة نووية لها في مواجهة إيران إذا ما طورت سلاحاً نووياً، فضلاً عن إمكانية شرائها أسلحة نووية من باكستان إذا اقتضت الحاجة.
(3) الأبعاد الاقتصادية
تتشابك العلاقات الاقتصادية بين البلدين في عدة ملفات. فالسعودية أكبر مصدر للنفط لباكستان، كما تعد السعودية سوق رئيسي للمنتجات الباكستانية، وتستضيف 1.9 مليون باكستاني يعملون بها، وبالتالي فإن السعودية هي المصدر الرئيسي لتحويلات الباكستانيين في الخارج من العملة الصعبة، والتي تقدر بنحو 4.5 مليار دولاراً سنوياً. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 2.5 مليار دولار[44].
وفي فبراير 2019، وقّع البلدان مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، بلغت قيمتها الإجمالية 20 مليار دولار، وذلك خلال زيارة “محمد بن سلمان” لباكستان[45]. وكان أهمها، الاتفاق على إنشاء محطة تكرير للنفط بكلفة 10 مليار دولار في مدينة كوادر التي تتميز بموقعها الاستراتيجي الهام على الساحل الجنوبي الغربي من باكستان، علماً بأن الصين هي من عملت على تطوير مرفأ هذه المدينة كجزء من الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني[46].
ومن أهم الملفات الحيوية في هذا السياق، هو ملف الدعم الاقتصادي الذي تقدمه السعودية لباكستان بشكل دائم، نظراً للضعف الشديد الذي يتسم به اقتصاد الأخيرة. ومن محطاته في أكتوبر 2018، حيث قدمت حزمة مساعدات لباكستان بقيمة 6 مليارات دولار، وتشمل حزمة المساعدات 3 مليارات دولار لدعم ميزان المدفوعات، وتأجيل سداد مدفوعات لمدة سنة قيمة استيراد نفط بقيمة 3 مليارات دولار[47].
في المحصلة النهائية، يبدو أن العلاقات السعودية الباكستانية تتضمن شراكات استراتيجية عديدة في عدة مستويات اقتصادية وأمنية، في ظل الحاجة المتبادلة بينهما. لكن هذه العلاقات لم تصل بعد لمستوى التحالف الاستراتيجي، ذلك التحالف الذي يفرض على كل دولة منهما الاصطفاف خلف الأخرى في أي أزمة أو صراع.
ثالثاً، أبعاد العلاقات التركية الباكستانية
كما علاقاتها مع السعودية، فإن باكستان نسجت علاقات جيدة مع تركيا، شملت الأبعاد السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
(1) الأبعاد السياسية والدبلوماسية
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وباكستان عام 1947، بعدما نالت الأخيرة استقلالها. وكانت تركيا واحدة من الدول القليلة التي اعترفت سريعا بباكستان عقب تأسيسها، ودعمت محاولاتها الناجحة لتصبح عضوة في منظمة الأمم المتحدة. ورغم أن تاريخ علاقاتهما البينية بدأ حديثاً عام 1947، إلا أن جذور هذه العلاقة ممتدة منذ القرن التاسع عشر. فقد دعم مسلمو شبه القارة الهندية تركيا سياسياً ومالياً خلال حرب القرم في القرن التاسع عشر. ودعموا تركيا في حرب الاستقلال التي تبعت الحرب العالمية الأولى، عبر إطلاقهم حركة الخلافة الشهيرة (1919 ـ 1924)، للضغط على الحكومة البريطانية من أجل الحفاظ على سلطة السلطان العثماني خليفة للمسلمين[48].
وإبان الحرب الباردة اصطف الطرفان مع المعسكر الغربي في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وفي يوليو 1964، زار الرئيس الباكستاني آنذاك “أيوب خان” تركيا وأعرب عن دعمه لتركيا في قضية قبرص. وفي النصف الأخير من عام 2015 طلب الجيش التركي من المخابرات الباكستانية الدعم في أثناء حملته ضد حزب العمال الكردستاني[49]. كما أدانت باكستان في ظل حكم نواز شريف محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا في يوليو 2016[50]. وفي مايو 2019، في ظل حكم “عمران خان”، أعلنت الحكومة الباكستانية، إدراج جماعة “فتح الله غولن” على لائحة الإرهاب[51]. وفي أكتوبر 2019 أعلن “عمران خان” دعم بلاده لعملية “نبع السلام” العسكرية التركية في شمال سوريا[52].
في المقابل، حرص الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” دائما على دعم باكستان في قضية كشمير، فخلال كلمته في الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، سلط الضوء على قضية كشمير[53]. وفي فبراير2020، اعترض على السياسات الهندية تجاه كشمير، ما دفع الهند لاستدعاء السفير التركي[54]. كما توحدت وجهات نظر البلدين فيما يخص ظاهرة الإسلاموفوبيا ومكافحتها، ما دفعهما للإعلان في سبتمبر 2019، عن عزمهما تأسيس قناة تليفزيونية لمكافحة الإسلاموفوبيا[55]. و في فبراير 2018، منعت تركيا بالتعاون مع السعودية، مساعي أميركية وبريطانية لإدراج باكستان ضمن قائمة الدول التي فشلت في الحد من تمويل الإرهاب[56].
وعلى مستوى الزيارات المتبادلة بين البلدين، فإنها لا تعكس المصالح المشتركة وحجم تفاهماتهما الإقليمية. فمقارنة بالزيارات السعودية الباكستانية المتبادلة، فإن الجانبين التركي والباكستاني لم يقوما إلا بزيارات قليلة في السنوات الأخيرة. أهمها زيارة “عمران خان” لتركيا في يناير 2019[57]. وزيارة أردوغان لباكستان في فبراير 2020[58]. لكن في المقابل يعد الرئيس أردوغان، الشخصية الأجنبية الوحيدة التي شاركت أربع مرات في جلسة مشتركة للبرلمان الباكستاني، وذلك خلال الأعوام 2009، و2012، و2016، و2020[59].
من الناحية الجيوسياسية قدرة تركيا على كسب باكستان لن ينعكس إيجابا عليها وعلى موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط فقط بل أيضا في آسيا الوسطى؛ وهما من أهم الدوائر التي تولي لها السياسة الخارجية التركية أهمية مركزية. كما تتشارك الدولتان في رفض التصعيد والعقوبات المفروضة على إيران، فكلاهما يجمعهما حدود مشتركة معها، وأي توتر في المنطقة سوف ينعكس سلباً عليهما. أخيراً تشاركهما في طريق الحرير الصيني، أو مبادرة حزام واحد طريق واحد. فهذا الطريق يمر من باكستان نحو بحر العرب ومنها للخليج العربي، ومن تركيا نحو دول أوروبا.
شكل (2): طريق الحرير الصيني
المصدر: الجزيرة نت.
(2) الأبعاد الأمنية والعسكرية
لقد كان “حلف بغداد” عام 1954 أول مظلة أمنية تجمع تركيا وباكستان بجانب العراق، في إطار مجموعة الأحلاف التي أنشأتها الولايات المتحدة إبان الحرب البادرة، لاحتواء الاتحاد السوفيتي، وهو الحلف الذي تغير اسمه بعد خروج العراق منه ليصبح “الحلف المركزي”. وكما السعودية فإن المظلة النووية تمثل أحد دوافع التحركات التركية تجاه باكستان.
وتعتبر الصناعات العسكرية والدفاعية أهم جانب في علاقاتهما الثنائية، وهو ما أكد عليه “أردوغان”[60]. وقد دخل الجانبان في صفقات تسلّح في السنوات الأخيرة جعلت من أنقرة المورّد الأوّل للأسلحة الى باكستان العام الماضي –إذا ما استثنينا الصين- لناحية حجم الصفقات، لاسيما المتعلّقة باستيراد إسلام أباد مروحيّات “أتاك” التركية، وسفن إمداد، وتكليف أنقرة بتحديث غواصات باكستان ومقاتلاتها[61].
وتنظم القوات المسلحة التركية مع نظيرتها الباكستانية علاقتهما في إطار اتفاقية تعاون عسكري، وعلى ضوئها درب الجيش التركي ألفاً و493 عسكرياً باكستانياً على الأراضي التركية، وتضمن التدريب مجالات مختلفة بينها مكافحة الإرهاب، كما شارك 125 عسكري تركي في دورات تدريبية مختلفة أعدتها الأكاديمية الحربية، وأكاديمية الدفاع الوطني الباكستانية[62].
(3) الأبعاد الاقتصادية
تعود أسس العلاقات الاقتصادية بين البلدين لعام 1964، حينما شكلت تركيا وباكستان وإيران، “المنظمة الإقليمية للتعاون من أجل التنمية” لتعزيز التعاون الاجتماعي والاقتصادي، غير أنه تم تغيير اسم المنظمة في يناير 1985 إلى “منظمة التعاون الاقتصادي”، وفي عام 1992، تم توسيع نطاق المنظمة، بانضمام سبع دول جديدة، وهي أفغانستان، وأذربيجان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان[63].
وفي سبتمبر 2019، تم الإعلان عن تشكيل لجنة مشتركة رفيعة المستوى، لتعزيز التعاون الاقتصادي مع تركيا[64]. وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2019، 700 مليون دولار، وهو رقم ضعيف للغاية. كما بلغت قيمة الاستثمارات التركية في باكستان مليار دولار، فيما بلغت قيمة الاستثمارات الباكستانية في تركيا 600 مليون دولار[65].
من خلال رصد أوجه التعاون المختلفة بين باكستان وكل من تركيا والسعودية، يلاحظ أن طبيعة وحجم العلاقات الباكستانية السعودية على المستوى الاقتصادي والأمني والعسكري تفوق تلك التي تربط باكستان مع تركيا. فيما يظهر أن حجم التفاهمات الفكرية والسياسية والجيوسياسية بين باكستان وتركيا تفوق تلك التي تربط باكستان مع السعودية. وهو ما يفسر تعاضد باكستان وتركيا مع بعضهما البعض في ملفاتهما المصيرية، كقضية قبرص والأكراد وحركة غولن بالنسبة لتركيا وقضية كشمير بالنسبة لباكستان. في حين لم يتحقق هذا التعاضد بين السعودية وباكستان في ملفي إيران وكشمير.
إن ضعف التفاهمات السياسية والجيوسياسية بين السعودية وباكستان، فضلاً عن عدم وصول علاقاتهما لتحالف استراتيجي، يعود لعدة أسباب: تشابك الملفات وتعقدها في الساحة الدولية والإقليمية الشرق أوسطية والجنوب أسيوية. فضلاً عن سياسة الاعتماد المتبادل بين الدول، والتي تحجم الكثير من الدول في الدخول في صراعات ليست طرفاً أصيلاً فيها، لعدم خسارة مصالحها مع الجانب الآخر. فبينما يمثل إيران الخصم الرئيسي للسعودية، فإن باكستان وإن لم يجمعها مع إيران علاقات جيدة، إلا أنها تسعى لتبني خط محايد في هذا الصراع.
وباكستان بينما تنظر للهند كخصم رئيسي من بوابة الصراعات الحدودية “كشمير”، فإنها لم تتلق الدعم المرجو من السعودية إلى الآن، بحكم فاعليتها في منظمة التعاون الإسلامي، وامتلاكها ورقة ضغط في مواجهة الهند تتمثل في العمالة الهندية الكثيفة على أراضيها. وأخيراً دخول السعودية من بوابة الحاجة الاقتصادية لنسج علاقات استراتيجية مع باكستان، وليس من بوابة المصالح الاقتصادية المشتركة. وعلى الرغم من توفر المقومات الجيوستراتيجة التي قد تمكن تركيا وباكستان بتشكيل تحالف استراتيجي، إلا أنهما أيضا لم يصلا لهذا الشكل من العلاقة بعد.
ثالثا، قمة كوالالمبور وتداعياتها
في 18 ديسمبر 2019، عُقدت في العاصمة الماليزية كوالالمبور القمة الإسلامية، شاركت فيها ماليزيا وتركيا وإيران وقطر على مستوى رئيس الدولة، بينما شاركت 18 دولة أخرى لكن بمستويات مختلفة [66]. تتمثل أهمية هذا الحدث في أنه اللحظة التي اشتبكت فيها باكستان مع التوتر الذي يشوب العلاقات التركية السعودية طيلة السنوات القليلة الماضية.
ويجدر هنا وضع ملمح عام لشكل وطبيعة العلاقات التركية السعودية في تلك المرحلة. فمنذ منتصف عام 2017 وإلى الآن والعلاقات التركية السعودية آخذ في التدهور وتعميق التوتر، جراء الأزمة تلو الأخرى. ويمكن القول إن الدافع المركزي خلف هذه التطورات، هو تصاعد دور الأمير “محمد بن سلمان” في قيادة المملكة، خاصة مع تقلده منصب ولي العهد في يونيو 2017. فقد رافق ذلك بدء الأزمة الخليجية في نفس الشهر، والتي اصطفت فيها تركيا مع قطر في مواجهة السعودية والإمارات. وجريمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر 2018، والتي لم تتنازل فيها تركيا عن خيار التصعيد حتى الآن.
وهو ما انعكس على ملفات إقليمية أخرى أثرت سلباً على العلاقات التركية السعودية، كالملف السوري والليبي وشرق المتوسط والقرن الأفريقي. وباتت معها تحركات متناغمة بين الجانبين التركي والقطري في مواجهة السعودية والإمارات في هذه الملفات الإقليمية. إن قمة التوتر هذا وصلت ذروتها في نهاية العام 2019، أي تزامن مع انعقاد قمة كوالالمبور الإسلامية. وبالتالي كان على السعودية عرقلة هذا الحدث. ليس فقط لحضور خصمها الإقليمي الرئيسي “إيران”، بل أيضا لحضور تركيا وقطر، والذي تجمعهما علاقات متوترة، أما ماليزيا فالتوتر أكثر يظهر مع حليف المملكة “الإمارات”.
وبالتالي فإن حضور السعودية لهذه القمة يعني أنها تساهم بشكل مباشر في إنجاح القمة وإثبات فاعليتها بحكم وزن السعودية الإقليمي، وفي نفس الوقت لن تكون قادرة على إثبات فاعليتها ودورها في هذه القمة، إذا ما كتب لها أن تستمر أو تم تطويرها؛ في ظل وجود تناغم سياسي وفكري واستراتيجي بين الأعضاء الآخرين. أيضا خشت السعودية من أن تمثل هذه القمة على المدى البعيد بديل أو ورقة ضغط في مواجهة منظمة التعاون الإسلامي، والتي تمثل السعودية الفاعل الأكبر فيها، في ظل استضافتها لمقر المنظمة، ولأغلب قممها الدورية، فضلاً عن أن الأمين العام للمنظم الحالي سعودي الجنسية، وأخيراً الدور التمويلي. فالسعودية لم تفصل هذه القمة عن سياق التوتر في علاقاتها وحليفتها الإمارات مع تركيا وقطر.
لكي تواجه السعودية هذا الموقف، أولا امتنعت عن الحضور برغم دعوتها[67]. وثانياً ما ذكره “أردوغان” بأن ضغوط سعودية هي ما منعت باكستان عن حضور القمة، عبر ورقة الاقتصاد والعمالة الباكستانية[68]. ما يرجح ذلك هو أن اعتذار خان عن عدم الحضور، جاء بعد زيارة رسمية له للرياض في 14 ديسمبر الماضي، التقى فيها بالأمير “محمد بن سلمان”[69]. وقد نفت السعودية ذلك[70].
إن عدم تمتع باكستان بسياسة خارجية مستقلة، تمكنها من تبني خياراتها بحرية انطلاقاً من تقديرها لمصالحها، يعود بالأساس لضعف بنيتها الاقتصادية. وهو ما يدفع الأطراف الفاعلة الأخرى، للدخول من زاوية ضعف اقتصاد باكستان وغيرها من نقاط الضعف، لاستغلال نقاط القوة التي لديها، سواء القوة العسكرية أو السلاح النووي أو القوة البشرية أو الموقع الاستراتيجي.
وف مقابل عدم حضور باكستان للقمة، قامت مؤخراً بعدة تحركات على مستوى سياستها الخارجية. بدأت في 3 فبراير 2020، بزيارة “عمران خان” لماليزيا، التقى فيها برئيس وزرائها “مهاتير محمد”، وخلالها اعتذر “خان” عن عدم حضوره “قمة كوالالمبور”[71]. وفي 13 فبراير، قام “أردوغان”، بزيارة رسمية إلى باكستان، للمشاركة في الاجتماع السادس لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين[72]. وفي 27 فبراير، قام “خان” بزيارة رسمية لقطر، التقى فيها بأمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني”[73].
أي أن الزيارات الثلاث المتتالية جاءت مع الدول الثلاث التي حضرت قمة كوالالمبور، وتتسم علاقاتها بالتوتر الشديد مع السعودية والإمارات. وفي قراءة لدوافع هذه التحركات، ذكرت وسائل إعلام باكستانية، بأن السعودية عارضت طلب باكستان عقد اجتماع وزاري طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي لمناقشة قضية كشمير، على خلفية قرار الهند بإلغاء الوضع الخاص بمنطقة جامو وكشمير، كما أفادت بأن الرياض كانت قد أبدت مرونة لعقد هذا الاجتماع عقب رفض إسلام آباد المشاركة في قمة كوالالمبور الإسلامية الأخيرة[74]. وبالتالي تبدو أزمة كشمير هي الدافع خلف هذه التحركات الأخيرة. وهي تبين من ناحية حجم التباينات السياسية السعودية الباكستانية من ناحية، ومن ناحية أخرى طبيعة السياسة الخارجية الباكستانية وتحركاتها ومراوحاتها بين التحالفات المتناقضة في الإقليم.
رابعاً، مستقبل السياسة الخارجية الباكستانية
إن استشراف مستقبل السياسة الخارجية الباكستانية تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتجاه التنافس التركي السعودي بشكل خاص، يمكن من خلال دراسة واستشراف تحركاتها الأخيرة نحو تركيا وقطر وماليزيا. هل تأتي في إطار تكتيكي، ومجرد ورقة ضغط في مواجهة الحلف المقابل، لدفعه في اتجاه تحقيق رغباته تجاه أزمة كشمير أو أزمتها الاقتصادية؟ أم أنه تحول استراتيجي واستدارة نوعية تعكس رغبة باكستانية في تشكيل محور إسلامي يجمعها مع تركيا وقطر وماليزيا؟
الإجابة على هذا السؤال يمكن من خلال الاعتبارات التالية:
الأول: نقاط الضعف الباكستانية، وبالأخص الاقتصاد، تجعل من قدرتها على خسارة السعودية أمر غير مرجح، خاصةً وأن الروابط الاقتصادية التي تجمعها مع السعودية تفوق تلك التي تجمعها مع تركيا، أو أي دولة أخرى. وبالتالي تظل الحاجة الباكستانية للسعودية اقتصادياً مستمرة، سواء فيما يخص النفط أو المساعدات الاقتصادية الدورية أو العمالة الباكستانية.
الثاني: أن باكستان تنظر لنفسها ودورها الإقليمي كوسيط لحل الأزمات، لا أن تنخرط فيها، فلديها ما يكفيها من أزمات داخلية وحدودية. والنموذج الذي قدمته في الأزمة الإيرانية، وتطلعها بدور الوساطة، أنموذج يمكن أن يعبر عن طبيعة السياسة الخارجية الباكستانية في أي أزمة أو صراع إقليمي.
الثالث: تحاول باكستان أيضا استغلال نقاط القوة التي لديها كقوة عسكرية ونووية وبشرية وموقع استراتيجي في إصلاح نقاط الضعف والخلل البنيوية التي تتسم بها. وهو ما يفرض عليها المحافظة على علاقات جيدة مع الأطراف المتصارعة، حتى يمكنها المراوحة بين هذه الأطراف مستغلةً إمكانياتها، واستغلالها لكسب أكبر قدر ممكن المكاسب الاقتصادية والسياسية.
وبالتالي من المرجح أن تستمر باكستان في المحافظة على علاقات جيدة مع الطرفين التركي والسعودي على المدى القصير والمتوسط. كما أن تحركاتها الأخيرة نحو تركيا وقطر وماليزيا، هو مجرد تكتيك كأداة ضاغطة على السعودية، وإثبات أن لديها العديد من الأوراق. فإمكانيات باكستان وقدراتها وموقعها تدفعها للالتزام بسياسة الحياد الإيجابي، لا أن تصطف بشكل استراتيجي وحاد مع أحد التحالفات أو المحاور.
الهامش
[1] ترتيب دول العالم من حيث المساحة، أخبار الساحل، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[2] الهرم السكاني للعالم في الفترة من 1950 إلى 2100، Population Pyramid، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[3] عبد القادر دندن، الأدوار الإقليمية للقوى الصاعدة في العلاقات الدولية، مركز الكتاب الأكاديمي، 2015، ص 103.
[4] Pakistan Military Strength (2020), global firepower, (Accessed on:24/3/2020), Link
[5] GDP (current US$) – Pakistan, The World Bank, (Accessed on:24/3/2020), Link
[6] Adjusted net national income per capita (current US$) – Pakistan., The World Bank, (Accessed on:24/3/2020), link
[7] باكستان الأكثر اقتراضاً في عام على مستوى العالم، البوابة، 1/7/2019، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[8] رأي.. كيف تسعى باكستان لإعادة تشكيل صورتها الاقتصادية؟، سي ان ان، 18/3/2019، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[9] إبراهيم الطاهر، ما سر الطفرة الاستثمارية السعودية في باكستان؟، عربي21، 18/2/2019، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[10] مساعدات السعودية لباكستان.. هل تضمد جراح الاقتصاد، الأناضول، 26/10/2018، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[11] إصلاح الاقتصاد المريض في باكستان يتجاوز خطة إنقاذ صندوق النقد، البورصة، 29/12/2019، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[12] سعر الروبية الباكستانية ( PKR) مقابل الدولار الأمريكي ( USD)، تحويل العملات، 25/3/2020، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[13] البنتاغون يلغي مساعدات لباكستان بقيمة 300 مليون دولار بحجة أنها “لا تلاحق الإرهابيين”، يورونيوز، 2/9/2018، (تاريخ الدخول:24/3\2020)، الرابط
[14] عبد الزهرة شلش العتابي، جمهورية الباكستان دراسة في الجغرافيا السياسية، مجلة كلية التربية الأساسية، الجامعة المستنصرية، عدد51، 2007، ص 3، الرابط
[15] قضية كشمير في سطور.. عقدة الصراع بين الهند وباكستان، الجزيرة نت، 27/2/2019، (تاريخ الدخول:25/3/2020)، الرابط
[16] كشمير.. جنة بين ناري الهند وباكستان، سكاي نيوز، 26/2/2019، (تاريخ الدخول:25/3/2020)، الرابط
[17] الهند تنهي “الحكم الذاتي” في كشمير.. وباكستان تندد، سكاي نيوز، 5/8/2019، (تاريخ الدخول:25/3/2020)، الرابط
[18] مصدر سابق، عبد القادر دندن، ص 105.
[19] عبد الجليل المرهون، من يدفع باكستان نحو الهاوية؟، الجزيرة نت، 17/1/2013، (تاريخ الدخول:25/3/2020)، الرابط
[20] عمر كريم، التنسيق الاقتصادي الجديد يوطّد الشراكة الاستراتيجية بين السعودية وباكستان، معهد واشنطن، 27/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[21] نبذة عن حركة طالبان، بي بي سي، 16/12/2014، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[23] البرلمان الباكستاني يرفض طلب السعودية بالتدخل العسكري في اليمن، بي بي سي، 10/4/2015، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[24] أزمة الخليج .. باكستان تلتزم الحياد والرصانة الدبلوماسية، الاناضول، 12/6/2017، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[25] أنباء تعيين جنرال باكستاني قائداً للتحالف الإسلامي تغيظ إيران، الخليج أون لاين، 3/4/2017، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[26] هل يهدد فوز “عمران خان” بالانتخابات علاقة باكستان مع السعودية؟، الخليج أون لاين، 28/7/2018، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[27] عمران خان يقوم بأول زيارة رسمية للسعودية، الجريدة، 19/9/2018، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[28] العلاقات السعودية الباكستانية.. رؤية موحدة والتزام بالأمن المشترك، المدينة، 17/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[29] عمران خان يزور السعودية للمرة الرابعة خلال العام الجاري، الأناضول، 14/12/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[30] محمد بن سلمان في “زيارة باذخة” إلى باكستان، بي بي سي، 13/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[31] باكستان تطالب برفع العقوبات عن إيران لتتمكن من مكافحة كورونا، مونت كارلو، 20/3/2020، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[32] عمران خان يزور إيران اليوم ويلتقي روحاني غدا في وساطة بين طهران والرياض، الجزيرة نت، 12/10/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[33] السعودية تغازل باكستان و3 محددات تحكم العلاقة مع حكومة عمران خان، نون بوست، 9/9/2018، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[34] نهى خالد، باكستان والخليج.. التحالف المستحيل، الجزيرة، 5/6/2017، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[35] Safdar sial, Emerging dynamics in Pakistani-Saudi relations, Norwegian Peacebuilding Resource Centre, October 2015, (accessed on:26/3/2020), link
[36] أين تذهب الاستثمارات السعودية في باكستان وما هي دوافعها الاستراتيجية؟، سي ان ان، 10/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[37] السعودية ترفض طلبا باكستانيا مهما!، قناة العالم، 28/2/2020، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[38] العلاقات الباكستانية السعودية في ظل احتدام الصراع بين طهران والرياض، كتابات، 29/8/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[40]Dania akkad, Why Pakistan is sending 1,000 troops to Saudi Arabia, middle east eye, 21/2/2018, (accessed on:26/3/2020), link
[41] Pak-Saudi joint military panel vows to boost defence cooperation, DAWN, 24/1/2019, (accessed on:26/3/2020), link
[43] السعودية و شراء السلاح النووي من باكستان، قناة العالم، 18/9/2018، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[44] محمد بن سلمان يوّطد العلاقة “الاستراتيجية” بين السعودية وباكستان، بي بي سي، 15/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[45] ولي العهد السعودي: وقعنا اتفاقيات بـ20 مليار دولار مع باكستان، سي ان ان، 18/2/2019، (تاريخ الدخول:26/3/2020)، الرابط
[46] KHURSHID AHMED, Saudi Arabia, Pakistan ‘to sign deals worth up to $20 billion, Arab News, 17/2/2019, (accessed on:26/3/2020), link
[48] أمير لطيف، تركيا وباكستان.. 72 عاما من العلاقات غير المشروطة، الأناضول، 4/1/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[49] نور علوان، تركيا وباكستان: فصل جديد من الاتفاقيات التجارية والعلاقات الودية، نون بوست، 13/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[50] باكستان تدين محاولة الانقلاب في تركيا، وكالة الأنباء السعودية، 16/7/2016، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[51] باكستان تدرج منظمة مرتبطة بـ”غولن” على لائحة الإرهاب، الاناضول، 1/5/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[52] باكستان تؤكد دعمها لعملية “نبع السلام” التركية، الاناضول، 11/10/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[53] أردوغان: سكان كشمير أصبحوا في وضع السجين بمناطقهم مثل سكّان غزّة، ترك برس، 26/9/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[54] الهند تستدعي السفير التركي للاحتجاج على تصريحات أردوغان بشأن كشمير، الجزيرة نت، 17/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[55] باكستان وتركيا وماليزيا تعتزم تأسيس قناة تليفزيونية لمكافحة الإسلاموفوبيا، تي آر تي، 26/9/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[56] عمران خان في تركيا.. ملفات السياسة والاقتصاد في الواجهة، تي آ رتي، 4/1/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[57] الرئيس أردوغان يستقبل رئيس الوزراء الباكستاني في المجمع الرئاسي، رئاسة الجمهورية التركية، 4/1/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[58] أردوغان يصل إلى باكستان في زيارة تستغرق يومين، الجزيرة نت، 13/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[59] للمرة الرابعة.. أردوغان يلقي خطابا في البرلمان الباكستاني يوم 14 فبراير، ترك برس، 4/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[60] الصناعات العسكرية والدفاعية تشكل أهم جانب في علاقاتنا الثنائية مع باكستان”، رئاسة الجمهورية التركية، 14/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[61] على باكير، تركيا وباكستان: تعميق التعاون وتنويع العلاقات، ترك برس، 16/2/2020، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[62] تركيا وباكستان: علاقات تاريخية يعززها التعاون العسكري، الأناضول، 26/5/2017، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[64] تركيا وباكستان تشكلان لجنة مشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، حلب اليوم، 21/8/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[65] التبادل التجاري بين تركيا وباكستان يصل إلى 700 مليار دولار، تي آر تي، 30/7/2019، (تاريخ الدخول:27/3/2020)، الرابط
[66] السعودية تقاطع قمة إسلامية في ماليزيا تحضرها إيران وتركيا، دويتشه فيلا، 18/12/2019، (تاريخ الدخول: 28/3/2020)، الرابط
[68] أردوغان: السعودية منعت باكستان من حضور قمة كوالالمبور، آر تي عربي، 20/12/2019، (تاريخ الدخول: 28/3/2020)، الرابط
[69] عمران خان يلتقي بن سلمان .. هذا ما بحثاه، قناة العالم، 14/12/2019، (تاريخ الدخول: 28/3/2020)، الرابط
[70] الرياض تنفي أي دور لها في مقاطعة إسلام آباد لقاء كوالالمبور، الشرق الأوسط، 22/12/2019، (تاريخ الدخول: 28/3/2020)، الرابط
[71] عمران خان يختتم زيارة ماليزيا ويأسف لغيابه عن قمة كوالالمبور، الجزيرة نت، 5/2/2020، (تاريخ الدخول: 14/2/2020)، الرابط
[72] زيارة أردوغان لباكستان.. أجندة حافلة بملفات سياسية واقتصادية ودفاعية، تي آر تي عربي، 13/2/2020، (تاريخ الدخول: 14/2/2020)، الرابط
[73] عمران خان يزور الدوحة الخميس لبحث العلاقات الثنائية، الأناضول، 27/2/2020، (تاريخ الدخول:2/3/2020)، الرابط
[74] رغم التقارب بين البلدين.. السعودية ترفض طلبا باكستانيا بعقد قمة إسلامية بشأن كشمير، الجزيرة نت، 8/2/2020، (تاريخ الدخول: 14/2/2020)، الرابط