العلاقات السورية – اللبنانية بعد الأسد.. تفكك المحور وبناء توازنات ما بعد الوصاية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
مقدمة
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لم يكن حدثاً اعتياداً ولا متغيراً داخلياً متعلقاً بالشأن السوري فحسب، بل إن هذا الزلزال السياسي الذي أحدثه انزياح شبح البعث عن سورية بعد نصف قرن من الحكم القهري، جاءت ارتداداته واضحة في الإقليم وأراضي دول الجوار، وأقربها لبنان. ستمثّل هذه اللحظة نقطة انعطاف تاريخية غير مسبوقة في مسار العلاقة بين البلدين، خاصة وأنها تسجَّل كتحول بنيوي جديدٍ يضاف إلى مراحل مختلفة من تاريخ هذه العلاقة التي اختلفت في توصيفها بين الوصاية المباشرة، والتحكم غير المباشر أو الانفصال الحذر في بعض الملفات.
وقد أدّى انهيار النظام السوري السابق إلى اهتزاز منظومة النفوذ الإقليمي التي شكّل لبنان أحد أبرز امتداداتها خلال عقدين من الزمن، من خلال مثلث طهران – دمشق – بيروت، فعصفت التحولات العميقة في صلب المشهد في كلا البلدين بشكل متتابع، واستفادت كل من دمشق وبيروت من المناخ الإقليمي السائد لتكريس مشهد سياسي جديد يتناغم والمؤشرات السائدة.
وكان من أهم هذه المؤشرات التي مهدت الطريق بشكل أو بآخر لانهيار نظام الأسد، اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني الأسبق حسن نصر الله في 27 سبتمبر/أيلول 2024، فيما ترافق وصول السلطة الجديدة إلى حكم دمشق مع نجاح مجلس النواب اللبناني بانتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للبنان مطلع عام 2025 بعد فراغ رئاسي دام أكثر من عامين.
وعليه، فإن هذه الدراسة تهدف إلى تحليل طبيعة العلاقات السورية–اللبنانية في مرحلة ما بعد سقوط الأسد، وتفكيك أبعادها السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. كما تبحث في أثر التحوّلات المتزامنة في كلتا العاصمتين، وطبيعة المشهد الإقليمي وانعكاساته المستقبلية على العلاقة بين البلدين.
أولا: العلاقات السورية – اللبنانية في حقبة نظام الأسد
يرفع المسؤولون اللبنانيون منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد وتولي السلطة الجديدة مقاليد الحكم، شعار “الندية السياسية” مع الجارة دمشق، وكأنما جاء هذا الحدث كمتنفس تعبيري عن حاجة لبنانية ملحة، لطي إرث ثقيل من الوصاية السورية على القرار اللبناني، والتي بدأت فعلياً منذ عام 1976، عقب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975.
لبنان لم يكن بالنسبة للنظام السوري السابق جاراً مستقلاً، بل “ساحة داخلية” توظَّف لحماية الأمن السوري، وتمديد نفوذ دمشق الإقليمي. فنظام البعث منذ تأسيسه، حمل في أدبياته العقيدة القومية التي تنادى بفكرة “سوريا الكبرى”، واعتبر الحدود مع لبنان حدودا استعمارية مؤقتة فرضت بعد سايكس بيكو، لا حدودا دولية حقيقية. هذه الأفكار التي تشكل جوهر القومية العربية، كانت مدخلاً لفرض توازنات سياسية عابرة للحدود، استفاد منها نظام الأسد الأب والابن في حماية عمقه الأمني والسياسي. فمن وجهة نظر أيديولوجية–قومية، لم يكن لبنان “دولة مستقلة كاملة السيادة”، بل إقليماً مفصولاً عن الجسد السوري، تمّت إدارته لاحقاً كمنطقة نفوذ سياسي وأمني.
ومع دخول الجيش السوري إلى لبنان تحت مظلة “قوات الردع العربية”، ترسخت بشكل فعلي حالة الوصاية الأمنية والسياسية، فكان تعيين رؤساء الجمهورية والحكومات اللبنانية يتم عمليا بموافقة دمشق، وتمركز ضباط المخابرات السورية في عنجر وبيروت والبقاع، وأداروا الملف اللبناني بأدق تفاصيله، حتى العلاقات الاقتصادية والاتفاقيات الثنائية، كانت توقع بروح الوصاية لا الشراكة.
استمرت هذه الوصاية بشكلها المباشر حتى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الحدث الأبرز الذي غيّر الموازين حينها، ودفع بدمشق إلى سحب قواتها تحت ضغط شعبي ودولي، تحديداً في السادس والعشرين من نيسان/إبريل عام 2005. إلا أن الوصاية السورية لم تنته مع انسحاب الجيش أو الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، حيث ظل لبنان ساحة نفوذ لدمشق بصورة غير مباشرة، أو بمعنى أدق: عبر وكلاء، كما يطلق عليه اصطلاحاً “تحالف 8 آذار”، وأبرز أحزابه حزب الله اللبناني، حركة أمل، تيار المردة، والتيار الوطني الحر الذي انضم لاحقاً بعد توقيع اتفاق 6 شباط/فبراير مع حزب الله. هذا التحالف المدعوم مباشرة من طهران، نجح وعبر سنوات عقب الانسحاب السوري، في تعطيل أي تحول سياسي من شأنه أن يخدم مبدأ سيادة لبنان واستقلال قراره الداخلي، ضمن حالة من الاستقطاب السياسي والطائفي والكانتونات المذهبية، رضوخاً للمعادلة الإيرانية التي سادت وتعمقت جذورها خلال السنوات العشرة الماضية، تحديداً في عام 2018 الذي شكّل ذروة صعود نفوذ حزب الله وهيمنته على مؤسسات الدولة بعد انتخابات نيابية فازت بها قوى 8 آذار بالأغلبية. هذه الفترة مثّلت تراجعاً حاداً للدولة المركزية وقدرتها على إدارة البلاد، لصالح هيمنة حزب الله على الحياة العامة، ما نتج عنه حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
أما خارجياً فقد ازدادت الفجوة بين لبنان وعواصم عربية – خليجية، وتراجعت الثقة والاستثمارات والتحويلات المالية، ما زاد من هشاشة الوضع المالي، الذي انفجر بعدها بانهيار كامل للاقتصاد اللبناني. كل ذلك كان يجري ضمن دوائر متداخلة من دمشق إلى بيروت، فما كان يجري في سوريا أثر بشكل مباشر على الوضع الداخلي في لبنان، وعلى عزلته الخارجية التي رافقتها عزلة دمشق حينها، وكما كان لبنان ساحة نفوذ إقليمية بالنسبة لنظام الأسد، كان لحزب الله، المارد الذي تضخم في لبنان بمساعدة طهران ودمشق، دور ضالع في الملف السوري بدءاً من عام 2011 من خلال مليشيات مسلحة كانت جزءاً من جيش ميليشياتي إيراني أرسلته طهران إلى الأراضي السورية لتثبيت حكم نظام الأسد، ما تحول بعدها إلى عمق لوجستي وأمني للحزب، فيما أضحت الحدود السورية-اللبنانية بعد 2018 بوابة لاقتصاد مواز للتهريب خاصة “تهريب المخدرات”، كما سنرى لاحقاً.
لذلك فإن بيروت ومع سقوط نظام الأسد، تسعى للانتقال من موقع التابع إلى موقع الشريك الحذر، بالاستفادة من التحولات الداخلية والإقليمية، كما سنرى في الفصول القادمة.
ثانيا: المشهد السياسي بعد سقوط نظام الأسد.. مرحلة ما بعد المحاور
غيّر الانهيار في دمشق تموضع بيروت البنيوي من بلد مدار بالارتدادات السورية، إلى جار يسعى إلى بناء علاقة مؤسسية ندية مع السلطات الجديدة. إلا أن هذا التحول الدراماتيكي لم يكن وليد اللحظة، بل كانت له مؤشرات سبقته وأنذرت به.
فقبيل الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثه سقوط نظام الأسد، كانت القوى الإقليمية ذاتها في صراع محتدم على تغيير وجه الإقليم وخرائطه، التي جاءت كاهتزازات صغيرة تحضيراً للزلزال الأكبر، وكلها مؤشرات كانت تقول بشكل واضح أن إقليماً جديداً على وشك التشكل، وسورية ولبنان في قلب هذه العاصفة. المتغيرات الداخلية في كلا البلدين، حرب إسرائيل على قطاع غزة، اغتيال حسن نصر الله، التجاذبات الإيرانية مع العواصم الأوروبية وواشنطن، ومناوشات طهران وتل أبيب، ثم مستقبل محور المقاومة في الشرق الأوسط، كلها ساهمت بشكل غير مباشر في تحريك أحجار الدومينو في دمشق وبيروت.
اغتيال نصرالله.. تفكك المحور الإيراني – السوري – اللبناني
جاء اغتيال الأمين العام الأسبق لحزب الله اللبناني حسن نصر الله كقاعدة ارتكاز للمتغيرات اللاحقة التي ستكتب المعادلة الجديدة للشرق الأوسط. فاغتيال نصر الله، شكّل صفعة قوية للحزب على الصعيد الداخلي، ولمحور إيران على الصعيد الخارجي، وبدأ يتكشف التآكل فيما عرف لسنوات باسم محور المقاومة. المحور الذي مثّل ركيزة أساسية في معادلة التوازن الإقليمي بين الشرق الأوسط والخليج، يؤمن لإيران عمقاً استراتيجياً يصل إلى البحر المتوسط عبر الأراضي السورية واللبنانية. ([1])
كما شهدت هذه المرحلة سلسلة من الانكشاف الإيراني على إسرائيل، إن كان في العاصمة طهران أو في الساحات الرمادية الإيرانية في العراق وسورية ولبنان، والذي أثر على قدراتها العسكرية وقدرتها على إدارة الصراع لصالحها، إذ ترافق مع سلسلة ضربات عطّلت مراكز القيادة والسيطرة وأوقعت فراغاً قيادياً وتنظيمياً نادراً في تاريخ الحزب. نصر الله لم يكن أميناً عاماً للحزب وحسب، بل كان من أهم الشخصيات التي تدير السياسة الإقليمية الإيرانية في لبنان وخارجه. كما نجح وعلى مدار أعوام في تقوية بنية الحزب حتى بات ينظر إليه وكأنه دولة بداخل دولة، كما كان للحزب تحت سلطة نصر الله اليد العليا في تعطيل أي توافق وطني لا يصب أو يخدم أجندة طهران في لبنان.
ما يهمنا في هذا الملف هو أن اغتيال نصر الله “الذراع اللبنانية” لطهران، ومن معه من قيادات الصف الأول من قبل إسرائيل، أثر على بنية الحزب وأضعفها، البنية التي كشفت عن تهالك أصلاً خلال المواجهات مع إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فلم تأت تحركات الحزب ضد الأهداف الإسرائيلية بموازاة الخطابات التي كان يخرج بها نصر الله حين قال إن حزب الله لديه بنك من الأهداف، ولن يكون هناك مكان آمن من صواريخنا في إسرائيل كلها. إلا أن التصاعد لم يصل إلى مستويات التهديد، وبقي محصوراً في مناوشات ضمن قواعد الاشتباك التي لم تغيّر من سير المعادلة شيئا ملموساً. تزامن ذلك مع متغيرات داخلية وخارجية عصفت بطهران، في سعيها نحو إعادة ترتيب مسار علاقتها مع واشنطن والمجموعة الأوروبية، والحرب التي أجبرت على خوضها ضد إسرائيل، وأرادت الخروج منها بأقل الخسائر، ليست العسكرية فحسب، بل السياسية والدبلوماسية.
الحزب بعد اغتيال نصر الله، وجد نفسه فجأة بلا رأس قيادي موحد، وبلا غطاء إقليمي فاعل، وعندما تولى نعيم قاسم منصب الأمين العام خلفاً لنصر الله في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2024، واجه بيئة لبنانية متغيّرة داخلياً، وإقليمية متراجعة النفوذ إيرانياً.
كل هذه المؤشرات كانت بمثابة انتكاسات لمحور المقاومة في الشرق الأوسط، انعكست سلباً على قوة قرار حزب الله في الداخل اللبناني، رغم محاولته مقاومة هذه التأثيرات، إلا أن تأثيره وقدرته على التحكم في القرار اللبناني لم تعد بجميع الأحوال كما في السابق. ([2])
وفي مقاربة متصلة، فإن العلاقة بين دمشق وطهران شهدت تدهوراً ملحوظاً في الأشهر التي سبقت سقوط نظام الأسد، ([3])فالتقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث الإيرانية نفسها تحدثت حينها عن تراجع الثقة بين القيادتين بعد فشل تنسيق الضربات ضد إسرائيل، وانكشاف مخازن أسلحة إيرانية تابعة لميليشيات حزب الله في القصير بفعل الغارات الإسرائيلية المتكررة. هذا الانكشاف أحرج الأسد أمام الإيرانيين، الذين رأوا في إحجامه عن الرد “خيانة لمبدأ الردع” الذي كان يقوم عليه محور المقاومة. ومع تصاعد الضربات الإسرائيلية على خطوط الإمداد القادمة من العراق عبر البوكمال، انقطعت فعلياً شرايين الدعم العسكري التي كانت تصل حزب الله بالسلاح الإيراني عبر الأراضي السورية. الأمر الذي فسّرته الدوائر الإيرانية على أنه تراجع في التزام دمشق بخط محور المقاومة، وميلاً إلى تغليب أولويات البقاء الداخلي على مقتضيات التحالف الإقليمي.([4])
انتخاب جوزيف عون رئيساً
مثّل الفراغ الرئاسي الذي عاشه لبنان بين عامي 2022 و2025 أحد أكثر مظاهر الانقسام الداخلي حدّة، وكاشفاً عن عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي اللبناني. هذا الفراغ الرئاسي لم يكن ناتجاً عن أزمة مرشح، بل عن أزمة نظام وهيمنة حزب بقوة السلاح، بالإضافة إلى غياب التوازن الإقليمي.
فملف الاستحقاق الرئاسي في لبنان، يعتبر من أبرز الساحات التي يتواجه بها المحورين المتقابلين: محور الممانعة بقيادة حزب الله وحلفائه، الذين كانوا يسعون إلى تتويج مرشح يضمن لهم استمرار النفوذ الإيراني، في مقابل محور السيادة والمعارضة الرافضين لمنطق الوصاية والسلاح غير الشرعي، فيما كان يظل النصاب النيابي بين هذين المعسكرين سلاحاً للتعطيل، إذ كانت الجلسات البرلمانية تنهار قبل التصويت الفعلي بفعل الانسحاب المنظم لنواب الكتل الكبرى.
أضفى هذا الانسداد بعداً طائفياً واقتصادياً على الأزمة، فالنظام القائم على المحاصصة الطائفية جعل كل طائفة ترى في موقع الرئاسة حصناً لمصالحها، فيما كانت الدولة تواجه انهياراً مالياً خانقاً منذ 2019، وتعجز عن إقرار الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي. وبهذا، صار غياب الرئيس مرآةً لأزمة دولة تُدار بتوازنات خارجية أكثر من كونها ناتجة عن إرادة داخلية.
وعلى المستوى الدولي، ساهمت التجاذبات بين طهران والرياض في تأخير التسوية من جهة، بينما اكتفت باريس وواشنطن بوساطات محدودة الفاعلية، حيث فشلت المبادرة الفرنسية التي حاولت الجمع بين فرنجية ونواف سلام، وتعطلت الضغوط العربية قبل أن تتبلور صيغة “الخماسية الدولية” (السعودية، مصر، قطر، فرنسا، والولايات المتحدة) كآلية مشتركة لدفع القوى اللبنانية نحو انتخاب رئيس توافقي.
أما ما جعل كل هذا يتلاشى، وكسر حلقة الجمود، فهو المتغيرات التي عصفت بالإقليم على عدة مستويات، من اغتيال حسن نصر الله، إلى انكفاء إيران جزئياً عن المشهد في لبنان، وسقوط النظام السوري. مما ساهم بشكل مباشر في انتخاب قائد الجيش جوزيف عون كخيار وسطي يحظى بدعم عربي وغربي متزامن في مطلع عام 2025، بعد شهر تقريباً من سقوط بشار الأسد. ([5])
الأمر الآخر الذي عد من الإشارات على تراجع نفوذ حزب الله كمكون غير مؤسسي في القرار الوطني اللبناني هو بحذف بند “المقاومة” من البيان الوزاري لتشكيلة نواف سلام الحكومية، خلافاً لما درجت عليه مضامينُ البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام 2000، وهو الأمر الذي يتجاوز بأبعاده الصياغة اللغوية، إلى دلالات أكثر عمقاً. فمنذ عام 2000 كان بند “المقاومة” محورياً في بيانات الحكومات اللبنانية، باعتباره التزاماً رسمياً بدور حزب الله في مواجهة إسرائيل. ([6]) إلغاء البند والتأكيد من خلال البيان على احتكار الدولة لحمل السلاح وتحييد لبنان عن صراع المحاور، يعكس انتقالاً من الاعتراف الرسمي بهذه الوظيفة إلى استبدالها بمفهوم “دولة تمتلك قرار الحرب والسلم وتحتكر السلاح”. بمعنى آخر، يُعيد لبنان صياغة هويته الأمنية بحيث تصبح الدولة ــ لا الميليشيا ــ الضامن. هذا يتوافق مع سياق انتخاب الرئيس عون الذي مثّل تغيّراً في التوازن السياسي لصالح الدولة. ([7])
ثالثا: إعادة التموضع الإقليمي.. من الفوضى إلى محاولات البناء
من خلال ما ذكرناه آنفاً، فإن المحددات التي كانت رافعة لإعادة التموضع الإقليمي لكل من دمشق وبيروت، تلخصت في التحولات الإقليمية التي دفعت بتغييرات داخلية أيضاً. وهنا يتخذ كلاً من البلدين الذين اعترتهما الفوضى، كلٌ بحسب خصوصيته الداخلية، إلى إعادة تعريف دورهما الإقليمي، والتموضع فوق ركام الفوضى إلى محاولات البناء انطلاقاً من مرتكزات مرحلية جديدة. ولقد أظهرت المرحلة الممتدة بين ديسمبر 2024 وأكتوبر 2025 أنّ العلاقات السورية–اللبنانية انتقلت من طور الوصاية والانقسام إلى طور التفاهم الحذر وإعادة البناء. فالطرفان يواجهان اليوم معادلة مركّبة تجمع بين الحاجة إلى التعاون الأمني والاقتصادي، والرغبة في تثبيت السيادة الوطنية من خلال ملفات عديدة، سنلقي الضوء على أبرزها.
- إعادة ضبط الحدود وتبدّل المعادلات الأمنية
في مطلع 2025 تصاعدت التوتّرات على الحدود المشتركة، ولا سيّما في مناطق البقاع–القصير، مع محاولات سورية لإغلاق مسارات التهريب التقليدية التي كانت تحت سيطرة مجموعات مرتبطة بحزب الله، وكانت تستخدم لتهريب السلاح والمخدرات “الكبتاغون”. وقد سجّلت اشتباكات متقطعة أواخر فبراير ومارس 2025 بين وحدات من الجيشين السوري واللبناني ومهرّبين محليين، أسفرت عن مقتل 3 جنود سوريين. ([8])
هذه الأحداث دفعت بكل من دمشق وبيروت إلى توقيع اتفاقية مبدأية بشأن ترسيم الحدود وتعزيز التنسيق بين البلدين، فيما يتعلق بالأمن على طول حدودهما المتوترة. وجاء الاتفاق الذي تم توقيعه برعاية الرياض في آذار/مارس 2025، ليكون أول تفاعل عملي يتم بين العاصمتين الجارتين، وخطوة أولى نحو تسوية شاملة للحدود لم تُحسم منذ عقود. وقد نص الاتفاق على تشكيل “لجان قانونية ومتخصصة” مشتركة، تكون مهمتها توحيد الخرائط الجغرافية القديمة وتحديد النقاط المتنازع عليها، تمهيداً لعرض النتائج على الأمم المتحدة وإيداعها رسمياً كوثيقة ترسيم. كما نص الاتفاق على آلية مراقبة مشتركة بإشراف “الأمن العام اللبناني” و“قيادة حرس الحدود السورية”، بما يضمن منع عبور الأفراد والأسلحة عبر المعابر غير الشرعية..
وتمتدُّ الحدود البرية بين سوريا ولبنان من الشمال إلى البقاع بمسافة تقرب من 375 كيلومتراً؛ حيث يربط بين البلديْن 6 معابر حدودية رسمية؛ منها “المصنع” في البقاع بشرق لبنان، وهو الطريق الرئيسي بين بيروت ودمشق، و ”العبودية” في الشمال اللبناني، وهو يربط لبنان بمحافظة طرطوس السورية، و ”القاع / جوسيه” في البقاع الشمالي، وهو قريبٌ من القصير السورية، ويُستخدم لنقل البضائع والأفراد.
ورغم هذا الترابط الحدودي البري المهم الذي يجمع بين الدولتيْن، إلا أن هناك معضلةً حقيقيةً تواجه قيادتيْ لبنان وسوريا؛ فيما يخُصُّ ضبط الحدود بينهما، والسيطرة على الاشتباكات الحدودية التي لطالما تكرَّرت نتيجةً لتحديات تاريخية وسياسية وأمنية عِدَّة، منها إشكالية ترسيم الحدود، تأزم ملف النازحين واللاجئين نتيجة تداخل الجغرافيا ووجود العديد من الطرق غير النظامية، بالإضافة إلى إشكالية تجارة وتهريب السلاح والمخدرات بين البلدين.
عدا عن أن المناطق الحدودية في لبنان الممتدة في ريف حمص، وما فيها من قرى ذات غالبية شيعية يقطن بعضها لبنانيون، شكلت إضافة لوجستية مهمة لحزب الله، فيما يخص نقل المقاتلين وإقامة مخازن للأسلحة سواء في بيروت أو دمشق، مما عزز من هيمنة الحزب، خصوصا أن نظام الأسد كان مؤيدا وداعما لهذا الوضع. الأمر الذي جعل من منطقة كمدينة القصير في ريف حمص قاعدة أساسية للحزب وعائلات مقاتليه التي نزحت وأقامت فيها بعد أن تم تهجير معظم أهلها منها. ([9)
من سايكس–بيكو إلى اقتصاد التهريب
لا يقتصر ملف ترسيم الحدود على الضبط الأمني للنقاط العمياء على طول الشريط الحدودي، حيث يُعدّ ترسيم الحدود بين لبنان وسورية من أكثر الملفات حساسية منذ الانتداب الفرنسي. فحدود البلدين ظلت مبهمة منذ اتفاق سايكس–بيكو (1916) وتقسيم فرنسا لمناطق نفوذها في المشرق، ثم ترسيم جزئي عام 1934 لم يغطِ كامل الخط الحدودي البالغ 375 كم.
لاحقاً، رفض نظام الأسد الاعتراف الكامل بلبنان كدولة مستقلة، ما أبقى مسألة الحدود معلقة لعقود. أما حزب الله، فقد استفاد من هذا الغموض لتوسيع شبكاته غير القانونية عبر “حدود رخوة” تُستغل لتهريب السلاح والمخدرات والأموال. وتشير التقارير إلى وجود أكثر من 130 معبر تهريب غير شرعي، 53 منها في البقاع الخاضع فعلياً لهيمنة حزب الله.
الغطاء الدولي والإطار القانوني
يعد ملف ترسيم الحدود بين لبنان وسورية أحد أكثر الملفات تشابكاً في الشرق الأوسط، لارتباطه بمسألة السيادة والشرعية الدولية واحتكار الدولة للعنف المنظم، فضلاً عن التعقيدات الجغرافية والاجتماعية. منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شكّل هذا الملف محوراً دائماً للجدل بين مجلس الأمن والأطراف اللبنانية والسورية، بسبب ارتباطه المباشر بوجود الميليشيات غير الشرعية، وعلى رأسها حزب الله، وبمسألة تهريب السلاح والمخدرات التي تشكّل أحد أهم أدوات تقويض الدولة في البلدين.
بعد حرب تموز/يوليو 2006، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1680 الذي طالب دمشق صراحةً بـ“الاستجابة الإيجابية” لطلب لبنان ترسيم الحدود المشتركة وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين. ([10])وقد أتى هذا القرار ضمن رؤية دولية أوسع لإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، ولفرض سيطرة الحكومة اللبنانية على كامل أراضيها وفق مفهوم سيادة الدولة الكاملة. لاحقاً، في أغسطس/آب من العام ذاته، صدر القرار 1701 ليضع إطاراً أكثر شمولاً للسيادة اللبنانية، من خلال تثبيت وقف الأعمال القتالية بين حزب الله وإسرائيل، وتوسيع مهام قوات “اليونيفيل” في الجنوب، مع التأكيد مجدداً على ضرورة ترسيم الحدود اللبنانية–السورية كشرط لضمان تطبيق القرار بالكامل. هذا الربط بين القرارين 1680 و1701 لم يكن تفصيلاً شكلياً، بل تعبيراً عن قناعة أممية بأنّ أمن الحدود الجنوبية لا يمكن فصله عن أمن الحدود الشرقية، وأنّ أي تهريب للسلاح من سورية إلى لبنان يُعتبر انتهاكاً مزدوجاً لكلا القرارين. ([11]) أما القرار 1559 (2004)، فهو المرجعية الأقدم في هذا السياق، حيث نصّ بشكل واضح على وجوب حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وبسط سلطة الدولة وحدها على كامل أراضيها، فيما يرتبط هذا الملف أيضا بسلاح حزب الله الذي سنأتي على ذكره لاحقاً. ([12])
إن سقوط نظام الأسد، يمثّل اليوم فرصة لبيروت لتطبيق القرارات الدولية 1680 و1701 و1559، إلا أن عقدة مزارع شبعا المحتلة من قبل إسرائيل، قد تقف حجر عثرة كبير أمام استكمال موضوع الترسيم، فهي ترتبط بشكل مباشر بدمشق التي لا تعترف حتى الآن بلبنانيتها و تطالب بها كأرض سورية، وبسلاح حزب الله الذي يتخذها ذريعة للحفاظ على ما يسمى بـ”سلاح المقاومة”، على اعتبار أن هناك أرض لبنانية محتلة من قبل إسرائيل. ([13])
ورغم صِغر مساحة المنطقة – التي لا تتجاوز 25 كيلومتراً مربعاً – فإن رمزيّتها السياسية تفوق حجمها الجغرافي بكثير، لأنها تمثل نقطة التقاء بين ثلاث روايات وطنية متضاربة: رواية لبنانية تعتبرها “أرضاً محتلة”، وسورية تراها جزءاً من محافظة القنيطرة، وإسرائيلية تعدّها امتداداً لمرتفعات الجولان التي سيطرت عليها عام 1967.
وفي تقرير الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، الذي تبناه مجلس الأمن في 23 مايو/أيار 2000، أشار إلى أنه لا يوجد سجل دولي رسمي لاتفاق بين لبنان وسورية بشأن الحدود، وأن لدى الأمم المتحدة خرائط لبنانية وسورية عددها 81، تضع جميعها المزارع داخل سوريا. وكذلك، في خرائط “فك الاشتباك” بين سوريا وإسرائيل فإن مزارع شبعا تقع ضمن نطاق عمليات قوات الأندوف (قوات الأمم المتحدة في الجولان). وعليه فهذه المناطق تخضع للقرارين 242 (1967) و338 (1973). وقد أضاف عنان أن هذا الإجراء لا يخل بأي اتفاق قد يود لبنان وسوريا أن يبرماه مستقبلا. ([14])
الرئيس السوري أحمد الشرع، وخلال زيارة مفتي حاصبيا ومرجعيون الشيخ حسن دلي إلى دمشق، رد على تطرق المفتي إلى كون شبعا أرضاً لبنانية وتأكيده امتلاك الأوقاف، نحو 30 مليون متر مربّع داخل هذه المزارع، بأنه في الوقت الحالي لا يمكن لدمشق الحديث عمّا إذا كانت هذه المزارع لبنانية أو سورية طالما أنها لم تتحرّر من إسرائيل، وأضاف قائلا: بعد التحرير سنناقش الأمر، ولكن لن تكون هناك مشكلة بيننا، فإذا ثبتت ملكيتها لنا فهي لكم، والعكس صحيح.([15]) رد الشرع على المفتي اللبناني يترك حسم الموضوع ملتبساً، ويحيله إلى عملية تسوية شاملة للحدود ليس من الواضح نتائجها في الوقت القريب.
الحدود البحرية
لا يقلّ الترسيم البحري حساسيةً عن نظيره البري بين لبنان وسورية؛ فمرسوم بيروت رقم 6433/2011 ثبّت إحداثيات المنطقة الاقتصادية الخالصة لدى الأمم المتحدة، لكنه أبقى الخلاف مفتوحاً مع دمشق التي اعتمدت خطاً مستقيماً يُنتج تداخلاً يقدَّر بـ 750–1000 كم² في الشمال، ما يضع البلوكين 1 و2 اللبنانيين في تماس مباشر مع البلوك 1 السوري، ويُربك جولات الترخيص والاستثمار في شرق المتوسط. بذلك، يتوقف مستقبل الثروات البحرية اللبنانية–السورية على سرعة حسم النقاط الفنية (خطوط الأساس والإحداثيات والخرائط التاريخية) وإقرارها مؤسسياً، إذ إن تثبيت الخطوط البحرية لن يُنتج أثره الاقتصادي والأمني إلا إذا ترافق مع إقفال منافذ التهريب وتحييد الخلافات السياسية التي غذّت النزاع البحري لعقدٍ وأكثر. ([16])
- سلاح حزب الله
لم يصرح أي مسؤول سوري (بحسب اطلاعنا) حول موضوع نزع سلاح حزب الله، ويمكن أن نعتبر أن دمشق تنظر إلى هذا الأمر (من الناحية الرسمية على الأقل) على اعتباره مسألة لبنانية داخلية، إلا أنه ورغم عدم التصريح العلني برغبة الحكومة الجديدة بأن يتم إنهاء هذا الملف، يتخذ هذا الموضوع أهمية كبيرة بالنسبة للأمن القومي السوري، وضمان استقرار سورية الجديدة.
الملف يشكل أحد أكثر التحديات تعقيداً بالنسبة للجمهورية الجديدة في لبنان بعد تراجع النفوذ الإيراني، وتلاشي الوصاية السورية، ولم يعد الأمر مجرد قضية أمنية أو مطلب سيادي لبناني، بل تحول إلى اختبار إقليمي لمعادلات النفوذ. حزب الله تطور خلال العقود الماضية من حركة مقاومة مسلحة إلى منظومة سياسية وعسكرية وخدمية، تمتلك بنى اقتصادية واجتماعية، وماكينة إعلامية وسياسية داخل النظام اللبناني. هذا الطابع المركب، والحشود التي تتبع الحزب والمنظمة ضمن صفوفه في الضاحية أو الجنوب اللبناني، يجعل مسألة نزع السلاح ليست فقط عملية عسكرية تنتهي بعزله عن معادلة القوة، بل تفكيكا لبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية مترابطة.
وقد شهد هذا الملف ضغوطا متصاعدة مع مطلع عام 2025، فالمناخ الإقليمي والدولي، عقب كل ما سبق وذكرناه، دفع بواشنطن إلى القيام بسلسلة زيارات دبلوماسية إلى بيروت أبرزها زيارة المبعوث توماس باراك، الذي قدّم «خارطة طريق» تشترط إصدار قرار رسمي بنزع سلاح الحزب قبل نهاية العام مقابل دعم مالي وانسحاب إسرائيلي تدريجي. وتحت هذا الضغط، أبدى لبنان تجاوباً رسمياً؛ إذ دعا الرئيس جوزيف عون في خطاب له إلى حصرية السلاح بيد الجيش، وتكليف المؤسسة العسكرية إعداد خطة تنفيذية لذلك. ([17])
كما تتوزع الضغوط الخارجية على لبنان بين أطراف متعددة، لكل منها مصالحه وشروطه الخاصة في ملف نزع سلاح حزب الله. فالولايات المتحدة والدول الغربية تربط أي دعم مالي أو عسكري للبنان، بما في ذلك تمويل الجيش وبرامج إعادة الإعمار، بإحراز تقدم ملموس في مسار احتكار الدولة للسلاح، وهو ما أكدته تقارير دبلوماسية أمريكية وبيانات من الخارجية في واشنطن. وفي السياق نفسه، تتابع الأمم المتحدة الملف عن كثب من خلال قوات «اليونيفيل»، إذ قرر مجلس الأمن تمديد ولايتها بشكل نهائي حتى نهاية عام 2026، في إطار خطة انتقالية تُسلّم بموجبها مهام الجنوب تدريجياً إلى الجيش اللبناني، بما يشكّل سقفاً زمنياً للضغط الدولي على بيروت لإثبات قدرتها على بسط سيادتها الكاملة.
أما إسرائيل، فتعتمد مقاربة عملية تقوم على المقايضة الأمنية: تخفيف وجودها العسكري وضرباتها الجوية مقابل ضمان خفض خطر صواريخ الحزب وقدرته الهجومية، فيما تبقى التفاهمات غير المعلنة حول الحدود والاشتباكات جزءاً من هذا التوازن الدقيق. وعلى الجهة المقابلة، تسعى إيران وحلفاؤها الإقليميون للحفاظ على موطئ قدمهم في لبنان، وتعمل على إيجاد قنوات بديلة لإعادة دعم الحزب سياسياً ولوجستياً، ما يعقّد أي مسار لنزع السلاح.
في المقابل، تلوّح دول الخليج والمجتمع الدولي بحوافز اقتصادية ومشاريع إعمار سخية، لكنها مشروطة بقدرة الحكومة اللبنانية على تعزيز سيادتها وضبط السلاح خارج مؤسسات الدولة، ما يجعل بيروت عالقة بين ضغوط المانحين الغربيين والعرب، وممانعة الحلف الإيراني-اللبناني.
هناك عاملان خارجيان متلازمان شكّلا نافذة ظرفية نادرة للدولة اللبنانية:
- إضعاف حزب الله عسكرياً في حرب 2023–2024: المواجهة مع إسرائيل في خريف 2023 وما تلاها أدّت إلى خسائر ملموسة في مخزون الحزب وبُنيه القيادية واللوجستية؛ وهذا الحدث أتاح إضعافاً نسبياً لقدرته العملياتية، مما خلق هامشاً تتسرب منه إمكانية إعادة توازن القوى لصالح الدولة.
- سقوط النظام السوري وقطع «العمق» اللوجستي: انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024 أنهى—على المدى القريب—أحد أهم ممرات الدعم لحزب الله (طرقات إمداد، قواعد خلفية، غطاء سياسي إقليمي). فقد أُضعفت قنوات الإمداد الإيرانية التي كانت تمر عبر سورية، وبذلك فقد الحزب عمقه الإستراتيجي.
مع تلاقي هذين العاملين وازدياد الضغوط الدولية، برزت فرص حقيقية أمام بيروت لتحريك ملف السلاح. لكن ورغم ذلك، وكما ذكرنا سابقاً، فإن التعقيد ينبع من الطبيعة المزدوجة للحزب كقوة عسكرية–اجتماعية متغلغلة في نسيج الدولة والمجتمع، تمتلك مؤسسات مالية وخدماتية تعبّر عن “شرعية موازية”، ما يجعل عملية نزع سلاحه تحدياً يتجاوز المفهوم الأمني إلى بنية اجتماعية–اقتصادية عميقة. كذلك فإن الانقسام الطائفي يجعل أي تحرك رسمي محفوفاً بخطر الانزلاق نحو مواجهة أهلية أو انهيار توازنات الطائفية السياسية. وهكذا يقف لبنان أمام معادلة معقدة: بين فرصة تاريخية لاستعادة سيادته في ظل تراجع النفوذ الإيراني والسوري القديم، وبين مخاطر انفجار داخلي إذا فشلت التسوية في الموازنة بين الردع الوطني ووحدة الدولة. ومن ثمّ، فإن نزع سلاح الحزب لن يتحقق كإجراء تقني أو أمني، بل كجزء من تحول سياسي شامل في بنية النظام اللبناني وتوازناته الإقليمية الجديدة.
بالنسبة لدمشق، فإن حزب الله ورغم انكفائه عن الساحة السورية، إلا أنه لايزال يشكل أحد عوامل التهديد المحتمل للبلاد، نظراً لارتباطه العضوي بإيران، ولتاريخه الطويل في استخدام الأراضي السورية كعمق لوجستي وساحة نفوذ عسكرية. الحزب الذي لا يزال يحتفظ بخلايا وشبكات في القلمون والقصير، ينظر له كتهديد مباشر للأمن القومي واستقرار الحدود الغربية لسوريا، البلاد التي لا تزال تعاني من عدم الاستقرار في الشمال الشرقي وفي الجنوب، ومن خوف مقنع من عودة الفوضى إلى الساحل السوري. عدا عن تقارير وتصريحات من مسؤولين لبنانيين أكدت وجود عدد من فلول نظام الأسد في الضاحية الجنوبية بحماية مباشرة من حزب الله.
كما أن انكفاء دور حزب الله عن السياسة اللبنانية سوف يفتح باباً عريضاً لتفاهمات أوسع بين دمشق وبيروت، الأمر الذي سيختلف جذرياً إذا ما عاد الحزب ليسيطر على مفاصل القرار في لبنان خلال الفترة المقبلة. في المحصلة فإن نزع سلاح حزب الله، هو أحد فصول النهاية الأكثر تأثيراً للنفوذ الإيراني في المنطقة بعد سقوط الأسد. ويمثل سقوط سلاح الحزب بالنسبة للنظام الجديد في دمشق، فرصة حيوية لضمان الاستقرار الداخلي في سورية والإقليمي على الصعيد الخارجي.
لكن ما مدى قدرة الجيش اللبناني على نزع سلاح حزب الله؟
اتفقت بعض الدراسات الأمنية الغربية واللبنانية الحديثة، على أن الجيش اللبناني هو المؤسسة الأكثر احتراماً وشرعية في البلاد، لكن في الوقت نفسه، أدى الانقسام السياسي والمجتمعي على أساس طائفي حال إلى عدم اكتساب هذه المؤسسة نفوذاً كاملاً. وبالمقارنة مع حزب الله، فإن القدرات الميدانية التي كان عليها الحزب قبل عام 2024، كانت أكبر مما هي عليه لدى المؤسسة العسكرية الرسمية، حيث تطور الحزب عبر عقود إلى قوة شبه نظامية ذات بنية قيادية معقدة وامتك قدرات هجينة من الصواريخ الدقيقة ووحدات حرب المدن وشبكات لوجستية متجذرة. أما المقارنة المالية فتظهر فجوة إضافية لصالح حزب الله، حيث بلغ تمويله من قبل إيران سنويا بين 700 مليون و1 مليار دولار بحسب تقديرات لوزارة الخارجية الأمريكية في تقرير صادر عام 2020. ([18]) كما أن هذا التمويل لا يشمل بالضرورة ما يمكن أن يوفّره «اقتصاد الحزب» الداخلي (شبكات تجارية، تحويلات من الشتات، نشاطات غير مشروعة) الذي يصعب قياسه بدقة، لكنه يُضاف إلى الدعم الإيراني العسكري والتقني المباشر.
بينما يعتمد الجيش اللبناني على موازنة الدولة المنهارة عملياً، وعلى دعم خارجي مستمر حصل بموجبه على ما يزيد من 3 مليارات دولار من الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2006 وحتى مطلع 2025. وتشير مقارنة أجرتها مجلة نيوزويك (Newsweek) ([19]) خلال حرب 2023–2024 إلى أنّ حزب الله «يمتلك واحداً من أكبر ترسانات الصواريخ في العالم غير التابعة لدولة»، مع تقديرات تصل إلى عشرات آلاف الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، بينما وصفت قدرات الجيش اللبناني بأنها «تفتقر إلى القوة النارية الثقيلة، ولا تمتلك أسطولاً جوياً أو دفاعاً جوياً فعالاً». وتضيف دراسة نشرها معهد Alma الإسرائيلي للأبحاث في تحليل ميداني عن قدرات الجيش اللبناني أنّه «نشط وفعّال نسبياً في مكافحة المخدرات والتهريب داخل الحدود، لكنه لا يمتلك القدرة ولا الإرادة السياسية لمواجهة قدرات حزب الله العسكرية»، مشيرة إلى أنّ الجيش في العديد من الحالات «يبلّغ عن وجود سلاح لكنه لا يصادره إلا بشكل محدود جداً». كما أن التحدي الأساسي لا يكمن فقط في ضعف الجيش مقارنة بالحزب، بل في كون جزء من الدولة نفسها، بما في ذلك بعض مفاصل الجيش، متداخل مع نفوذ حزب الله.
التقديرات الدبلوماسية والإعلامية تشير إلى أن قدرة الجيش على حلّ محلّ قوات اليونيفيل في الجنوب أو السيطرة الكاملة على الحدود تبقى محدودة من دون العمل على تقوية مقدراته والوصول إلى تفاهمات سياسية داخلية. ([20])
وبالرغم من هذه الفوارق، يظلّ للجيش اللبناني نقاط قوة أساسية:
- الشرعية الدولية
- الدعم الأميركي–الأوروبي المستمر
- الخبرة في مكافحة الإرهاب (نهر البارد 2007، جرود رأس بعلبك والقاع 2017)
- صورته كمؤسسة وطنية جامعة.
لكن حزب الله يحتفظ بتفوّقه في:
- القوة الصاروخية
- الحرب غير النظامية
- الخبرة المكتسبة من سورية
- التمويل المستقل
- شبكات الدعم اللوجستي
- الحاضنة الشعبية
جدول رقم 1 – مقارنة قدرات حزب الله مع الجيش اللبناني
| الجيش اللبناني | حزب الله | الفئة |
| 60–73 ألف عسكري عامل + احتياط إجمالي يقارب 120–160 ألف | 40–50 ألف مقاتل (20 ألف نخبة + 20–30 ألف احتياط) | عدد المقاتلين |
| بين 0.6–0.8 مليار دولار (معظمها رواتب وصيانة) | 700 مليون – 1 مليار دولار دعم إيراني مباشر + اقتصاد موازٍ | التمويل السنوي |
| دبابات M60 وT-55 / مدرعات M113 / مدفعية تقليدية | لا يملك دبابات نظامية لكنه يستخدم مدرعات خفيفة في القلمون ويمتلك راجمات كثيفة | السلاح الثقيل |
| قدرات معدومة تقريباً (لا مقاتلات، لا دفاع جوي فعّال) | مسيرات استطلاع وهجوم + محاولات تطوير قدرات مضادة للطائرات | القوة الجوية |
| صواريخ قصيرة محدودة TOW – قذائف مضادة للدروع | عشرات الآلاف من الصواريخ قصيرة–متوسطة المدى (فجر – بركان – كاتيوشا) | الصواريخ |
| شبه معدوم | صواريخ كتفية – منظومات متوسطة محدودة – خبرة تكتيكية- مسيرات | الدفاع الجوي |
| وحدات محترفة (مغاوير – فوج مغاوير البحر – مكافحة إرهاب) | قوات رضوان – وحدات حرب استنزاف – خبرة في سورية | الحرب البرية |
| شرعية الدولة + دعم غربي رسمي | شرعية فئوية/أيديولوجية، وشرعية “مقاومة” داخل بيئته | الشرعية |
| غير قادر على حرب تقليدية | بنيت عقيدة الحزب بالكامل على مواجهة إسرائيل | القدرة على خوض حرب مع إسرائيل |
| قوية (نهر البارد – داعش على الحدود) | لا يستخدم داخلياً إلا للضغط السياسي | القدرة على فرض الأمن الداخلي |
| شرعية – دعم دولي – مؤسساتية – تكتيكات احترافية | صواريخ – خبرة قتالية – دعم إيراني – بنية سرية | نقاط القوة |
| ضعف العتاد الثقيل – غياب سلاح الجو – الضغط الطائفي | ضعف الشرعية – الاعتماد على إيران – استنزاف اقتصادي | نقاط الضعف |
الخلاصة، أن خطة نزع السلاح المطروحة من قبل واشنطن تراهن على ثلاث مرتكزات:
- إضعاف قدرات الحزب وإعادة تشكيل البيئة الإقليمية، وهو ما تم فعلياً مع سقوط نظام الأسد، وفقدان ممر الإمداد البري المباشر مع إيران، وتزايد عزلة الحزب سياسياً.
- تعزيز قدرات الجيش عبر تمويل وتسليح وتدريب مضاعف، بحيث يستطيع تدريجياً ضبط الجنوب وتفكيك البنى العسكرية غير الرسمية تحت بند القرار 1701. لبنان تسلّم في يوليو/تموز 2025، دفعة مالية بقيمة 15 مليون دولار من قطر لدعم الجيش، كما قدمت واشنطن ضمن مساعيها لنزع سلاح حزب الله مبلغ 230 مليون دولار إلى قوات الأمن. ويشمل قرار التمويل 190 مليون دولار للجيش اللبناني و40 مليون دولار لقوات الأمن الداخلي في محاولة لمساعدة الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية على مواصلة جهودها. أعلن الاتحاد الأوروبي عن إطلاق مشروع جديد بقيمة 12.5 مليون يورو لدعم الجيش اللبناني في قيادة جهود التعافي، وتعزيز الأمن، ومساعدة المجتمعات المحلية في جنوب لبنان على إعادة البناء. وسيُنفَّذ هذا المشروع من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) . ([21])
- معالجة البعد الاجتماعي–الاقتصادي لجمهور المقاومة، بما في ذلك احتمال دمج جزء من مقاتلي الحزب في الجيش أو الأجهزة الرسمية، وهو ما تحذّر دراسات من كلفته العالية على الدولة اللبنانية وقدرتها على الاستيعاب المالي والمؤسساتي. ويعتمد نجاح خطة تسلّم الجيش اللبناني مسؤولية الجنوب على محورين أساسيين: الأول يتعلق بـ قابلية المؤسسة العسكرية لامتصاص آلاف المقاتلين من حزب الله من دون الإضرار بجاهزيتها القتالية أو قدرتها على العمل تحت قيادة موحّدة؛ والثاني مرتبط بقدرة الدولة على إعادة بناء هرم القيادة والانضباط بحيث لا يتحوّل إدماج مقاتلي الحزب إلى “تكتلات داخل المؤسسة نفسها” تُعيد إنتاج الانقسام السياسي داخل الجيش.
عملياً،، ومن خلال المعطيات التي بدأت بالظهور منذ إعلان وقف إطلاق النار على الحدود مع إسرائيل والإعلان عن خطة نزع السلاح، لا بد من الإشارة إلى أن هذه العملية قد دخلت مرحلة شديدة الهشاشة، تتقاطع فيها الضغوط الدولية مع ميزان قوى داخلي غير مستقر، ما يجعل الهدنة القائمة قابلة للانهيار في أي لحظة. فالأزمة اللبنانية لم تعد محصورة بجدل داخلي حول كيفية تطبيق القرار 1701 أو قدرة الجيش على التوسع جنوباً، بل أصبحت جزءاً من هندسة أمنية إقليمية جديدة تتقدم فيها واشنطن بخطة “السلام بالقوة”، وبتحوير “اللجنة الخماسية” إلى لجنة ثلاثية أميركية–لبنانية–إسرائيلية، بما يسمح بفرض مسار نزع السلاح من أعلى، في ظل انسحاب متدرج لليونيفيل. فقد أدّت الخروقات الإسرائيلية المتكررة للهدنة، سواء عبر التفجيرات الميدانية في عيترون أو عمليات بناء الجدار الإسمنتي بمحاذاة الخط الأزرق، إلى تقويض البيئة الأمنية التي يفترض أنّها تشكل إطاراً تفاوضياً لنزع السلاح. وفي الوقت ذاته، تؤكد التصريحات الرسمية اللبنانية، مثل موقف نائب رئيس الحكومة، محدودية قدرة الدولة على تنفيذ الشروط الأميركية المتعلقة بنزع السلاح خلال مهلة زمنية قصيرة، لأسباب ترتبط بقدرات الجيش، وهشاشة البنية المالية للدولة، وصعوبة ضبط شبكات التمويل غير الرسمي المرتبطة بالحزب. ([22])
لوجستياً، حزب الله يمارس “تعطيلاً هادئاً” للخطة عبر إعادة تموضع مسبق يضمن بقاء سيطرته الفعلية على مناطق حدودية يدخلها الجيش لأول مرة منذ عقود. هذه الإستراتيجية، التي تقوم على هندسة الفراغ وتشتيت انتشار الدولة، تعكس إدراك الحزب أنّ الخطر هذه المرة ليس مجرد ضغط إسرائيلي، بل محاولة لبنانية–دولية مشتركة لإعادة تعريف من يمسك بالمجال الحدودي.
أما النظام السوري الجديد، فقد وجد نفسه أمام معادلة معقدة: من جهة، يشكّل تراجع قوة حزب الله وانقطاع الممر السوري – الإيراني فرصة لإعادة بناء سيادته من دون وصاية إيرانية؛ ومن جهة أخرى، يدرك أنّ أي انفجار شامل في الجنوب اللبناني سينعكس فوراً على الحدود السورية، في ظل هشاشة الوضع في دير الزور والساحل. ولذلك، تعتمد دمشق الجديدة مقاربة “الحياد الأمني” تجاه ملف السلاح، إذ تتعامل معه كمسألة لبنانية، لكنها تستثمر في كل تقدم يحد من نفوذ الحزب على حدودها الغربية، باعتبار ذلك ضمانة إضافية لاستقرارها الداخلي. ([23])
- التكامل الاقتصادي بين سوريا ولبنان
لا يمكن مقاربة البلدين بمعزل عن بعضهما إن كان سياسياً وحتى اقتصاديا، لأن مصير كل منهما مرتبط بالآخر ارتباطاً بنيوياً. وبينما تشهد كل من سوريا ولبنان تحولات جذرية في بنيتيهما السياسية، تواجهان أيضا تحديات اقتصادية بعد مرحلة طويلة من الصراع والانهيار، حيث تواجه كل من دمشق وبيروت تحديات متماثلة في استعادة السيادة الاقتصادية، في ظل أنظمة تسعى إلى تثبيت شرعيتها ودمج البلدين في الإقليم. ([24])
في لبنان انفجرت الأزمة الاقتصادية في عام 2019، وبحسب تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني، فإن إجمالي الناتج المحلي الاسمي هوى من قرابة 52 مليار دولار في 2019 إلى ما يقدر بنحو 23 مليار دولار في 2021، وقد أدى استمرار الانكماش الاقتصادي إلى تراجعٍ ملحوظٍ في الدخل المتاح للإنفاق، وانخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 36.5% بين عامي 2019 و2021، كما توقف القطاع المصرفي، الذي فَرض بشكل غير رسمي قيوداً صارمة على حركة رأس المال، عن تقديم القروض أو اجتذاب الودائع.
أما في سوريا فتحاول الحكومة الجديدة إعادة الإعمار من الصفر مثقلة بآثار العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في عهد النظام السابق. هذه التحديات تتطلب إصلاحات هيكلية شاملة في البلاد، وتقديم نموذج تنموي جديد يقوم على تمكين أكبر قدر من أفراد الشعب السوري على العمل والإنتاج وريادة الأعمال، بالإضافة إلى التعاون الدولي والاستثمارات الحقيقية ذات الأولويات الواضحة والمفيدة، لتقديم فرصة نهوض حقيقية للاقتصاد السوري بعد سنوات طويلة من الحرب.
ويرتبط الاقتصادان السوري واللبناني بشبكة مصالح مباشرة، فسورية تُعدّ الممرّ البري الوحيد للبنان إلى العالم العربي، كما تمثّل منفذاً رئيسياً لاستيراد الطاقة والسلع الأساسية، في حين يعتمد الاقتصاد السوري على مرافئ بيروت وطرابلس كمنافذ تجارية بديلة عن موانئه المتضرّرة. كما أنّ المرافئ اللبنانية يمكن أن تتحول إلى مراكز لوجستية داعمة لإعادة الإعمار السوري، بينما يشكّل الاستقرار السوري بدوره ضمانة لتقليل تكاليف الصادرات اللبنانية التي عانت خلال العقد الماضي من ارتفاع كبير بسبب تعطّل سلاسل الإمداد عبر الحدود.
وبلغت صادرات لبنان إلى سورية نحو 370 مليون دولار في 2022 (9.6% من إجمالي صادراته)، فيما دارت صادرات سورية المسجَّلة إلى لبنان حول 130 مليون دولار (أحدث بيانات مقارنة متاحة)، ما يعكس اعتماداً متبادلاً في السلع الأساسية وسلاسل الإمداد البرّية عبر الحدود الشرقية للبنان. كما بيّنت دراسات البنك الدولي أن إغلاق/تعطّل المعابر السورية خلال الحرب رفع تكاليف نقل الصادرات اللبنانية وأضعف تنافسيّتها، ما يجعل ضبط الحدود وتطبيع حركة العبور مصلحة اقتصادية مباشرة للجانبين.
وفي الإطار الاقتصادي أيضاً، فإن ميناء طرابلس يستحوذ على أهمية استراتيجية متزايدة، إذ يبعد نحو 30 كم عن الحدود السورية، ويُنظر إليه كممرّ لوجستي لإعادة إعمار سوريا وبوابة تجارة جديدة للبنان، كما يمتلك إمكانيات تأهيل عالية تمكنه من أن يكون المنفذ البحري الطبيعي للمشروعات السورية ما بعد الحرب، لينظر إلى الميناء بوصفه نقطة انطلاق لإعادة وصل سورية بالأسواق العالمية، ومركزاً محتملاً لوجستياً لتدفق المواد والمعدات اللازمة لعمليات الإعمار، وهو ما يمنح لبنان فرصة نادرة لتحريك اقتصاده المتعثر عبر موقعه الجغرافي وخدماته المرفأية. ([25])
إلى جانب الميناء، برز مشروع إعادة إحياء شبكة السكك الحديدية اللبنانية–السورية الذي أُعيد طرحه رسمياً في عام 2025 كجزء من خطة متكاملة لربط لبنان بسورية والعراق، هذا المشروع يهدف إلى إعادة إحياء الخطوط التي تربط مرفأ بيروت وطرابلس بحمص ودمشق، تمهيداً لتوسيعها لاحقاً نحو بغداد، بما يعيد للبنان دوره كبوابة لشرق المتوسط نحو الداخل العربي. هذا الربط اللوجستي ينطوي على فرص اقتصادية لكل من لبنان وسورية: سورية التي تحتاج إلى ممرّات تجارية لتمويل إعادة الإعمار بعد الحرب، ولبنان الذي يعاني من أزمات اقتصادية ويبحث عن مصادر دخل جديدة.
البنك الدولي وعدد من المانحين الدوليين وجّهوا اهتمامهم إلى تمويل مشروعات البنية التحتية في البلدين كوسيلة لتحفيز النمو وإحياء التجارة، بما في ذلك برامج لدعم مرافئ الشحن والطاقة والربط السككي العابر للحدود. هذه المشاريع تمثل اليوم أحد أعمدة الرؤية الاقتصادية الجديدة التي تربط بين الاستقرار الأمني والنهوض الاقتصادي في المشرق.
أما على صعيد الربط الاستراتيجي والحدودي، فإن تحريك ملفات المرافئ والسكك الحديدية يعزّز مفهوم “العمق الإقليمي للدولة” ويعيد التوازن للعلاقات الثنائية، إذ يصبح لبنان بوابةً لسورية نحو الأسواق الدولية، وتستعيد سورية عبره صلتها بالمنطقة العربية.
الودائع السورية المحتجزة في مصارف لبنان
تمثل الودائع السورية المحتجزة في المصارف اللبنانية ملفاً مالياً شائكاً في المرحلة الانتقالية. فمنذ انفتاح سورية النسبي في العقد الأول من الألفية، توسعت المصارف اللبنانية داخل السوق السورية. وبعد الانهيار المالي في لبنان عام 2019، بقيت ودائع ضخمة – بعضها لأفراد وبعضها لشبكات مرتبطة بالنظام السابق – مجمّدة في المصارف اللبنانية.
حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية، قال في تصريحات صحفية في تشرين الأول/أكتوبر 2025، إن انكشاف المصارف التجارية السورية على لبنان كبير ويزيد عن 1.6 مليار دولار. وكان قد أصدر في وقت سابق قراراً بتكوين مخصص مقابل خسائر انخفاض القيمة المرتبطة بالانهيار المالي في لبنان وتقديم خطط موثوقة لإعادة الهيكلة خلال 6 أشهر. يلزم التوجيه الصادر في 22 سبتمبر/أيلول البنوك بالاعتراف بكامل انكشافها على النظام المالي اللبناني، إذ أودعت البنوك السورية أموالا خلال السنوات الـ 14 الأخيرة.
وتشير التقارير الصادرة عن مصرف لبنان واتحاد المصارف العربية أن الودائع السورية في المصارف اللبنانية شكّلت بين 20 و25% من إجمالي ودائع المصارف اللبنانية قبل أزمة عام 2019.
وقد قدرت تقارير اقتصادية لبنانية غير رسمية حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية بما يتراوح بين 40 مليار دولار و50 ملياراً في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2020.
يقول مصرفيون إنهم لجؤوا إلى لبنان خلال هذه الفترة، ولم تكن لديهم خيارات كثيرة أخرى بسبب العقوبات الغربية، لكن هذه الودائع أصبحت محتجزة عندما انهار النظام المصرفي اللبناني في عام 2019 بسبب سوء الإدارة المالية والأزمة السياسية اللذين استمرا سنوات.
ويحذّر خبراء الاقتصاد من أنّ تسوية هذا الملف ستكون اختباراً لشفافية النظام المصرفي اللبناني، إذ تتوقف معالجته على مدى استعداد الحكومة الجديدة وحاكم المصرف المركزي لإطلاق إصلاحات هيكلية تشمل رفع السرّية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع وفق المعايير الدولية.
رابعا: مشهد العلاقات المستقبلية.. نحو توازن إقليمي أم مراوحة في المكان؟ سيناريوهات المستقبل
بعد عام تقريباً من سقوط نظام بشار الأسد، بدأت ملامح إعادة توزيع النفوذ في المشرق العربي بالتبلور بشكل أوضح. سورية، وعلى الصعيد الخارجي، تحاول حياكة علاقات متوازنة مع بيئتها العربية والإقليمية والدولية، من خلال العزف على التوازنات التي من الممكن أن تستفيد منها في رحلة التعافي السياسي والاقتصادي، رغم حالة التفاؤل الحذر داخلياً، والخشية من توسع رقعة الفوضى في بعض الملفات العالقة.
لبنان حاله لا يختلف كثيراً عن سورية، فهو يعيش اليوم حالة من التجاذبات السياسية والطائفية، والضغوطات الدولية، حيث يحاول الانتقال من دولة تعيش على هوامش الصراعات الإقليمية، إلى طرف فاعل ومتوازن ضمن محيطه الخارجي، فيما يتم طرح مستقبل العلاقة بين البلدين من خلال السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: شراكة سياسية واقتصادية منظمة:
وهو السيناريو الأكثر تفاؤلاً، وذلك في حال نجاح كل من دمشق وبيروت في بناء علاقة ندية قائمة على المصالح المشتركة لا على الوصاية، وبالتالي التوصل إلى صيغة توافقية تذيب الجليد وتقدم فرصة لتكامل تدريجي في الاقتصاد، واستقرار نسبي على الصعيد السياسي، مستفيدة من المشاريع الإقليمية في الطاقة والنقل، كخط الغاز العربي، وربط السكك الحديدية، وتأهيل مرفأ طرابلس. في هذا المسار، يتحول لبنان إلى بوابة اقتصادية لسورية نحو البحر المتوسط، فيما تستعيد سورية عبره اتصالها بالأسواق العربية. تدعم هذا الاتجاه إرادة دولية لتثبيت الاستقرار عبر التنمية، وتمويل مشاريع البنية التحتية بإشراف البنك الدولي والدول العربية المانحة. النتيجة المتوقعة هي نشوء تكامل اقتصادي تدريجي يعيد ترسيم مفهوم “العمق الإقليمي” على أسس مؤسساتية. ([26])
يستند هذا السيناريو إلى مجموعة من العوامل التي تدفع نحوه:
- التحول الداخلي في سوريا بعد سقوط النظام السابق، حيث تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى إعادة بناء شراكاتها على الصعيد الخارجي والانفتاح على محيطها العربي والاقتصادي، مما يجعل لبنان أحد أهم المنافذ الطبيعية، عدا عن أن فرض الاستقرار الداخلي، يحتم على الحكومة أن تحفظ أمنها القومي الممتد إلى الأراضي اللبنانية.
- الرغبة اللبنانية في تنويع الشراكات الاقتصادية، والانفتاح على المحيط العربي من بوابات اقتصادية جديدة كالنقل والطاقة التي تمنح الاقتصاد القدرة على النهوض والتعافي، ويقلل الاعتماد على التمويل الغربي وحده.
- تراجع نفوذ الفواعل الإقليمية غير الرسمية بفعل الضغوط الدولية إذا ما نجحت خطة نزع سلاح حزب الله وقطع التمويل الإيراني له بشكل كامل، مما يسمح للحكومة اللبنانية بإعادة هندسة علاقات طبيعية إقليمية من موقع مؤسساتي لا من موقع فرض توازنات الأمر الواقع التي كانت تمليها طهران على بيروت من بوابة حزب الله والحركات الشيعية الأخرى.
- المصلحة العربية والإقليمية بضمان الاستقرار في الدائرة التي تجمع كل من سوريا ولبنان، مما ينعكس إيجاباً على استقرار المنطقة ككل وتفادي الدخول في صراعات سياسية ومذهبية.
السيناريو الثاني: شراكة وعلاقات مشروطة بالاستقطاب الإقليمي:
وذلك إذا ما فشلت الحكومة اللبنانية في رأب صدع التجاذبات السياسية بين المحورين الإيراني والعربي في الداخل اللبناني، مما ينعكس سلباً على عملية التطبيع الدافئ للعلاقات بين البلدين، ويطرح توازناً هشاً قابلاً للانهيار في أي لحظة. كما يعيد إنتاج منطق “التحكم غير المباشر” تحت غطاء المصالح. ويظل التعاون الاقتصادي محدوداً ومشروطاً بمواقف القوى الدولية، كما تتعثر ملفات حساسة مثل نزع سلاح حزب الله أو ترسيم الحدود، وتصبح عرضة للمساومات أو التأجيل إلى ما لا نهاية.
ويمثل هذا السيناريو احتمالاً وسطا بين التفاؤل والانهيار، مع الحفاظ على أدنى مستويات التعاون بين دمشق وبيروت. وقد تدفع عدة أمور إلى هذا السيناريو من أهمها:
- فشل الحكومة اللبنانية في الوصول إلى صيغة لاحتواء أزمات الانقسام السياسي والطائفي، وبالتالي استمرار الانقسام السياسي الذي يقسّم الموقف من النظام السوري الجديد بحسب الأيديولوجيات المختلفة للمكونات السياسية اللبنانية.
- فشل الحكومة اللبنانية الحالية بالقيام بالحد الأدنى من الإصلاحات المؤسسية، واعتماد سياسة المراوحة في المكان.
- تراجع قدرة الدولة على احتكار القوة واستمرار ازدواجية مؤسسات الأمن ونفوذ حزب الله في مناطق الجنوب والبقاع كمظلة أمر واقع.
السيناريو الثالث: انتكاسة سياسية وأمنية:
ويمثل هذا السيناريو المسار الأسوأ للعلاقات السورية اللبنانية، وذلك في حال فشل الطرفين بشكل كلي في حل الملفات العالقة بينهما، كملف ترسيم وضبط الحدود، وعودة نفوذ المليشيات وتجدد الاضطرابات.
هذا السيناريو قد تدعمه عدة محددات:
أولا: الوصول إلى طريق مسدود بين البلدين فيما يخص الملفات العالقة.
- ملف المعتقلين السوريين في لبنان:
ويبرز ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، ولا سيما في سجن رومية، كأحد أكثر القضايا حساسية في مسار العلاقات السورية–اللبنانية خلال المرحلة الراهنة، إذ تحوّل إلى ساحة تداخل معقّد بين الاعتبارات الإنسانية والقضائية من جهة، والتجاذبات السياسية والطائفية والحزبية داخل لبنان من جهة أخرى.
وكان هذا الملف حاضراً خلال زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى بيروت في العاشر من أكتوبر 2025، ثم زيارة وزير العدل السوري مظهر الويس بعد أيام قليلة، حيث اعتبرت دمشق قضية الموقوفين “أولوية قصوى”، ووصفت أوضاعهم داخل السجن بـ“المأساة الإنسانية”. لكن هذا الاهتمام يقابله تعقيد داخلي لبناني، إذ أشارت مصادر حقوقية وقضائية إلى أن وزير العدل اللبناني، عادل نصار، يعطّل تقدم الملف بدافع حسابات انتخابية مرتبطة بتحالفات محتملة مع “حزب الله”، وبمسعى حزبه “الكتائب” إلى الاستثمار في خطاب الدفاع عن الجيش اللبناني عشية الانتخابات النيابية المقررة عام 2026. ويعكس هذا الواقع إدخال القضية في لعبة التوازنات الداخلية، ما استدعى رئيس الحكومة نواف سلام إلى تشكيل لجنة برئاسة نائبه طارق متري لتجاوز الانقسام داخل الحكومة بين وزارتي الخارجية والعدل.
وتكشف الشهادات الحقوقية أن غالبية الموقوفين السوريين لم تصدر بحقهم أحكام قضائية رغم سنوات طويلة من التوقيف، وأن الاتهامات الموجهة إليهم من قبيل “الانتماء إلى منظمات إرهابية” تعكس توظيف القضاء خلال سنوات الحرب السورية ضد المعارضين لنظام الأسد، ولا سيما أولئك الذين وقفوا ضد تدخل “حزب الله” في سوريا. ويكتسب الملف بعداً إنسانياً مضاعفاً بسبب وضع السجون اللبنانية نفسها، حيث يعاني سجن رومية من اكتظاظ يفوق طاقته بأكثر من ثلاثة أضعاف، ومن تدهور حاد في الخدمات الصحية والغذائية، بحسب تقارير حقوقية لبنانية ودولية.
في المقابل، يتعرض الملف لعرقلة من أطراف متعددة: فـ“حزب الله” بحسب ناشطين ومحامين يرفض تسليم عدد من الموقوفين ممن يعتبرهم متورطين بعمليات ضد قواته أو ضد النظام السوري السابق. وتزداد حساسية الملف في ظل مطالب لبنانية مقابلة موجّهة لدمشق تتعلق بالكشف عن مصير مفقودين لبنانيين أو تورط أجهزة سورية سابقة في عمليات اغتيال تاريخية داخل لبنان.
ولذا، يحذّر حقوقيون من أن استمرار التعامل مع الملف بمنطق سياسي–انتخابي سيقود إلى “دائرة مغلقة” تضر بالعلاقات الثنائية، وقد يفتح الباب أمام دعاوى قانونية مضادة قد تشمل شخصيات لبنانية متورطة في انتهاكات بحق سوريين خلال السنوات الماضية. وبحسب المحامي اللبناني نبيل الحلبي الذي قال في تصريحات صحفية إنه: إذا كان الأمر خاضعاً لإرادة “حزب الله”، فلا شيء يمنع ذوي الضحايا السوريين من الادعاء على قادة عسكريين وأمنيين لبنانيين تورطوا بقتل مواطنين سوريين أو التسبب بمقتلهم، فتدخل عندئذ العلاقات اللبنانية- السورية في دائرة مقفلة. ([27])
- فشل ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية:
كما ذكرنا آنفا، فإن الاشتباكات التي جرت على الحدود السورية اللبنانية في مارس/آذار 2025، كشفت عن أزمة بنيوية عميقة في عملية تنظيم الحدود بين البلدين، حيث تتداخل الجغرافيا بالهويات العشائرية، كما تتشابك السيطرة العسكرية الرسمية مع نفوذ حزب الله وشبكات التهريب. وفي قلب هذه الأزمة المستمرة، تقف ثلاث معضلات رئيسية قد تمنع الوصول إلى صيغة نهائية لضبط الحدود وترسيمها بشكل رسمي:
- غياب خريطة نهائية للحدود بما يشمل مناطق حساسة مثل مزارع شبعا وجرود عرسال، الأمر الذي من شأنه أن يفجر الصراع بين دمشق وبيروت حول أحقية امتلاك أراضي مثل شبعا، كما تسجل خلافات على مناطق في شرق لبنان مثل القموعة، والعديسة، ومناطق في بعلبك الهرمل، بسبب عدم وضوح المعالم الحدودية.
- استمرار نشاط شبكات تهريب السلاح والمخدرات التي ازدهرت في العقد الماضي بتنسيق بين العشائر على طرفي الحدود وحزب الله والفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري في عهد النظام السابق.
- صعوبة ضبط المعابر غير النظامية التي تربط بين البلدين، وتستخدم في العمليات غير الشرعية مثل التهريب، كمعابر منطقة البقاع حيث القاع وعرسال والهرمل، وتستخدم لتهريب المحروقات والمواد الغذائية والسلاح، كما يوجد أيضا معابر في الشمال بوادي خالد وعكار وتستخدم لنقل البضائع والأشخاص. ([28])
الحدود البحرية لا تقل تعقيدا عن الحدود البرية. فقد شكل اتفاق لبنان مع حكومة جنوبي قبرص خطوة تقنية حاسمة في تثبيت حقوق لبنان البحرية عبر اعتماد مبدأ “خط الوسط” المنصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ما سمح بإقفال الثغرة التي استغلتها إسرائيل سابقاً للمطالبة بالخط (1) واقتطاع نحو 860 كلم² من المنطقة الاقتصادية اللبنانية. بحسب بعض الخبراء، في الوقت نفسه، يرى البعض الآخر أن هذا الاتفاق الذي جاء بناء على مفاوضات جرت عام 2007 بين بيروت ونيقوسيا ورفض البرلمان حينها المصادقة عليها، اجتزأت مساحة تقدر ما بين 1600 و5000 كلم² من حقوق لبنان البحرية، التي كان يمكن لبيروت المطالبة بها بحسب ثغرات قانونية يمكن استغلالها لمصلحتها. حيث يعطي مبدأ خط الوسط قبرص الرومية مساحة بحرية أوسع من لبنان.
ويأتي هذا الاتفاق في سياق سباق إقليمي على الطاقة، ما دفع بيروت إلى تسريع تحديد نقاطها الحدودية—من النقطة 23 جنوباً إلى النقطة 7 شمالاً—لتأمين موقع تفاوضي متقدم قبل توسع أعمال التنقيب في المنطقة. غير أنّ التحدي الأعمق يبرز شمالاً، حيث يبقى الترسيم مع سورية رهينة حسابات سياسية وجيوسياسية معقدة، بفعل تداخل السكان والملكية العقارية، وضبابية الخطوط التي رسمها الانتداب الفرنسي، ورفض النظام السوري السابق لسنوات الاعتراف بالترسيم اللبناني المودع لدى الأمم المتحدة عام 2011. كما يزيد المشهد تعقيداً أن دمشق منحت عام 2021 امتيازاً بحرياً لشركة روسية في بلوك يلامس المنطقة الاقتصادية اللبنانية، ما يخلق تداخلاً بحرياً قد يصل إلى 1000 كلم² في حال اعتمدت سوريا خطوطها المفترضة. وتؤكد المعطيات التقنية أن أي ترسيم نهائي يتطلب إما تفاوضاً مباشراً أو اللجوء إلى التحكيم الدولي، خصوصاً أن الخط السوري الأولي يقضم أجزاء من البلوكين اللبنانيين (1) و(2)، وهو ما يمنع انطلاق عمليات التنقيب الفعلي في هذه المناطق إلى حين تسوية النزاع. ([29])
في هذا الصدد، لا يمكن غض النظر عن الموقف التركي الرافض لمصادقة حكومة نواف سلام في الجلسة الحكومية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول على اتفاقية ترسيم حدود لبنان البحرية مع قبرص الرومية، وذلك دون تشاور مسبق مع أنقرة، بخلاف التعهدات التي قُدِّمت للرئيس رجب طيب إردوغان في عهد ميقاتي والحريري. فتركيا التي تخوض صراعاً مركّباً مع قبرص واليونان حول مناطق النفوذ البحرية ترى في تجاوز لبنان لها إضعافاً لدورها في معادلات شرق المتوسط، وقطعاً لسلسلة التنسيق الأمني والسياسي التي بنتها مع بيروت خلال السنوات الماضية.
كما يرى منتقدون للاتفاقية أنه كان بإمكان بيروت وانطلاقاً من مصلحة وطنية خالصة، التشاور بداية مع دمشق لترسيم حدودهما البحرية أولاً، ثم المضي كطرف موحد للتفاوض مع قبرص الرومية، مما يعطي كلا البلدين موقفاً إقليمياً أكثر قوة. أما دمشق فتجد نفسها أمام واقع جديد يضعها في موقع تفاوضي أضعف مع قبرص، لأن اتفاق بيروت مع نيقوسيا يرسّخ عملياً خطاً حدودياً شمالياً (النقطة 7) قبل اكتمال التفاوض السوري–اللبناني. وهذا يجعل دمشق تعتبر الخطوة اللبنانية أحادية الجانب، وقد تُعيق مستقبل أي تفاوض ثلاثي.
وتشير مجمل هذه العوامل إلى أن اتفاقية الترسيم مع قبرص ليست مجرد خطوة تقنية، بل فعل جيوسياسي أعاد ترتيب هوامش النفوذ في شرق المتوسط، وأدخل لبنان في توازنات دقيقة مع ثلاث قوى إقليمية: قبرص اليونانية التي تحاول تثبيت خطوطها البحرية، سورية التي تريد ترميم حدودها بعد سقوط النظام السابق، وتركيا التي تسعى إلى حماية مصالحها البحرية وموقعها السياسي في المشرق. ومن ثمّ، فإنّ الخلاف حول الاتفاقية لا يتعلق بخسارة كيلومترات بحرية فقط، بل بمحاولة لبنان صياغة موقعه في نظام سياسي–طاقوي جديد يتشكل حول الغاز في شرق المتوسط، وسط ضغوط إقليمية متشابكة قد تجعل الترسيم البحري مدخلاً لصراعات أوسع لا لتسوية تقنية كما يُفترض. ([30])
ثانيا: انهيار المسار الأمني – الضغوطات الدولية وتعدد الفاعلين
إن فشل خطة “درع الوطن” لسحب سلاح حزب الله بشكل كامل، وتمكّن الحزب من إعادة تشكيل مقدراته وبناء ترسانته التي دمرتها الحرب مع إسرائيل خلال هذه الفترة، يمكن أن يعيد العلاقات السورية اللبنانية إلى المربع الأول، ويعمق من التوترات الموجودة أصلا بفعل عدة عوامل أخرى.
هذا المحدد، يعد أكثر المحددات التي يمكن أن تنذر بتفجر الوضع مجدداً بين البلدين، خاصة وأن إرث الماضي لا يزال حاضراً وبقوة. فحزب الله يتخذ موقفاً متعنتاً ورافضا لخطة سحب السلاح رغم الضغوط الدولية التي تتصاعد على لبنان، مما قد يؤدي إلى انقسام أهلي ويخلق بيئة أمنية قابلة للانفجار، خصوصاً في الجنوب والبقاع، مما قد يلقي بظلاله على سورية أيضاً.
وقد يظهر أثر هذا السيناريو من خلال عدة نقاط:
- تراجع ملحوظ في مسار تطبيع العلاقات بين البلدين إذا ما تمكن الحزب من إعادة التموضع عسكريا وسياسياً واستعادة قدرته على التأثير في قرارات الحكومة اللبنانية.
- تصبح الحدود بين البلدين مسرحا للاحتكاكات الأمنية المفتوحة، ويتحول حزب الله مجدداً إلى عامل اضطراب إقليمي، يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي السوري.
- عودة شبكات تهريب السلاح والمخدرات.
- ظهور عناصر متطرفة تستغل الفوضى الأمنية لخلط الأوراق.
- تفجر أحداث الساحل السوري مجدداً ، خاصة وأن العديد من المسؤولين عن الأحداث التي جرت خلال الشهور الأولى من سقوط نظام الأسد قد تم تهريبهم إلى الضاحية الجنوبية في بيروت عبر الحدود غير النظامية.
- عودة الوكلاء الإقليميين إلى استخدام لبنان وسوريا ساحة تنافس مثل إيران.
- استغلال إسرائيل لهذه الفوضى والاضطرابات لتوسيع عملياتها داخل لبنان وسوريا بضربات جوية، أو تحركات عسكرية برية بحجة “الأمن الوقائي”.
النقطة الأهم في هذا السيناريو، هو موقف دمشق في ظل الضغوط الدولية المستمرة على لبنان وسورياً لتقليم نفوذ إيران وميليشياتها في المنطقة، حيث أنه وبرغم الدعم الظاهر المقدم إلى الحكومة السورية الجديدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، فإن هذا الدعم مشروط بقدرة النظام الحالي في دمشق من التصدي لنفوذ داعش وإيران، وهو ما عبر عنه المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك، حيث يمكن إذا ما فشل مسار سحب سلاح حزب الله، وعودة التوترات الداخلية إلى لبنان، من الضغط على دمشق لتلعب دوراً في ضبط إيقاع البلاد مجدداً، من خلال العودة إلى نظام الوصاية غير المباشرة الذي كان متبعاً في عهد الأسد الأب والابن من بعده.
هذا السيناريو يندرج ضمن التهديدات المبطنة التي تمارسها واشنطن على بيروت، والتي برزت مثلا في تصريح لباراك قال فيه في يوليو/تموز الماضي: “لبنان يحتاج إلى معالجة قضية سلاح حزب الله، وإلا فإنه قد يواجه تهديدا وجوديا (…) وسوف يعود ضمن بلاد الشام مرة أخرى“. تصريح باراك هذا، وتصريحات غيرها عبرت عن الفكرة ذاتها، وأقرّت بفشل الدولة اللبنانية، تندرج تحت إطار التحذيرات والتهديدات للحكومة اللبنانية للمضي بشكل جدي بموضوع سحب السلاح، أو عودة النفوذ السوري مجدداً. وتنطلق الرؤية الأمريكية من اعتبار أن استمرار وجود الحزب سيشكل تهديداً للأمن القومي السوري، مما يمكن أن يدفع سوريا بالتعمق عدة كيلومترات داخل لبنان أو إقرار نظام وصاية جديد “لا يمكن تحديد ماهيته الآن”، باعتبار أن وجود الحزب على الحدود السورية يهدد استقرارها.
في ضوء تلك المحددات، ما هي الاحتمالات الواقعية لموقف سوريا من هذه القضية؟
- تدخل محدود تحت الضغوطات الدولية قد يشمل مراقبة الحدود وتمشيطها، القضاء على البؤر المخفية التي يمكن ان تستخدم لتهريب السلاح إلى الحزب، منع إقامة مراكز لوجستية للحزب قرب الحدود السورية.
- تدخل أمني في عمق الأراضي اللبناني على غرار ما جرى عقب الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي، إلا أن هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً في الوقت الراهن نظراً لأن الشرعية الدولية والعربية اليوم لا تسمح بذلك، و الجيش السوري لا يزال غير مؤهل، فضلاً عن الرفض اللبناني الواسع لمثل هذا السيناريو. لكن في نفس الوقت لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال في حالة تضخم دور حزب الله مجدداً، ما سيستدعي دعماً دولياً وإقليمياً، بل وحتى إسرائيلياً، لتدخل سوري واسع، بل قد يدعم ذلك رغبة سورية ذاتية في ظل تداخلات سلبية للحزب ما يشكل تهديداً لسورية يستدعي المواجهة بشكل أو بأخر.
- العودة إلى الحياد القلق، مع نأي دمشق بنفسها عن أي صراع لبناني، والاكتفاء بضبط حدودها شكلاً دون قدرة فعلية، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً ضمن إطار هذا المشهد، في حال بقاء أثر الحزب مقتصراً على الداخل اللبناني فقط دون انجراره إلى الأراضي السورية.
الخلاصة
بناءً على تحليل المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية في البلدين، وتقدير موازين القوى الإقليمية المحيطة بكل من سوريا ولبنان، يمكن القول إنّ مستقبل العلاقات الثنائية خلال السنوات القليلة المقبلة سيبقى محكوماً بثلاثة مسارات محتملة تتفاوت في حظوظ تحققها. فسيناريو الشراكة السياسية والاقتصادية المنظمة يبقى المسار الأكثر تفاؤلاً، لكنه يحتاج إلى شروط بنيوية معقدة، أبرزها نجاح الدولة اللبنانية في تثبيت احتكار السلاح، ونجاح دمشق في بناء مؤسسات قادرة على الشراكة، إضافة إلى تجاوب عربي–دولي مستدام مع مشاريع البنية التحتية والتكامل الإقليمي. وبالرغم من أهميته، إلا أنّ إمكانية تحققه على المدى القريب تبقى متوسطة–ضعيفة بسبب هشاشة الوضع الداخلي اللبناني، وحداثة التجربة السياسية السورية ما بعد 2024، واستمرار تأثير الفواعل غير الرسمية في البلدين.
في المقابل، يظهر سيناريو الشراكة المشروطة بالاستقطاب الإقليمي بوصفه الأكثر واقعية في الأمد القصير، كما ينسجم مع نمط التوازنات الهجينة الذي يطبع المشرق منذ عقدين. ويستفيد هذا السيناريو من قدرة دمشق وبيروت على إدارة تفاوض حذر حول مشاريع الطاقة والحدود، دون أن تمتلكا القدرة الكاملة على حسم الملفات السيادية أو الأمنية. لذلك يُقدّر احتمال تحققه بأنه الأعلى واقعياً.
أما السيناريو الثالث، وهو الانتكاسة السياسية والأمنية، فهو الأقل تفاؤلاً لكنه يبقى احتمالاً قائماً على المدى المتوسط إذا تزامنت مجموعة محفزات حساسة: فشل خطة “درع الوطن” في لبنان، تعثر ملف نزع السلاح بشكل يؤدي إلى انقسام أهلي مع إعادة تنامي قوة حزب الله وتدخله في الشأن السوري، أو تصعيد إسرائيلي واسع على الجبهة الشمالية.
وبذلك، يُرجّح أن تتحرك العلاقات السورية–اللبنانية في المرحلة المقبلة ضمن مزيج من الواقعية الحذرة والاستقطاب الموزون، أي بين التنسيق المحدود والتوتر المُدار، مع إمكانية الانفتاح على مسار أكثر مؤسساتية إذا نجحت دمشق في تثبيت استقرارها الداخلي، وتمكنت بيروت من إعادة بناء قدرتها المؤسسية على إدارة القرار السيادي بعيداً عن ضغوط الفواعل المسلحة، وإلا فإن الأمور قد تتجه على المدى المتوسط إلى مواجهة وانهيار أمني لا تبدو احتمالاته منخفضة.
المصادر والمراجع:
[1] – Ghaddar, H. (2024, September 28). What Nasrallah’s death could mean for the Hezbollah network. Washington Institute for Near East Policy.[3] – Chatham House. (2022). How the Captagon trade impacts border communities in Lebanon and Syria.
[4] – Grajewski, N. (2024, December 9). Why did Iran allow Assad’s downfall? Carnegie Endowment for International Peace.
[5] – Todman, W. (2025, January 10). Lebanon finally elects a president [Analysis]. Center for Strategic and International Studies.
[6] – الوكالة الوطنية للإعلام. (2025، 6 نوفمبر). النهار: البيان الوزاري للمرة الأولى: الدولة ولا “مقاومة”… معركة ديبلوماسية لإجلاء إسرائيل عن النقاط الخمس. (الرابط)
[7] – Wechsler, W. F. (2024, September 28). Hezbollah is diminished, decapitated, and in disarray—but still dangerous. Atlantic Council
[8] – 3-Al-Shakeri, H., & Mansour, R. (2024, November 18). How supply chains fuel transnational conflict in the Middle East. Chatham House – Link
[9] – الكرملي، ع. (2025، 11 فبراير). دمشق: “حزب الله” بات يشكل تهديداً على حدودنا. موقع الحل نت.
[10] -United Nations Security Council. (2006). Resolution 1680 (Lebanon–Syria boundary delineation).
[11] -United Nations Security Council. (2006). Resolution 1701 (Ceasefire between Lebanon and Israel).
[12]-United Nations Security Council. (2004). Resolution 1559 (Disarmament of militias in Lebanon).
[13] – Shebaa Farms. (n.d.). In Encyclopædia Britannica.
[14] – United Nations Security Council. (2000). Report of the Secretary-General on the implementation of Security Council resolutions 242 and 338. United Nations.
[15] – أيست نيوز. (2025، 8 يوليو). “طالما لم تتحرّر من إسرائيل”: لا يمكننا الحديث عن المزارع لبنانية أو سورية.. الشرع ورسائل إلى الداخل اللبناني (الأخبار).
[16] – مكداشي، ف. (2025، 8 نوفمبر). «أسرار الغاز وحدود السياسة… ماذا يخفي البحر بين لبنان وسوريا؟». اندبندنت عربية. تم الاسترجاع من https://www.independentarabia.com/node/635529/
[17] – Masters, J. (2025, January 27). Lebanon: How Israel, Hezbollah, and Regional Powers Are Shaping Its Future. Council on Foreign Relations.
[18]–
Hawzah News. (2024).تقرير أمريكي: حزب الله في عام 2024 أقوى وأكبر حجماً وأفضل تسليحاً وأكثر خبرة وتمرّساً سياسياً من 2006.Hawzah News Agency.
[19] –Nieuwsweek. (2024, July 8). Hezbollah’s military: How does it compare to Israel’s forces. Newsweek
[20] – Masters, J. (2025, January 27). Lebanon: How Israel, Hezbollah, and Regional Powers Are Shaping Its Future. Council on Foreign Relations
[21] واشنطن تعتمد للبنان بــ 230 مليون دولار ضمن جهود نزْع سلاح حزب – Middle East Online. (2025, October 3).
[22] – Levornik, Z. (2025, October 5). Hezbollah’s “Resistance” Campaign: We Will Not Give Up the Weapons. Alma Research and Education Center
[23] – Haid, H. (2025, March 26). Hezbollah’s smuggling lifeline: Can Syria’s new authorities cut it off? XCEPT Research
[24] – Arab Center Washington DC. (2025, September 24). Can Lebanon be a hub for Syria’s reconstruction?
[25] – Ghwell, H. A. (2025, September 27). Lebanon could be the key to a mutually beneficial Syrian recovery. Arab News.
[26] – Fattouh, B., & El-Katiri, L. (2015). Lebanon’s gas trading options [Policy paper]. Lebanese Center for Policy Studies.
[27] – عنب بلدي. (2025، يوليو 8). ملف سجناء روحية رهنه “العبّة” السياسية.
[28] – Global Initiative Against Transnational Organized Crime. (2023). Lebanon–Syria border illicit flows mapping.
[29] – Stanič, A. (2019). The challenges facing Eastern Mediterranean gas and how they shape regional dynamics
[30] – (2025, October). خبراء لبنانيون ينتقدون اتفاق الترسيم البحري مع قبرص الرومية. وكالة الأناضول.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.




