تداعيات الأزمة اليمنية على النظام السعودي
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
لم يكن قرار خوض المملكة العربية السعودية لعاصفة الحزم في اليمن، في السابع عشر من مارس 2015م، قرارًا ذا أبعاد استراتيجية خالصة تتعلق بالأمن القومي السعودي في عمق البلاد الجنوبي، وقضية التدافع ضد مشروع الهيمنة الإيراني في العالم العربي والإسلامي؛ حيث كانت له، وفق مراقبين عدة، الكثير من الأبعاد المتعلقة بصراع السلطة الداخلي في المملكة، والذي أخذ مظاهره في أكثر من موقف ومناسبة، مع سعي ولي ولي العهد، ووزير الدفاع، الأمير محمد بن سلمان، لوراثة العرش في البلاد، متجاوزًا عمه، ولي العهد ووزير الداخلية، الأمير محمد بن نايف.
حاول الأمير محمد بن سلمان من خلال التأثير على والده، الملك سلمان، للدفع باتخاذ قرار شن الحرب على اليمن، ضمن تحالف عربي لم يثبت كثيرًا في أرض الأزمة، بعد أن تجاوزت العام ونصف (بدأت في مارس 2015)، وذلك من أجل السعي لتكريس شرعية سياسية تكون ظهيرًا له في معركته الداخلية.
ويدخل ضمن ذلك، طَرْح الأمير محمد بن سلمان لـ”رؤية المملكة 2030″، وبرنامجها التنفيذي للخمسية الأولى منها، والذي عُرف بـ”برنامج التحول الوطني 2020″، وتبنيه لسياسة خارجية أكثر اقتحامًا للقضايا الإقليمية والدولية، على مستوى القوى الكبرى، بما فيها زياراته للولايات المتحدة، والتي بلغت خمس زيارات في العام 2016م وحده.
إلا أن الرياح الجنوبية لم تأتِ بما تشتهيه السفن في الرياض، لكل الأطراف باسثناء الأمير محمد بن نايف ربما؛ حيث إنه، وبعد ما يقرب من عام ونصف العام من بدء العمليات العسكرية في اليمن؛ مُنيت الدبلوماسية السعودية بخسائر سياسية وعسكرية بالمقاييس الموضوعية، أدت إلى نتائج عكسية بدورها على المشروع السياسي للأمير محمد بن سلمان في الداخل السعودي، مع انعكاس الآية، وتحول الحرب في اليمن إلى داخل الأراضي السعودية، في تهديد قاتل للأمن القومي السعودي بأبسط معانيه، وهو وجود تهديد عسكري على هذا النحو، داخل أراضي الدولة نفسها.
وبجانب تعثر العمليات العسكرية في اليمن بحيث ظلت الكثير من مدن اليمن الرئيسية في اليمن خارج سيطرة التحالف الذي تقوده الرياض والقوات اليمنية المدعومة منها على الأرض، والمعروفة بقوات المقاومة الشعبية؛ فقد فشلت مفاوضات الكويت التي استمرت لأكثر من ثلاثة أشهر، في حمل الحوثيين وحلفائهم في حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يقوده الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، على قبول مقترحات كانت الرياض قد قدمتها تتضمن الاعتراف بالحوثيين كشركاء حكم في اليمن.
وقد فرض هذا على الموقف السعودي في مفاوضات الكويت، تكاليف طول أمد الأزمة سياسيًّا وعسكريًّا، فكانوا يريدون من خلال الوفد الحكومي اليمني المفاوض، فرض حل سياسي يحفظ ماء وجه الرياض، ويعمل على انتزاع أية مكاسب من حرب لم تحقق – بالمقاييس الموضوعية – أية مكاسب استراتيجية، ربما باستثناء السيطرة على عدن وبعض مناطق الجنوب والساحل اليمنيَيْن.
وحتى هذه “المكاسب”، كانت جزئية؛ حيث إنها لم تحقق أي شيء مما كانت الرياض قد أعلنته في بداية الحرب في اليمن، في صدد إنهاء الوجود السياسي للحوثيين، واستعادة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية من قبضتهم، وإعادة ما تسميه بـ”الشرعية” ممثلة في الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، إلى ممارسة أدواره الدستورية والسياسية كرئيس للبلاد، من العاصمة صنعاء.
ولا يبدو أن الأمور تسير على النحو الذي كانت تأمله الرياض أو يتوقعه الأمير محمد بن سلمان نفسه؛ عندما صرح لوكالة بلومبيرج في أبريل الماضي، من أن الحرب في اليمن على أبواب نهايتها، وأن الحوثيين يفاوضون للاستسلام(1). فبدلاً من ذلك؛ يمثل الحوثيون خطرًا يوميًّا على الأراضي السعودية، وصلت إلى حد التوغل البري(2)، وشكلوا مع صالح مجلسًا لإدارة اليمن، بينما يستعد البرلمان اليمني لعقد جلساته من جديد للبت في استقالة الرئيس اليمن عبد ربه منصور هادي، التي كان قد تقدم بها في يناير من العام 2015م، ثم تراجع عنها قبيل بدء عملية عاصفة الحزم، في مارس التالي.
وبحسب شهادات عدة من على الأرض في اليمن(3)؛ فإن آخر إنجاز عسكري قد يحسب للقوات الموالية لهادي على الأرض، كان في نَهِم على مشارف صنعاء، في مارس الماضي، وحتى هذه المواقع، قالت مصادر استطلعها الباحث، أن الحوثيين استعادوها قبل وقف إطلاق النار الاسمي الذي أعلن عنه المبعوث الأممي في اليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، في أبريل الماضي، ولم يلتزم به إيٍّ من الأطراف المتحاربة.
هذا الفشل المتوالي، أدى إلى كسر الكثير من المرتكزات التي حاول الأمير محمد بن سلمان، تأسيسها في معركة الخلافة الظاهرة للعيان في المملكة في الوقت الراهن.
في هذا الإطار، تحاول هذه الورقة تقييم أثر الأزمة اليمنية على الداخل السياسي السعودي، وصراعات السلطة، ولاسيما فيما يتعلق بمشروع الأمير محمد بن سلمان، لتأسيس شرعية شعبية وسياسية للقفز في تراتبية هرم نقل السلطة في المملكة(4).
أولاً: التدخل في اليمن و المشروع السياسي للأمير محمد بن سلمان:
تتنوع أشكال التدخل السعودي في اليمن؛ حيث يأخذ العديد من الأشكال السياسية والعسكرية، ويتم من خلال أكثر من مسار:
المسار الأول: من خلال الرياض وأجهزتها الدبلوماسية والعسكرية، وتُعتبر وزارة الدفاع السعودية هي الجهاز الأهم في هذا الصدد؛ حيث تقوم حتى ببعض أدوار وزارة الخارجية التي يقودها الوزير عادل الجبير.
المسار الثاني: يتم من خلال الحلفاء اليمنيين، وهؤلاء ثابت فيهم منذ بداية الأزمة، الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، وبعض القبائل اليمنية ذات التأثير السياسي والانتشار الجيوسياسي على الأرض، ويدعمون ما يعرف بـ”المقاومة الشعبية” اليمنية، وهي قوات قبلية تقاتل إلى جوار ما تبقى من الجيش النظامي مواليًا للرئيس هادي.
وتعود جذور “المقاومة الشعبية” إلى اللجان الشعبية، وهي مجموعات مسلحة من القبائل تم تشكيلها في فترات سابقة على ثورة فبراير 2011م، من أجل مساعدة الجيش اليمني في بعض الأزمات والمواجهات التي وقعت بينه وبين الحوثيين في محافظتَيْ شبوة وعمران، أو تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة في المحافظات الجنوبية(5).
إلا أن تحالفات الرياض السياسية والعسكرية داخل اليمن، عرفت نوعًا من المتغيرات مع بعض الأطراف، بتغير اتجاه الريح السعودية؛ حيث كان من بينهم حزب التجمع اليمني للإصلاح (إخوان اليمن)، قبل أن يغادر الحزب منظومة تحالفات السعودية على الأرض في اليمن(6).
المسار الثالث: هو مسار التحالف العربي، والذي بدأ قويًّا، وكان يتضمن عددًا من الدول العربية تعمل بالفعل في المجال العسكري جوًّا وبحرًا، وبعد ذلك، مع تطور العمليات العسكرية، شاركت بعضها بقوات برية، من بينها مصر، والمغرب، بالإضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، عدا سلطنة عمان.
إلا أن هذا التحالف لم يعد كما كان في بداية عمليات “عاصفة الحزم”؛ حيث أصبح ذو طبيعة إسمية؛ فلم تعُد هناك قوات جوية قطرية أو بحرينية تشارك في العمليات، كما كان الحال خلال العام 2015م، بينما انسحبت الإمارات فعليًّا من العمليات على الأرض(7)، بعد تحققت أهدافها من المشاركة في الحرب، بإبعاد الحوثيين عن عدن وسواحل اليمن الجنوبية، مع إعلان المغرب رسميًّا في يونيو الماضي، عن سحب القوات المغربية المشاركة في التحالف العربي(8).
وتشير هذه التفاصيل عن طبيعة المسارات التي تتحرك من خلالها الرياض في اليمن، وتغير بعضها، وعدم استقرار البعض الآخر في مواقفه، ببعض جوانب الفشل للسياسات السعودية في اليمن، وقد كان الأمير محمد بن سلمان، هو المحرك الرئيسي للأحداث، سواء من قبل أخذ قرار التدخل العسكري السعودي في اليمن، وحتى الآن، ليس بموجب كونه وزيرًا للدفاع؛ حيث إن منصبه هذا يجعله “تنفيذيًّا” فقط، أي أنه ينفذ قرارات قيادته السياسية، ولكن بموجب أنه صانع قرار الحرب الرئيسي في منظومة الحكم في المملكة، وفق تقارير ليست إعلامية فحسب، وإنما رسمية أيضًا.
وفي هذا السياق قال المعارض السعودي المقيم في لندن، الدكتور سعد الفقيه، أن الأمير محمد بن سلمان هو المحرك الأول للحرب في اليمن، وذلك لأنه كان يأمل أن تكون عضيدًا له في سعيه المحموم لخلافة أبيه؛ إلا أنه فشل في ذلك. وأضاف: الحرب في اليمن كانت أحد أهم أدوات الأمير محمد بن سلمان لأجل تعضيد مركزه السياسي في منظومة الحكم في المملكة. وقال تحديدًا: “هذا المراهق (في إشارة إلى الأمير محمد بن سلمان) انزج بالحرب وظن أنه سيقفز بهذه الحرب إلى أعلى عليين في سلم السلطة وفي مركزه التاريخي، فتورط، وانقلبت عليه”(9).
نفس المعنى ذهب إليه الكاتب البريطاني بيل لو؛ حيث يقول في صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، إن قرار محمد بن سلمان بشن الحرب على اليمن “كان مغامرة أراد أن يثبت من خلالها أنه منافس لابن نايف”. وقال إن ولي ولي العهد كان يتطلع إلى “نصر سريع حاسم لتأكيد مكانته كقائد عسكري، يضعه في نفس المكانة مع جده ابن سعود، الملك المحارب (..) ولكن وزير الدفاع السعودي، غفل عن التهديد الحقيقي المتمثل بالقاعدة، وتوجه للحرب في اليمن. وحتى الآن لم تحقق “عاصفة الحزم” أي شيء”(10).
أما الباحث الأمريكي، سايمون هندرسون، مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن، فيشير إلى أن الحرب في اليمن هي “أكثر قضية قد تقضي على المستقبل المهني للأمير الشاب؛ حيث القتال مكلف جدًّا من الناحية المادية، وسيستمر لمدة طويلة من دون أن يأتي بنتائج واضحة”(11).
ورسم “بيل لو” في مقاله صيرورات قوة محمد بن سلمان، خلال فترة حكم والده؛ فيقول أولاً إن قوة الأمير محمد بن سلمان، تنبع من اعتماد والده الملك سلمان عليه، مشيرًا إلى أن والده “غير قادر على التركيز إلا لبضع ساعات في اليوم”.
وقال الكاتب: “لطالما كان ملازمًا لوالده في كل خطوة؛ كلما ارتفع في التسلسل الهرمي للحكم في عائلة آل سعود، داخل النخبة الدينية ورجال الأعمال في السعودية كان من المفهوم جيدًا أنه إذا كنت تريد أن ترى الأب كان عليك أن تقصد الابن أولاً”. وأضاف: “إن قوة بن سلمان ازدادت بعد أشهر قليلة من تولي سلمان بن عبدالعزيز منصبه كملك، إذ تم تعيينه وزيرًا للدفاع، وتولى مسؤولية شركة “أرامكو”، وترأس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يمارس الرقابة على كل وزارة، كما أسندت له مسؤولية صندوق الاستثمارات العامة في المملكة. وعُيِّن وليًّا لولي العهد، بهدف ضمان سيطرته على منافسه محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية”.
ثانيًا: الحرب في اليمن وخلافة محمد بن سلمان.. رؤية أمريكية:
يكتسب التدخل العسكري والسياسي السعودي في اليمن، أهمية كبرى لمشروع وراثة العرش من جانب الأمير محمد بن سلمان، في أكثر من بُعد، بجانب ما تقدم في صدد أنه جزء من عملية صناعة شرعية جماهيرية في الداخل، ضمن منظومة أدوات أخرى، من أهمها مشروع “رؤية المملكة 2030”.
فالتدخل في اليمن، وتحقيق انتصار هناك، من شأنه تزكية الأمير محمد بن سلمان، على المستويين الإقليمي والدولي، كرجل المملكة القوي، وأن وجوده هو الضمانة الوحيدة لعدم تحول السعودية إلى معقل لتنظيمات مصنفة إرهابية أمريكيًّا، مثل “القاعدة” و”داعش”، حال حدوث فراغ في السلطة في البلاد.
فالأزمة اليمنية بتشعباتها المختلفة، وتعقيداتها السياسية والعسكرية على الأرض، أكبر من حدود اليمن، فجزء منها وارتباطها بملف الصراع مع إيران، إذا ما كان قد أحرزت فيها الرياض انتصارًا، وخصوصًا لو كان سريعًا وحاسمًا؛ لكان لذلك أكبر الأثر في تعضيد الموقف السياسي للأمير محمد بن سلمان، وإكسابه شعبية وشرعية غير مسبوقين، في الداخل، وفي المستوى الإقليمي والدولي.
في 16 يونيو الماضي، نشر موقع شبكة “NBC” الإخبارية الأمريكية، تقريرًا أعده كلٌّ من روبرت ويندريم، وويليام إم. أركين، حول الواقع السياسي السعودي ومستقبل الخلافة والحكم، وأرجحية أن يكون الأمير محمد بن سلمان هو العاهل المقبل للمملكة، في ظل تدهور الحالة الصحية لكل من الملك سلمان، وولي عهده، وزير الداخلية، الأمير محمد بن نايف(12).
التقرير حصل على شهادات توضح حقيقة تقارير هيئات الأمن القومي الأمريكية، ومن بينها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية(13)، حول الواقع السياسي للمملكة، ورؤيتهم لمستقبل منظومة الحكم في السنوات المقبلة، وكيف قادت هذه التقارير إلى تحسين الولايات المتحدة من إمكانيات التواصل مع الأمير محمد بن سلمان، تبعًا لما فيها بشأن الواقع الصحي لكل من الملك وولي عهده.
ومن بين الشهادات التي حصل عليها مُعدَّا التقرير، شهادة ضابط سابق في الوكالة، يُدعى بروس ريدل، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، وكان عضوًا في الفريق الانتقالي في إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأولى. ريدل ذكر أن القيادة الأمريكية هي التي وجهت الدعوة إلى محمد بن سلمان للقيام بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة من أجل التعرف عن قرب على الشخصية التي ستعتلي على الأرجح، حسب تقديرات المسؤولين الأمريكيين، عرش ملك المملكة العربية السعودية في القريب(14).
تقرير القناة كشف أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أعدت تقييمًا للوضع الصحي للأمير محمد بن نايف، ووجدت أنه يعاني من وضع صحي “هش”، أو على أقل تقدير أن وضعه الصحي “ليس بالجيد جدًّا”، ويعيش على “المسكنات القوية”، بسبب إصابة لحقت به بعد استهدافه بتفجير انتحاري نفذه أحد عناصر تنظيم “القاعدة”، عام 2009م. وقال كاتبا التقرير إن هذا الوضع يؤكد أن جولة الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة، والتي جرت في يونيو الماضي، “هي في جوهرها زيارة دولة تجري بهدوء”.
ويتخوف الأمريكيون، بحسب التقرير، من أن السعودية تقف أمام مفترق طرق، وأنه لو فشل الأمير محمد بن سلمان في “خططه ومشاريعه وحروبه، سواء الآن، أو بعد أن يصبح ملكًا؛ فإن البديل هو الانهيار، وحدوث حالة من الاضطراب والفوضى تصب في مصلحة الجماعات الجهادية المتطرفة” في إشارة إلى “داعش” و”القاعدة”.
ويقول ريدل أن الكثير من الأشخاص النافذين في الإدارة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية “قلقون من تهور” الأمير محمد بن سلمان، وأشار في هذا الصدد إلى نقطتَيْن، الأولى تتعلق بدوره في انهيار أسعار النفط العالمية؛ حيث إن “كونه قيصرًا اقتصاديًّا، أيد قرار زيادة إنتاج النفط لإغراق الأسواق العالمية به رغم استمرار انخفاض أسعار النفط عالميًّا”. النقطة الثانية تتعلق باليمن؛ حيث أكد التقرير على أن الحرب في اليمن هي قرار محمد بن سلمان، وأنه قد يأتي بعواقب سلبية عليه.
فيقول التقرير الأمريكي المبني على تقديرات استخبارية بالأساس، إن محمد بن سلمان “بادر بعدد من التدخلات المكلفة جدًّا ماليًّا وعسكريًّا في شؤون الدول الأخرى، بما في ذلك إطلاق الحرب في اليمن ضد الحوثيين والموالين للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، الذين تدعمهم إيران”.
وذكر التقرير مخافة الأمر في جزئيتَيْن؛ الأولى أن هذه الحرب تكلف السعودية 200 مليون دولار يوميًّا، والثانية الانتقادات الشديدة التي تُوجَّه للسعودية والتحالف العربي، من جانب مؤسسات حقوق الإنسان، بسبب استهداف أهداف مدنية، مثل المستشفيات والأسواق الشعبية، مما أدى إلى سقوط الكثير من المدنيين، من بينهم أطفال.
وقاد ذلك إلى الأزمة الشهيرة بين الأمم المتحدة وبين الرياض، بسبب وضع اسم التحالف العربي في ملحق تقرير الانتهاكات ضد الأطفال في اليمن، الذي أصدرته الأمم المتحدة قبل عدة أسابيع، وقيل إن السعودية هددت بسحب تمويلها للمنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة، إذا لم يتم رفع اسم التحالف من التقرير.
وبالفعل نزلت الأمم المتحدة على الموقف السعودي، وفي 3 أغسطس الجاري، قال الأمين العام للأمم المتحدة، “بان كي مون”، خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، خُصصت لمناقشة أوضاع الأطفال في ظل الصراعات المسلحة، أنه تم رفع اسم التحالف من ملحق التقرير حول اليمن “بعد دراسة متأنية (..) بانتظار انتهاء عملية المراجعة”.
وخروجًا بالأزمة اليمنية من إطارها الجيوسياسي المحدد بالحدود اليمنية، إلى كونها جزء من الصراع السعودي الإيراني، الذي تأجج في الفترة الأخيرة؛ فإن صناع التقديرات الاستراتيجية الأمريكية أشارت إلى أن محمد بن سلمان بالتبعية، هو أحد أهم “الصقور” الذين يوجهون السياسات السعودية الصدامية مع إيران.
ويشير تقرير ويندريم وأركين في ذلك، إلى أن ولي ولي العهد السعودي كان هو المحرك الرئيسي لقرار تنفيذ حكم الإعدام بحق الناشط الشيعي الشيخ “نمر باقر النمر” وعشرات من النشطاء الشيعيين السعوديين في يناير الماضي، وهو القرار الذي أدى إلى حرق مقار الممثليات السعودية في طهران ومشهد، وتدهور العلاقات الإيرانية السعودية بشكل كبير، وقاد إلى المزيد من الزعزعة للاستقرار المتدهور أصلاً، في منطقة الشرق الأوسط.
وترى الإدارة الأمريكية، في هذا الإطار، إنه وبقطع النظر عن أية “مظاهر تهور” ارتكبها الأمير محمد بن سلمان؛ فإنها تضع في حسبانها أن خلافته قد صارت أمرًا واقعًا. وكانت الزيارة المطولة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في يونيو الماضي، واحدة من أهم الشواهد على صحة هذه المقولات جميعا؛ حيث كثف الأمير محمد بن سلمان من أنشطته في مجال التعاون الاقتصادي ونقل التقنية الحديثة، لإنجاح مسعاه في تثبيت نفسه كوريث للعرش من خلال مسار “رؤية المملكة 2030″، و”برنامج التحول الوطني 2020”.
ولكن فيما يخص الموضوع اليمني في الزيارة؛ فقد حرص محمد بن سلمان على تذكير الأمريكيين بمصالحهم الاستراتيجية في خليج عدن، وأهمية دعم الولايات المتحدة للجهد السعودي في اليمن، سياسيًّا وعسكريًّا(15).
وتذكر تقارير نُشرت عن الزيارة في حينه، إن محمد بن سلمان يدرك أن الأمريكيين على إدراك كامل بصحة ما طرحه عليهم، وهو ما يفسر صفقات السلاح الكبيرة التي وافقت عليها الولايات المتحدة للرياض في الفترة الأخيرة، بالرغم من الانتقادات الدولية التي وصلت إلى مستوى الاتهامات الرسمية، للأداء الحقوقي في اليمن.
ومن بين أهم النتائج التي حققها الأمير محمد بن سلمان، في الجانب العسكري المتعلق بالحرب في اليمن، وارتباطاتها بالملف الإيراني، هو تنشيط اللجان المنبثقة عن قمة “كامب ديفيد” الأمريكية الخليجية، التي عقدت في مايو 2015م، والخاصة بالالتزامات المتبادلة بين واشنطن ودول الخليج في مجال الأمن البحري.
ثالثًا: مظاهر الفشل السياسي والعسكري للسياسات السعودية في اليمن:
حفلت الفترة الأخيرة بمجموعة من التطورات التي تشير إلى فشل الاستراتيجية السعودية في اليمن، على المستويين السياسي والعسكري.
على المستوى السياسي؛ فشلت مفاوضات الكويت التي كانت الرياض تأمل من خلالها أن تحقق اختراقًا سياسيًّا يضمن لها وقف العمليات العسكرية من دون أن يبدو ذلك هزيمةً للمشروع السياسي والعسكري السعودي في اليمن. وعبر أكثر من ثلاثة أشهر استغرقتها المفاوضات، قدمت الرياض أكثر من حلٍّ للأزمة، تضمن بعضها مشاركة كاملة للحوثيين وحلفائهم في حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يقوده الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، في منظومة الحكم في اليمن، في مقابل استبعاد بعض القيادات من حركة الحوثي وحزب المؤتمر، وهو ما رفضه وفد الحوثيين المشارك في مفاوضات الكويت.
وفي المقابل؛ فإن هناك تطورَيْن أساسيَّيْن على المستوى السياسي في الداخل اليمني، رافق الإعلان عن فشل مفاوضات الكويت، وبالتالي إنهاء الرياض للهدنة غير الثابتة التي أعلنها في أبريل 2016، المبعوث الأممي لليمن، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، واستئناف عملياتها الجوية التي لم تحسم أهم المعارك على الأرض، في تعز وحول صنعاء.
التطور الأول هو إعلان الحوثيين والمؤتمر الشعبي العام، عن مجلس أعلى لإدارة اليمن، وحل اللجان الثورية التي شكلها الحوثيون في بداية الأزمة، في 21 سبتمبر 2014م، وإلغاء الإعلان الدستوري الذي تم إطلاقه في تلك الفترة.
أهم ملامح الخطوة، وكان موضع اهتمام كبير في الدوائر الإعلامية والسياسية السعودية، هو أن علي عبد الله صالح، كان ممثلاً لحزبه عند الإعلان عن تشكيل هذا المجلس في الثامن والعشرين من يوليو 2016، وهي أول “اتفاق رسمي” مباشر يتم الإعلان عنه يجمع بينه وبين الحوثيين.
التطور الثاني، هو بدء الكتل البرلمانية في مجلس النواب اليمني، الموالية لصالح والحوثيين، في الدعوة لعقد المجلس للبت في استقالة الرئيس هادي التي كان قد أعلن عنها في الثاني والعشرين من يناير 2015م، وتراجع عنها في الثالث والعشرين من فبراير التالي(16).
انعقاد جلسات البرلمان اليمني يأتي بعد عام ونصف من عدم الانعقاد، وهي خطوة موفقة بالفعل من جانب خصوم الرياض في اليمن؛ لأنها لو تمت بالنصاب اللازم؛ فهي سوف تهدم أحد أهم الركائز الدعائية والقانونية التي تستند إليها الرياض في تدخلها العسكري في اليمن، وهو أن الشرعية القائمة ممثلة في هادي، قد وجهت إليها دعوة للتدخل لإنقاذ الشرعية من الانقلابيين.
وبالرغم من إعلان الكتل النيابية الموالية لهادي إنها لن تحضر جلسات البرلمان، لمنع اكتمال النِّصَاب؛ إلا أنه ثمَّة أمرٌ لافت في البيان المشترك الذي صدر عن الكتل البرلمانية اليمنية؛ حيث أشارت وسائل الإعلام السعودية(17) إلى أنه من بين هذه الكتل المؤتمر الشعبي العام، بجانب التجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب العدالة والبناء، وحزب التضامن، بينما في الأصل؛ أن المؤتمر الشعبي في جبهة واحدة مع الحوثيين.
وحتى تتضح الأمور في هذه الجزئية؛ فإن هناك جهدًا محمومًا من جانب الحوثيين من أجل جمع النِّصَاب اللازم لعقد الجلسات، لدرجة أنه، ووفق شهادات موثوقة (حصل عليها الباحث من بعض الأطراف اليمنية) هناك أعضاء في مجلس النواب اليمني وصلوا اليمن عبر الحدود ومن جهة البحر، من أماكن تواجدهم في جيبوتي التي لجأ إليها الكثير من معارضي هادي والحوثيين على حد سواء، خلال أشهر الأزمة الطويلة، للمشاركة في أولى جلسات المجلس. من أجل “إحياء أول مؤسسة شرعية بعد إلغاء اﻹعلان الدستوري للحوثيين وحل لجانهم الثورية”، وذكرت هذه المصادر كذلك أن الجلسة اﻷولى ستكون بحضور دبلوماسيين من الصين وروسيا واﻷمم المتحدة.
هذه الخطوة لم تحظَ بقبول الأمريكيين؛ حيث عقد السفير الأميركي لدى اليمن، “ماثيو تولر”، اجتماعًا في عدن، مع ممثلي الكتل البرلمانية الرافضة لمحاولة الحوثيين عودة البرلمان لعقد لجلساته من جديد من أجل نزع الشرعية عن هادي. وذكرت تقارير صحفية إن السفير الأمريكي قال إن بلاده ترفض خطوة إنشاء المجلس الأعلى الجديد الذي شكله الحوثيون وأنصار صالح، لإدارة اليمن، وقال إنه إجراء مخالف للدستور اليمني٬ وقال أيضًا إن “دعوة النواب إلى الاجتماع تحت إطار هذا المجلس تعد خطوة تقسيمية”(18).
على الأرض، تأثر الوضع العسكري بهذه التطورات كافة، ولاسيما فيما يتعلق بتراجع الدعم اللوجستي والقتالي للدول العربية الـ11 التي انضمت في البداية إلى التحالف العربي، وتحمُّل الرياض وحدها تقريبًا مسؤولية العمل العسكري، وهو ما يمثل عبئًا مروعًا على الميزانية السعودية المنهكة أصلاً بعجز وصل في العام المالي الماضي إلى 100 مليار دولار.
ولا يمكن الركون إلى تقارير العميد أحمد عسيري الناطق باسم قوات التحالف العربي في الحرب الحالية على اليمن حول واقع الوضع الميداني، فهناك الكثير من الشهادات التي تقول بأن التحالف الذي يدعم هادي على الأرض، لم يحقق أي تقدم منذ أكثر من ستة أشهر.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب والصحفي اليمني، محمود الطاهر: “كانت المهلة التي حددها الغرب للمملكة العربية السعودية هي ثلاثة أيام لترجمة الحديث في وسائل الإعلام إلى واقع، والسيطرة على نهم شرق صنعاء، على الأقل لفرض واقع جديد في المفاوضات القادمة.. انتهت المهلة وما زال التقدم للتحالف على قناة العربية والعربية الحدث والجزيرة والوسائل الإعلامية التابعة للمملكة إلكترونيًّا، ولم يتغير شيئًا عمَّا كانت عليه الأمور قبل تلك المهلة سوى أن هناك قائمة جديدة رحلت روحها إلى السماء بدون أي ذنب سوى أنهم يمنيين وبمباركة يمنيين أنفسهم”(19).
وفي جملة لافتة قالها المفكر الإسلامي، الدكتور حاكم المطيري: “حين يخوض التحالف العربي حربا في اليمن لمدة سنتين بمئات المليارات دون حدوث تغيير سياسي فهي حرب وظيفية من أهدافها تشغيل مصانع الأسلحة الغربية!” (20).
وعبارة المطيري أهميتها في أنه أشار إلى الجانب السياسي؛ حيث الحرب غير مطلوبة لذاتها، وإنما هي السياسة ولكن بوسائل أخرى، فلو لم تحقق الحرب أيٍّ من أهدافها السياسية؛ فهذا معناه أنها فشلت في الإطار العسكري، حتى ولو كان هناك انتصارات تكتيكية أو حتى استراتيجية بالمعنى العسكري الصرف، متحقق على الأرض.
وعلى العكس؛ فإن الموقف العسكري الراهن انتقل إلى تهديد قلب الأرض السعودية ذاتها، وصار الأمر يتم بشكل شبه يومي، أن نسمع عن قصف صاروخي، في بعض الأحيان لا تنجح الدفاعات الجوية السعودية في رصده أو التصدي له، بواسطة بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية الأمريكية الصُّنع، والمخصصة للصواريخ متوسطة الارتفاعات؛ بينما يستخدم الحوثيون والقوات الموالية لصالح، صواريخ منخفضة المدى متوارثة من الحقبة السوفيتية، كانت موجودة في مخازن الجيش اليمني، بالإضافة إلى نوعيات أخرى حصلت عليها قوات صالح والحوثي من إيران بالرغم من الحصار المفروض على اليمن برًّا وبحرًا وجوًّا؛ حيث يتم إيصال السلاح من خلال عمليات تهريب بحرية، أو عبر الحدود البرية الوحيدة لليمن، التي لا يملك التحالف العربي سيطرة عليها، وهي حدود اليمن مع سلطنة عُمان(21).
وفي 30 يوليو؛ قامت مجموعات من الحوثيين وقوات صالح، بمحاولة اقتحام الحدود السعودية، مما أدى إلى مقتل سبعة من رجال الأمن السعوديين(22)، وهي حادثة لافتة، تقول إن فكرة التصعيد العسكري مطروحة بشدة خلال الفترة المقبلة، من جانب خصوم الرياض، في اليمن.. وفي طهران!
رابعًا: أثر هذا الفشل السياسي والعسكري على مشروع محمد بن سلمان:
إن عدم حسم الحرب في اليمن، وطول أمد الأزمة، وإثقالها على موارد الدولة السعودية، مع تحولها من “حرب سريعة وحاسمة” إلى مصدر تهديد لقلب الأرض السعودية؛ كان له أثر كبير على الواقع السياسي للمملكة بالكامل، وبالأولى، على المشروع السياسي للأمير محمد بن سلمان.
فبجانب التداعيات الكبيرة على صورته كرجل دولة، قادر على اتخاذ قرارات الحرب والسلام السليمة، التي تحافظ على الأمن القومي لبلاده ومصالحها الحيوية في الداخل والخارج؛ فإن الانتقادات داخل أوساط آل سعود، وبعض الرأي العام السعودي؛ بدأت تؤثر على سرعة حِراكه في مسألة تكوين شرعية لوراثة العرش، لاسيما مع استمرار الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد، من دون كبير نتائج لبرنامج التحول الوطني إلى الآن.
قاد ذلك إلى ضغوط حقيقية على الملك سلمان، من أجل اتخاذ قرارات حاسمة في الموضوع اليمني، ومن أجل الحد من مستوى “تهور” سياسات الأمير محمد بن سلمان، التي مسَّت الأمن القومي السعودي في كثير من الأمور.
في أكتوبر 2015م، أصدر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، تقدير موقف مهمًّا رصد فيه الواقع الراهن في البيت الملكي السعودي، ودور حرب اليمن في تصدعه. يشير فيه إلى أن هذا الشعور جاء “بسبب المخاوف بشأن تكلفة حرب اليمن، وانخفاض أسعار النفط؛ حيث إن كليهما يرغمان الحكومة على تقليص الإنفاق”(23).
وهي نقطة مهمة؛ حيث إن تقليص الإنفاق سوف يؤثر على رواتب الأمراء ومخصصاتهم المالية الشهرية من عائدات النفط، ولو وضعنا ذلك بجانب قرارات الملك سلمان التي وجه بها الأمير محمد فيما يخص موضوع الأراضي البيضاء [الأراضي التي يتم تسقيعها] ويملك غالبيتها أمراء سعوديون؛ سوف نجد أننا أمام الكثير من أسباب التوتر والقلق داخل الأسرة الحاكمة في المملكة، مع مساس سياسات الأمير محمد بمصالحهم الاقتصادية التي تضمن لهم الاستمرار في حياة الرخاء.
ويوصِّف هندرسون المشهد الراهن في المملكة، بين الأميرَيْن، محمد بن نايف، ومحمد بن سلمان، وفرص كلٍّ منهما في وراثة العرش؛ حيث يقول إن نقطة ضعف محمد بن نايف، هو عدد القتلى الكبير الذين سقطوا خلال موسم الحج الماضي، كما يمكن أن يكون محمد بن سلمان “مستضعفًا بسبب حرب اليمن”،
ويقول عن الحرب في اليمن إنها “مبادرة يبدو أنها لا تزال تتمتع بشعبية في المملكة ولكن يُنظر إليها من قبل واشنطن على أنها مغامرة عسكرية، وعلى كل حال، يبدو أن تحقيق نجاح عسكري ودبلوماسي واضح فيها، هو أمر بعيد المنال”.
وضمن السيناريوهات التي وضعها هندرسون لحسم الانشقاق الراهن داخل الأسرة الحاكمة في السعودية، على خلفية الحرب في اليمن، واستمرار أزمة أسعار النفط، إجبار آل سعود على التنازل عن بعض أو كامل السلطة لصالح كبار الشخصيات العسكرية غير الملكية التي تحظى بدعم القوات التي تحت إمرتها، والتي قد ترى حرب اليمن بأنها عمل أحمق.
ويقول إن تلك الشخصيات قد ضاقت ذرعًا من قلة الخبرة التي تتمتع بها قيادة العائلة المالكة وعدم كفاءتها.
في الجانب الآخر من المعادلة؛ فإن الأمير محمد بن نايف لا يقف في موقف المتفرج، وإن كان أكثر ميلاً إلى الصمت الإعلامي وعدم الظهور السياسي، بحكم طبيعته الشخصية المتعارف عليها، وطبيعة عمله في المجال الأمني لسنوات طويلة. فالأمير محمد بن نايف، يعمل على تدعيم مركزه السياسي من خلال قدرات القوات التي تحت إمرته. حيث عمل على تدعيم القوات التابعة لوزارة الداخلية، ومن بينها قوات حرس الحدود، بقوات بحرية وأخرى نوعية في مجال القوات الخاصة، مع تحسين مستوى التسليح الفردي والدروع التي تمتلكها، بحيث صارت أقرب إلى مستوى القوات المسلحة النظامية(24).
وقوات حرس الحدود التابعة لوزارة الداخلية السعودية، هي قوات مسلحة كاملة التسليح، باعتبار مهمتها في حماية حدود البلاد، وفي الدول الأخرى؛ فإن هذه النوعية من القوات؛ تكون تابعة لوزارة الدفاع أو القيادة العامة للقوات المسلحة وتأخذ أوامرها من رئاسة الأركان العامة، ولكن في حالة السعودية هي تابعة لوزارة الداخلية.
ويعود هذا الأمر؛ إلى طبيعة المملكة الطبوغرافية والديموغرافية؛ حيث إن المملكة بلد شاسع بالنسبة لعدد المدن وتوزيع السكان فيه، وهو ما يتطلب أن تنتشر قوات حرس الحدود داخل البلاد، في المناطق الواسعة الواصلة بين كل مدينة وأخرى، وكل تجمع حضري أو صحراوي وآخر، وهو ما كان في حال تبعية هذه القوات لوزارة الدافع؛ أن يجعل هناك تداخل في عمل الجيش السعودي مع وزارة الداخلية في مهام تأمين البلاد من الداخل.
هذا بجانب نقطة شديدة الأهمية عملت على إضعاف الجيش النظامي السعودي، الذي هو مصدر قوة الأمير محمد بن سلمان في الوقت الراهن، وهي أن الجيش النظامي كان القوة الثالثة في اهتمام القيادة السعودية، بعد الحرس الوطني ووزارة الداخلية.
فبسبب طبيعة النظام السعودي، فقد تم تأسيس الحرس الوطني، وهو الأقوى تجهيزًا وتسليحًا، لحماية النظام من أية محاولات للسيطرة على السلطة من جانب القوات النظامية، فهو قوة مسلحة مؤدلجة وليس مجرد مؤسسة أو جهاز عسكري محترف، وأقرب نموذج له في الإقليم، هو الحرس الثوري الإيراني مع فارق التجهيز والتسليح بطبيعة الحال.
وكرس ذلك وجود الأمير ثم الملك بعد ذلك، عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، على رأس هذه المؤسسة لمدة قاربت الخمسين عامًا؛ حيث عمل على جعلها حرس حقيقي للنظام السعودي ضد أية محاولات للتمرد.
في المقابل، فإن ظروف البلاد الأمنية خلال سنوات ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ومن قبلها سنوات ما بعد غزو العراق للكويت، وأزمة النظام السعودي مع التيارات الدينية المتشددة التي رفضت قرار مرابطة قوات أجنبية على أرض الحرمَيْن؛ دعم من أهمية وزارة الداخلية والتي حازت الكثير من الاهتمام في التمويل والتسليح والأفراد.
وهو ما كرسه وجود أمير بقوة الوزير الراحل، الأمير نايف بن عبد العزيز، الذي عمل على جعل وزارة الداخلية هي الحصن الحصين لأمن النظام، وذلك من خلال تأمين هذه المساحة الواسعة من الأرض التي يحكمها النظام السعودي. وطيلة هذه العقود الماضية، حرص ملوك السعودية الراحلين على تحقيق التوازن بين الجهازين، فيما ظل الجيش النظامي السعودي في منأى عن هذا كله.
وقد ظل الأمير محمد بن نايف طيلة الفترة الماضية بمنأىً تمامًا عن الجدل حول موضوع وراثة العرش، والصراع الخفي بينه وبين الأمير محمد بن سلمان، ليس بسبب عائق صحي؛ حيث إنه يقوم بواجباته كوزير للداخلية على الوجه الأكمل، مهما كان الانفلات الحاصل في بعض الأحيان، مثل هجمات المسجد النبوي، ومشكلات موسم الحج الماضي؛ حيث يبقى أداء أجهزة الداخلية السعودية، جيدًا بالمقياسَيْن الموضوعي والإحصائي، في ظل الظروف الداخلية والإقليمية الراهنة.
إلا أن الأقرب للصواب، هو أن الأمير محمد بن نايف، قد توقع الفشل الراهن في اليمن، وعدم قدرة الأمير محمد بن سلمان على إدارة الملف، في ظل ضعف خبرته، وكونه قد تصدى لملف مرتبط بإيران، وهي دولة قوية في المجالَيْن الأمني والعسكري والسياسي، ولها خططها وخبراتها القديمة في مثل هذه النوعية من الصراعات.
فاكتفى بتدعيم قوات وزارة الداخلية، مع ترك الأمور تتفاعل في منطقة الحدود الجانبية بحكم عدم الاختصاص، بمنطق “دعه؛ وسوف يفشل وحده”، وهو منطق متعارف عليه في مثل هذه الحالات من الصراعات الداخلية، في مثل هذه الأنظمة.
خلاصات واستنتاجات:
1ـ إن الفشل المتحقق في اليمن في الوقت الراهن، سياسيًّا وعسكريًّا، قد قاد إلى أزمة بالنسبة للأمير محمد بن سلمان، مع وجود ضغوط من أمراء الأسرة الحاكمة على الملك سلمان، من أجل وقف النزيف السعودي في اليمن، مع إجماع عدد من الأوساط التي تصدت بالتحليل والمعلومة للموقف الراهن، على أن قرار البدء في حرب اليمن، كان قرارًا غير دقيق. حتى الأمريكيين الذين تعاملوا مع الموقف بمنطقهم البرامجاتي، وقبولهم فكرة أن محمد بن سلمان هو الخليفة المحتمل للملك سلمان؛ يرون ذات الرأي كما تقدم.
2ـ إن الفشل يقود إلى أزمة بنفس مستوى المكاسب التي كان يمكن أن تتحقق في حالة النجاح، فكما كان النجاح في الحرب في اليمن سوف يجعل الأمير محمد بن سلمان قادرًا على فرض نفسه كملكٍ للبلاد؛ فإن الفشل قد يطيح به، وخصوصًا لو مات والده، وهو لم يزل بعد وليًّا لولي العهد؛ حيث قد يتم استبعاده تمامًا من منظومة الحكم من جانب “الملك” وقتها، محمد بن نايف.
3ـ إن تفاقم أزمة المشروع الذي بدأه الأمير محمد بن سلمان في اليمن بسبب أمرَيْن؛ الأول هو تفاقم الوضع الأمني داخل مناطق الحدود الجنوبية للمملكة، والثاني هو بدء إجراءات لنزع الشرعية عن الرئيس هادي. وحتى لو لم تعترف كل الكتل البرلمانية اليمنية بقرار مثل هذا قد يفرضه الحوثيون في البرلمان اليمني؛ فإنه سوف يزعزع كثيرًا من الموقف السياسي الداخلي الداعم للتدخل السعودي في اليمن، في كل من اليمن، وفي السعودية نفسها. وهي النقطة التي فرضت الخريطة الموجزة التي تم ذكرها في صدد مسارات التدخل السياسي والعسكري السعودي في اليمن. فعلى أقل تقدير؛ فإن السعودية سوف تخوض الحرب بدعم أقل سياسيًّا وعسكريًّا من حلفائها في الداخل اليمني، وفي الإقليم، وهو ما يعني حرب استنزاف حقيقية، طويلة المدى، فيما يحقق خصوم الرياض أهدافهم في اليمن، وفي مناطق أخرى من الإقليم، ولاسيما سوريا، بعد التحولات الأخيرة من جانب تركيا.
4ـ إن الأمور في صيف العام 2016م، مختلفة تمامًا بالنسبة للأمير محمد بن سلمان، ومشروعه في اليمن، عنها في ربيع العام 2015م، ويبقى هنا السؤال: هل تتحقق مخاوف الأمريكيين من أن يقود ذلك “التهور” إلى انشقاق في الأسرة الحاكمة، وسقوط السعودية في فوضى تسمح لـ”داعش” أو “القاعدة” بالحصول على موطئ قدم في هذه الرقعة من الأرض ذات الأهمية الاستراتيجية؟!..
التطورات المستقبلية فقط هي التي سوف تجيب على هذه التساؤلات، ولكن، ومن خلال تجارب حالة تاريخية سابقة؛ فإن الأمريكيين لن يتوقعوا مثل هذا الانشقاق، ومثل هذه الأزمة؛ إلا لو كان لديهم معلومات أكبر وأعمق مما يتم نشره وتسريبه! (25).
————————
الهامش
(1) كشف أن وفداً يمثل الحوثيين يجري مفاوضات في مدينة سعودية حدودية مع اليمن.. محمد بن سلمان: الحرب في اليمن تقترب من نهايتها، “العربية.نت”، 3 أبريل 2016م، الرابط
(2) في 30 يوليو الماضي، أعلنت القيادة العسكرية لقوات التحالف التي تعمل في اليمن، أن القوات السعودية تصدت لمحاولات اختراق قامت بها ميليشيات الحوثي، بالتعاون مع أنصار صالح، وأدى ذلك إلى اشتباكات أسفرت عن مقتل ضابط وستة جنود سعوديين.. للمزيد طالع: استشهاد ضابط و6 جنود ومقتل عشرات «الحوثيين» في محاولة لاختراق الحدود السعودية، “الحياة” اللندنية، 31 يوليو 2016م، (الرابط)
(3) بجانب المصادر الموثَّقة ذات المصداقية، اعتمد الباحث في منهجية البحث على استقصاء قام به وحصل بموجبه على شهادات أوساط يمنية وسعودية، ومصرية مقيمة في كل من اليمن والسعودية، لاستيضاح أكبر قدر ممكن من الحقائق حول الواقع على الأرض في اليمن، في ظل اعتماد الإعلام السعودي وبعض وسائل الإعلام الأخرى اليمنية الموالية، على بعض المبالغات في تصوير “التقدم” الحاصل على الأرض، وإخفاء ما يتعلق بتراجعات السياسة السعودية في هذا الصدد، ولضمان سلامة هذه الشهادات، قام الباحث بمضاهاتها مع مصادر أخرى مُحكَّمة وإعلامية عربية وغربية، بعيدة عن هذه التأثيرات الموجَّهة قدر المستطاع.
(4) يُقدم المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية قراءات معمقة حول تطورات الأزمة اليمنية، ونظرة صانع القرار والرأي العام من خلال رصده الأسبوعي للإعلام السعودي، كما قدم كذلك، أثر التطورات الداخلية والإقليمية، ولاسيما الأوضاع في دول الأزمات في المنطقة، على المشهد السياسي السعودي، في أكثر من ورقة في هذا الصدد.
(5) دور المقاومة الشعبية اليمنية، تقرير لقناة “الجزيرة”، 26 أبريل 2015م، (الرابط). وطالع كذلك: المقاومة اليمنية.. من الدفاع إلى التحرير، “الجزيرة.نت”، 6 أغسطس 2015م، (الرابط).
(6) للمزيد حول التجمع وعاصفة الحزم: التجمع اليمني للإصلاح يعلن تأييده عاصفة الحزم، الجزيرة.نت، 3 ابريل 2015م، (الرابط). وطالع كذلك: جمال الدين أبو حسين: حزب التجمع اليمني للإصلاح.. وعاصفة الحزم، موقع “السياسة الدولية”، 17 مايو 2015م، (الرابط)
(7) في يونيو الماضي صدرت تصريحات متضاربة عن مسؤولين إماراتيين، من بينهم وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، بشأن انسحاب الإمارات من العمليات العسكرية في اليمن، ثم عاد وزير الخارجية، عبد الله بن زايد لنفي ذلك، ولكن الوقائع التي تلت حديث قرقاش، على الأرض في اليمن، أكدت عدم مشاركة الإمارات في العمليات العسكرية فعليًّا، بالرغم من إعلان ابن زايد عن استمرار مشاركة بلاده فيها. للمزيد في ذلك: عطوان يكشف عن الأسباب الخفية وراء انسحاب الإمارات من تحالف “عاصفة الحزم”، “بديل”، نقلاً عن “رأي اليوم،” 17 يونيو 2016م، (الرابط). وطالع أيضًا: مؤشّرات انسحاب الإمارات من اليمن وانتهاء المشاركة في التحالف العربي، “الصباح الجديد”، 28 يونيو 2016م، (الرابط)
(8) السبب الحقيقي.. في انسحاب القوات المغربية من تحالف العدوان على اليمن، “يمني برس” نقلاً عن صحيفة “الصباح” المغربية، 22 يونيو 2016م، (الرابط).
(9) د. سعد الفقيه: محمد بن سلمان مراهق ورط نفسه في حرب اليمن، مقطع مصور على قناة “شؤون عربية” على موقع “يوتيوب”، 12 يونيو 2016م، الرابط
(10) الإندبندنت: محمد بن سلمان عدواني وأخطر رجل في العالم، موقع “العالم”، 10 يناير 2016م، الرابط [نشر المقال مصادر أخرى غير إيرانية]
(11) باحث أمريكي: بن سلمان أراد حرب اليمن جسرًا إلى “العرش” لكنه قد يفقد كل مستقبله، مرصد “الجديد برس” اليمني، 10 يناير 2016م، الرابط
(12) تقرير أمريكي يتحدث عن تدهور صحة محمد بن نايف ويرجح كفة بن سلمان!، “روسيا اليوم”، 18 يونيو 2016م، الرابط
(13) من بين مهام الوكالة، الحصول على عينات طبية من ساسة وقادة العالم المهمين في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية وغير ذلك، ودراسة حالتهم الصحية، وبناء تقديرات موقف حول مستقبل دولهم أو مؤسساتهم أو الكيانات التي يترأسونها أو من المرجح أن يكونوا من صُنَّاع القرار فيها، والشخصيات المرشحة لخلافتهم، وغير ذلك مما يفيد صانع ومُتَّخِذ القرار الاستراتيجي الأمريكي، وهناك حالة شهيرة لخطأ وقعت فيه الوكالة يتعلق بالحالة الصحية للزعيم الكوبي، فيديل كاسترو؛ حيث أشارت تقارير الوكالة في الستينيات، إلى أنه لن يعيش طويلاً، وبناء عليه رسمت الولايات المتحدة سياساتها على أساس أن معارضيه سيعودون إلى الحكم “قريبًا” بعد وفاته، وعدم وجود بديل كاريزمي يوازيه، وكان أن عاش كاسترو وحكم بعد ذلك أكثر من أربعين عامًا!
(14) زار الأمير محمد بن سلمان الولايات المتحدة خمس مرات خلال العام الحالي.
(15) أبعاد زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن، “روسيا اليوم”، 19 يونيو 2016م، الرابط. وطالع أيضًا: عبد العزيز صالح بن حبتور: حرب اليمن وزيارة الأمير محمد بن سلمان المطولة لأمريكا، “هوا اليمن”، 25 يونيو 2016م، الرابط
(16) الرئيس هادي “يتراجع عن الاستقاله ويمارس مهامه من عدن”، “بي. بي. سي”، 23 فبراير 2015م، الرابط
(17) البرلمان اليمني يرفض دعوة الانقلابيين للاجتماع بصنعاء، “المدينة” السعودية، 12 أغسطس 2016م، الرابط
(18) ترأس اللجنة البرلمانية التي التقت السفير الأمريكي، نائب رئيس مجلس النواب اليمني، محمد علي الشدادي، وذكر أنهم قد طالبوه بممارسة بلاده ضغوط سياسية على الأطراف اليمنية، ومن يدعمونها لوقف هذه الخطوة، للمزيد طالع: رئيس تكتل نواب الشرعية يؤكد أن الميليشيات لن تحقق «النصاب» إلا بالتزوير.. برلمانيون يمنيون: واشنطن أبلغتنا رفضها مجلس الانقلابيين السياسي، “أخبار اليمن”، 12 أغسطس 2016م، الرابط
(19) الرابط
(20) الرابط
(21) السلاح الإيراني يتدفق على اليمن لإسقاط المسار السلمي، “العرب” اللندنية، 6 أبريل 2016م، الرابط
(22) استشهاد ضابط و6 جنود ومقتل عشرات «الحوثيين» في محاولة لاختراق الحدود السعودية، “الحياة” اللندنية، 31 يوليو 2016م، الرابط
(23) سايمون هندرسون: الشقاق الملكي في بيت آل سعود، 16 أكتوبر 2015م، الرابط.
(24) ولي العهد يرعى تمرين «طوفان 6» في جدة، “الرياض”، 30 مارس 2016م، الرابط
(25) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.