الشرق الأوسطتقارير

التصعيد التركي ضد إسرائيل.. قراءة في أسباب التحولات ومآلاته


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقدمة

مرت السياسة التركية تجاه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بمنعطفات وتحولات حادة. فمن البدايات الخجولة مع انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 إلى تصعيد متدرج اقتصر في البداية على التصريحات، ليصل إلى فرض مجموعة من التدابير الاقتصادية العقابية بحق إسرائيل، وتدعيم العلاقة مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”.

فالموقف التركي حظي باهتمام الشارع العربي والإسلامي أكثر من أي دولة أخرى، نظراً للانعطافات المهمة التي طرأت على السياسة الخارجية لتركيا منذ استلام حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002 وحتى الآن.

السياسة الخارجية للدولة في فترة ما بعد الدولة والتنمية، يممت وجهها أكثر صوب الشرق الأوسط وأعادت تعريف تلك المنطقة بالنسبة لسياستها الخارجية، التي كانت تمثل إرثاً تاريخياً للدولة العثمانية تم قطع العلاقة معه، ضمن أشياء أخرى عقب إعلان قيام الجمهورية التركية في 29 أكتوبر 1923.

ومع اشتداد العدوان الإسرائيلي على غزة، وانكشاف معالم المأساة الإنسانية التي كانت تتفاقم يوما بعد الآخر، كان لابد من البحث عن الدور التركي، أملاً في أن يسهم في وقف تلك المجازر، خاصة وأن أنقرة تمتلك أوراق ضغط سواء من خلال علاقتها بإسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، أو لكونها الدولة المسلمة الوحيدة التي تحظى بعضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو” ويحل جيشها في المرتبة الثانية من حيث القوة بين دول الحلف.

محطات تحول السياسة التركية

منذ السابع من أكتوبر 2023 يمكننا تمييز …. عدة مراحل مرت بها السياسة التركية في مواجهة العدوان الإسرائيلي على عدوان غزة.

المرحلة الأولى.. البحث عن دور الوسيط

في أزمات سابقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، تدخلت تركيا باعتبارها طرفا في الأزمة وليست وسيطاً بين طرفين.

ففي مايو/أيار 2018 طردت تركيا السفير الإسرائيلي، ومعه القنصل العام الموجود في إسطنبول، إثر المذبحة التي ارتكبتها قوات الاحتلال على حدود قطاع غزة.

لكن هذه المرة اختارت أنقرة أن تلعب دور الوساطة، خاصة وأن طوفان الأقصى، كان مفاجأة لها مثل بقية دول العالم.

لذا لم يكن من المتوقع أن تسارع تركيا بالانغماس في الأزمة دون أن تستعد لها، إذ كان واضحا للجميع أن تداعيات “الطوفان” لن تكون مثل سابقتها من الأزمات والحروب بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.

إذ سارع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الساعات الأولى، إلى الاتصال بالرئيسين الفلسطيني، محمود عباس، والإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، حيث قدم للأخير تعازيه دون التورط في الهجوم على المقاومة، مؤكدا له أن “أي خطوة يمكن أن تلحق الضرر بشعب غزة بشكل جماعي وعشوائي ستؤدي إلى زيادة المعاناة ودوامة العنف في المنطقة”.

تلا ذلك إصدار أردوغان بيانا باللغة العربية على حسابه بمنصة “إكس”، أكد فيه عدم قبول تدمير قطاع غزة بالهجمات البرية والجوية غير المتكافئة وقصف المساجد وقتل الأطفال والنساء والمسنين والمدنيين الأبرياء، مشيرا إلى رفض مثل هذه الأعمال حال حدوثها تجاه المدن الإسرائيلية. كما أكد أردوغان على اضطلاع تركيا بتأمين المساعدات الإنسانية لأهالي غزة.

تواصل القصف الإسرائيلي العشوائي على قطاع غزة، وسقوط آلاف الشهداء خاصة من النساء والأطفال، واستهداف القطاع الصحي، بما في ذلك مجزرة المستشفى المعمداني مساء 17 أكتوبر 2023، كل هذا أدى إلى تطور لغة الخطاب التركي، والدفع باتجاه موقف أكثر تشددا تجاه تل أبيب.

ففي كلمة أمام الكتلة النيابية لحزب العدالة والتنمية يوم 25 أكتوبر 2023 أعلن أردوغان إلغاء زيارة كان يعتزم القيام بها إلى إسرائيل، وقال إن “حركة حماس ليست تنظيماً إرهابياً، وإنما مجموعة تحرر ومجاهدين تناضل لحماية مواطنيها وأرضها”

وفي 28 أكتوبر 2023، نظم حزب العدالة والتنمية، تجمعاً جماهيرياً حاشداً تحت عنوان “تجمع فلسطين الكبير” ألقى فيه أردوغان كلمة، هاجم من خلالها الولايات المتحدة وأوروباً معتبراً أن “أصحاب اللعبة الحقيقيين في المنطقة هم الذين يدعمون غطرسة إسرائيل وتكبّرها. لأن إسرائيل لا تستطيع أن تقوم بخطوة رغما عنهم، ولو حاولت ذلك، فهي لا تستطيع أن تصمد ثلاثة أيام وسوف تنهار”.

المرحلة الثانية.. مظلة العمل الجماعي

مع وصول تركيا إلى قناعة عدم جدوى التهدئة في قطاع غزة، حاولت بناء موقف إسلامي موحد بالتنسيق مع الدول العربية، لمواجهة التكتل الغربي الذي سارعت الولايات المتحدة إلى بنائه فور اندلاع طوفان الأقصى لدعم إسرائيل.

فكانت مشاركة تركيا في أعمال قمة القاهرة للسلام في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، في ٢١ أكتوبر/تشرين الأول، بوفد ترأسه وزير الخارجية، هاكان فيدان، حيث دعت تركيا – ضمن بقية الدول المشاركة – إلى وقف إطلاق النار في غزة، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية.

ثم كانت المشاركة التركية، في القمة العربية الإسلامية، التي عقدت بالعاصمة السعودية، الرياض، في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، بوفد يتقدمه أردوغان، الذي أكد في كلمته على ضرورة محاسبة إسرائيل على جرائمها الإنسانية، بسبب قتل الأبرياء والنساء والأطفال.

وحذر من محاولة إسرائيل فرض سياسة الأمر الواقع على القدس، مشدداً على أن ذلك خط أحمر لا يمكن القبول به.

وبناء على مخرجات قمة الرياض تم تشكيل مجموعة عمل تضم وزراء خارجية كل من السعودية، وقطر، وتركيا، ومصر، وإندونيسيا، ونيجيريا، إضافة إلى أميني الجامعة العربية، ومجلس التعاون الإسلامي.

وتم تكليف هذه المجموعة، بالتواصل مع المنظمات والمؤسسات الدولية، والعواصم الكبرى، خاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، من أجل العمل على وقف إطلاق النار في غزة، ووضع تصور لحل القضية الفلسطينية.

وبدأت المجموعة سلسلة جولاتها الخارجية في 20 نوفمبر 2023، بحضور وزير الخارجية التركي في جميع الزيارات التي نظمتها منذ ذلك التاريخ.

النشاط التركي الخارجي، واكبه في الداخل تصاعد حدة تصريحات أردوغان بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حيث كرر تشبيهه بهتلر، معتبراً أن سياساته تجاه الفلسطينيين هي نفس السياسات النازية التي عانى منها اليهود في حقبة زمنية معينة.

لكن الملاحظة التي يجب تسجيلها، أن هذا الجهد الجماعي لم يسجل أي تقدم لصالح وقف إطلاق النار في قطاع غزة، لذا يبدو أنه تولدت قناعة لدى صانع القرار في أنقرة بضرورة التقدم خطوة إلى الأمام في اتجاه التصعيد ضد تل أبيب. وبعبارة أخرى قررت تركيا تطوير إستراتيجيتها صوب العمل المنفرد ضد إسرائيل.

المرحلة الثالثة.. التدابير العقابية واستقبال قادة حماس

في الثامن من إبريل/نيسان، فاجأ وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الرأي العام بكلمة لم تكن مجدولة؛ أعلن فيها اتخاذ سلسلة من التدابير الجديدة ضد إسرائيل، بسبب عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية التركية جوا إلى سكان قطاع غزة. وأضاف فيدان، أن تلك التدابير وافق عليها أردوغان، مؤكداً بدء تنفيذها دون تأخير، دون الإفصاح عن فحواها، وإن كان أحال ذلك إلى مؤسسات الدولة المعنية.

في اليوم التالي التاسع من إبريل/نيسان، أعلنت وزارة التجارة، تعليق تصدير 54 منتجا إلى إسرائيل وقالت إن الإجراء الجديد سيستمر لحين وقف إطلاق النار في غزة والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.

وفي الأول من مايو أعلن فيدان، انضمام تركيا إلى جنوب أفريقيا في القضية التي رفعتها على إسرائيل في محكمة العدل الدولية.

ثم تمضي التدابير التركية خطوة إلى الأمام بإعلان وزارة التجارة في الثاني من مايو، وقف التعامل التجاري نهائيا مع إسرائيل لحين السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون توقف. ووقف إطلاق النار كما أكد على ذلك أردوغان في تصريحات تالية للقرار، أشار فيها أيضا إلى استعداد بلاده للتعامل مع تداعيات القرار، خاصة الهجوم المتوقع من قبل دول غربية.

هذه التدابير الاقتصادية، لم تكن بمعزل عن مجموعة من الإجراءات الإنسانية والسياسية التي اتخذتها تركيا، واعتبرتها إسرائيل بمثابة تصعيد جدّي ضدها.

ففور الإعلان عن استشهاد مجموعة من أولاد وأحفاد رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في قطاع غزة، سارع كبار مسؤولي الدولة التركية، وفي مقدمتهم أردوغان، إلى الاتصال بهنية للتعزية، أو مواساته كتابيا عبر حساباتهم الرسمية على منصة “إكس”.

وفي العشرين من إبريل/نيسان استقبل أردوغان في قصر دولمة بهجة في إسطنبول، وفدا من حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية.

هذا الاستقبال الرسمي لوفد الحركة، أشعل غضب إسرائيل فعلق وزير خارجيتها، يسرائيل كاتس، قائلا: “الإخوان المسلمون: اغتصاب ومجازر وتدنيس الجثث وحرق الأطفال. أردوغان يجب أن تخجل!”

أسباب تحولات الموقف التركي

في بحث أسباب هذه الانعطافة الكبرى في السياسة التركية تجاه ملف العدوان الإسرائيلي على غزة، تبرز سردية نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي لقي فيها حزب العدالة والتنمية أول هزيمة في تاريخه منذ نشأته وتسلمه الحكم عام 2002.

فالبعض اعتبر أن الموقف “المهزوز” تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة لعب دوراً ملموساً وكبيراً في هزيمة الحزب، وبالتالي فإن أردوغان يعمل الآن على ترميم صورته وصورة حزبه، بإنتاج سياسات أكثر فاعلية تجاه غزة، وتشدداً تجاه إسرائيل.

وبالرغم من وجاهة التفسير، إلا أنه يتصادم مع ما أفرزه أكثر من استطلاع للرأي تم إجراؤه عقب الانتخابات، لمعرفة اتجاهات تصويت الناخبين.

نتائج استطلاعين جاءت مغايرة تماما لتلك السردية، إذ أفصحا عن تضاؤل تأثير ملف غزة على اتجاهات التصويت، وأنه لم يكن هناك غضب مؤثر من قاعدة الحزب التصويتية بسبب غزة.

إذ يبدو أن ثمة قناعة كانت لدى الناخبين، بالإجراءات المتخذة من قبل الحكومة، واعتقادها أن الأحزاب الأخرى لن تقدم بديلا أقوى من حزب العدالة والتنمية في ذات الملف.

ففي استطلاع أجرته شركة “أرادا AREDA” على قرابة 22  ألف شخص، أكد 32.7%امتناعهم عن التصويت لأسباب اقتصادية، فيما أشار 1.6% فقط إلى أن امتناعهم بسبب الموقف الرسمي من غزة!

وسئل المصوتون لحزب “الرفاه من جديد”، الذي وظف ملف غزة جيداً ضد الحكومة، عن سبب منح أصواتهم للحزب فأشار 35.1% منهم إلى تطابقه مع حزب العدالة والتنمية، فيما أكد 1.2% فقط أن ذلك يعود لأسباب خاصة بفلسطين!

استطلاع آخر أجرته شركة آصال ASAL، عن الأسباب التي أدت إلى خسارة حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية، إذ احتلت الأسباب الاقتصادية المركز الأول بنسبة 51.9% ، فيما تراجع سبب “التجارة مع إسرائيل” إلى مركز متأخر جداً بنسبة 0.07% أي أقل من واحد في المئة!

إذن لا يمكن بحال اعتبار نتائج الانتخابات البلدية عاملاً مؤثراً في تفسير هذا التحول في السياسات، خاصة وأن الانتخابات المقبلة ستحل بعد أربع سنوات، وفي السياسة التركية تعد الأربع والعشرين مدة طويلة حسب المأثور عن الرئيس السابق، سليمان ديميريل. فما بالنا والموعد الانتخابي الأقرب هو 2028!

ومن هنا فإن البحث عن تفسير السلوك السياسي التركي، يقودنا إلى أسباب تتعلق بالتطورات العالمية بشأن الأزمة، وأخرى تخص التنافس الإقليمي، أو ما يتعلق منها بالمناكفات الحزبية الداخلية…إلخ على النحو التالي:

أولاً: الالتزام الأخلاقي صوب فلسطين

كثير ما يغفل الباحثون تأثير الضغوط الأخلاقية على سلوك أردوغان السياسي، وذلك بسبب التحولات البراغماتية التي اعتادوا عليها منه في كثير من المواقف السياسية.

وبالرغم من ذلك فلا يمكن أبداً استبعاد العوامل الأيديولوجية في تشكيل السلوك السياسي لرجل مثل أردوغان، بناء على تاريخه الطويل داخل الإسلام السياسي التركي.

فالملف الفلسطيني تحديدا يحظى لديه – كما هو حال أغلبية الشعب التركي – بأولوية خاصة لسببين أحدهما أخلاقي نابع من تكوينه العقدي ونشأته الدينية، والثاني تاريخي كون الدولة العثمانية كانت آخر دولة مسلمة تحكم فلسطين لمدة أربعة قرون، إلى أن أجبر جيشها على مغادرة القدس الشريف في ديسمبر/كانون الأول 1917.

فمنذ عام 2009 لم تستقر العلاقات التركية الإسرائيلية مثلما كانت من قبل، ففي يناير/كانون الثاني من ذلك العام شهد منتدى دافوس مشادة كلامية بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز، والتي عرفت إعلاميا بـ “One minute” والتي انسحب على إثرها أردوغان من فاعليات المنتدى ولم يشارك فيه مرة أخرى حتى الآن.

وفي العام التالي 2010 شهدت علاقة البلدين تدهوراً حاداً إثر تعرض أسطول الحرية، الذي أبحر من تركيا باتجاه سواحل غزة المحاصرة، لهجوم إسرائيلي نتج عنه مقتل 10 أتراك كانوا على متن سفينة “مافي مرمرة” إحدى السفن المشاركة في الأسطول.

وبالرغم من اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عام 2013 عن الحادث، والتوصل إلى اتفاق تدفع بمقتضاه 20 مليون دولار تعويضات للضحايا، إلا أن التوتر استمر يصبغ علاقة البلدين مع هجوم أردوغان المتكرر على إسرائيل بسبب الانتهاكات التي تقوم بها تجاه المسجد الأقصى، والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعلى خلاف دول عربية لا تزال تحتفظ بمفاوضات التطبيع مع إسرائيل، فإن أردوغان اختار مبكرا نسف كل جهود التطبيع التي قادها قبل نحو عامين، وتوجت في مارس/آذار 2022 بزيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ أنقرة.

ففي 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبعد ثمانية عشر يوماً فقط من بدء طوفان الأقصى، أعلن أردوغان إلغاء زيارته المقررة سلفاً إلى إسرائيل. وسرعان ما عادت إلى الواجهة مرة أخرى الملاسنات المتبادلة بينه وبين القادة الإسرائيليين.

ومن هنا فإنه كان من الصعوبة بمكان، أن ينفصل أردوغان أخلاقياً عن الوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة، ليبقى في منطقة محايدة، لذا سرعان ما قرر دعم الشعب الفلسطيني، وخاصة المقاومة وفي مقدمتها حركة حماس التي شبهها بالقوى الوطنية التركية “قواي ملي” التي بدأت حركة النضال ضد القوات الفرنسية واليونانية المحتلة وقال: “أنا أدرك أن قولي هذا له ثمن. لكني لن أنحني أمام محاولات اغتيالكم أو محاولات الانقلاب”.

ثانياً: المزايدات الحزبية الداخلية

وعطفاً على ما سبق فقد تعرض أردوغان لحملة من بعض أحزاب المعارضة خاصة الإسلامية منها، بسبب استمرار التجارة مع إسرائيل.

قاد هذه الحملة حزب “الرفاه من جديد” برئاسة فاتح أربكان، والذي كان حليفا لحزب العدالة والتنمية ضمن “تحالف الجمهور” خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023. اتهم أربكان الحكومة بتزويد الجيش الإسرائيلي بالوقود الذي تستخدمه الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تقصف قطاع غزة وتقتل شعبها.!

لكن مركز مكافحة المعلومات المضللة، التابع لدائرة الاتصال بالرئاسة التركية، نفى هذه الادعاءات في بيانات رسمية، وقال إن تركيا تزود فقط طائرات الركاب المدنية الإسرائيلية بالوقود، وذلك عند وجودها في المطارات التركي خلال الرحلات المجدولة بين الدولتين، دون تصدير هذا الوقود إلى إسرائيل نهائيا، وقد تم التوقف عن ذلك أيضا بموجب قرار تعليق تصدير 54 منتجا إلى إسرائيل الصادر في التاسع من إبريل/نيسان.

وبالرغم من ذلك واصل فاتح أربكان، توجيه ذات الاتهام إلى الحكومة، ما دفع أردوغان إلى نفي ذلك بنفسه مؤكدا أن أخلاقه وأخلاق معاونيه من الوزراء والمسؤولين لا تسمح لهم بمثل هذه التصرفات، ولا أن يقوموا بدعم الجيش الإسرائيلي في قتله للشعب الفلسطيني.

ويبدو أن تلك الضغوط دفعت أردوغان إلى الإشارة إلى الدعم غير المعلن الذي تقدمه تركيا للفلسطينيين قائلا: ” قد لا نتمكن من شرح بعض ما قمنا به، لكن من يشككون بحساسيتنا تجاه فلسطين سيشعرون بالعار عاجلاً أم آجلاً، وسيرون حجم ظلمهم.”

من هنا قرر أردوغان وحكومته التحرك، إذ لا يضمنان توسع هذه المساحة من الاعتراض، لتتحول إلى بؤرة للاحتجاج الشعبي المتصاعد بانضمام فئات أخرى إليه، قد تقود في نهاية المطاف إلى انتخابات مبكرة أو الدخول في المجهول!

فتركيا مرت بسيناريو مشابه في أحداث “غيزي بارك” عام 2013 والتي قادها اليسار وتم احتواؤها مخلفة خسائر اقتصادية ضخمة لا تزال تركيا تعاني منها حتى الآن! والمفارقة أنها بدأت بالاعتراض على قطع الأشجار لتتحول إلى كرة من اللهب تقاذفتها القوى السياسية لتحقيق مآرب أخرى!

لكن النسخة الجديدة من “غيزي بارك” قد تكون بأيدي يسارية وإسلامية! وهذا السيناريو بدأت إرهاصاته يوم 6 إبريل/نيسان حيث نظمت مجموعة تسمى “ألف شاب من أجل فلسطين”، وهي مجموعة يسارية تضم فتيات محجبات، فاعلية في شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم بإسطنبول، اعتراضا على التجارة مع إسرائيل.

وعقب انتهاء الفاعلية رفضت المجموعة الانصراف، ما أدى إلى حدوث احتكاكات مع قوات الأمن، أدى إلى صفع إحدى الفتيات المحجبات على وجهها واعتقال محجبات أخريات.

ورغم أن وزير الداخلية، علي يرلي كايا، سارع بإيقاف ضابطي شرطة، وتعيين مفتش مدني للتحقيق في الحادث، كما تم الإفراج عن جميع الموقوفين في نفس اليوم، إلا أن ما حدث خلق مساحات واسعة للنيل من الحكومة من جانب معارضيها، الذين سعوا إلى استغلال ما حدث مع الفتيات المحجبات، لهز صورتها لدى الكتلة المحافظة المتدينة، والسعي إلى جذبهم – خاصة جيل الشباب – للاحتجاج المشترك ضد أردوغان وحكومته.

من هنا يبدو أن الحكومة قررت سحب هذه الورقة من يد المعارضة خاصة “المحافظة” بمزيد من الإجراءات التصعيدية ضد إسرائيل، غلقاً لهذا الباب الذي قد تندلع منه أي احتجاجات عنيفة تؤثر على الاستقرار العام.

ثالثاً: التنافس الإقليمي مع إيران

تصطبغ العلاقات التركية – الإيرانية بالصبغة التنافسية، وإن بدا الأمر ظاهريا خلاف ذلك. فالدولتان تتمتعان حتى الآن بالقدرة على إدارة هذا التنافس بشكل جيد، والحفاظ عليه في مستواه الأدنى، ولا يسمحان بتحوله إلى صراع إقليمي باهظ التكاليف.

فإيران التي تتمتع بنفوذ عسكري وسياسي هائل في أربع دول عربية، تؤمن أن تركيا بقدراتها الجيواستراتيجية الهائلة، يمكن أن تشكل تهديداً إستراتيجياً لها، خاصة مع إعادة تموضع تركيا عربيا خلال السنوات الأخيرة.

هذا التموضع خلق منافسا قويا لإيران في منطقة جغرافية واسعة تمتد من الخليج جنوبا مرورا بالعراق وسوريا وصولا إلى منطقة القوقاز، حيث نجحت أذربيجان بمساعدة تركيا في استعادة معظم أراضي إقليم ناغورنوكاراباغ، وما ترتب على ذلك من نتائج مهمة على الصعيدين السياسي والإستراتيجي في المنطقة.

لهذا لم يكن من المنتظر أن تترك تركيا الملف الفلسطيني لتنفرد به إيران من خلال دعم بعض فصائل المقاومة، أو تبنيها خطابا سياسيا ذا سقف مرتفع عن تركيا وبقية الدول العربية في المنطقة. الهجوم الإيراني الإسرائيلي المتبادل مثل نقطة تحول في السياسات التركية، حيث شكك أردوغان فيما حدث بقوله:

“إسرائيل تقول أشياء مختلفة، كما تطرح إيران وجهات نظر مختلفة. لا يوجد تفسير غير معقول حول هذا الموضوع. لا يمكنك أن تقول إن تصريحات إيران صحيحة، كما لا يمكنك أن تقول أي شيء عن إسرائيل.”

وفي البيان الذي أصدرته دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية، عقب لقاء أردوغان وفد حماس برئاسة هنية، تمت الإشارة مرة أخرى إلى الهجوم المتبادل بين الدولتين مرة أخرى، إذ جاء فيه: “في معرض تقييمه للتوترات بين إسرائيل وإيران، أكد الرئيس أردوغان أن الأحداث لا ينبغي أن تحقق مكاسب لإسرائيل وأنه من المهم القيام بأنشطة من شأنها لفت الانتباه إلى غزة مرة أخرى”

إذن لم يكن تقييم أنقرة للمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية تقييماً إيجابياً، فقد تخوفت من تسبب هذه المواجهة في لفت الأنظار بعيداً عن غزة وما يحدث فيها. ويبدو أن بعضا من أسباب تحولات السياسة التركية، يعود إلى رغبتها في التموضع في بؤرة الأحداث وليس على الهامش كما كانت، مدركة في الوقت ذاته أن هذا التموضع يحتاج إلى تعديل في السياسة تجاه إسرائيل، على النحو الذي تابعناه. 

رابعا: تكون رأي عالمي مناهض للتوحش الإسرائيلي

فتركيا كانت تخشى في البداية اندفاعها صوب مقاربات حدية للتعامل مع الأزمة، تعرضها لأضرار سياسية واقتصادية، في وقت تعمل فيه على معالجة أزمتها الاقتصادية، ولم تعد تملك القدرة على تحمل ضربات اقتصادية أو مالية جديدة كالتي حدثت عام 2018 وقادت إلى تراجع كبير لعملتها الوطنية، لا تزال تعاني منه حتى الآن.

لكن مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وتكون رأي عام عالمي مناهض لهذا التوحش، وجدت تركيا لنفسها مساحات للتحرك في ظلالها.

فمع التحركات القانونية لجنوب أفريقيا في المحكمة الجنائية الدولية، واستمرار المظاهرات المنددة بالمجازر الإسرائيلية في الشارعين الأوروبي والأميركي، وتواصل حركة المقاطعة الجماهيرية للشركات الداعمة لإسرائيل، لن يكون مستغرباً أي تحرك من جانب تركيا في هذا الصدد.

مآلات التصعيد التركي

في بحث مستقبل ومآلات الإجراءات التصعيدية التركية ضد إسرائيل، لا يمكن فصل ذلك عن ردود الفعل الخارجية وخاصة الأمريكية على ذلك التصعيد. ففي أول رد فعل من واشنطن قال مستشار مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي: “القرارات التركية المتخذة ضد إسرائيل لن تضر بعلاقاتنا معها، فهي حليف مهم في حلف شمال الأطلسي”.

فتركيا تجيد توظيف ما لديها من أوراق، في إعادة التوازن إلى علاقتها مع الولايات المتحدة، المصبوغة دوما بالتوتر منذ عقود. وواشنطن تحتاج إلى توظيف عوامل القوة الإستراتيجية والعسكرية والدفاعية التركية، في دعم الصراع ضد روسيا في أوكرانيا، فقد كشفت دورية إنتليجنس أونلاين عن تجهيز تركيا صفقة معدات عسكرية ممولة من الميزانية الأميركية، سيتم توريدها إلى أوكرانيا.

لكن وكما في أزمات سابقة، فإن تعدد مراكز السلطة داخل الولايات المتحدة، قد يؤدي إلى تصاعد التوتر بين الدولتين. فرغم تصريحات كيربي الإيجابية بشأن التصعيد التركي، إلا أنه في موازاة ذلك فإن ثمت تحركات في الكونغرس يحركها اللوبي اليهودي، من أجل اتخاذ إجراءات عقابية ضد تركيا.

هذه التطورات يدركها أردوغان جيدا وأشار إليها في كلمته أمام الجمعية التركية لرجال الأعمال المستقلين “موصياد” بقوله: “قرارنا الأخير (الوقف التام للتعامل التجاري مع إسرائيل) قد يسبب لنا بعض المشاكل، ولكن لابد من الوقوف إلى جانب المظلومين.”

فحسابات أنقرة تتوقع ردود فعل سلبية من جانب واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، لكنها ستمضي في سياستها التصعيدية تجاه تل أبيب. ففي كلمته أمام القمة الخامسة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي التي عقدت في غامبيا، قال وزير الخارجية هاكان فيدان: “من واجب الأمة جمعاء أن توحد صفوفها للدفاع عن الفلسطينيين. فالمقاومة ضد الاحتلال لم تعد حربا بين إسرائيل وفلسطين. وتركيا سوف تستخدم كافة الوسائل لضمان عدم ترك إسرائيل دون عقاب.”

من هذه الكلمة يمكن استشراف ثلاث إستراتيجيات سوف تعمل عليهم تركيا لاستكمال ما بدأته من إجراءات تصعيدية ضد إسرائيل:

الإستراتيجية الأولى: بناء موقف عالمي موحد للدفاع عن الشعب الفلسطيني، ضمن ثلاث دوائر أساسية، الدائرة العربية، والإسلامية، والدولية.

فمواقف بعض الدول بدت أكثر تقدماً من مواقف دول عربية وإسلامية، فدولة جنوب أفريقيا تقدمت بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، ونيكاراغوا اتهمت ألمانيا أمام نفس المحكمة، بدعم الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين. إضافة إلى كولومبيا التي قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.

الإستراتيجية الثانية: توسيع دائرة الصراع الحالي بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، من خلال تحويله إلى صراع أوسع بين معسكري المضطهدين والمظلومين. كما ورد أكثر من مرة على لسان هاكان فيدان.

فتركيا تطمح إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام العالمي، خاصة في آليات التعامل في المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن الدولي، حيث تعتبر أنه من غير المعقول أن يرتهن مصير البشرية لمصالح خمس دول فقط، هي صاحبة حق النقض “الفيتو” في المجلس.

والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أحدث هزة في الضمير العالمي، يمكن استغلالها لإحداث التغيير الذي تعمل عليه أنقرة منذ سنوات ولخصته في شعار “العالم أكبر من خمس”

الإستراتيجية الثالثة: السعي لمحاكمة قادة إسرائيل، وفي مقدمتهم نتنياهو، أمام المحاكم الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في غزة.

الخلاصة

يعتقد الكاتب أن ديناميات اتخاذ القرار داخل الدولة التركية، فرضت عليها هذه البدايات الخجولة وربما المرتبكة أمام حدث كبير بحجم طوفان الأقصى، لكنها سرعان ما استعادت توازنها واستطاعت وضع العربة على المسار الصحيح لدولة تمتلك هذه القدرات الإستراتيجية والبشرية الكبيرة.

كما يعتقد أن أنقرة تحتاج اليوم إلى بناء موقف أكثر صلابة مع الدول الرئيسة في المنطقة التي تمتلك أوراق ضغط، مثل مصر والسعودية وقطر والإمارات، وذلك لتقليل ردود الفعل الغربية من جانب، وتعظيم ديناميات الإستراتيجية التصعيدية من جانب آخر.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


سمير العركي

كاتب وإعلامي مصري، متخصص في شؤون الجماعات والحركات الإسلامية، له العديد من الأبحاث والدراسات في معالجة قضايا الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى