قلم وميدان

مصر بين التحديات الاقتصادية وسندان لورانس العصر

نبهنا مرارا إلى الدور المشبوه الذي يمكن أن يقوم به توني بلير بوصفه مستشارا لهيكلة المنظومة الاقتصادية في مصر وهو الملاحَق في عدد من البلدان في قضايا جرائم الحرب في العراق، ومع ذلك لايزال يلعب اليوم دورا محوريا في رهن الاقتصاد المصري لفائدة الدائنين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي.

لقد أعلنت الحكومة المصرية، وبعد ساعات من زيارة بلير لها – موافقتها على شروط صندوق النقد الدولي وتوقيع الاتفاق الذي تتحصل مصر بموجبه على 12 مليار دولار، رغم تعطل المفاوضات خلال الأسابيع الماضية، وقد أصبح واضحا للمتابعين توجيه “بلير” للسياسات الاقتصادية في مصر خلال الأشهر الماضية، وبأن الرجل أصبح يلعب فعلا دورا مشبوها وخطيرا وجب التنبه اليه أكثر حتى لا يدمر مصر واقتصادها، وثروات أجيالها كما فعل ذلك مع بوش في تدمير العراق وقتل مئات الآلاف وتسليمه للجماعات الطائفية وعصابات الفساد المحلية والافليمية.

الرجل مُتهم أمام برلمان بلاده بالتضليل والكذب ويداه مخضبتان بدم الشعب العراقي، كما أنه متابع هو وبوش في عديد من لبلدان الأوروبية والآسوية بتهم الابادة وجرائم الحرب، وما نراه اليوم هو أن بلير ينسق مع الحكومة المصرية من أجل اقتراض واحد وعشرين مليار دولار هي بالتأكيد ليست في صالح فقراء مصر والطبقة الوسطى فيها وستفقد مصر جزءا هاماً من سيادتها على القرار في تحديد سياساتها المالية والاقتصادية والتوجهات السياسية التي سيساهم فيها بلا شك “رعاة الاتفاقيات”.

يجب أن نذكر هنا أن مصر هي الدولة العربية الأكبر ومن المفترض أن تكون هي الحاضنة الطبيعية لأي مشروع في المنطقة، سواء كان وطنياً مقاوماً أو مشروع تسوية وسلام أو إعادة ترتيب للمنطقة أو خضوع واستسلام. لكن الحالة التي وصلت إليها أرض الكنانة اليوم تبعث على الحيرة والتساؤل عن المآلات والمسارات الممكنة في ظل استماتة القوى المعادية، وفي مقدمتها قادة الاحتلال الصهيوني في الدفاع عن نظام المشير عبد الفتاح السيسي، وتخويف الغرب من تبعات انهياره.

لقد تزايدت في الآونة الأخيرة ردود الأفعال، وخاصة مع تراكم المشاكل والصعوبات (مقتل ريجيني والتقارير الدولية حول الانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان وأخرى حول الفساد وغياب الشفافية) ومما زاد من تسليط الأضواء هو مواصلة مسرحية المحاكمات والتسريبات التي يقوم بها موظفون ودبلوماسيون تصب كلها في خانة غياب المشروع الجامع وبدء عمليات الخلاص الفردي.

لقد كثر الحديث مع حلول الذكرى الأولى “لتفريعة قناة السويس” عن الخيارات التي انتهجتها السلطات، وبدا جلياً ذلك التخبط في الخيارات وإعلان السلطات السويسرية عن رغبتها الملحة في حلحلة ملف الأموال المصرية المنهوبة لديها، وتزايد التجاهل الدولي لصناع القرار في مصر.

ثم جاء تقرير مجلة “إيكونومست” البريطانية المعروفة والمؤثرة لدى صناع القرار في الغرب ليؤكد بوضوح ترنح النظام وتململ وحيرة داعميه، وهي نفس المجلة التي أصدرت سنة 2010 تقريرا أكدت فيه قرب انهيار نظام حسني مبارك حينها. وفي تقريرها الأخير والذي جاء بعنوان «تخريب مصر» أكدت بأن دولة الإمارات العربية المتحدة، سحبت مستشاريها من مصر، ولم تصل الدفعات الأخيرة من الدعم الإماراتي بسبب البطء في إرسالها بعدما فقدت الإمارات صبرها وثقتها بالنظام بسبب قصور الحكومة المصرية والشعور بالإحباط من البيروقراطية.

التقرير يتحدث أيضا عن إفلاس مصر ويرسم صورة قاتمة عن الوضع الاقتصادي الذي وصفه بأنه “مفلس ويعتمد على حقن سخية من دول الخليج وبدرجة أقل على المساعدات الأمريكية”، لافتاً إلى ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب والتي قال إنها ناهزت نسبة الـ45 بالمائة.

واذا ما تأكد سحب دولة الإمارات العربية والسعودية والكويت لمستشاريها فان هذا عامل إضافي، باعتبار أن هذه البلدان هي التي وفرت الدعم المادي الرئيسي للنظام العسكري في مصر، حيث تم تقديم ما يزيد عن خمسة وعشرين مليار دولار، كمساعدات وقروض، كل هذا يؤكد الحقائق المفزعة والمخيفة عن حالة الاقتصاد المصري الحالي، مع تواصل التراجع الكبير وغير المسبوق لمخزون العملة الصعبة، نظرا للانهيار شبه الكامل لقطاع السياحة ولتراجع تحويلات المصريين بالخارج، إضافة إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية.

يمكن أيضا ملاحظة تراجع الاحتياطي النقدي إلى النصف خلال الأربع سنوات الماضية من 36 مليار إلى 17 مليار هذا العام، وكذلك الارتفاع الكبير لسعر الدولار والذي تضاعف خلال ثلا ث سنوات ،مما يعني خسارة الجنيه ل 60 بالمائة من قيمته، والارتفاع المتزايد لمعدلات التضخم التي فاقت 15 بالمائة و بلغت الديون نسبا قياسية فاقت الخمسين مليار مقابل احتياطي يتناقص واقتصاد يتحلل وأفق سياسي ملبد.

ومن الإجراءات المؤلمة وغير المدروسة التي اتخذتها الدولة التخفيض الأولي لقيمة الجنيه بنسبة تفوق العشر والعمل مع صندوق النقد للقيام بتخفيضات إضافية، ناهيك عن عدد من الاجراءات الأخرى التي يطالب بها صندوق النقد الدولي لضمان القرض التاريخي.

كما عرضت الدولة امتيازات بما في ذلك الجنسية المصرية للراغبين فيها مقابل ودائع بالعملة مما اعتبر بيعا لجنسية البلاد وتهديدا للنسيج الاجتماعي، فضلا عن التنازل عن ثروات وطنية كبيرة لصالح دول الجوار، والحرص المتزايد على أمن اسرائيل والتخويف من خصومها.

ولكن هل تشفع كل هذه الاجراءات لحماية المنظومة من الانهيار؟. سيكون من الصعب الاجابة قبل تبين توجه الأمور خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، ولعل الإجابة عن بعض التساؤلات ستكون حاسمة.

فهل الحكومة قادرة على مواصلة دفع مرتبات 6 ملايين من موظفي الدولة والذين تشكل رواتبهم ربع اجمالي النفقات؟ وكيف يمكن مواصلة التعويل على الجيش والشرطة وموظفي الدولة في الإدارات مع زيادة مطالب المانحين – وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي – بالتخفيض في أعداد الموظفين والشفافية والتقشف الحكومي؟ وكيف يمكن مواصلة نفس السياسة مع البدء في فرض ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات وخفض الدعم عن الطاقة، والحال أن ما يزيد عن 25 مليون من السكان تحت خط الفقر؟ وكيف يمكن الاقناع بانجازات اقتصادية مع تفشي الفساد وسوء الإدارة وغياب الاصلاحات مما نتج عنه خسارة عشرات المليارات بحسب التقارير الدولية المتخصصة؟

كيف ستتعامل الدولة الآن مع صغار المكتتبين من المصريين والمستثمرين العرب الذين صدقوا ما أعلن عنه أثناء المؤتمر الاقتصادي وافتتاح قناة السويس بعد التوسعة وهو المشروع الذي استنزف جزءا مهما من الموارد وساهم في أزمة نقص العملة الأجنبية التي تعانيها البلاد منذ سنتين حيث اضطرت السلطات إلى سداد مستحقات الشركات الأجنبية التي شاركت في عملية حفر القناة بالعملة الصعبة؟ وما هي البدائل بعدما تأكد فشل مشروع تفريعة قناة السويس والذي أنفق عليه 8 مليارات دولار؟

والواقع أن الارقام تؤكد تراجع عائداته بعد التوسعة بما يفوق300 مليون دولار خلال السداسي الاول من العام الجاري وهوالامر الذي دفع بالمشرفين على ادارة القناة إلى الاعلان عن تخفيض الرسوم ثلاث مرات، آخرها في حزيران/ يونيو 2016 بنسبة 45 في المائة.

هل بامكان السلطة القائمة مواصلة سجن عشرات الآلاف والابقاء على أحكام الإعدامات الجماعية للخصوم والتطلع إلى تعامل ندي مع بلدان تحترم نفسها ومواطنيها؟ وكيف يمكن لدول الخليج التي تورطت في دعم النظام أن تواصل دعمها في ضوء تراجع أسعار النفط وارتفاع تكلفة الحرب في اليمن والصعوبات الداخلية التي أصبحت تعاني منها؟ وهل يمكن لهذه البلدان مواصلة نفس السياسة بعد أن تأكد فشل الانقلاب قي تركيا وما سيترتب عليه من تبعات وتغيرات في المنطقة؟ وهل سيعمق التقارب التركي الروسي الأخير من عزلة النظام العسكري في مصر؟ وما تأثير تقدم المعارضة في سوريا وعزلة جماعة خليفة حفتر في ليبيا على مجريات الأمور في مصر؟

وبانتظار تطور مآلات الأحداث، فانه يصبح ضروريا تأكيد ما يلي:

1- ضرورة إجراء مصالحة مع المواطن المصري وتصويب الأمور قبل أن تتعقد أكثر، ولعله أصبح من الضروري تخلي المؤسسة العسكرية عن الإشراف على المشاريع الاقتصادية والعودة إلى دورها في حماية حدود البلاد والتصدي لمشاريع الهيمنة الإقليمية.

2- الاتفاق على خارطة طريق سياسية تعيد العمل بالدستور والمؤسسات الشرعية حتى تعود البلاد إلى المنتظم الدولي من خلال الإسراع بالحوار بين الفرقاء وإيجاد حل سياسي يخرج البلاد من محنتها والعودة إلى الدور المحوري الذي يجب أن تلعبه مصر.

3- العمل بجد على إعادة الأموال المنهوبة والتي ينبغي أن يتم استرجاعها كلها أو قسم منها، لأنها ستساهم فعلا في تنمية حقيقية ومشاريع، وسيستفيد منها المواطن المصري، ولا ينبغي أن ترهن القرار السيادي ومستقبل الأجيال.

يمكن القول أيضا إن توقف عجلة دوران الربيع العربي الأساسي عن الدوران، وانتكاسة المسار المصري الذي يمثل إهانة للشعب المصري والعربي عموما، ولا يخدم إلا مصلحة أعداء الأمة، وعليه وجب تشجيع كل المبادرات الخيرة من أجل إيجاد حل سياسي في البلاد يعيد السلطة للشعب والكرامة للمواطن من خلال سياسات عادلة تعتمد التصالح مع الشعب وإصلاح المنظومة، وإلا فإن الانفجار سيكون واقعا لا محالة (1).

————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى