
هذا تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في 23 أكتوبر 2025، بعنوان “هل يمكن للشاطئ أن يكون شريراً حقاً؟ اسألوا المصطافين في “الساحل الطيب” بمصر”. التقرير أعدته “فيفيان يي”، مراسلة صحيفة نيويورك تايمز التي تقيم في القاهرة وتُغطي شمال أفريقيا والشرق الأوسط؛ و “رانيا خالد”، المراسلة والباحثة في نيويورك تايمز أيضاً.
يستعرض التقرير الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية التي تعكسها شواطئ الساحل الشمالي في مصر؛ حيث تقول الصحيفة إن منطقة الشواطئ الواقعة بين الإسكندرية ومرسى مطروح على الساحل الشمالي لمصر، والتي تنتشر بها المنتجعات والمجمعات السكنية، تضم ساحلين مختلفين ومتباينين تماماً: “الساحل الطيب” و “الساحل الشرير”.
فعلى الرغم من حقيقة أن ما يفصل بين الشاطئ الأخضر أو “الساحل الطيب” و خليج ألماظة ومراسي أو “الساحل الشرير”، كما تعارف كثيرون على تسميتهما، أقل من ساعة فقط بالسيارة، إلا إنهما يُبرزان بشدة الفجوة الطبقية المتسعة في مصر وتضارب القيم الثقافية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
وبينما يظل “الساحل الطيب” متاحاً للكثيرين من المصريين ومحافظاً إلى حد ما على قيم المجتمع المصري، أصبح “الساحل الشرير” مكاناً مغلقاً للثراء والتحرر على النمط الغربي.
ويؤكد التقرير أن الفروق الاجتماعية الكبيرة بين مرتادي الساحلين تعكس الواقع الذي تعيشه البلاد حالياً، حيث تبرز قضايا الهوية والفوارق الطبقية والانتماء على خلفية الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يعاني منها المصريون.
وقد أشارت صحيفة نيويورك تايمز إن الصحفيين اللذين أعدا التقرير قاما بزيارة ساحلي “الخير” و “الشر” في مصر هذا الصيف ليشهدا بنفسيهما مدى التباين بينهما. أما صورة الغلاف، والتي تم التقاطها في يوليو، فتُظهر أشخاصاً يستمتعون بشاطئ “الساحل الطيب”، وهي قرية على طول ساحل مصر الشمالي على البحر المتوسط، تُلبي احتياجات السكان والزوار الأقل ثراءً، على عكس “الساحل الشرير”، المكان المغلق للأثرياء وأدعياء التحرر على النمط الغربي.
وقد جاء التقرير على النحو التالي:
يبدو البحر متشابهاً في مختلف الأماكن، وكذلك الرمال. لكن الأمر في مصر مختلف، فهناك مجتمعان شاطئيان قريبان من بعضهما البعض يتباين مفهوم المتعة بينهما اختلافاً جذرياً.
وبينما تقود سيارتك على الطريق السريع الذي تسلط عليه الشمس أشعتها الحارقة على طول الساحل الشمالي لمصر على البحر الأبيض المتوسط، لن تجد لافتة تُعلن أين ينتهي “الساحل الطيب” وأين يبدأ “الساحل الشرير”. وسواءً أكان الساحل طيباً أم شريراً، فالأمواج هي نفس الأمواج حيث الفيروز النقي، والرمال هي نفس الرمال حيث البياض الناصع.
لكن بالنسبة للمصريين الذين يذهبون لقضاء الصيف على الساحل الشمالي، مهاجرين إليه من القاهرة، تماماً كما يتجمع سكان نيويورك في هامبتونز وكما يتجه سكان ميشيجان شمالاً، فإنه لا مجال للخطأ في التمييز بين الوجهتين:
فهناك الساحل الصالح أو “الساحل الطيب”، كما يسميه المصريون. حيث يقضون فيه عطلات بسيطة وصحية، لا يوجد فيها الكثير مما يمكن فعله سوى اللعب في البحر والقراءة والاسترخاء. ومعظم النساء على “الساحل الطيب” يرتدين البوركيني (وهو نوع من ملابس السباحة يغطي كامل الجسم ما عدا الوجه واليدين والقدمين) والحجاب. وهناك على طول الطريق الساحلي تنتشر فنادق ومنازل بسيطة للإيجار، ومقاهي شاطئية بسيطة بكراسي بلاستيكية، وبضعة مطاعم للمأكولات البحرية الطازجة. وكل بضع دقائق، يمر الباعة المتجولون بمظلات رواد الشاطئ الملونة، حاملين رقائق الفريسكا بالعسل وصواني المحار، وهي الوجبات الخفيفة التقليدية في صيف الساحل.
ثم هناك الساحل الطالح أو “الساحل الشرير”، كما يسميه المصريون أيضاً. حيث ترى فيلات شاطئية بملايين الدولارات وحقائب لويس فويتون باهظة الثمن بجانب كراسي التشمس على الساحل. وحيث حفلات جينيفر لوبيز (ممثلة ومغنية وراقصة أمريكية) الغنائية الراقصة، وكذلك حفلات صاخبة حيث دي جي بيجي جو (مغنية وكاتبة أغاني ومنتجة أسطوانات كورية جنوبية). وهناك أيضاً على الواجهة البحرية ترى فروعاً لأرقى مطاعم وبوتيكات القاهرة.
وهناك ألبسة البحر من طراز البيكيني ونظارات شمسية من أشهر المصممين وأغطية بوهيمية أنيقة على أجساد معظم النساء. وعلى بُعد أقل من ساعة بالسيارة غرباً من “الساحل الطيب”، تكلف نفس رقائق الفريسكا والمحار أكثر من ضعف السعر. وبسعر إقامة عطلة نهاية الأسبوع هناك، يمكنكِ الإنفاق ببذخ في رحلة إلى سان تروبيه.
تقول عزيزة شلش، 24 عاماً، وهي طالبة دراسات عليا نشأت في “الساحل الطيب” حتى اشترت عائلتها مكاناً للمصيف في خليج ألماظة، أكبر نقطة جذب مؤثرة في “الساحل الشرير”: “كان الأمر في السابق: أن تأخذي معك من أربع إلى خمس قطع ملابس وحذاءً صيفياً (شبشب) وبدون مكياج، وهذا كل شيء. أما الآن فعندما تذهبين إلى الشاطئ، فإنه يتحتم عليكِ أن تصففي شعركِ وأن تضعي المكياج وأن تلتقطي صوراً لنفسكِ هناك”.

رجال ونساء، يرتدون ملابس شاطئية متحررة، و يرقصون في أحد المهرجانات داخل مجمع خليج ألماظة في الساحل الطالح، المعروف بـ “الساحل الشرير”

يقدم دي جي عروضه في مهرجان تم تنظيمه داخل المجمع، حيث يعيش العديد من السكان والزوار الأثرياء
ويعكس تقسيم الساحل بين الخير والشر – حيث يتمايز امتدادان ساحليان شبه متطابقين في الأساس من خلال المال والبكيني والمشروبات الكحولية – انقساماً جوهرياً في مصر، حيث تتشابك الطبقات الاجتماعية بشكل وثيق مع المواقف تجاه الحريات الاجتماعية على النمط الغربي. ولكن مع اتساع الفجوة بين الطبقة العليا في مصر وسائر الناس نتيجة الأزمات الاقتصادية، فإن الانتشار المتسارع لـ “الطابع الحصري والقصري” للأماكن المرموقة مثل “الساحل الشرير” أدهش حتى بعض الأشخاص الذين ينتفعون من تلك الرعاية والعناية المفرطة.
وتحدد الخريطة أدناه موقع خليج ألماظة ومراسي، المعروفين باسم “الساحل الشرير”، والشاطئ الأخضر، المعروف باسم “الساحل الطيب”، بالقرب من الإسكندرية، مصر.

الخريطة من: صحيفة نيويورك تايمز
قال محيي الدين العشماوي، 83 عاماً، وهو ضابط بحري متقاعد قضى الصيف في الشاطئ الأخضر أو “الساحل الطيب” قبل ذيوع خليج ألماظة ومراسي “الساحل الشرير”: “إنه ‘شر’ لأنهم ينفقون الكثير من المال. فمع كل خطوة هناك، يتحدث المال”.
في عام 2022، عندما انهار الاقتصاد المصري المتعثر أصلاً، أصبح تجاهل الفجوة الطبقية أصعب من أي وقت مضى. وبعد ثلاث سنوات، يستطيع ما تبقى من الطبقة المتوسطة بالكاد تحمل تكاليف الرسوم المدرسية و اللحوم، ناهيك عن العطلات الشاطئية.
وفي الوقت نفسه تقريباً، تصاعدت الحصرية والتفرد الطبقي في “الساحل الشرير” إلى أن وصلت إلى إقصاء تام (للطبقات الأدنى). فبدلاً من نظام أقل رسمية يسمح للناس بدعوة الأصدقاء أو العائلة إلى الشاطئ، بدأت المجتمعات المسوَّرة تتطلب تقديم رموز الاستجابة السريعة (QR) الصادرة فقط لمالكي العقارات أو المستأجرين من أجل الدخول؛ بل ويطلب البعض رمزاً (QR) آخر للوصول إلى الشاطئ.
وأصبحت الرموز سلعة رائجة لدرجة أن الناس يبيعونها عبر الإنترنت، مما أثار بعض الجدل بشأنها، وسرعان ما أصبح يتم ترويج تلك الرموز على منصة تيك توك. والمشاريع في “الساحل الطيب” مُسوّرة أيضاً، لكن القواعد هناك ليست صارمةً بنفس القدر. حيث قالت داليا الغنيمي، 46 عاماً، التي كانت تزور خليج ألماظة لأول مرة في يوليو: “الأمر أشبه بحدود، حقاً”. وأضافت: “لا ينبغي أن يكون الشاطئ هكذا. فالشاطئ للجميع”.

لعب الكرة الطائرة الشاطئية في قرية شاطئية بـ “الساحل الطيب”

رجل يؤدي صلاة العصر على شاطئ قرية شاطئية بـ “الساحل الطيب”
قبل عقود، كان الأمر فعلاً كذلك. فسواءً كانوا أغنياء أم غير ذلك، اعتاد الكثير من المصريين الذهاب إلى الشواطئ المحيطة بمدينة الإسكندرية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في الصيف. ولا يزال الكثير من المصريين الفقراء يفعلون ذلك.
لكن مطوري القطاع الخاص تسابقوا غرباً على طول الساحل الشمالي مؤخراً، فافتتحوا أولاً منتجعات متواضعة، ثم كشفوا عن مشاريع عقارية عصرية في أقصى الغرب. وفي هذه الأيام، يسوّقون أيضاً للسياح الأثرياء من الخليج العربي وأوروبا وأي شخص آخر يستطيع تحمل تكلفتها. (قد يصل إيجار أسبوع واحد في موسم الذروة إلى 6,000 دولار أو أكثر).
وتلوح على الطرقات في شوارع القاهرة المتربة والطريق السريع الساحلي، لوحات المطورين اللامعة وهي تروّج لقضاء صيف مثالي: “Seazen — Find Your Zen” (سيزن – حيث تجد راحتك)؛ و “Forever by the Sea — Ras El-Hekma” (إلى الأبد بجانب البحر – رأس الحكمة”. لا تغطي أي من النساء المبتسمات في الإعلانات شعرها أو ذراعيها؛ وكل إعلان كُتب باللغة الإنجليزية، وهي لغة يفهمها بسهولة النخبة المصرية من خريجي المدارس الدولية.
فبالنسبة للمصريين الأثرياء والليبراليين، فإن الجاذبية واضحة. حيث تُعدّ مجتمعات الساحل المُسوّرة، مثل ألماظة أو مراسي، وهي منطقة مُنعزلة للأثرياء فقط بناها مُطوّر عقاري في دبي، النسخة الصيفية من المُجمّعات الضواحي المُنظّفة بعناية، حيث يعيش ويعمل ويلعب الأثرياء من سكان القاهرة بقية العام: منتجعات فاخرة حيث يُمكنهم فعل ما يشاؤون وارتداء ما يشاؤون دون أيّ تدخلات أو أحكام من الآخرين.
والمعروف أن معظم المصريين أكثر تحفظاً من ذلك بكثير، بينما يُمارس البعض منهم هذه السلوكيات خلف أبواب مغلقة في أماكن أخرى من البلاد. وكما تُشير إحدى الميمات الشائعة، فإن هناك “إيجيبت” للنخب الناطقة بالإنجليزية والليبرالية اجتماعياً، و هناك “مصر” باللغة العربية للبقية من عوام الشعب المصري.

أب يلعب مع أطفاله على شاطئ إحدى القرى الشاطئية لـ “الساحل الطيب”

بالقرب من الشاطئ في إحدى القرى الشاطئية لـ “الساحل الطيب” هناك دُشّ استحمام عام على الشاطئ، يستخدمه الزوار للاستحمام بعد السباحة.
في “الساحل الطيب”، أي ذكر للحياة الليلية والملابس الشفافة على طول الساحل يثير استنكاراً فورياً.
بكى السيد العشماوي، الذي اعتاد زيارة “الساحل الطيب” لفترة طويلة، بمرارة وهو يروي فضيحة وطنية، حيث تم تصوير فتاتين في حفل لفرقة بـ “الساحل الشرير” وهما تقبلان مغني لبناني (راغب علامة) على خده. وقال: “هؤلاء الفتيات لديهن آباء!”
وقالت دعاء رضا، 25 عاماً، وهي معلمة كانت تتناول وجبة في مطعم سمك بجوار الطريق الساحلي السريع، مستشهدة بمقاطع فيديو شاهدتها على وسائل التواصل الاجتماعي: “إنه متحرر للغاية، ولا أحبه. مصر بلد مسلم. الحفلات والبكيني، هذه الأشياء لا تمت بصلة للمجتمع المصري”.
ويقول العديد من رواد “الساحل الشرير” بكل صراحةً إن حصريته واقتصاره على فئات معينة أمر ضروري لإبعاد مثل هذه التعاليم الأخلاقية. وقال محمود عبدون، 56 عاماً، والذي يعمل في مجال التصميم الداخلي، إن رموز الاستجابة السريعة (QR) تضمن السماح فقط “لأشخاص محددين” – أشخاص “لديهم نفس الثقافة” – بالدخول. وكان هو وزوجته يجلسان تحت كوخ بخليج ألماظة مطلاً على البحر، حيث ارتطمت أمواجه الدافئة والخلابة بالرمال من السيلادون (يشبه اللون الأخضر الفاتح) والفيروز. وفي نادٍ شاطئي على يمينهما، انبعثت أصوات موسيقى البوب بينما كان النادلون (جمع نادل) ينحنون على الكراسي الطويلة وهم يحملون مشروبات المارجريتا المثلجة، وخبز اليوزو المحمص بالأفوكادو، وأطباق المانجو الطازجة. وفي تلك الأثناء، شقّ زورق آلي بنفسجي ملكي، يشبه تماماً سيارة سباق، طريقه بقوة في الماء؛ حيث انجرفت مظلة شراعية.
ولكن بعض الآباء أشاروا إلى الأمان في المجمع السكني المسوّر. حيث قال شريف سيف، 48 عاماً، وهو مدير تسويق كان يُشرف على حفل عيد ميلاد ابنه تحت كوخ قريب: “تود هنا أن تسترخي وأن يستمتع أطفالك باللعب”.
وأشار السيد سيف إلى أن الساحل ليس المكان الوحيد في العالم الذي يدفع فيه الناس مبالغ طائلة مقابل الخصوصية والأمان. وقال: “إنه مجمع سكني خاص يضم مساكن خاصة”.

خلال مهرجان الشواطئ في منتجع ألماظة باي في “الساحل الشرير”، على شاطئ خليج ألماظة.

على أحد الشواطئ داخل منتجع ألماظة باي في “الساحل الشرير”
وليس من السهل فصل هذه الآراء عن الطبقة الاجتماعية في مصر الطبقية، فهناك عدد غير قليل من المصريين، ميسورين كانوا أم فقراء، يرون القيود مجرد غطرسة مؤسسية.
وفي جرين بيتش، وهو مجمع سكني مسوّر في “الساحل الطيب”، قالت رضوى، وهي مترجمة تجلس ومعها كتاب وترتدي بوركيني بنفسجي، إنها لم تزر “الساحل الشرير” قط. وأضافت: “أعلم أنني سأصدر أحكاماً عليهم. لكن إذا ذهبت إلى هناك، فسيصدرون أحكاماً عليّ لأني أرتدي مثل هذه الملابس”. (يُذكر أن رضوى رفضت ذكر اسم عائلتها، خوفاً من إثارة التوترات الاجتماعية).
ومع ذلك، فإن تلك التقسيمات التي تُطلق على الساحل (سواءً طيب أو شرير)، كما هو الحال في مصر عموماً، ليست دائماً واضحة كما قد تبدو.
فهناك العديد من المصريين الذين يستطيعون تحمل تكاليف أماكن “الساحل الشرير” الساخنة، لكنهم ما زالوا يفضلون متع “الساحل الطيب” البسيطة. وهناك بعض النساء غير المحجبات يستحممن في مياه البحر في “الساحل الطيب”؛ وأيضاً هناك بعض النساء التي ترتدين البوركيني يسبحن في مياه البحر على “الساحل الشرير”. وروى السيد شريف سيف أنه رأى مرة رجلاً يرتدي زياً دينياً وهو يتجول على الشاطئ ذات صباح. وكان هاتف الرجل يصدح بآيات قرآنية ليسمعها الجميع.
وقال السيد سيف إنه لم يمانع ذلك. ومثل كثير من المصريين الذين يحاولون الموازنة بين المتعة والإيمان، فهو نفسه يصلي في الأيام التي لا يشرب فيها الخمر، ويصوم رمضان، ويحضر صلاة الجمعة.

في مجمع ألماظة باي، الواقع في “الساحل الشرير”
ثم أضاف سيف: “لهذا السبب لديّ مشكلة مع عبارة “الساحل الشرير” و “الساحل الطيب”. وذلك لأن الأمر كله يتعلق بك وبما تفعله”. ثم ارتشف رشفة من الفودكا، وهو يبتسم ابتسامة عريضة!




