سياسةقلم وميدان

‏ما هو أبعد من أزمة الكهرباء في مصر!!


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


ما هو أبعد من أزمة الكهرباء في مصر، وما لا يتم تناوله والنقاش حوله بشكل موضوعي في الإعلام المصري، هو تحديداً صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر، وأين تذهب؟ وكم تمثل من استهلاك واحتياجات الغاز في مصر؟ وليست مبالغة القول أن هذا البعد هو الأكثر خطورة في أزمة انقطاع الكهرباء التي نشهدها حالياً.

‏لقد أصبحت تدفقات الغاز الإسرائيلي التي تصل مصر، والتي من المفترض أن يتم إعادة تصديرها مرة أخرى من خلال تسييلها في محطتي إدكو ودمياط، تُوجَّه كلها إلى السوق المحلية. والسبب في ذلك أن إنتاج الغاز المصري تراجع بشكل كبير بسبب تراجع إنتاج حقل ظُهر‏ الذي يمثل تقريباً من 35% إلى 40% من الإنتاج الكلي للغاز في مصر. وفي نفس التوقيت، تزايد الاستهلاك المحلي بالشكل الذي وسَّع الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج، وأنهى الاكتفاء الذاتي من الغاز الذي كانت مصر قد وصلت إليه منذ 6 سنوات فقط (حيث كان إعلان الاكتفاء الذاتي من الغاز في عام 2018).

‏ ونتيجة لذلك، تراجعت صادرات مصر من الغاز المسال بشكل حاد في عام 2023. ومع بداية عام 2024، كانت مصر غير قادرة على تصدير أي شحنة غاز مسال. وأعلنت الحكومة في مايو الماضي وقف صادرا ت الغاز المسال إلى أوروبا مؤقتاً، أملاً في أن يتراجع الاستهلاك في الشتاء بما يسمح بعودة الصادرات مرة أخرى. ويعني هذا عملياً أن كل كميات الغاز القادمة من إسرائيل، والتي تتزايد شهرياً بحسب الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، تُوجَّه للسوق المصرية. وهنا من المهم أن نتوقف ونوجه السؤال الأهم للحكومة المصرية؛ إلى أي مدى تعتمد مصر على الغاز الإسرائيلي في الوقت الراهن؟

‏بمعنى آخر، كم تُمثّل إمدادات الغاز الإسرائيلي من الاستهلاك المحلي في مصر؟ والإجابة هنا أن مصر تتلقى يومياً حوالي 1.1 مليار قدم مكعب يومياً من إسرائيل، في حين أن استهلاك مصر اليومي يصل إلى 6.1 مليار قدم مكعب يومياً (يُستخدَم أغلبها في توليد الكهرباء).‏ وهذا يعني أن مصر تتلقى 18% من احتياجاتها من الغاز من إسرائيل، أي أن خُمس (1/5) استهلاكنا من الغاز الطبيعي نعتمد فيه على إسرائيل.

ولن تتوقف هذه النسبة عند هذه الحد، فالمفترض أنها سترتفع بناء على آخر اتفاقية لزيادة صادرات الغاز الإسرائيلية لمصر‏ في فبراير الماضي (وسط الحرب المشتعلة في غزة). ووفقا لهذا الاتفاق، ستصل تدفقات الغاز الإسرائيلي لمصر إلى 1.5 مليار قدم مكعب يومياً في الأعوام القادمة، أي ما يمثل تقريباً من 20% إلى 25% من احتياجاتنا من الغاز (مع الأخذ في الاعتبار زيادة الاستهلاك المحلي المتوقعة في السنوات المقبلة).

 وحتى لا نستغرق في لغة الأرقام، ما هو أثر ذلك على مصر؟ على أمن الطاقة؟ على الأمن القومي المصري؟ أثره أن مصر حالياً تعتمد على مصدر واحد فقط وبشكل كبير لتأمين إمدادات الغاز؛ وهذا المصدر هو إسرائيل، الكيان الذي تحكم علاقتنا معه أبعاد معقدة للغاية مهما تحسَّنت وتطوَّرت العلاقات بين الجانبين. ‏وهذا يعني أن إسرائيل تمتلك أداة ضغط هائلة على مصر، حيث يمكن لإسرائيل إذا قطعت إمدادات الغاز بالكامل عن مصر في الوقت الراهن أن تتسبب في انقطاع الكهرباء لمدة تصل تقريبا إلى 5 ساعات. وهكذا، فبإضافة الـ 3 ساعات الحالية، فإن عدد ساعات انقطاع الكهرباء عن مصر سيصل إلى 8 ساعات؛ ‏أي أن ثلث اليوم في مصر، الدولة ذات الثقل الإقليمي، يكون بدون كهرباء ويتم تعطيله بسبب إسرائيل وبدون استخدام أسلحة ثقيلة.

فهل يمكن لإسرائيل أن تقطع الغاز عن مصر؟ نعم، وهذا ما رأيناه وشاهدناه بأعيننا مع بداية الحرب على غزة في أكتوبر الماضي، عندما أوقفت إسرائيل منصة انتاج حقل تمار، وأوقفت إمدادات الغاز كاملة عبر خط أنابيب العريش-عسقلان، وادّعت إسرائيل وقتها أن وقف إمدادات الغاز عن مصر كان بسب الحرب. والحقيقة والواقع، أن القطع كان لأسباب تتعلق بالضغط على مصر، بسبب موقفها من تهجير أهل غزة إلى سيناء. ‏والمؤكد أن غالبية الغاز القادم من إسرائيل إلى مصر يأتي من حقل ليفياثان، وليس حقل تمار الذي تم تعطيله بسبب الحرب؛ ولكن إسرائيل فعلت ما تم التحذير منه خلال السنوات الماضية عن خطورة استيراد الغاز من إسرائيل، وقامت باستخدام الغاز كأداة سياسية للضغط على مصر، ‏وهو موقف قابل للتكرار ومرجح وقوعه في أي وقت من إسرائيل.

يُذكر أنه عندما وقَّع مبارك صفقة الغاز مع إسرائيل في عام 2005، وأثارت وقتها جدلاً كبيراً، كانت الدوائر حول مبارك تقول إن للصفقة بعداً جيوسياسياً مهماً، وهو اعتماد إسرائيل على مصر، وهذا صحيح بالفعل؛ ‏غير أن أسعار الغاز التي كانت في الصفقة حينها كانت أقل من الأسعار العالمية بكثير، وهو ما وسَّع الاعتراض عليها، بالإضافة إلى كونها مع إسرائيل. والآن، ما أدركته مصر في عام 2005، تُدركه إسرائيل جيداً وتتمسك به وتستخدمه.

‏لقد أدركت مصر متأخراً أزمة الاعتماد على الغاز الإسرائيلي وبدأت في استيراد شحنات الغاز المسال مرة أخرى -عدنا للنقطة التي كنا بدأنا منها في عام 2018- ولكن هذه المرة كان رد فعل الحكومة متأخراً ومتباطئاً وبعد فوات الأوان. حيث تحركت الحكومة في بداية الصيف وقامت بتأجير سفينة تغويزFSRU ‏ لاستقبال الغاز المسال في ميناء السخنة؛ وطرحت مناقصة لاستيراد شحنات الغاز في وقت يتزايد فيه الطلب بشكل كبير على الغاز المسال عالمياً (حيث الأسواق الآسيوية الشرهة وبداية الشتاء في أمريكا اللاتينية). ونتيجة لذلك، فإن أسعار الغاز المسال حالياً مرتفعة، فضلاً عن أن التنافس عليها كبير،‏ وأصبح الحصول على شحنات غاز مسال أمراً معقّداً، حتى إذا توفرت الأموال. مع أنه -وهو الأهم- كان من السهل، بحسابات بسيطة لمعدلات الإنتاج والاستهلاك المصري، أن تتوقع الحكومة أزمة الغاز في الصيف مع زيادة الاستهلاك، وكان من المفترض أن تؤمِّن الحكومة شحنات غاز مسال قبل أن نصل إلى هذه الأزمة.

 ‏لم تكن أزمة الغاز في مصر بما يشمل انتهاء الاكتفاء الذاتي وعودة مصر لاستيراد الغاز أمراً غير متوقع. فخلال السنوات الماضية، صدرت العديد من الدراسات من مراكز بحثية متخصصة وبنوك دولية تؤكد زيادة الاستهلاك وتراجع الانتاج وعودة مصر لاستيراد الغاز في غضون سنوات. ‏وبالتالي، فإن تأمين مصادر متنوعة للغاز الطبيعي لمواجهة أزمة متوقعة كان هو السلوك الأقرب للعقل والمنطق من السيسي والحكومة المصرية.

وكانت الطريقة التي تمت بها إدارة الإنتاج من حقل ظهر من قِبل السيسي والحكومة المصرية خطأ فادحاً في مقابل الأساسيات الفنية لتطوير حقول الغاز والنفط؛ ‏والتي تقتضي الموازنة بين زيادة الإنتاج والحفاظ على حالة الآبار المنتجة من أي أضرار فنية، وهذا عكس ما حدث بعد حالة التسارع والتعجل في الإنتاج التي شهدها الحقل وأدت إلى مشاكل فنية وتراجع كبير في إنتاج الحقل، والذي انعكس على تراجع الإنتاج الكلي للغاز في مصر.

‏الأهم من ذلك والخلاصة، أن إسرائيل تتعامل مع ملف الغاز والطاقة من المنظور الأمني والجيوسياسي، ثم يأتي بعد ذلك المنظور الاقتصادي؛ بينما يتعامل السيسي والحكومة المصرية مع ملف الغاز من المنظور الاقتصادي فقط، ‏دون الاعتبار لأمن الطاقة المصري وخطورة الاعتماد على إسرائيل في أحد مصادر الطاقة الحيوية لمصر. والنتيجة عند هذا الحد تحمل الكثير من المخاطر؛ وعلى المدى القريب فهي كارثية.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


خالد فؤاد

باحث بالمعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، متخصص في العلاقات الدولية، وقضايا الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى