دراسات

ترامب  2.0 – بين العواصف الداخلية والمواجهات الخارجية – رئيس منفلت أم نظام عالمي جديد؟

ملخص تنفيذي


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


مقدمة الملخص التنفيذي

قمنا مؤخرا في المعهد المصري للدراسات بنشر دراسة مستفيضة تحت عنوان: ترامب  2.0 – بين العواصف الداخلية والمواجهات الخارجية – رئيس منفلت أم نظام عالمي جديد؟ حول هذا السؤال الهام الذي يشغل بال الكثيرين اليوم، لما له من أثر بالغ، ليس فقط على الولايات المتحدة، ولكن على العالم أجمع، حيث أن إجابته قد تمكِّن المهتمين من الوصول إلى فهم أكثر عمقاً لما يجري حالياً من تطورات هامة ومفصلية على الساحة الأمريكية والعالمية، وعلى الساحات الإقليمية المختلفة.

وقد جاءت الدراسة موسعة وعميقة، وشملت تفاصيل دقيقة حول التفاعلات الراهنة، سواء على الساحة الأمريكية الداخلية، أو الساحة العالمية، بما فيها منطقة الشرق الأوسط، فيما يتعلق بالموضوع المطروح. ولذلك جاءت الدراسة طويلة إلى حد ما. دفعنا ذلك لإعداد هذا الملخص التنفيذي الوافي، لنشره بشكل مستقل، وبدون تضمين المراجع والكثير من التفاصيل، لكي يمكن للقارئ المثقف العادي من استيعاب أهم مخرجات الدراسة، وفي نفس الوقت، يمكن للباحثين المتخصصين المدققين الرجوع للدراسة الأصلية، بما يسمح بإجراء المزيد من البحث في النقاط التي أثارتها الدراسة، بشكل أكثر عمقاً وتفصيلاً، فتعم الفائدة على النحو الذي استهدفناه عند إعدادنا لهذه الدراسة الهامة.

مقدمة الدراسة

يمر العالم اليوم بمرحلة تحول حاد في موازين القوى الدولية. وفي قلب هذا التحول، تأتي عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية، محمّلة هذه المرة بتغيرات جذرية في طبيعة مشروعه السياسي، وحلفائه، وأدواته، ما يجعل من هذه التجربة مفصلاً حاسماً في مسار الولايات المتحدة والعالم.

لم تعد إدارة ترامب الثانية مجرد امتداد شخصي لرؤية فردية تتحدى المؤسسة التقليدية، بل تحولت إلى مشروع متكامل تقوده قوى مالية وإيديولوجية ضخمة، تسعى لإعادة صياغة الداخل الأمريكي، وكذلك إعادة ترتيب قواعد اللعبة على الساحة الدولية. وهو ما يفرض ضرورة تحليل هذه المرحلة، ليس فقط لفهم ديناميات السياسة الأمريكية الراهنة، بل لاستشراف آثارها الممتدة على النظام العالمي بأسره.

وقد انطلقت هذه الدراسة من تتبع التغيرات العميقة في توجهات السياسة الداخلية والخارجية لإدارة ترامب الجديدة، مستندة إلى تحليل خطاباته الانتخابية، واختياراته لفريقه الرئاسي، وقراراته الرئاسية خلال الأسابيع الأولى من رئاسته، كما رجعت أيضاً إلى قراءة معمقة لفترة رئاسته الأولى، والتي شكلت الأساس لفهم المشروع الذي يحمله اليوم. قمنا أيضاً برصد التحالفات الجديدة التي تقف خلفه، والانقسامات الداخلية العنيفة التي تعصف بالبنية السياسية وكذلك المؤسسية الأمريكية في الوقت الراهن، مع تقييم تأثير هذه التحولات على صورة أمريكا التقليدية كقوة ديمقراطية، وإمبراطورية في نفس الوقت.

وفي الوقت الذي ظهرت فيه انعكاسات هذه السياسات الداخلية والخارجية في صورة تكريس نهج يميل إلى الانعزالية عن الشأن العالمي، بدعوى “أمريكا أولا”، و”لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى MAGA”، فإنها تجلت بشكل مختلف في منطقة الشرق الأوسط، وذلك عبر دعم غير محدود للمشروع الصهيوني، وتصعيد الضغط على إيران، والسعي لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يخدم أهدافاً محددة تتجاوز الاعتبارات التقليدية للسياسة الأمريكية.

تسعى هذه الدراسة، التي نستعرض أهم مخرجاتها من خلال هذا الملخص التنفيذي، إلى تقديم رؤية تحليلية معمقة للتغيرات الجارية، في محاولة لاستشراف مآلاتها المستقبلية، ومخاطرها، وإمكانيات التكيف أو المواجهة معها. وإذ نضع بين يدي القارئ هذا العمل، فإننا نهدف إلى فتح أفاق التفكير النقدي حول الشكل القادم للعالم، الذي يتشكل اليوم على أنقاض نظام قديم يترنح، ونظام جديد لم تتضح معالمه النهائية بعد.

أولا: ترامب بين الولاية الأولى والثانية

سبق وأن تناول المعهد المصري، عبر سلسلة من الدراسات، تحليلات تناولت الفترة الأولى من رئاسة ترامب، وخلصت هذه الدراسات إلى أن ترامب آنذاك كان يسعى إلى مجابهة ما يعرف “بالمؤسسة – Establishment” ، أو ما يطلق عليه ترامب “الدولة العميقة”، محاولاً فرض أجندة قومية دينية شعبوية، تتمحور حول شعار أمريكا أولاً. إلا أن ضعف أدواته وانعدام الدعم المؤسسي أدى إلى احتوائه تدريجياً من قِبل ذات القوى التي كان يحاول مواجهتها، وفرضت عليه شخوصها في المناصب المختلفة، بدلاً من الموالين له (تتضمن الدراسة المطولة توضيحاً حول مكونات “المؤسسة” الأمريكية، وطريقة عملها في العقود الماضية).

كما ركز ترامب على تعزيز النمو الاقتصادي، وتخفيض الضرائب، وتبنى سياسة خارجية انعزالية بعض الشيء، وشن حروباً تجارية، خاصة مع الصين، وأحدث بلبلة في أوساط المجتمع الدولي بانسحابه من اتفاقيات دولية محورية. اتسمت سياساته تجاه الهجرة بالتشدد، وتمثلت في بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، مما أدى إلى أزمات سياسية وإنسانية. كما أظهرت استجابة إدارته لجائحة كوفيد-19 تخبطاً وسوء إدارة، رغم تسريع تطوير اللقاحات.

في المقابل، عزز ترامب تأثيره على النظام القضائي بتعيين ثلاثة قضاة محافظين في المحكمة العليا، مما أعاد تشكيل توازنها لسنوات قادمة. وقد أسهمت خطابات ترامب الحادة في تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية، والتي بلغت ذروتها في اقتحام الكونجرس مطلع عام 2021. رغم محاولاته لزعزعة منظومة “المؤسسة” التقليدية، إلا أن استراتيجيته القائمة على إثارة الجدل المتواصل وإغراق الخصوم بالقضايا المتلاحقة لم تحقق هدفها النهائي، وانتهت بهزيمته الانتخابية وفشله في فرض تحول جذري في بنية النظام الأمريكي.

في ولايته الثانية، لا يبدو أن الرئيس الأمريكي قد تنازل عن أيديولوجيته التي حملها خلال ولايته الأولى، لكنها أصبحت أكثر شراسة، كما أن المشروع لم يعد محصوراً في شخصية ترامب أو مدفوعاً فقط بطموحاته الذاتية، بل أصبح واجهة لتحالف قوى مالية وإيديولوجية تسعى لإعادة صياغة المشهد السياسي الأمريكي. يتصدر هذا التحالف مجموعة من المليارديرات وأقطاب التكنولوجيا الحديثة وإدارة الأصول، الذين حققوا نفوذاً هائلاً، إضافة إلى تيارات مسيحية يمينية صهيونية التوجه، وقواعد شعبوية واسعة وجدت في ترامب معبراً عن تطلعاتها للتغيير.

ومن خلال دراستنا المطولة، إضافة لاستقراء سلوكه أثناء الفترة الرئاسية الأولى، قمنا بتحليل سياسات ترامب من خلال الاستناد إلى عدة محاور:

  • حملة ترامب الانتخابية لولايته الثانية،
  • اختيارات ترامب للأشخاص الشاغلين لمقاعد إدارته الجديدة،
  • القرارات الأولى التي اتخذها عقب تنصيبه في يناير 2025.

أولا: خلال حملته الانتخابية:

استعرض دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية الثانية برنامجاً سياسياً واسعاً يهدف إلى إعادة تشكيل الداخل الأمريكي وتعزيز موقع الولايات المتحدة دولياً، مستنداً إلى رؤية تتسم بالقطيعة مع سياسات الإدارات السابقة. شملت هذه الرؤية قضايا الهجرة، حيث شدد على ضرورة إنهاء ما سماه بـ”كارثة الحدود” عبر استعادة سياسة “البقاء في المكسيك”، وإعلان حالة الطوارئ الوطنية لمكافحة العصابات والمهاجرين غير الشرعيين، مع استكمال بناء الجدار الحدودي واستخدام قوانين قديمة لطرد المهاجرين. كما تبنى ترامب نهجاً متشدداً في مجال الرعاية الصحية، معارضاً بشدة ما وصفه بالاشتراكية الطبية، ومؤكداً على ضرورة إبقاء الرعاية الصحية ضمن القطاع الخاص مع مكافحة ما اعتبره فساداً مؤسسياً في التعامل مع الأوبئة واستخدام اللقاحات.

وفي محاولة لتحسين الأداء الحكومي، تعهد ترامب بإنشاء “إدارة الكفاءة الحكومية” (DOGE) التي تهدف إلى خفض الإنفاق الفيدرالي بمقدار تريليوني دولار، معتمداً بالأساس على إيلون ماسك. أما في مجال الطاقة، فقد تعهد بتوسيع إنتاج النفط والغاز والفحم، وإلغاء السياسات البيئية التي يرى أنها تثقل كاهل الاقتصاد الأمريكي، وعلى رأسها “الصفقة الخضراء الجديدة”. وقد امتد هذا التوجه إلى السياسة الاقتصادية، حيث وعد ترامب بإعادة التوازن التجاري عبر فرض رسوم جمركية كبيرة على الواردات، خاصة من الصين، مع تخفيض ضرائب الشركات إلى 15%، وتقليص الإنفاق الحكومي بنسبة 30%، مع تقديم حوافز ضخمة للإنتاج المحلي.

وعلى الصعيد التعليمي، دعا ترامب إلى إلغاء وزارة التعليم الفيدرالية ونقل سلطاتها للولايات، مع التركيز على التعليم المهني والتقني. كما وضع مكافحة الجريمة في صدارة أولوياته عبر دعم أجهزة الشرطة والتصدي لارتفاع معدلات الجريمة التي نسبها إلى السياسات الليبرالية. وفي القضايا الاجتماعية، أكد دعمه لفرض قيود على الإجهاض بتمكين الولايات من سن قوانينها الخاصة، وأصر على تعريف قانوني للهوية الجندرية يقوم على الأسس البيولوجية، مع منع مشاركة الرجال المتحولين جنسياً في الرياضات النسائية.

أما في مجال البنية التحتية، فقد طرح خططاً طموحة لبناء مدن حرة جديدة وتحسين البيئة العمرانية القائمة. وفيما يتعلق بالمخدرات، ركز على التصدي لتجارة العقاقير الفتاكة، وعلى رأسها الفنتانيل، عبر سياسات صارمة أدت إلى تراجع معدلات الوفيات خلال ولايته الأولى كما يقول.

 وعلى الساحة الدولية، أعلن ترامب تبنيه لسياسة “السلام من خلال القوة”، متمسكاً بتقليص التدخل العسكري الأمريكي، مع الالتزام بإنهاء الحرب في غزة وأوكرانيا، وتجديد التأكيد على تعزيز الدفاع الوطني، وتحديث القدرات العسكرية، وحماية البنية التحتية الحيوية.

بوجه عام، سعت الحملة الانتخابية لترامب إلى تقليص دور الحكومة الفيدرالية لصالح الولايات، وتعزيز استقلالية الاقتصاد والطاقة، وتحقيق حماية وطنية شاملة تضمن تفوق الولايات المتحدة دون الانخراط في مغامرات عسكرية طويلة.

ثانيا: ترشيحات ترامب لإدارته الجديدة

انعكست التوجهات التي أعلنها ترامب خلال حملته بوضوح على اختياراته لفريقه الرئاسي الجديد، والتي حملت مؤشرات على صدام مباشر مع المؤسسة التقليدية. وقد دعم هذه التوجهات تفويض شعبي واسع النطاق، بفعل فوزه الانتخابي الكبير، إلى جانب سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونجرس، والأغلبية المحافظة المحكمة في المحكمة العليا، مما منح ترامب مساحة أوسع لتمرير أجندته.

وقد استعرضت الدراسة المطولة خلفيات أهم اختيارات ترامب لإدارته الجديد. وبرز جي دي فانس كأحد أبرز وجوه تلك الإدارة، إذ وقع عليه الاختيار ليشغل منصب نائب الرئيس. فانس، الذي اشتهر بمذكراته “Hillbilly Elegy”، مر بتحول سياسي لافت، منتقلاً من ناقد لترامب إلى أحد رموز حركة “ماجا”، وانتخب عضواً في مجلس الشيوخ عام 2022 بدعم كبير من الملياردير المثير للجدل بيتر ثيل (الشخصية المحورية في المنظومة الأوليجاركية الجديدة من رواد التكنولوجيا). هذا الدعم، الذي شمل التمويل، وربطه بشبكات رجال الأعمال المؤثرين مثل إيلون ماسك وديفيد ساكس، عزز مكانة فانس داخل دائرة القرار الترامبية. ومن خلال شبكة شركات تكنولوجية مثل “أندوريل” و “بالانتير”، التي ساهمت في تطوير أنظمة المراقبة العسكرية الأمريكية، أصبح لفانس رؤية سياسية متشددة، خاصة تجاه الصين التي اعتبرها التهديد الأكبر، فيما دعا إلى تقليص الدعم المقدم لأوكرانيا. بكاريزميته وجرأته وخلفيته الطبقية، استطاع فانس أن يتناغم مع خطاب “أمريكا أولاً”، ما جعله يحظى بشعبية واسعة بين قواعد التيار الترامبي، وأصبح يُشار إليه باعتباره الرئيس الأمريكي المحتمل مستقبلاً، فيما اعتُبر ترامب مجرد مرحلة انتقالية لمشروع أوسع يقوده أمثال فانس.

كما برز إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، كأحد أقوى وأبرز الوجوه الداعمة لدونالد ترامب خلال حملته الانتخابية الثانية. ومع بداية تشكيل إدارة ترامب الجديدة، أصبح ماسك يحتل موقعاً استثنائياً، ليس كوزير عادي، بل كموجه ومخطط ومنفذ رئيسي لعدد كبير من السياسات الحكومية المرتقبة. عُيِّن ماسك على رأس إدارة حكومية مستحدثة تُعرف بـ “إدارة تحسين كفاءة الحكومة” (DOGE)، وبدأ بالفعل في تنفيذ خطط تهدف إلى تقليص حجم الجهاز الفيدرالي، والتخلص من الوكالات والبرامج الحكومية غير الضرورية، في محاولة لضرب البنية الإدارية التي يعتبرها ترامب جزءاً من “الدولة العميقة”، ومن ثم تقليص العجز الفيدرالي بشكل جذري.

يمثل ماسك اليوم ظاهرة معقدة يصعب اختزالها؛ فهو ليس مجرد رائد في مجالات السيارات الكهربائية عبر “تسلا”، أو رائد الفضاء والطموح المريخي عبر “سبيس إكس”، أو مالك منصة “إكس”، بل أيضاً صاحب مشروع “ستارلينك” للإنترنت الفضائي، والمتخطي لسيادة الدول، والذي أثبت فعاليته في تجاوز الحصار الإلكتروني في أوكرانيا وغزة، ولاعب رئيسي في مجال العملات الرقمية، إضافة إلى ريادته في مجال الشرائح البيولوجية المزروعة في الإنسان عبر شركة “نيورالينك”. هذه الإمبراطورية التكنولوجية والمالية الهائلة، فضلاً عن علاقاته الدولية المتشعبة، خاصة في الصين، التي جعلت ماسك أكثر الشخصيات ثراءً بثروة تفوق 300 مليار دولار، تمنحه قوة سياسية لا تقل عن قوة رؤساء الدول.

في ضوء كل هذه المعطيات، لم يعد دور ماسك محصوراً في الجانب الاقتصادي أو التكنولوجي، بل أصبح لاعباً مركزياً في توجيه السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية.

وفي وزارة الدفاع، اختار ترامب بيت هيجسيث، الضابط السابق والإعلامي المعروف، رغم المعارضة الشديدة التي واجهها هذا الترشيح داخل الكونجرس وحتى بين بعض أنصار ترامب. هيجسيث، الذي خدم في أماكن مثل العراق وأفغانستان، اشتهر بمواقفه المتشددة تجاه إيران ودعمه الأعمى لإسرائيل، بل وعُرف بتوجهاته الصهيونية المتطرفة، والتي جسدها عبر تصريحات علنية ووشوم دينية مرتبطة بإسرائيل، فضلاً عن عدم تحمسه لحلف الناتو. دعا هيجسيث إلى تجاوز اتفاقيات جنيف وإطلاق العنان للقوات الأمريكية لتصبح أكثر شراسة، معتبراً أن الولايات المتحدة بحاجة إلى “حرب صليبية جديدة” دعماً لإسرائيل، مما أثار قلقاً واسعاً. نقل عنه مؤخراً عدم تحمسه للخيار العسكري ضد إيران، مما أثار موجه من الهجوم عليه، وتم طرد عدد من معاونيه الرئيسيين لأسباب واهية، في رسالة تهديد واضحة له من اللوبي الصهيوني الداعم للخيار العسكري ضد إيران، رغم أنه بالأساس أحد أركان المنظومة الصهيونية لترامب.

أما وزارة الخارجية، فقد أسندها ترامب إلى السيناتور ماركو روبيو، المعروف بتوجهاته المحافظة ومواقفه الحازمة تجاه الصين وإيران وكوبا، ودعمه غير المشروط لإسرائيل. هذا الاختيار يعكس اتجاهاً لتصعيد النهج المتشدد في السياسة الخارجية الأمريكية، في ظل بيئة دولية شديدة التوتر.

في السياق ذاته، عُيِّن مايكل والتز مستشاراً للأمن القومي. والتز، وهو ضابط قوات خاصة سابق، يحمل رؤية صارمة تعتبر أن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تمثل امتداداً لحرب باردة جديدة. كما أنه من الداعمين الأقوياء لحكومة نتنياهو، ومعارض قوي للسياسات التهادنية تجاه إيران، مما ينسجم مع توجه إدارة ترامب الجديدة. وعزز هذا الاتجاه بتعيين أليكس وونج نائباً أول لمستشار الأمن القومي، إلى جانب تعيين الصهيوني المتطرف سيباستيان جوركا مديراً أول لمكافحة الإرهاب، وهو ما يدل على ميل الإدارة نحو مواقف أكثر تصلباً وعدائية داعمة لإسرائيل. (تجدر الإشارة إلى أنه بعد إنهاء الدراسة قام بترامب بعزل والتز ونائبه، في تطور مثير!).

وفيما يتعلق بالملف الشرق أوسطي، أسند ترامب مهمة المبعوث الخاص للشرق الأوسط إلى ستيفين ويتكوف، رجل الأعمال اليهودي والمقرب من دوائر المال الصهيونية. يشير تعيين ويتكوف إلى الرغبة في دفع التسويات الإقليمية لصالح إسرائيل، حيث عبّر صراحة عن دعمه لنتنياهو، وأكد أن ترامب هو “أشد المؤيدين لإسرائيل عبر الأجيال”. وقد لعب ويتكوف دوراً مهماً في دفع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة قبل تنصيب ترامب، ويواصل لعب أدوار حيوية في عدة ملفات حساسة أخرى، مثل الملف الإيراني والملف الأوكراني.

أما منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، فقد اختاره ترامب لمايك هاكابي، القس المعمداني السابق والمرشح الرئاسي السابق، المعروف بمواقفه العقائدية الداعمة لإسرائيل. هاكابي لا يعترف بوجود “الضفة الغربية” أو “الاحتلال”، بل يعتبرها “يهودا والسامرة”، مما يعزز الطبيعة الإيديولوجية المتشددة لفريق ترامب في تعامله مع القضية الفلسطينية.

وفيما يخص إدارة الشؤون الاقتصادية، عين ترامب سكوت بيسنت، الملياردير ومدير صندوق التحوط السابق، وزيراً للخزانة. يعكس هذا التعيين اتجاه الإدارة نحو سياسات مالية متشددة، تتضمن تخفيضات ضريبية، إعادة هيكلة الاتفاقات التجارية عبر استخدام التعريفات الجمركية، وتعزيز الإيرادات الحكومية دون الانخراط في سياسات مالية توسعية.

وفي إطار إعادة تشكيل أجهزة الأمن الداخلي، أعلن ترامب تعيين كاش باتيل مديراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، بعد إقالة المدير السابق كريستوفر راي. كان باتيل، خلال فترة ترامب الأولى، أحد العناصر المقربة من منظومة الأمن القومي، ودعا مراراً إلى تقليص دور FBI وتنقيته من أي عناصر تعارض أجندة ترامب. وقد صادق الكونجرس لاحقاً على تعيينه، مما يدل على توجه إدارة ترامب لاستخدام أدوات الدولة الفيدرالية بشكل أكثر حزماً، بما يخدم توجهاتها الراديكالية.

بالنظر للتعيينات السابقة، فضلاً عن التعيينات الأخرى الواردة في الدراسة المطولة تفصيلاً، تتضح توجهات منظومة ترامب الساعية لمواجهة “المؤسسة” التقليدية بقوة، بوجود عناصر شديدة الولاء لترامب وتوجهاته، فضلاً عن التوجه الصهيوني المتشدد في دعم إسرائيل، والواضح في جميع شاغلي المناصب الرئيسية تقريباً. إلا أن ترامب بدأ بشكل مبكر في عزل بعض مساعديه الرئيسيين، تماما كما فعل في ولايته الأولى، ما قد يعكس نفس الدرجة العشوائية في التعيين والإقالة، وهو ما ينبغي مراقبته في الفترة المقبلة.

ثالثا: أبرز القرارات التنفيذية التي اتخذها ترامب عقب تنصيبه:

عقب تنصيبه في يناير 2025، شرع دونالد ترامب في إصدار سلسلة من الأوامر التنفيذية التي عكست التزاماً بتنفيذ تعهداته الانتخابية، وأحدثت تحولات حادة وسريعة في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. ومن أبرز هذه القرارات إلغاء حق الجنسية بالولادة للأطفال المولودين لأبوين مهاجرين غير قانونيين، والانسحاب الرسمي من منظمة الصحة العالمية احتجاجاً على إدارتها لجائحة كوفيد-19، وإعلان حالة طوارئ وطنية على الحدود الجنوبية لوقف تدفق المهاجرين. كما أعلن حالة طوارئ في قطاع الطاقة بهدف خفض التكاليف وزيادة الإنتاج المحلي، وألغى العقوبات المفروضة على مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية.

كما اتخذ ترامب قرارات رمزية كإعادة تسمية خليج المكسيك إلى “خليج أميركا”، والانسحاب مجدداً من اتفاقية باريس للمناخ، وأصدر عفواً عن 1500 شخص من المتورطين في اقتحام الكونجرس. وفي مجال الحريات، ألغى تدابير حماية حقوق المثليين وأصدر أمراً بالتحقيق في ممارسات “الدولة العميقة”، مع إعادة هيكلة الجهاز الحكومي عبر إدارة DOGE، وتجميد التوظيف وإلزام الموظفين بالعودة إلى العمل الحضوري.

اقتصادياً، شجع ترامب التنقيب عن النفط، وألغى قيود بايدن المفروضة على الاستكشافات النفطية في القطب الشمالي. كما وقع قراراً لاستعادة حرية التعبير بإنهاء الرقابة الحكومية على الإعلام. وقرر تجميد المساعدات الفيدرالية مؤقتاً، ما أثار مخاوف بشأن تأثير ذلك على برامج الإغاثة والأبحاث الصحية، رغم تأكيد البيت الأبيض أن البرامج الإنسانية المباشرة لن تتأثر.

من القرارات المفصلية كان إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، مما أدى إلى آثار كارثية على البنى التحتية للمساعدات الإنسانية في عشرات الدول، إذ خسر عشرات الآلاف من الأمريكيين والأجانب وظائفهم، وتعطلت برامج مكافحة الفقر والأمراض كالإيدز والملاريا، وأوقف تمويل حلفاء مهمين مثل الأردن وتايوان، مما أضعف الدور الأمريكي في مجالات التنمية والمساعدة العالمية. هذا الإغلاق لم ينهِ النفوذ الأمريكي، لكنه مثّل تحوّلاً من الهيمنة الناعمة إلى استخدام أكثر وضوحاً للأدوات الصلبة كالعقوبات الاقتصادية القصوى والتدخل العسكري.

بالتوازي مع هذه التحولات، بدأ وزير الدفاع بيت هيجسيث بإقالة عدد من الجنرالات والضباط الكبار المرتبطين بسياسات التنوع والاندماج التي كانت مدعومة من وزير الدفاع السابق لويد أوستن، في خطوة لإعادة هيكلة القيادة العسكرية بما يتماشى مع توجهات ترامب السياسية. كما أقال ترامب الجنرال سي كيو براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة، وأعلن استبدال خمسة ضباط كبار آخرين، مما أثار جدلاً حاداً حول تسييس المؤسسة العسكرية وتقويض استقلالها.

دولياً، فرض ترامب عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار، معززاً دعم إدارته غير المحدود لإسرائيل، وقام برفع الحظر عن شحنات أسلحة ثقيلة لإسرائيل كانت إدارة بايدن قد علقتها بسبب المخاوف من استخدامها ضد المدنيين في غزة. كما وقع ترامب أمراً بوقف المساعدات المالية لجنوب إفريقيا، بعد اتهامها بمعاملة المستوطنين البيض بشكل تمييزي، وهو موقف دعمه صراحة إيلون ماسك (ذو الأصول الجنوب إفريقية).

على المستوى الاقتصادي، أطلق ترامب حزمة واسعة من التعريفات الجمركية على عشرات الدول، بما فيها حلفاء تقليديين للولايات المتحدة، في يوم سماه “يوم التحرير الاقتصادي”، مدعياً أن هذه الرسوم ستجلب تريليونات الدولارات للبلاد. لكن التحليلات أظهرت أن آلية احتساب هذه الرسوم كانت غير علمية، وتعتمد على خلط غير دقيق بين عجز الميزان التجاري والرسوم الجمركية، مما يجعل هذه السياسة أقرب إلى أداة ابتزاز سياسي واقتصادي، تستهدف ليس فقط الخصوم بل حتى الشركات الأمريكية الكبرى. هذه التعريفات تسببت في أثار سلبية ضخمة على الأسواق الأمريكية، خاصة سوق السندات الأكثر تأثيرا على المالية الفيدرالية، وهو ما دفع ترامب لتجميد أغلب التعريفات لنحو 90 يوما.

هذه الأوامر مجتمعة أشارت إلى توجه واضح نحو إعادة تشكيل المؤسسات الأمريكية الداخلية والخارجية بما يتوافق مع أجندة ترامب الرامية إلى تقويض “الدولة العميقة”، وتركيز السلطة التنفيذية بشكل غير مسبوق. كما يظهر أن ترامب يعتمد على استراتيجية الإغراق المتواصل بالأوامر والتصريحات المثيرة للجدل، لإرباك خصومه، وتوجيه الرأي العام بعيداً عن التغييرات العميقة التي يجريها.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هناك تناقضات مهمة تظهر من وقت لأخر في سياسات ترامب وقراراته التنفيذية. أهم هذه التناقضات، من وجهة نظرنا، أنه في الوقت الذي يسعى فيه لخفض النفقات الفيدرالية، وأيضاً لخفض النفقات الخارجية، والقول بأن أمريكا لا ينبغي أن تخوض صراعات خارجية غير ضرورية على حساب رفاهية الشعب الأمريكي، ينوي ترامب التقدم بميزانية دفاع تصل إل تريليون دولار سنوياً، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، فإلى أين ستذهب هذه الميزانية إذا كانت أمريكا ستقلص من تواجدها العسكري في الخارج؟! وهل يعني ذلك أن هناك نوايا لخوض صراعات عسكرية كبرى لا يعلن عنها الآن؟ أم أن ترامب لا يريد إلحاق الضرر بشركات تصنيع السلاح، أو ما يطلق عليه “مجمع الصناعات العسكرية” لكي لا يخسرها في معسكره الذي يواجه قوى المؤسسة التقليدية؟

ستُظهر الفترة المقبلة مدى صدق ترامب في إنفاذ توجهاته المعلنة، ومدى قدرته على إنفاذ أجندته، وإحكام سيطرته هو والتيار الداعم له على مفاصل القرار في “المؤسسة” الأمريكية.

ثانيا: أهم الصراعات الداخلية المحتملة ومستقبل الديمقراطية الأمريكية

خلال الفصل الأول، أشارت المعطيات التي قدمناها إلى أن وصول ترامب وإدارته الجديدة إلى البيت الأبيض، يدفع الولايات المتحدة الأمريكية نحو مرحلة مفصلية من تاريخها السياسي. توجه ترامب نحو زلزلة مفاصل الدولة، سواء نجح أو فشل في مهمته، يترك البلاد أمام احتمالات قوية لاندلاع صراع داخلي حاد بين أقطاب السلطة. هذا الصراع يتجاوز فكرة أن ترامب مجرد رئيس قوي منفلت، بل يرتبط بصدام عميق بين مشروع ترامب الجديد والمؤسسة التقليدية، التي نجحت إلى حد بعيد في تحجيمه خلال ولايته الأولى.

ومع استجماع ترامب لفريق أكثر ولاءً ودعماً له من قبل مراكز قوى مؤثرة، من المنتظر أن تندلع صراعات كبرى، ليس فقط مع المؤسسة التقليدية، بل أيضاً داخل معسكره نفسه، ما قد يؤدي إلى هزات شديدة في المشهد الداخلي الأمريكي، وانعكاسات حادة على قيادة الولايات المتحدة للعالم، سواء استطاع ترامب حسم الصراع لصالح معسكره أم لا، فهذه الصراعات، إضافة للهدم المنهجي للمؤسسات الرسمية، فضلاً عن العلاقات الدولية مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، سيكون لها أثار مستدامة على المكانة والهيمنة الأمريكية العالمية.

الصراع الأساسي المتوقع يدور بين منظومة ترامب، المصممة على إعادة صياغة أسس السلطة الفيدرالية، والمؤسسة التقليدية التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن. وقد ساهمت اختيارات ترامب لشخصيات مثيرة للجدل في طاقمه الرئاسي، المعتمدة أساساً على الولاء الشخصي أكثر من الكفاءة، في زيادة المخاوف من إضعاف الأداء الحكومي وتعزيز الطابع الشخصي للسلطة التنفيذية.

من أبرز الملفات الساخنة التي ستشهد هذه الصراعات مع المؤسسة التقليدية:

أولاً، الملف العسكري والأمني، حيث كشفت تحليلات عديدة عن مخاوف حقيقية من أن ترشيحات مثل بيت هيجسيث وتولسي جابارد قد تدمر مؤسسات الأمن القومي الأمريكي بدلاً من تعزيزها، خاصة مع محاولات ترامب إعادة تشكيل البنتاجون وأجهزة الاستخبارات عبر تطهيرها من الشخصيات غير الموالية.

ثانياً، ملف “تحسين الكفاءة الحكومية” الذي يخفي وراءه مشروعاً لتطهير الإدارات الفيدرالية من المعارضين السياسيين لترامب، وهو ما يهدد بفقدان مئات الآلاف من الوظائف الحكومية وإعادة هيكلة كاملة للجهاز البيروقراطي الأمريكي.

ثالثاً، ملف الهجرة، حيث يخطط ترامب لإعلان حالة طوارئ وطنية لتبرير استخدام الجيش في تنفيذ عمليات ترحيل جماعية لما يقدره بعشرين مليون شخص، مما يفتح الباب لصدامات مجتمعية عنيفة، وأزمات اقتصادية حادة خصوصاً في القطاعات المعتمدة على العمالة المهاجرة.

رابعاً، الصراع الاقتصادي الداخلي، نتيجة السياسات المقترحة مثل تخفيض ضرائب الشركات إلى 15%، والاعتماد على تعريفات جمركية مرتفعة مع الحلفاء والخصوم على حد سواء، مما قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم، والعجز في الميزانية، وتراجع الثقة في العلاقات التجارية الدولية، ومن ثمّ المزيد من المعاناة لقطاعات أكبر من الشعب الأمريكي. وتتزايد المواجهة مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نتيجة اختلاف الرؤى الاقتصادية، خاصة مع تولي سكوت بيسنت وزارة الخزانة، حيث يتبنى أجندة اقتصادية راديكالية تسعى إلى التحكم بالسياسة النقدية والدفع باتجاه سوق أكثر تدخلاً وعدائية في التعامل مع القوى الاقتصادية العالمية.

خامساً، في ملف البيئة والطاقة، انسحب ترامب مجدداً من اتفاقية باريس للمناخ، و توجه إلى دعم استخراج الوقود الأحفوري، وإلغاء تشريعات الطاقة النظيفة التي سنتها إدارة بايدن، مما سيؤدي إلى توتر داخلي ودولي حاد بشأن الالتزامات البيئية.

سادساً، في قطاع الصحة، اختار ترامب كينيدي لقيادة ثورة مضادة في المنظومة الصحية، بهدف تقليص المؤسسات الطبية الكبرى وإعادة تشكيل النظام الصحي الأمريكي، في ظل اتهامات بأن الجائحة استخدمت كوسيلة لضرب إدارته، ما قد يعقد استعداد أمريكا لأي جائحة مستقبلية.

سابعاً، في مجال التعليم، قرر ترامب إلغاء وزارة التعليم الفيدرالية تماماً، بما يعزز سلطة الولايات المحلية ويثير قلقاً اجتماعياً واسعاً بشأن تدهور المستوى التعليمي.

على صعيد آخر، يلوح في الأفق صراع خطير بين مليارديرات التكنولوجيا الذين دعموا ترامب، مثل إيلون ماسك وبيتر ثيل، حول النفوذ والهيمنة على صناعة القرار السياسي الأمريكي، مستندين إلى تحكمهم في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والفضاء، والإعلام الرقمي، مما يؤسس لصدامات كبرى مع قوى تقليدية أخرى داخل المجتمع الأمريكي، بما فيها مراكز قوى تكنولوجية أخرى.

الصراعات داخل منظومة ترامب

كما تشير الدراسة إلى أن منظومة ترامب نفسها ليست متجانسة، حيث ستظهر صراعات داخلية بين التيار الشعبوي المحافظ، وأنصار التكنولوجيا اليمينيين المتحررين اجتماعياً، وبين القواعد الشعبية لحركة ماجا، التي قد تصطدم بتداعيات اقتصادية واجتماعية غير متوقعة من سياسات ترامب، وكذلك الصراعات بين الفرق التي تتبنى رؤىً مختلفة في التعامل في ملفات حيوية مثل روسيا/ أوكرانيا، وإيران، وغير ذلك، مما سيطيح في الطريق بعدد من أهم معاوني ترامب .

تفكك النظام الديمقراطي الأمريكي

ويتوقع أن تؤدي هذه الصراعات، حتى لو  تم حسمها لصالح أحد طرفي الصراع، إلى إحداث تفكك عميق في النظام الديمقراطي الأمريكي، إذ أن المنهج الذي يتبعه ترامب يقوم على تفكيك المؤسسات القائمة واستبدالها بأجهزة ولائية تدين له بالولاء الشخصي، مما يعمق الانقسام الاجتماعي ويؤدي إلى تآكل مبادئ التعددية وسيادة القانون.

وقد رُصد بالفعل تراجع حاد في الحريات والديمقراطية في الأسابيع الأولى من ولاية ترامب الجديدة، من خلال تفكيك الوكالات الفيدرالية، والاعتداء على حرية الرأي والتعبير، وفرض رقابة مشددة على الجامعات والطلاب، بما يعزز نشوء “دولة مراقبة” تسيطر عليها مؤسسات خاصة بالتعاون مع أجهزة المخابرات، وهو ما أشار إليه عدد من الباحثين المدققين من أمثال ويتني ويب (راجع الدراسة المطولة فيما يتعلق بدلائل التراجع الديمقراطي الحاد، من خلال عدد من الدراسات الرصينة والمتواترة حول هذا الموضوع).

وبالنظر إلى السياقات العالمية، فإن تآكل الديمقراطية الأمريكية الداخلي سيكون له تأثير مدمر على موقع الولايات المتحدة الدولي، ويعجل بانهيار النظام الإمبراطوري الأمريكي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، ونشأ على النموذج الليبرالي الديمقراطي، والذي يتبنى التجارة الحرة والعولمة، مع تصاعد أدوار قوى منافسة كالصين وروسيا ودول البريكس.

بذلك، يفتح الصراع الداخلي الأمريكي مع وصول ترامب وفريقه إلى الحكم الباب على مرحلة جديدة من التاريخ السياسي، تتسم بتراجع الديمقراطية في العالم أجمع، وصعود نماذج حكم أكثر تسلطاً، مع احتمالات مرتفعة لانفجار أزمات داخلية وخارجية كبرى قد تغير ملامح النظام العالمي لعقود مقبلة.

ثالثا: السياسة الخارجية لترامب خلال ولايته الثانية

تبدو سياسة ترامب الخارجية أقرب إلى استراتيجية إدارة التنافس العالمي من مسافة آمنة، مع ترك الخصوم الإقليميين يستنزفون بعضهم البعض، وهو ما يشكل جوهر “العقيدة الترامبية”. ووفقاً لمصادر قريبة من إدارته، فإن الفترة المقبلة ستشهد ضغوطاً غير مسبوقة على الأصدقاء والخصوم على السواء، رغم وعوده بإنهاء الحروب الحالية. ويتجلى هذا النهج في سياساته الانتقائية المرنة، التي تتعامل مع كل ملف دولي باعتباره صفقة مستقلة، بعيداً عن التزامات المؤسسات المتعددة الأطراف، بما يعيد تشكيل طبيعة الدور الأمريكي في العالم.

وقد بدأت معالم “الترامبية” تتبلور مع انتخابه عام 2016، حيث وصفها المحللون بأنها قطيعة حادة مع الفكر الجمهوري التقليدي، مما أوجد تيار “اليمين الجديد”. ومع أن بعض الدراسات صنفت سياسته بالانعزالية الانتقائية مقارنةً بنهج أوباما التعاوني، إلا أن ترامب نفسه لم يتقيد بعقيدة متماسكة، بل تبنى قرارات متباينة بحسب الظرف والمصلحة. شملت تحركاته عقد قمة مع زعيم كوريا الشمالية، الانفتاح نحو روسيا، شن حروب تجارية ضد الصين، والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، مما أظهر تناقضاته البراجماتية الصارخة.

إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن التوجه الذي يبدو انعزالياً متراجعاً في السياسة الخارجية الأمريكية هو في الواقع أمر حتمي، وما يقوم به ترامب ليس إلا الإسراع بوتيرة هذا التراجع، الذي يأتي في ظل الإدراك باستحالة استمرار أمريكا في لعب دور شرطي العالم، والمسئول عن الحماية والهيمنة على كل أركانه، وذلك في ظل تراجع التفوق المطلق الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري، والارتفاع الكبير في تكلفة القيام بهذا الدور على الشعب الأمريكي ومستوى معيشته، والذي يتزامن مع الصعود السريع لقوى أخرى في العالم.

ومع تطور حملاته الانتخابية، أصبحت الترامبية أكثر رسوخاً، مع تركيز على الشعبوية الاقتصادية ورفض العولمة التقليدية، بل وتغيير أسس النظام التجاري العالمي ومؤسساته، والذي وضعته الولايات المتحدة نفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية.  ويُتوقع أن تظل السياسة الخارجية لإدارته المقبلة تركز على ملفات الصين، أوكرانيا، إيران، والشرق الأوسط، ولكن بأسلوب براجماتي يراعي المصالح الأمريكية المباشرة دون انخراط طويل الأمد في النزاعات. وفي الشرق الأوسط، من المرجح أن يتبنى ترامب نهجاً مختلفاً عن ذلك، قد يتمثل في تعزيز الدعم لإسرائيل عبر مشاريع إعادة صياغة إقليمية كبرى.

وتتضح ملامح هذا التغيير من خلال “مشروع 2025” الذي أعده مركز هيريتدج، والذي يمثل خارطة طريق لإعادة تشكيل الحكومة الأمريكية عبر إضعاف القضاء، السيطرة على الإعلام والجامعات، فرض قوانين مستمدة من المسيحية المتشددة، وتفكيك الالتزامات الدولية التقليدية. في السياسة الخارجية، يوصي المشروع بتشديد الخناق على الصين عبر تعزيز الوجود العسكري في المحيط الهادئ، ودعم الحلفاء الإقليميين مثل تايوان واليابان، وتصعيد الضغوط القصوى على إيران، وتقوية العلاقات مع إسرائيل ودول الخليج. كما يدعو المشروع إلى تقليص التورط الأمريكي في الناتو، وتبني سياسة براجماتية تجاه روسيا قائمة على المصالح الاقتصادية، مع تعزيز التطبيع مع إسرائيل وتقليص التمويل الموجه للسلطة الفلسطينية والمنظمات المنتقدة لتل أبيب.

وتتضمن الخطة أيضاً توجيه الدعم الخارجي نحو الدول المتحالفة مع واشنطن، مع إلغاء البرامج المتعلقة بحقوق الإنسان والبيئة، مع زيادة الاستثمارات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا لمواجهة التمدد الصيني. وهكذا، يكشف مشروع 2025، الذي يحظى بتطبيق عملي في إدارة ترامب الحالية، عن تحول استراتيجي شامل قد يعيد رسم ملامح الولايات المتحدة والعالم في العقود المقبلة.

وبناء على ذلك، وكما استعرضنا بشكل تفصيلي في دراستنا المطولة، نحن نرى أن السياسة الخارجية المتوقعة خلال فترة ترامب الثانية ستكون مزيجاً من ثلاث اتجاهات:

الاتجاه الأول، يصف نهج ترامب بالبراجماتية والنفعية، مركّزاً على تحقيق المكاسب الاقتصادية والمادية للولايات المتحدة، بل ومصالحه الشخصية، تحت شعار “أمريكا أولاً”. بينما يرى الاتجاه الثاني، أن ترامب لم يكن خلال فترة رئاسته الأولى المسؤول الوحيد عن رسم السياسة الخارجية، حيث لعبت شخصيات مؤثرة مثل وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشاره جاريد كوشنر دوراً محورياً في صياغة القرارات. أما الاتجاه الثالث، فيؤكد أن السياسة الخارجية الأمريكية تنبع من تفاعل معقد بين مؤسسات متعددة، مثل البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والبنتاجون، ووكالة الاستخبارات المركزية، ومجلس الأمن القومي، مما يجعلها أقرب إلى مخرجات منظومة جماعية بدلاً من قرارات فردية.  الأمر الذي يفسر أيضاً سعي ترامب إلى إحكام سيطرته على جميع هذه المفاصل الهامة، من خلال التعيينات التي تتماشى مع أفكاره وأطروحاته الداخلية أو الخارجية على حد سواء، وتساهم في تنفيذ أجنداته.

إلا أن الصورة الكلية لن يمكن فهمها بشكل متكامل إلا في إطار فهم توجهات الأطراف المؤثرة على ترامب، والتي تسعى للسيطرة على القرار في المؤسسة الأمريكية، وتهدف إلى إحداث تغيرات جوهرية سواء داخلياً أو خارجياً في سياسات الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار تأتي مجموعة الأوليجاركية التكنولوجية التي تسعى إلى تبوأ مكانة الصدارة في السيطرة على المشهد الأمريكي والعالمي، لتأخذ مكان الأوليجاركية القديمة أحياناً، وتتفاعل معها أحياناً أخرى، بما يحقق مصالحهم ويعظم من مكاسبهم، وبما يتعدى العوامل الوطنية والأيديولوجية إذا اقتضى الأمر، مع استغلال ترامب وقواعده الشعبوية والأيديولوجية في الوصول إلى هذه الأهداف.

ومنذ إعلان فوزه بالرئاسة، بدأ دونالد ترامب بإثارة سلسلة من الأزمات الجيوسياسية. وظف ترامب الخرائط الجغرافية لتحقيق أجنداته، من غزة إلى بنما وجرينلاند، مغيّراً المسميات والمعايير لتأكيد الهيمنة الأمريكية.

في ولايته الثانية، تبنى ترامب سياسة خارجية عدائية منذ اليوم الأول، ففرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على كندا والمكسيك، مهدداً أوروبا بإجراءات مماثلة، مبرراً هذه السياسات بالتصدي للهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات. وعبر عن رغبته في ضم كندا للولايات المتحدة، مظهراً أسلوبه الساخر والعدائي تجاه الحلفاء التقليديين. وأكد دبلوماسيون، مثل نائب مساعد وزير الخارجية جون كريمر، أن استخدام ترامب للأسلحة الاقتصادية يمثل تحولاً جذرياً في السياسة الخارجية الأمريكية، مساهماً في إعادة تعريف العلاقات الدولية على أساس المصلحة القومية الأمريكية بعيداً عن المؤسسات متعددة الأطراف.

ركز ترامب على استراتيجية “التعريفات التبادلية”، التي بلغت ذروتها بإجراءات واسعة ضد معظم دول العالم، وأحدثت اضطراباً كبيراً في النظام التجاري العولمي. وجاءت هذه السياسات بناء على دراسة ستيفن ميران التي نشرها في نوفمبر من العام 2024، الذي أصبح لاحقاً كبير المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، والتي تدعو إلى إعادة صياغة النظام التجاري العالمي لصالح القاعدة الصناعية الأمريكية، عبر الضغط الاقتصادي الواسع بهدف استبدال أسس نظام بريتون وودز النيوليبرالي باتفاق جديد يخضع للمصلحة الأمريكية.

في سياق الشرق الأوسط، أكد ترامب على الدعم المطلق وغير المشروط لإسرائيل، ما جعله يتبنى سياسات إقليمية تتناقض مع نهجه العام في ملفات أخرى. وأوضح مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف، في مقابلة مع الإعلامي تاكر كارلسون، أن سياسة ترامب تسعى لتعزيز الاستقرار الإقليمي عبر التطبيع الاقتصادي بين دول الخليج وإسرائيل، وإعادة تشكيل المشهد الشرق أوسطي، مع الحفاظ على تفوق إسرائيل الاستراتيجي ومواجهة نفوذ إيران (كما سنرى لاحقاً في جزء منفصل) .

أما في الملف الأوكراني، فتبنت إدارة ترامب سياسة دفع أوكرانيا إلى تقديم تنازلات إقليمية، بما يضمن سيطرة روسيا على المناطق التي استولت عليها خلال النزاع، مما أثار قلقاً أوروبياً واسعاً. تزامن هذا مع تقليص المساعدات العسكرية والاستخباراتية لكييف، سعياً لإجبارها على توقيع اتفاق سلام بشروط أمريكية. وأدى ذلك إلى تصدع الثقة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، الذين باتوا يطالبون بتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية بعيداً عن المظلة الأمريكية. 

في المقابل، سعت إدارة ترامب إلى تحسين العلاقات مع روسيا عبر محادثات الرياض، بهدف تقليص ارتباط موسكو بالصين، على أمل إعادة توزيع موازين القوى العالمية في مواجهة التهديد الصيني. يعكس هذا النهج اعترافاً ضمنياً من واشنطن بأن استمرار الصدام مع روسيا يخدم مصلحة بكين أكثر مما يخدم مصلحة أمريكا، لذا تسعى إدارة ترامب إلى تبريد الجبهة الروسية لتركيز الجهود على احتواء الصين، فضلاً عن المصالح الإستراتيجية التي يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة ببناء علاقة قوية مع روسيا، خاصة فيما يتعلق بتقاسم ثروات المناطق المتجمدة الشمالية والتحكم في المسارات الجديدة للملاحة العالمية، والتي ستظهر بفعل ذوبان الثلوج نظراً للارتفاع العام في درجة حرارة الأرض بسبب التغيرات المناخية.

أما على صعيد التعامل مع الصين، فقد شنت إدارة ترامب حرباً تجارية شعواء، تضمنت فرض تعريفات جمركية متزايدة وصلت إلى 145% على بعض السلع الصينية، ضمن محاولات لكبح النمو الصيني وإعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية بما يخدم التفوق الأمريكي. غير أن الصين ردت بتعريفات مناظرة، كما بدأت تتكيف عبر توسيع تحالفاتها الاقتصادية والمالية مع الجنوب العالمي، ما يعقد مهمة ترامب في تحجيمها.

فيما يخص دول مجموعة البريكس، هدد ترامب بفرض تعريفات جمركية ضخمة إذا ما تبنت هذه الدول سياسات نقدية بديلة عن الدولار الأمريكي، ما يعكس حرص إدارته على الدفاع عن مكانة الدولار كعملة عالمية.

كما شهدت علاقات واشنطن بجوارها المباشر (كندا والمكسيك) توترات متصاعدة، فرض فيها ترامب رسوماً عقابية وربط القضايا التجارية بقضايا الهجرة والمخدرات، بل غيّر تسميات جغرافية رسمية مثل خليج المكسيك الذي أطلق عليه “خليج أمريكا”.

في بنما، صعد ترامب الضغوط على الحكومة للانسحاب من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وأجبرها فعلياً على تقديم تنازلات استراتيجية، منها السماح للسفن الحكومية الأمريكية بالعبور مجاناً عبر قناة بنما، وتعزيز السيطرة الأمريكية على الموانئ عبر استحواذ تحالف أمريكي بقيادة بلاك روك على موانئ رئيسية.

في ملف جرينلاند، عاد ترامب إلى خطاب شراء الجزيرة، مستخدماً التهديد الاقتصادي والعسكري للضغط على الدنمارك، إدراكاً للأهمية الجيوسياسية المتزايدة للجزيرة مع تغير المناخ وذوبان الجليد.

وفي أفريقيا، دخل ترامب في صدام مع جنوب أفريقيا بسبب سياساتها الداخلية تجاه ملكية الأراضي والموقف العدائي من إسرائيل، مما أدى إلى تعليق المساعدات الأمريكية وإثارة أزمة دبلوماسية.

على صعيد المؤسسات الدولية، اتخذ ترامب مواقف هجومية ضد المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة الصحة العالمية، كما أمر بتقليص أنشطة وكالة التنمية الدولية (USAID)، ما أدى إلى تحجيم أدوات العولمة الأمريكية التقليدية وكذلك قوتها الناعمة، وإعادة ضبط السياسة الخارجية على أسس قومية صارمة.

كذلك استهدفت إدارة ترامب الأجهزة الاستخباراتية، من خلال خطط تقليص العاملين بوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA)، في إطار مساعي إعادة هيكلة الدولة العميقة التي يعتبرها ترامب خصماً داخلياً.

السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط في ظل الرئاسة الثانية لترامب

تشهد سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط في العهد الثاني لترامب تحولات كبيرة ترتكز على نهج براجماتي انتهازي، تدعمه عقيدة أيديولوجية صهيونية-مسيحية. يدفع هذا النهج ترامب إلى استغلال ثروات المنطقة لصالح المصالح الأمريكية والشخصية، مع دعم لا محدود لإسرائيل، التي تعتبرها إدارته حجر الزاوية في ترتيبات الإقليم المستقبلية.

في ظل تراجع النفوذ الإيراني بعد التطورات التي أعقبت طوفان الأقصى، وكذلك سقوط نظام الأسد في سوريا، يسعى ترامب إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية عبر تكريس اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، مع تقليل التورط العسكري الأمريكي المباشر. وتقوم رؤيته على تمكين إسرائيل كقوة مهيمنة تحل محل الولايات المتحدة في ضبط الأمن الإقليمي، ضمن ترتيبات اقتصادية جديدة تجعل من الخليج وإسرائيل مركزاً استثمارياً وتكنولوجياً بديلاً عن أوروبا المتراجعة.

استعرضنا في دراستنا المطولة الإتجاهات الرئيسية لإدارة ترامب في الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة. فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تبدو إدارة ترامب مصممة على إنهاء أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، أياً كان شكلها. فقد طرحت خططاً تهدف إلى تهجير سكان غزة، عبر الضغط على مصر والأردن لاستقبالهم، مستخدمة المساعدات الأمريكية وسيلة ابتزاز سياسي. وعززت إدارة ترامب دعمها لإسرائيل بشحنات عسكرية ضخمة، وتأييد سياسي مطلق، حتى في خروقات وقف إطلاق النار  وفقاً للإتفاقات التي رعتها بنفسها، في غزة وجنوب لبنان.

أما تجاه إيران، فتعتمد سياسة “الضغط الأقصى” عبر العقوبات والحصار الاقتصادي الشامل، مع ترك الباب موارباً أمام المفاوضات المشروطة التي تجري حالياً، والتي قد تؤدي إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف الضغوط، وإن كانت احتمالات التصعيد العسكري تبقى قائمة تحت ضغط إسرائيل ورغبتها في توجيه ضربة قاصمة لطهران.

بالنسبة لسوريا، يتجه ترامب نحو انسحاب جزئي مع إبقاء قواعد حيوية مثل قاعدة التنف، مع استمرار المقايضة والضغوط على الحكومة السورية الجديدة حول ملفات العقوبات، وإعادة الإعمار، وأمن إسرائيل وعدد من الملفات الأخرى. بينما يتقاطع الدور الأمريكي مع رغبة تركية في احتواء الملف الكردي، مما يدفع قوات قسد إلى إبرام اتفاق مع دمشق بعد تراجع دعم واشنطن لها.

في الخليج، رغم متانة العلاقة مع السعودية والإمارات والبحرين، تواجه إدارة ترامب تحديات بسبب التغير في سياسات الخليج تجاه إيران نحو التقارب والتهدئة، واشتراط السعودية إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع الكامل مع إسرائيل. ومع ذلك، تدعم إدارة ترامب تعزيز الدور السعودي إقليمياً ودولياً، عبر منحها أدواراً في ملفات حساسة مثل الوساطة في ملف الحرب الأوكرانية وصفقات تبادل الأسرى مع روسيا، في محاولة لبناء محور إقليمي جديد بقيادة إسرائيل والسعودية بعد تراجع الحضور الأمريكي المباشر.

باختصار، تسعى إدارة ترامب إلى تثبيت نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط يرتكز على التفوق الإسرائيلي، تمكين السعودية اقتصادياً وسياسياً، تحجيم إيران، وإنهاء القضية الفلسطينية عملياً، مع تقليص كلفة التدخل الأمريكي المباشر. لكن هذه السياسات، وإن بدت منسجمة مع أهداف إدارة ترامب، تحمل في طياتها بذور اضطرابات مستقبلية قد تتفجر بفعل التعنت الإسرائيلي والميل المستمر نحو التوسع والعلو، وكذلك الرفض الشعبي العربي، والتشابكات الإقليمية والدولية المعقدة.

رابعا: الانعكاسات المتوقعة للسياسات الترامبية على مستقبل الولايات المتحدة والعالم

لقد خلصنا في دراستنا إلى أن التغيرات التي ستشهدها الولايات المتحدة في ظل الإدارة الترامبية الثانية، تتجاوز حدود ما اعتاد عليه العالم. فالتداعيات المقبلة لا تنبع فقط من تقلبات ترامب الشخصية واندفاعه المعروف، بل من تحولات هيكلية في توجهات السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً، تحولات يتوقع أن تكون آثارها بالغة العمق على الولايات المتحدة والعالم بأسره.

إن أبرز ما يميز المرحلة الراهنة على الساحة الأمريكية هو التشابك العميق بين الصراعين الداخلي والخارجي. فالصراعات الخارجية، في كثير من الأحيان، لا تمثل فقط محاولات لإعادة تشكيل النظام العالمي، بل قد تكون أدوات ضمن معركة السيطرة على المؤسسة الأمريكية ذاتها داخلياً. فترامب وأنصاره يسعون لاستخدام النجاحات الخارجية، أو حتى إثارة الأزمات، كوسائل لتعزيز قبضتهم الداخلية، بينما خصومهم يسعون إلى استغلال أي تعثر خارجي لإضعافه داخلياً. وفي هذا السياق، يصبح من المستحيل فصل السياسة الخارجية الأمريكية عن النزاعات الداخلية التي تمزق البيت الأبيض والكونجرس والوكالات الفيدرالية.

وفي خلفية هذا المشهد المحتدم، يتبلور صراع داخلي آخر، يتمثل في التوتر بين المكونات المتباينة داخل إدارة ترامب نفسها. إذ إن الفريق الذي شكله ترامب يتسم بتنوع أيديولوجي حاد بين الشخصيات ذات التوجهات المحافظة التقليدية، وشخصيات أخرى تنتمي إلى التيار الشعبوي، أو حتى ذات خلفيات تكنوقراطية نفعية، أو ذات أراء متناقضة في التعامل مع الملفات المختلفة. هذه التناقضات مرشحة لأن تتفجر مع مرور الوقت في شكل صراعات حادة، مع ازدياد ضغوط الأزمات الداخلية والخارجية، وهو ما بدأنا نراه بالفعل. فعلى سبيل المثال، التباين بين وزير الخزانة سكوت بيسينت وخلفيته الليبرالية السابقة، وبين القاعدة اليمينية المتشددة التي أوصلت ترامب إلى سدة الحكم، ينبئ بصدامات قادمة داخل دوائر صناعة القرار الاقتصادي. كذلك الخلافات المكتومة بين إيلون ماسك وبقية أعضاء الإدارة بشأن دور وزارة “كفاءة الحكومة”، مرشحة لأن تتحول إلى نزاع مفتوح يؤثر سلباً على وحدة القرار، وما القرار بمغادرة مستشار الأمن القومي ونائبه فريق البيت الأبيض، وكذلك فصل فريق مساعدي وزير الدفاع بيت هيجسيث المقربين بمعزل عن هذه الصراعات.

على الجانب الاقتصادي، تتبدى آثار السياسات الترامبية أكثر وضوحاً عبر موجة الحروب التجارية، التي اعتمد فيها ترامب سياسة التعريفات الجمركية الشاملة والعقوبات الاقتصادية الواسعة. غير أن هذه السياسات، وإن كانت تروج لشعار “أمريكا أولاً”، تحمل في طياتها مفاعيل معاكسة لما يعلنه ترامب. فبدلاً من أن تؤدي إلى إعادة تنشيط القاعدة الصناعية الأمريكية، فإنها مرشحة لدفع مزيد من الصناعات نحو الهجرة الخارجية، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج داخل الولايات المتحدة. كما أن ارتفاع الأسعار الذي سيترتب على فرض الرسوم سيزيد من الضغوط التضخمية، مما قد يدفع بالاقتصاد الأمريكي نحو الركود التضخمي، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية وسياسية.

الأمر الأكثر خطورة هو أن هذه السياسات الاقتصادية قد لا تؤدي فقط إلى تقويض النمو الاقتصادي الداخلي، بل ستسرع أيضاً من تآكل مكانة الولايات المتحدة في النظام التجاري العالمي. إذ أن شركاء الولايات المتحدة التقليديين، مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا، بدؤوا بالفعل في البحث عن ترتيبات بديلة تقلل من اعتمادهم على السوق الأمريكية، وهي تحولات بنيوية قد تكون لها آثار بعيدة المدى. إن سياسات الانعزال الاقتصادي، مقترنة بالعقوبات التجارية الواسعة، ستدفع نحو تفكيك تدريجي للنظام الليبرالي الذي قادته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، مما يفتح الباب أمام بروز نظام عالمي أكثر تعددية وأقل خضوعاً للهيمنة الأمريكية.

هذه الانعكاسات الاقتصادية والسياسية لا يمكن فصلها عن تداعيات أوسع تمس البنية الاجتماعية والثقافية داخل الولايات المتحدة نفسها. فالاستقطاب المجتمعي يتعمق بشكل غير مسبوق، مدفوعاً بخطاب سياسي تقسيمي، وتحولات ديموغرافية، وتراجع ديمقراطي حاد، وانهيار حضاري متواصل في مستويات التعليم والخدمات العامة. وهذه العوامل مجتمعة تشكل بيئة خصبة لاضطرابات اجتماعية قد تزداد حدة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية، مما ينذر بأن الولايات المتحدة مقبلة على مرحلة طويلة من عدم الاستقرار الداخلي.

على الصعيد الخارجي، فإن السياسات الترامبية ستتسم بمزيج من التصعيد والانعزالية. فبينما سيواصل ترامب دعم إسرائيل بشكل مطلق، وكذلك التصعيد مع إيران، ومحاولة فرض تسويات على أوكرانيا لصالح روسيا، والضغط المستمر على الصين، فإنه سيسعى في الوقت نفسه إلى تقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية حول العالم (إن صدق في ذلك، وهو ما يتناقض مع زيادة ميزانية الدفاع كما ذكرنا)، والتركيز على الملفات التي يرى فيها مصلحة اقتصادية مباشرة. إلا أن هذا النهج الانتقائي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ أنه سيفتح المجال أمام قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، لملء الفراغات التي ستخلفها الولايات المتحدة، مما يسرع من تراجع النفوذ الأمريكي العالمي.

ولعل أخطر ما ينذر به هذا المسار هو الانزلاق إلى صراعات عسكرية نتيجة تصاعد الحروب التجارية والضغوط الاقتصادية. فالتاريخ يعلمنا أن الحروب التجارية الكبرى، مثل تلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية، غالباً ما تكون مقدمة لصراعات عسكرية أوسع. ومع تصاعد التوترات مع الصين، والضغوط المتزايدة في الشرق الأوسط وأوروبا، فإن خطر نشوب نزاعات عسكرية كبرى، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بات أمراً حقيقياً. (وهو ما قد يكون السبب المبطن لزيادة الموازنة العسكرية).

إن الأفول الإمبراطوري الأمريكي، الذي تتواتر الكتابة عنه، والذي استعرضنا في دراستنا المطولة عدداً من الدراسات والتحليلات التي تؤصل له، لم يعد مجرد افتراض أكاديمي، بل بات واقعاً يتجسد على الأرض. إن الطبقة الأوليجاركية التي تمسك بزمام السلطة الاقتصادية والسياسية اليوم، لا تهتم بالحفاظ على الهيمنة الأمريكية بقدر ما تهتم بتعظيم أرباحها ونفوذها الشخصي، ولو على حساب الدولة الأمريكية ذاتها. إن تفكيك المؤسسات، وتحطيم التحالفات، وإثارة الفوضى الاقتصادية والاجتماعية، كلها مؤشرات على أن الإمبراطورية الأمريكية تسير بخطى متسارعة نحو نهايتها، وليس لأن “تعود عظيمة مرة أخرى” كما يدعي ترامب، كما حدث مع كل الإمبراطوريات التي سبقتها عبر التاريخ.

ختاماً، فإن مستقبل الولايات المتحدة في ظل الإدارة الترامبية الثانية يبدو قاتماً، ليس فقط بسبب السياسات العشوائية والانفعالية، والصراعات المحتدمة داخليا وخارجياً، بل بسبب التحولات البنيوية العميقة التي تعصف بالمجتمع والدولة الأمريكية. وما لم تحدث معجزة سياسية تعيد تصحيح المسار، فإن العالم مقبل على مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، عنوانها الأبرز: أفول الهيمنة الأمريكية، وصعود نظام عالمي أكثر تعددية، لكن أيضاً أكثر اضطراباً.

الخلاصة

عملنا في الدراسة المطولة التي قمنا بإنتاجها، واستعرضنا ملخصها من خلال هذه الورقة، على تتبع الملامح الرئيسية لتوجهات السياسة الداخلية والخارجية في إدارة ترامب الجديدة، وذلك بغرض استكشاف أهم تداعياتها على الولايات المتحدة، وعلى العالم بشكل عام، وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، في المرحلة المقبلة.

في دراساتنا السابقة للملامح الرئيسية لفترة رئاسة ترامب الأولى، كان استنتاجنا الرئيس أن ترامب كان يحاول مواجهة ما يسمى “بالمؤسسة” في الولايات المتحدة، أو ما يطلق عليه هو وأنصاره “الدولة العميقة”، وذلك سعياً لفرض أجندته حول “أمريكا أولاً”، و ” جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، بناء على “القيم المسيحية” التي أهدرتها الإدارات الديمقراطية المدعومة من الدولة العميقة؛ هذه الأيديولوجية القومية الدينية، المطعمة بطبيعة ترامب الشخصية كرجل أعمال يجيد التفاوض و”عقد الصفقات”. وقد دعمت الرئاسة في ذلك الوقت أدوات ضعيفة من بعض الشخصيات والأدوات الإعلامية، مع دعم شعبوي كبير، لذلك لم تستطع تحقيق النصر على الدولة العميقة، والتي استطاعت خلال عدة أشهر فقط احتواء ترامب داخل إطارها، واستبدلت رجال ترامب برجال المؤسسة التقليدية، مما أجهض محاولات ترامب في إحداث اختراقات تغير من طبيعة تلك المؤسسة.

إلا أننا نرى أن الأمر قد اختلف مع الدخول في الفترة الرئاسية الثانية لترامب، فالمشروع لم يعد مجرد مشروع “ترامبي” تحركه طبيعة الرجل الشخصية وتوجهاته وأهواؤه، رغم وجود قدر لابأس به من كل هذا في المشروع، إلا أننا نرى أن هذه العوامل الشخصية ترجع بشكل أكبر  إلى، وفي نفس الوقت تؤثر على، “طريقة الأداء” للوصول للأهداف، وليس على الأهداف والتوجهات نفسها؛ بمعنى أن هناك مجموعات وأصحاب مصالح وقوى نافذة، أقوى كثيراً من فريق ترامب في الرئاسة الأولى، تسعى لمنافحة سيطرة القوى التقليدية على مكامن القوة والنفوذ والقرار داخل “المؤسسة”، وتجعل من ترامب رمزاً لها، وواجهة، وكذلك رافعة لتحقيق مشروعها.

هناك تركيبة غير متجانسة تمثل المجموعة الرئيسية الداعمة لترامب، لكننا نرى أن العناصر الأهم فيها تتمثل في عدد من البليونيرات ورجال الأعمال البارزين من الطبقة الأوليجاركية، الذين كونوا ثرواتهم في قطاع التكنولوجيا الحديثة بالأساس، أو في إدارة الأصول واستثمارات الأخرين، وتضخمت تلك الثروات بالمضاربات المالية وتضخم قيمة الأسهم في أوقات قياسية، ما أعطى لهم نفوذا كبيراً داخل وخارج الولايات المتحدة. هناك أيضاً غالبية القطاع المسيحي اليميني، صهيوني التوجه، الذي يعطي البعد العقائدي للتيار الترامبي. فضلاً عن التيار الشعبوي العام، الذي يتبنى سردية الماجا، بين الجماهير  المحبطة نتيجة عقود من التهميش والتراجع، وترغب في حدوث تغيير بناء على المبادئ الي يدعو إليها ترامب.

المشروع الذي يدعو إليه هذا الخليط، بقيادة أو رمزية ترامب، له توجهات رئيسة تهدف إلى إحداث تغييرات كبرى في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، وذلك عن طريق استخدام القوة التنفيذية لإدارة ترامب، لتفكيك مكامن قوة المؤسسة الأمريكية. أهم ملامح السياسات الداخلية لمنظومة ترامب تتعلق بمحاربة الهجرة، وطرد المهاجرين غير الشرعيين، و”تطهير” مؤسسات الحكومة الفيدرالية وجعلها “أكثر كفاءة”، والتيسير المالي وخفض ضرائب الشركات لزيادة الأعمال وتوفير الوظائف، وفرض تعريفات جمركية ضخمة على سائر بلاد العالم، الحليف منها والخصم، لإخضاعها لقواعد جديدة في التجارة فيما بينها، ومحاربة التوجهات غير الأخلاقية الساعية لفرض المثلية الجنسية وحرية الإجهاض، مع استعادة النفوذ الروحي والقيم المسيحية، وضبط السياسات الصحية ومحاربة فساد وجشع شركات الأدوية، وصولاً إلى التراجع عن سياسات حماية البيئة من التغيرات المناخية وتشجيع استخراج النفط والغاز.

 هذه السياسات تستلزم بالضرورة خوض غمار صراعات داخلية طاحنة للتغلب على قوى المؤسسة التقليدية التي تدعم الوضع القائم، كما أن هناك صراعات مؤجلة داخل منظومة ترامب ذاتها نظراً للاختلافات البينة بين العناصر التي تشكلها.

الملمح الأخر المهم على الساحة الداخلية يتمثل في التراجع شديد السرعة في الحريات وفي السماح بالآراء الأخرى المخالفة، الأمر الذي كان يميز الولايات المتحدة من واقع أن هذه الحريات هي من صلب الحقوق الدستورية. تتراجع أيضاً الممارسات الديمقراطية، ويزداد الاعتماد على القوة التنفيذية للرئاسة في إنفاذ الأجندات المطروحة، ما يجعل السمت الأمريكي الديمقراطي تحت تهديد شديد.

بالنسبة للسياسة الخارجية وممارسة النفوذ الأمريكي، فتتخذ إدارة ترامب توجها يركز على تقوية الهيمنة الأمريكية على نصف الكرة الغربي، واستخدام هذه القوة في فرض النفوذ على العالم، ليس بأدوات القوة العسكرية الخشنة، ولكن باتباع سياسات الضغوط الاقتصادية القصوى، وفرض التعريفات الجمركية العقابية التي تجعل الأطراف الأخرى تستسلم أمام الإرادة الأمريكية. من الواضح أن إدارة ترامب تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية في طبيعة النظام التجاري العالمي، الذي فرضته الولايات المتحدة نفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. تعمل الإدارة على محاربة وتفكيك أدوات العولمة ومؤسساتها، وكذلك على الانسحاب من المسئوليات التي تقتضى تحمل تبعات مالية ضخمة، سواء في المساعدات الخارجية أو النفقات الدفاعية عن الأخرين، على أساس أن الشعب الأمريكي أحوج ما يكون لهذه الموارد، بدلاً من إنفاقها على حماية أطراف يفترض أن تحمي أنفسها، أو  أن تطلب هذه الأطراف الدعم الأمريكي بعد سداد مقابله المالي، طبقاً لما يقوله ترامب.

في حقيقة الأمر، تبدو هذه السياسات نابعة عن إدراك لعدم قدرة الولايات المتحدة على مواصلة تحمل تكاليف استمرار سيطرتها الإمبراطورية الكونية، وبذلك تتراجع لحساب ترك مساحات لقوى دولية وإقليمية أخرى لممارسة بعض النفوذ، مع محاولة وضعها تحت السيطرة عن طريق الضغوط الاقتصادية أو عقد الاتفاقات والصفقات معها. إضافة إلى ذلك فإن الأوليجاركية ذات القوة المالية الضخمة في منظومة ترامب، تسعى، عن طريق السياسات التي تفرضها الإدارة، لتحقيق أقصى قدر من الربح، في أي مكان في العالم، على ألا تتحمل أية أعباء أو مسئولية عن الأخرين، بل تهدف فقط للمزيد من مراكمة الثروة وممارسة النفوذ، سواء على الحكومة الأمريكية أو الحكومات الأخرى، أو على شتى مناحي الحياة في العالم، حتى لو كان ذلك ضد مصلحة الولايات المتحدة نفسها، أو على حساب نفوذها الدولي، إذا كان ذلك يزيد من انتقال الثروة ومراكمة أرباح ونفوذ هذه الطبقة.

الاختلافات الجوهرية بين معسكري المؤسسة التقليدية والمزيج “الترامبي” الجديد، تفضي، منذ اليوم الأول لتنصيب ترامب، إلى معارك طاحنة في شتى الملفات الداخلية والخارجية، سعيا لفرض الهيمنة من جانب التيار الجديد، أو مقاومة التغيرات من جانب التيار القديم. من المبكر الحكم على الكيفية والمألات التي سيحسم بها هذا الصراع الطاحن، إلا أننا نرى أن هذا الصراع، مع تسارع وتيرة هدم المؤسسات الأمريكية التقليدية المؤثرة منذ عشرات السنين، سيترتب عليه خسائر كبيرة في قدرة الولايات المتحدة على القيادة والسيطرة، ودعم سياساتها داخلياً وخارجياً.

يضاف إلى ذلك، الأثار المدمرة على الأدوات التي سعت من خلالها الولايات المتحدة على الهيمنة الإمبراطورية على العالم، وذلك في إطار الجهد المبذول من التيار الجديد لإنفاذ توجهاته. هذان العاملان، الصراعات الداخلية والتوجه نحو العزلة الخارجية، إضافة إلى التراجع الديمقراطي وعوامل التراجع الحضاري الأخرى المتنامية منذ فترة ، ستؤدي بالتأكيد إلى تراجعات حادة في القدرات الأمريكية على إنفاذ أجندتها العالمية، مقارنة بالنظام العالمي الذي صنعته أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن تفاعلاتها الداخلية وعزلتها الخارجية ستحولها بالتدريج إلى مجرد قوة إقليمية كبيرة، تواجه قوى أخرى، دون القدرة على فرض هيمنتها الإمبراطورية التي سادت خلال العقود الماضية.

هذا النمط من التراجع، هو في واقع الأمر نفس نمط تراجع الحضارات الأخرى التي سبقت الولايات المتحدة، التي لا تشكل استثناءً عنه. فهل ستدفع الولايات المتحدة أخيراً ثمن قرونٍ من الممارسات الظالمة، بدءاً من تأسيسها باستخدام المذابح على حساب السكان الأصليين، مرورا بسياسات التفرقة العنصرية البغيضة، وصولاً إلى الهيمنة العولمية التي تستخدم في تكديس الثروة ومراكمة القوة العسكرية الجبارة، واستخدامها في قتل ملايين البشر، أو دعم القوى التي تقتلهم؟ هل يدرك من يخططون لمستقبل الولايات المتحدة والعالم الأن في عهد ترامب ذلك، وهل هم واعين لأثار ما يقومون به؟

وعلى الرغم من أن الهدف الكبير للتيار الجديد هو تقليل الصراعات العسكرية الدولية، والتركيز على أدوات الضغط الاقتصادي، فإن ممارسة هذه الأدوات ستؤدي بسرعة لانهيار وتفكك منظومة النظام العالمي بشكلها الراهن، حيث ستسعى القوى الأخرى لمواجهة الضغوط الأمريكية القصوى، وبالتالي لن يخرج من هذه المعارك طرف رابح، ولذلك فإننا نرى أنه سيتلو ذلك تداعيات اقتصادية وأزمات من الكساد الحاد، لن يمكن الخروج منها إلا بالعودة لفتح جبهات الحروب لإعادة عجلة الإنتاج للدوران والخروج من حالة الكساد، على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي من حروب اقتصادية وكساد مترتب عليها، ما أل بالعالم في نهاية المطاف لخوض الحرب العالمية الثانية! فهل ستدفع الممارسات الحالية العالم إلى الحرب العالمية الثالثة بنفس الأليات؟

وتمثل منطقة الشرق الأوسط، من وجهة نظرنا، استثناءً من توجهات السياسة الخارجية للتيار الترامبي الجديد، حيث تُظهر سياسات ترامب في الشرق الأوسط تحوّلاً جيوسياسياً عميقاً يهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الإقليمي بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما إسرائيل. ويُعد اقتراح ترامب بنقل سكان قطاع غزة إلى دول مجاورة خطوة استراتيجية حادة تتجاوز حدود السياسة التقليدية، فهذه الخطة لا تسعى فقط لإنهاء الأزمة الإنسانية العاجلة بعد الحرب، بل تُستغل لتقليل الكتلة السكانية الفلسطينية في غزة، مما يُسهّل أمام إسرائيل المضي قدماً في مشاريع الضم والهيمنة على الأراضي الفلسطينية الأخرى مثل الضفة الغربية. في واقع الأمر، هناك تماهي كامل في السياسة الأمريكية مع التوجهات الإسرائيلية في القضية الفلسطينية، مع وجود توزيع للأدوار هدفه في النهاية تمكين العلو الصهيوني في المنطقة وضمان الهيمنة الإسرائيلية عليها بعد إنهاء أية مقاومة لذلك.

هناك عامل أخر يدفع إسرائيل للإسراع بالمضي قدماً في خططها التوسعية والاستعلائية، فالتغيرات التي تحدث الأن في النظام العالمي لن تكون في صالحها، لأن هذا النظام بشكله الحالي هو ببساطة الذي أنشأها وزرعها في المنطقة، وبالتالي تسعى إسرائيل لإنجاز مهامها الإستراتيجية قبل أن يحول النظام العالمي الناشئ بينها وبين هذا الإنجاز بشكل أو بأخر.

من جهة أخرى يشكل الملف النووي حجر الزاوية في سياسة ترامب مع إيران، إذ يُصر على منع إيران من الحصول على سلاح نووي بأي ثمن. هذا التصعيد لا يُستبعد أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين طهران والولايات المتحدة، سواءً تحت تأثير الضغط الإسرائيلي، أو بدعم صقور الإدارة الأمريكية شديدي التشدد نحو إيران، مع تداعيات جيوسياسية تمتد لتشمل مواجهة القوى الكبرى مثل الصين وروسيا في المنطقة.

إن السياسة الخارجية الانعزالية التي يتبناها ترامب لا تجد صداها في منطقة الشرق الأوسط، بل على العكس ، هناك ميل لاستمرار التدخل الصارخ، الذي قد يصل إلى الدخول في مواجهات عسكرية، بهدف التمكين للمشروع الصهيوني في الوصول لقيادة منفردة في المنطقة بشكل نهائي.

إن التحركات الجذرية مثل تهجير سكان غزة وتصعيد الضغط على إيران تحمل مخاطر كبيرة، فقد تؤدي إلى اندلاع نزاعات جديدة، وزيادة عدم الاستقرار الإقليمي، وتعميق الانقسامات بين الدول العربية. كما أن استخدام الضغوط الاقتصادية، حتى على الحلفاء، يمكن أن يؤدي إلى تقويض الاستقرار السياسي للدول. وبالرغم من أن هذه السياسات قد تحقق مكاسب على المدى القصير في إطار تأمين مصالح حلفاء الرئيس ترامب، إلا أنها تحمل في طياتها مخاطر تهدد استقرار الشرق الأوسط وتكرس تعميق الصراعات الإقليمية.

في نهاية المطاف، فإن كل ما استعرضته دراستنا المطولة من معلومات وتحليلات، يشي بأن العالم مقبل على حالة من التغيرات الكبرى المتسارعة، مدفوعة بالأساس بانفراط عقد النظام العالمي القائم بقيادة الولايات المتحدة، وتردي الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية التي استمرت على مدى عقود. هذا بالتأكيد يدعو القوى المسحوقة في شتى أنحاء العالم، وفي القلب منها في منطقتنا العربية والإسلامية، لأخذ كل ذلك في الاعتبار، والبحث عن مخارج، ليس فقط للقدرة على الاستمرار في البقاء في ظل صراعات لانهائية بين أطراف أخرى شرقاً وغرباُ، ولكن لنكون لاعباً مؤثراً على الساحة العالمية بما نمتلكه من قدرات ومقومات.


لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.


د. عمرو درّاج

سياسي وأكاديمي مصري، رئيس المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة الرئيس محمد مرسي، 2013.

صوفيا خوجاباشي

صحفية وباحثة في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى