دراسات

استخدام القوة الإلكترونية فى التفاعلات الدولية الجزء الثانى

 

تنويه:

هذه الدراسة هي مشروع تخرج قدمته الطالبة: صباح عبد الصبور عبدالحى، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، بحث التخرج بعنوان: استخدام الفاعلين العنيفين من غير الدول للقوة الإلكترونية فى التفاعلات الدولية: تنظيم القاعدة نموذجا: منذ عام 2000، تحت إشراف: د: سعاد محمود، 2014- 2015. وقد شاركت به الباحثة في مسابقة المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، محور مشروعات التخرج، وحصلت على المركز الثالث، ونقوم بنشره هنا على أجزاء أسبوعياً.

 

الفصل الأول: الأبعاد النظرية لدراسة الفاعلين من غير الدول

يسعى هذا الفصل لتحليل المقصود بالفاعلين العنيفين من غير الدول، فضلاً عن الأبعاد النظرية لدراستهم، لذا ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين، يدرس الأول: الفاعلين من غير الدول، وتعريفهم وتصنيفاتهم، مع التطبيق على الفاعلين العنيفين من غير الدول، والأبعاد النظرية لدراستهم، بينما يحلل المبحث الثانى مفهوم القوة، وأهم التغيرات التى طرأت فى بنية المفهوم، وصولا للقوة الإلكترونية، وتأثير الثورة التكنولوجيا والمعلومات على انتشار القوة، وأهم الفاعلين المستخدمين للقوة الإلكترونية، وأنماط تأثيرهم فى التفاعلات الدولية.

 

المبحث الأول: الفاعلون من غير الدول فى السياسة العالمية: الفاعلون العنيفون نموذجاً

يسعى هذا المبحث للتعريف بالفاعلين من غير الدول وأنماط تأثيرهم فى السياسة العالمية، مع تطبيق ذلك على الفاعلين العنيفين من غير الدول، وذلك فى نقطتين منفصلتين على النحو التالى:

 

أولا: الفاعلون من غير الدول:

يعد الاهتمام بدراسة الفاعلين من غير الدول Non State Actors ( NSA)، فى حقل العلاقات الدولية حديث نسبيا، مقارنة بدراسة الدولة، وظهور الفاعلين من غير الدول أنفسهم حيث ظهر الفاعلون من غير الدول قديما فى شكل جماعات دينية: مثل الجمعيات اليهودية والتبشيرية، وكذلك عصابات الجريمة فى عهد الإمبراطورية الرومانية والتى دخلت فى حروب ضد الدولة، وفى القرن العشرين ظهرت جماعات التحرر الوطنى كشكل آخر من أشكال الفاعلين من غير الدول، والتى نجحت فى التأثير على سياسات الدول الاستعمارية الكبرى مثل فرنسا وبريطانيا، ورغم ذلك ظلت الدولة هى الفاعل الرئيسى فى تحليل السياسة الدولية، مع تجاهل واضح لتأثير الفاعلين من غير الدول من الناحية العملية فى قرارات وتفاعلات الدولة فى الداخل والخارج، ويرجع ذلك إلى سيطرة فكر المدرسة الواقعية “الكلاسيكية” على حقل العلاقات الدولية لفترة طويلة، حيث كانت تؤكد على محورية دور الدولة كفاعل رئيسى فى العلاقات الدولية، متجاهلة أى دور للفاعلين من غير الدول، حتى المنظمات الحكومية الدولية- مثل الأمم المتحدة- كانت تراها بمثابة أداة فى أيدى الدول، ودورها محدود فى علاقات الدول، أما الصور الأخرى للفاعلين من غير الدول كانت تتجاهلها ولا تهتم بها (1).

ولكن مع تزايد تأثير هذه الكيانات على مجريات السياسة العالمية، وتزايد صورها وظهور أجيال جديدة منها أكثر تنظيما وتأثيرا فى سلوك الدول، بالإضافة لامتلاكها” برامج متكاملة للسلوك فى المجال العالمى”، أدى ذلك لوجود أطر تحليلية حديثة لدراستها بدأت تحديدا منذ سبعينيات القرن العشرين، خاصة مع تعقد عملية صنع السياسة الخارجية، وظهور تطورات جديدة على الساحة الدولية، بسبب ظهور قضايا جديدة فى أجندات السياسة الخارجية للدول، والاعتماد المتبادل، وظهور العولمة والتقدم التكنولوجى. (2)

 

وقد تعددت التعريفات الخاصة بهم فى الأدبيات النظرية كالتالى:

فقد عرفهم ويليام دالاس وديفنى جوزلين على أنهم ” منظمات مستقلة بصورة كبيرة أو كلية عن تمويل الحكومة المركزية، وسيطرتها، وعن اقتصاد السوق والدوافع السياسية المرتبطة بتوجيه الدولة، وتعمل فى شبكات خارج حدود الدولة التى تنتمي إليها بحكم النشأة، ومن ثم فهى طرف فى علاقات متعدية الحدود، تربط بين نظم سياسية واقتصادية ومجتمعات متنوعة، وتعمل بطريقة تؤثر على المخرج السياسى، سواء فى دولة ما، أو فى منظمة دولية سواء كبعد لنشاطها أو كغاية رئيسية لها”(3)

بينما عرفهم البعض على أنهم: “الجماعات أو المنظمات التي تتمتع بعدد من السمات، وتتمثل في: الاستقلال التام أو بدرجة كبيرة عن تمويل الحكومة المركزية التي تعمل على أرضها، وامتلاك موارد خاصة بها، ولها هوية متميزة، ولها سياسة خارجية مستقلة عن سياسات الدولة التي تنتمي إليها، سواء عن قصد أو غير قصد، وسواء كان ذلك غاية للمنظمة أو أحد أبعاد أنشطته”(4)

فى حين يرى البعض الآخر أنهم ” فاعلون سياسيون منظمون، ليس لهم علاقة مباشرة بالدولة ولكن لديهم أهدافهم التى تؤثر على مصالح الدولة”. (5)

 

تصنيفات الفاعلين من غير الدول:

اختلفت أدبيات العلاقات الدولية فى تصنيف الفاعلين من غير الدول، فصنفها البعض إلى:

فواعل إقليمية: وهى فواعل تمتلك تنظيما سياسيا وعسكريا، وتسعى للحصول على أرض لتقيم عليها دولة جديدة أو تحل محل النظام القائم، وفى سبيل تحقيق هذا الهدف، فإنها تقيم ائتلافات براجماتية مع الجماعات المماثلة فى الدول الأخرى، مثل تحالفات الجيش الجمهورى الأيرلندي مع الجماعات العربية الراديكالية فى الثمانينات.

 

فواعل ذات أبعاد أيديولوجية:

وتضم عدة أنواع مختلفة من الفاعلين من غير الدولة، والمشترك بينها هو الالتزام بنشر الأفكار، ومن أهم الأمثلة عليها هى الجماعات الدعوية، والجماعات المعرفية، والكنيسة.

 

الفواعل ذات البعد الاقتصادى:

وتشترك فى هدف تعظيم الربح والثروة، مثل الشركات متعددة الجنسيات، فى مجال الإنتاج والخدمات، كذلك منظمات الجريمة. وهي تلعب دورا هاما فى رسم السياسة الاقتصادية للدولة حيث يجمعها هدف موحد وهو تحرير التجارة، والأموال، والأفراد، إلا أنها تتنافس مع بعضها البعض لتعظيم عائدها الاقتصادى، لذا تجد صعوبة فى التعامل مع بعضها البعض (6)

والبعض صنفها طبقا لأربعة معايير محددة:

المعيار الأول ويستند إلى أساس نشأة الفاعل:

والذي قد يكون أساساً مادياً: كالقوة الاقتصادية، مثل حالة الشركات متعددة الجنسيات، أو أساسا غير مادي كالقيم والهوية، مثل الحركات “الأصولية”، والأحزاب السياسية.

 

المعيار الثانى وفقا لنوع النشاط الذي يقوم به الفاعل:

وهل هو نشاطا اقتصاديا أم سياسيا أم أمنيا، وبناء على ذلك يميز هيجوت وأندرهيل بين الشركات متعددة الجنسيات التى تمارس النشاط الاقتصادى، وبين المنظمات غير الحكومية التى تمارس نشاطا سياسيا، وهذا لا يعنى وفقا لهيجوت وأندرهيل عدم وجود تفاعلات بينهما، ويندرج تحت هذا المعيار شركات الأمن الخاصة مثل شركة Armor Group International والتى تعمل فى 38 دولة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

 

المعيار الثالث:وفقا لنطاق النشاط:

وهنا يكمن التمييز بين الفاعل المحلى الذي يعمل داخل نطاق الدولة، والفاعل العابر للحدود الإقليمى، والفاعلين العابرين للإقليم ذو النشاط العالمى.

 

المعيار الرابع: وفقا لطبيعة العلاقة مع الدولة ودرجة الاستقلالية:

وقد تزايدت أهمية هذا المعيار بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث ظهر اتجاه يرى استقلالية الفاعل عن الدولة، وأنه كيان قائم بذاته، ويسعى للتأثير على سياسات الدولة، وقد تبنى ذلك كل من جوزالين ووالاس فى كتابهما الخاص بالفاعلين من غير الدول. بينما استخدم كل من ريتشارد مانسباك وريال فيرجسون ودونالد لامبرت معيارا مختلطا، يجمع بين علاقة الفاعل بالدولة وقدرته على الفعل المستقل في العلاقات الدولية، وتم الحديث عن خمسة أنواع من الفاعلين من غير الدول وهم: الفاعلين الحكوميين حيث يجمع في عضويته دول مثل الناتو، والفاعلين غير الحكوميين العابرين للحدود: كالجماعات الإرهابية، والشركات متعددة الجنسيات، والفاعلين الحكوميين غير المركزيين: حيث يتشكل من موظفى الحكومات المحلية، والفاعلين غير الحكوميين داخل الدولة مثل: الأحزاب السياسية، وأخيرا الأفراد، كفاعلين يتصرفون باستقلالية مثل كارنيجى الذي خصص 10 ملايين دولار لإنهاء الحرب بين الشعوب.(7)

 

*أنماط تأثير الفاعلين من غير الدول:

لم تعد الدولة القومية هى الفاعل الأول فى السياسة العالمية، حيث زاد تأثير الفاعلين من غير الدول، فاهتزت مكانة الدولة، وتحول الحديث من مبدأ سيادة وحرية الدول إلى سيادة وحرية الفرد داخل الدولة، وبدأت المنظمات والشركات تطالب الدول بالتقيد بقضايا كانت تعتبر فى السابق شأناً داخلياً، كالتركيز على مبادئ حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية والحريات، خاصة حرية التملك والتعبير وتحرير التجارة. وقد واكب ذلك التراجع فى دور الدولة اكتساب الفاعلين من غير الدول أنماطا جديدة من التأثير والنفوذ.

وقد ظهرت عدة نظريات جديدة فى العلاقات الدولية لتفسير هذا التحول وأهمها نظرية الاعتماد المتبادل لروبرت كوهين وجوزيف ناى، والتى قامت بشرح التطورات الجديدة (8)، المرتبطة باتساع نطاق الفاعلين من غير الدول، وزيادة نفوذهم وتأثيرهم على السياسة الدولية، والدولة القومية، بالإضافة للاعتماد المتبادل بين الدول القومية وغيرها من الفاعلين على الساحة الدولية “بجانب التعاون والتفاعل الكثيف عبر الحكومات والسياسة الداخلية، وهو مايمثل نموذجا للاعتماد المتبادل المركب “.

وقد رأى ناى وكوهين أن تغيير التوجهات الداخلية للنخب أو الأفراد، بجانب تشجيع التعددية الدولية والقائمة على ” ربط جماعات المصالح الوطنية بالأبنية والهياكل عبر القومية بما يؤدى للإسهام فى تدويل السياسة الداخلية “، هى بالأساس أهم تأثير للتفاعلات عبر القومية على الدول كما تخلق التفاعلات التى تتعلق بالتمويل والنقل – والتى تفرض على الدول سياسات محددة يجب أن تتبعها وإلا تعرضت لجزاءات وتكلفة سياسية – نوعا من التبعية للدول، وتجعلها تعتمد على قوى قد لا تستطيع السيطرة عليها.

وقد أكدا على أن” السياسة لاتتمتع بالاستقلال الذاتى، وأنه لم تعد القضايا العسكرية على أولويات الأجندة الدولية أو مسيطرة عليها، حيث يصعب الفصل بين السياسات الدنيا والعليا ” على عكس مقولات المدرسة الواقعية. (9)

 

ويمكن تحديد أهم أنماط تأثير الفاعلين من غير الدول كالآتى:

-” الاختراق الموازى “: حيث تحول الفاعلون من غير الدول من مساومة الدول ومنافستها على القيام بوظائفها، فيما سمى بالموجة الأولى للفاعلين من غير الدول ” كالشركات متعددة الجنسيات، والمنظمات الدولية غير الحكومية، إلى لعب قوة موازية مع ظهور الموجة الثانية من هؤلاء الفواعل، وأحيانا فرض قوانينهم الخاصة على الدولة، مثال قيام الجماعات المسلحة فى شمال مالى بفرض قوانينها الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية فى المناطق التى احتلتها بعد انسحاب الدولة منها.

– زيادة وتسارع ” النفاذية العابرة للقومية ” لهؤلاء الفواعل، نتيجة استغلالهم لمعطيات العولمة، ووسائل الاتصال الحديثة، والتى ساعدت فى نشر أفكارهم عبر الحدود.

– انتقال بعض هذه الفواعل إلى السلطة، كجماعة الإخوان المسلمين فى مصر وتونس بعد الثورات العربية.

– ” الموجة الجديدة من الفاعلين من غير الدول أكثر تعبيرا عن إفرازات محلية وهوياتية، وليس فقط تشابكات عالمية “، كالتى كانت فى الموجة الأولى من الفاعلين من غير الدول.

– ظهر اتجاه عالمى مصاحب لضعف الدولة، يرى الاعتراف بهؤلاء الفاعلين، وإعطاء الشرعية لهم، فيما يسمى ” منطق الاحتواء “، مثل حالة حزب الله. (10)

 

ثانيا: الفاعلون العنيفون من غير الدول:

يعرف الفاعلون العنيفون من غير الدول: على أنهم الجماعات أو التنظيمات التي تلجأ إلي استخدام أدوات العنف المادي والنفسي بطريقة جماعية، من أجل تحقيق غايات معينة، ولا تنتمي لأجهزة الدولة الرسمية (11)

وتُظهر الدراسات أنظاهرة الفاعلين العنيفين من غير الدول ترجع لآلاف السنين، وكانت تهدد أمن الدول،حيث ظهرت فى الامبراطورية الرومانية نفسها وفى ريعان قوتها عصابات إجرامية وقراصنة بحرية كانت الامبراطورية تتصدى لهم، وفى القرن التاسع عشر تضاءلت أهميتهم النسبية مع اتجاه تكوين ” الدولة القومية”، والتنافس مابين الدول القومية الكبرى فيما بينها، وفى القرن العشرين ظهر الفاعلون العنيفون من غير الدول فى صورة ” جماعات التحرير الوطنى “، كجزء خطير وهام فى عملية إنهاء الإستعمار، وأرادوا تولى مقاليد الحكم، بدلا من الخضوع للعناصر الأجنبية، أما فى القرن ال 21 ظهر الفاعلون العنيفون كتحدى ” للدولة الوستفالية “، وتنوعت أشكالهم بعد انتهاء الحرب الباردة، وضعف الدولة القومية، وعجزها عن القيام بوظائفها التقليدية (12)، مما أدى لاهتمام حقل العلاقات الدولية بدراسة الفاعلين العنيفين من غير الدول، وإن كان جاء هذا الاهتمام متأخرا مقارنة بالاهتمام بدراسة الدولة.

 

* المداخل النظرية لدراسة الفاعلين العنيفين من غير الدول:

زاد تأثير الفاعلين من غير الدول بمن فيهم الفاعلين العنيفين بصورة أسرع من تطور أطر نظرية تسمح بدراسة أنماطهم وتأثيرهم فى العلاقات الدولية وكيفية التعامل معهم، وسارت الأطر النظرية التى اهتمت بهم كحقل علاقات دولية فى اتجاهين، ولكن قبل التطرق إليهما يجب أن نأخذ فى الاعتبار ملاحظتين على قدر من الأهمية:

– الملاحظة الأولى: أن دراسة الفاعلين العنيفين من غير الدول كنوع من أنواع الفاعلين من غير الدول، كان الأقل اهتماما فى دراسات العلاقات الدولية، بالمقارنة بباقى الأنواع مثل الشركات متعددة الجنسيات التى حظيت باهتمام بالغ منذ السبعينيات. (13)

– الملاحظة الثانية: زيادة الاهتمام بدراستهم فى الأوساط الأكاديمية بعد أحداث 11 سبتمبر

وإعلان الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب بالإضافة إلى عدد من العوامل الهيكلية مثل التقشف، وندرة الموارد، والتكنولوجيا التى مكنت هذه الجماعات من زيادة نفوذها وتأثيرها، ومنافستها للدولة القومية. (14) لذا جاء تركيز تلك الدراسات على دراستها تحت مسمى الجماعات الإرهابية، بينما تبنت بعضها منهجا قيميا فى تصنيف الفاعلين من غير الدول إلى فاعلين شرعيين وفاعلين غير شرعيين، واعتبرت الجماعات العنيفة جماعات غير شرعية.

أما فيما يتعلق بالاتجاهين النظريين لتفسير ظاهرة الفاعلين العنيفين من غير الدول فيمكن الإشارة إليها فيما يلى:

  • الإتجاه الأول: اهتم بدراسة الفاعلين العنيفين من غير الدول، كجزأ لايتجزأ من الفاعلين من غير الدول،” وقام بتطويع فروض النظريات الرئيسية فى العلاقات الدولية لتفسير سلوك الفاعلين من غير الدول، بافتراض أن سلوكها مشابه لسلوك الدولة”

بينما رأت المدرسة الواقعية بعد الحرب الباردة أن:

“قدرة الفاعلين من غير الدول علي التأثير في السياسات ترتبط بقدرتهم علي تحويل تفضيلات وسياسات الدول الكبري، أي أن تأثيرها يتم من خلال الدولة التي تحتل مكانة مهمة في فكر الواقعية .

  • الاتجاه الثاني: نظريات اهتمت بتطوير أطر ونماذج للتحليل تسمح بدراسة أنواع مختلفة من الفاعلين من غير الدول، وهناك نوعين من هذه النماذج:

 

“النوع الأول: النماذج العامة التي يمكن توظيفها لتحليل أي نوع من الفاعلين من غير الدول، ومن ذلك نموذج الاعتماد المتبادل المعقد الذي طوره جوزيف ناي وروبرت كوهين في السبعينيات حيث استندا على معيار مدى انخراط الفاعل فى تفاعلات عابرة للحدود (15)، فرأى أنه

  • يتكون الفاعل من كيانات فرعية، فهو ليس كيان موحد
  • قاما بتصنيف الفاعلين من غير الدول إلى:

فاعلين يتبعون الدولة، وأجهزة تابعة إداريا لحكومة الدولة، والمؤسسات الدولية، وأجهزة تابعة لها إداريا، ومنظمات العابرة للقوميات، ووحدات تتبع تنظيميا المنظمات العابرة للحدود

كما حاول جوزلين ووالاس تطوير إطار تحليلي يسمح بتحليل تأثير الفاعلين من غير الدول ككيانات قائمة بذاتها، في حركة التفاعلات العالمية، من خلال تحليل الرسالة التي يحملونها وأنشطتهم (التأثير المباشر)، ورد الفعل علي أنشطتهم من قبل الفاعلين من غير الدول، أو دولهم، أو دول اخري (تأثير غير مباشر)، فقام بتصنيف الفاعلين من غير الدول إلى:

  • فاعلون يستندون إلى أساس دينى وقيمى، مثل الكنيسة الكاثوليكية والأحزاب السياسية.
  • فاعلون يقومون بوظائف عرفت تاريخيا بأنها وظائف خاصىة بالدولة: مثل الجماعات الاسلامية، وشركات الأمن الخاصة، وجماعات الجريمة المنظمة. (16)
  • فاعلون يهدفون للتأثير فى سياسات الدول: مثل مراكز الفكر، والشركات متعددة الجنسيات.
  • النوع الثاني: نماذج تطورت في مجال الدراسات الأمنية من أجل تحليل سلوك الفاعلين العنيفين من غير الدول بهدف تقديم توصيات محددة لصناع القرار في مجال مكافحة الإرهاب، ومن ذلك نموذج كاسبر وتوماس وبارتلومي، الذي طوروه بالاعتماد علي نظرية النظام المفتوح Open System Theory، ويهتم هذا النموذج في تحليله للفاعلين العنيفين من غير الدول بتحليل البيئة التي يعمل فيها الفاعل، والخصائص التنظيمية له، والتفاعلات الداخلية.
  • ويفترض هذا النموذج أن:

هناك عددا من العوامل التي تجعل لفاعلين العنيفين من غير الدول أكثر قبولاً قى المجتمع: القبلية وتشمل ندرة الموارد، والمتغير الديموغرافي، والهويات المتعددة، والفساد، والتي تجعل من السهل تجنيد الأفراد في الجماعات العنيفة.

كما أن هناك عددا من عوامل التحول التي تنشئ بيئة حاضنة للفاعلين العنيفين، وتشمل فشل نظم الحكم وتراجع شرعيتها، وتزايد الولاءات الضيقة، وهو ما ينتج أنواعا مختلفة من الفاعلين العنيفين من غير الدول، مثل الجماعات الدينية المسلحة ” (17)

 

* تصنيف الفاعلين العنيفين من غير الدول:

يختلف الفاعلون العنيفون من غير الدول فيما بينهم من حيث:

• الدافع والغرض: من المهم أن نعرف دافع ومحفز هؤلاء الفاعلون، لفهم أهدافهم والنظر في وسائلهم التي يسعون من خلالها لتحقيق هذه الأهداف.

• القوة والنطاق: يختلف الVNSA فى القدرات والنطاق فبعضها صغير نسبيا ويعمل في منطقة جغرافية صغيرة ومقيدة، بينما يعمل الآخرون على نطاق أوسع عبر الحدود الوطنية، أى أنها تمتد من المحلي إلى القومى إلى عبر القومى.

• الطرق التي تحصل من خلالها على التمويل أو الوصول إلى الموارد: في كثير من الحالات هناك أكثر من وسيلة لتحقيق الغاية واكتساب الثروة، مما يتطلب دراسة علاقتهم “غير المشروعة ” بالاقتصاد على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.

• الهيكل التنظيمي: فلا يوجد هيكل موحد لVNSA: فبعضها هرمية ومركزية، والبعض الآخر على شكل شبكات غير مركزية.وبعضها هجين من تلك وذاك، وعلاوة على ذلك، فالهياكل التنظيمية ليست ثابتة حيث تتكيف وتتغير مع مرور الوقت متأقلمة مع الفرص والمعوقات.

• العلاقة بين VNSAs والدولة: في كثير من الحالات، تكون العلاقة قائمة على العداء. (18)

• درجة وجود أهداف مشتركة بين أعضاء الجماعة

• من حيث المنظومة القيمية التى يتبعها هؤلاء الفاعلين: فمنهم فاعلون براجماتيون، وفاعلون يمتلكون رؤية دينية للعالم. (19)

 

*أشكال الفاعلين العنيفين من غير الدول:

هناك أشكال عديدة من الفاعلين من غير الدول أهمها: أمراء الحروب، التنظيمات الإرهابية، الجماعات المتمردة، جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود،، شركات الأمن الخاصة (20)

 

  • أمراء الحروب:

وهم قادة عسكريون أو على الأقل لديهم خبرة عسكرية، وذوى شخصية كاريزمية، ولديهم القدرة على السيطرة على بعض الأقاليم فى الدولة من خلال استخدام القوة العسكرية، ويرتبط ظهورهم عادة بالمجتمعات العرقية، وفى بعض الأحيان يتعايشون مع الدولة، لكنهم فى نفس الوقت يحرصون على ألا تصل سيطرة الدولة للأراضى الواقعة تحت سيطرتهم، ويدخلون حروبا مع منافسيهم.

وبالنسبة لعلاقتهم بالدولة فهى علاقة براجماتية، فهم يرفضون سيطرة الدولة على الإقليم، ويعارضون أى مبادرات لتقليص دورهم، لكن ظاهريا قد يعلنون التعاون مع الدولة فى محاولة لتحديد مستقبل الإقليم وتطويق سلطة الدولة.فهم قد يتحدون أو يكملون وظائف الدولة، ويستغلون مواردها الموجودة فى الإقليم المسيطر عليه.

 

  • الحركات المتمردة:

تعرفها الولايات المتحدة على أنها: ” جماعات منظمة تسعى للإطاحة بالحكومة من خلال العنف المسلح والتخريب، من أجل الوصول للسلطة، وقد يكون هدفها محدد بحيث تنأى عن الإطاحة بالحكومة ككل، مقابل أن تسيطر على إقليم تسكنه عرقية، أو جماعة دينية معينة “.

 

  • المنظمات الإرهابية:

هى جماعات تسعى للتغيير السياسى من خلال استخدام العنف ضد الدولة والمدنيين، وهى تختلف من حيث الأصول والأهداف وقد قسم David Rapoport الجماعات الإرهابية الحديثة إلى: جماعات فوضوية، وجماعات مكافحة الاستعمار، وجماعات ذات توجه يسارى، وجماعات دينية وكلها لديها ميليشيات مسلحة تسعى للتغيير باستخدام العنف، وهى تسعى لإنشاء دولة خاصة بها ويستطيعون من خلالها تنفيذ أيدلوجياتهم فى الحكم، وأهمها فى القرن الواحد والعشرين هى جماعات الإسلام السياسى المتشدد مثل تنظيم القاعدة. (21) وهو ما ستركز عليه الدراسة.

 

  • جماعات الجريمة المنظمة:

تعرف الأمم المتحدة الجريمة المنظمة على أنها ” أنشطة مجموعة تضم شخصين او اكثر، لها تسلسل هرمي، او علاقات شخصية تسمح لزعمائها أن يجمعوا أرباح او يسيطروا على اقاليم او اسواق، داخلية او اجنبية عن طريق العنف او الترهيب او الفساد، سواء للقيام بانشطتهم الاجرامية او لاختراق الاقتصاد المشروع ”

 

و قد تكون جماعات محلية أو عبر وطنية حيث تختلف الثانية عن الأولى فى:

  • أنشطتها عبر الوطنية والروابط مع الجماعات المشابهة الاخرى.
  • ضخامة حجم المنظمة وضخامة نشاطها الاجرامى.
  • ارباحها العالية حيث تحقق مستوى عالى من الارباح نظراً للمستوى العالى لرأس مال المنظمة
  • الأساليب غير التقليدية حيث تعتمد القوة والنفوذ فى أسلوب ممارسة نشاطاتها (22).
  • شركات الأمن الخاصة:

” هي شركات تقدم خدمات أمنية كحراسة السفارات والدبلوماسيين، والاستخبارات والاستشارات التقنية، وفي بعض الأحـوال المشاركة في القتال إلى جانب القوات المسلحة وذلك خلافا لما تدعيه الدول المستخدمة لهذه الشركات من أن دورها لا يتضمن مهمات القوات المسلحة”

ويرجع ظهور هذه الشركات وزيادة أهميتها إلى عاملين أساسيين هما:

  • انخفاض أعداد الجيوش النظامية بعد الحرب الباردة، وتسريح العديد من الجنود المحترفين مما أدى إلى سعى الشركات إلى تنظيمهم واستيعابهم فى إطار عملها.
  • ضعف دور الأمـم المتحدة خـلال الـحـرب الـبـاردة، ومنعها من التدخل فى مناطق الصراع السوفييتى الأمريكى، وهو مافتح المجال لتدخل هذه الشركات كذراع أمنية خاصة للمناطق الناشئة والضعيفة كتلك التى فى إفريقيا، ومؤخراً كانت هذه الشركات أداة هامة فى غزو اأفغانستان 2001، والعراق 2003.

وكانت ومازالت هذه الشركات موضع جدل وانتقاد، نظراً لتداخل وظائفها مع الوظائف التقليدية للدولة وهى الأمن والدفاع، وأيضا مدى مشروعية تعاقد الدولة معها لتستفيد من خدماتها خارج الإقليم، وما يحويه ذلك من انتهاك صارخ لسيادة الدول وحظر التدخل فى شئونها الداخلية وحق الشعوب فى تقرير مصيرها. (23)

ومن هنا فإن علاقة هذه الشركات بالدولة هى علاقة غير عدائية ونفعية، على عكس باقى أشكال الفاعلين العنيفين من غير الدول.

 

المبحث الثانى

القوة الإلكترونية والتحول فى أبعاد القوة

يعتبر مفهوم القوة مفهوما محوريا فى حقل العلاقات الدولية، حيث تناولته العديد من منظورات العلاقات الدولية التى عكست واقعا دوليا قائماً على القوة باختلاف أنواعها،وذلك بسبب الطبيعة التنافسية والصراعية والفوضوية للنظام الدولى، أو طبيعة الاعتماد المتبادل والتنافسية للمجتمع الدولى، حيث تسعى كل دولة لفرض إرادتها واختياراتها على الآخرين، وذلك لتحفظ مصالحها فى ظل عالم صراعى من أجل القوة، حيث هناك تضارب وتعارض فى المصالح بين وحدات النظام الدولى تؤدى للصراع فيما بينها.

وتعد علاقات القوة بين الفواعل هى محور وأساس النظام الدولى وفقا للمنظور الواقعي، كما يعتبر مفهوم القوة هو المفهوم المحورى فى هذا المنظور، الذي رأى أن السياسة العالمية ما هى إلا صراع بين الدول، التى تهدف للسيطرة على الآخرين، أو تلك التى تسعى للتأثير على باقى الفواعل فى ظل نظام عالمى يعتمد على القيم المؤسسية، أو فى تلك النظريات التى تؤكد على أهمية ووزن الأبعاد الاقتصادية فى السياسة العالمية.

فالقوة من أكثر المفردات استخداما فى العلاقات الدولية فى ظل نظام يفتقد الحكومة العالمية المشتركة، لذلك تهدف الدول إلى ضمان أمنها من خلال امتلاك القوة، والتى رآها مورجنثاو الغاية والوسيلة فى السياسات العالمية. ( 24)

وفى هذا السياق يعد الجدل حول هذا المفهوم قديم نسبيا، فالبعض رأى أن ” القوة هى الحق “، وجادل الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو بأن التفاعل هو أساس القوة، وأن القوة توجد عندما تستخدم، بينما اعتبر ألفن توفلر أن المعرفة هى القوة، حيث جادل بأن امتلاك المعرفه ضروريا لامتلاك القوة العسكرية والثروة.(25)

 

بينما ربط هانز مورجانثو القوة بفكرة التأثير والتحكم فى المكاسب فرأى أن القوة هى ” القدرة على التأثير فى سلوك الآخرين “، بينما استفاد عالم الاجتماع روبرت دال من تعريف مورجانثو فقدم تعريفا أكثر وضوحا للقوة حيث اعتبرها ” القدرة على جعل الآخرين يقومون بأشياء متناقضة مع أولوياتهم، ماكانوا ليقوموا بها لولا ممارسة تلك القدرة “، وفى كتابه ” القوة: رؤية راديكالية ” عام 1974 رأى ستيفن لوكس ” القوة مرتبطة بتحديد الأجندة، للتأثير فى سلوك الدول، ومن ثم لاتعنى القوة بالضرورة الإكراه “، وطور جوزيف ناى أفكار لوكس، وقدم مفهوما أكثر تعقيدا للقوة، يشمل عناصر غير مادية للقوة مثل الثقافة والقيم، أطلق عليه ” القوة الناعمة والتى تعنى ” قدرة الدولة على الحصول على ماتريده بالاعتماد على الجاذبية بدلا من الإقناع “، واعتبرت القوة الناعمة هى الوجه الثانى للقوة، ثم أضيف عنصر امتلاك المعلومات والتطور التكنولوجى كأحد عناصر قوة الدولة. (26)

 

أبعاد التحول فى مفهوم القوة:

يرتبط مفهوم القوة كباقى مفاهيم العلوم الاجتماعية بالسياق المحيط به، لذا فإن التطور فى السياسة الدولية إقليميا أو دوليا، يؤدى إلى ” تغير فى معنى القوة وأشكالها والعناصر المكونة لها “، ومن هنا يمكن القول بأن مضمون وعناصر القوة تتحدد وفق مصادر التهديد المحتملة والفعلية للأمن.

“وقد يأخذ التغير فى مفهوم القوة إحدى صورتين: إما تعديل المنطلقات الفكرية التى انطلق منها المفهوم، أو وضع قواعد جديدة حاكمة للمفهوم، وهو مايعتبر خطوة أكبر فى تطوير المفهوم “.

ومن هنا سيتم التركيز على السياق الفكرى الذي صيغ فيه مفهوم القوة، وحجم التغير فى المفهوم الذي أدخلته مدارس العلاقات الدولية المختلفة ووفقا لتطورات السياسة الدولية:

 

أ- المدرسة الواقعية ورؤيتها حول القوة الصلبة:

تأتى القوة الصلبة داخل الاتجاه الذي يعتبر أن القوة هى الإكراه والإجبار وتعتمد بشكل رئيسى على القوة العسكرية، وقد سيطر هذا المفهوم على أدبيات العلاقات الدولية لفترة طويلة، وذلك من خلال كتابات المدرسة الواقعية (27)، والتى تأثرت بغلبة الطابع الصراعى فى العلاقات بين الدول من أجل امتلاك القوة، فتناولت قضية النزاعات والحروب فى القرن التاسع عشر، ثم برزت القضية المحورية فى القرن العشرين وهى الحرب الباردة حيث تميزت العلاقات بين القطبين الرئيسيين فى النظام الدولى وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى بالطابع الصراعى وكان سباق التسلح أحد الوسائل الأساسية لإدارة الصراع بينهما بدءا من الأسلحة التقليدية وصولا للأسلحة النووية.

وقد تأسس فكر المدرسة الواقعية على عدة افتراضات من أهمها أن الدول هى الفاعل الرئيسى فى النظام الدولى، وأنها تتصرف بعقلانية لتحديد مصالحها بغض النظر عن مصالح الفواعل الأخرى، وأنها ” تسعى إلى تحقيق الأمن بتسخير كل المصادر المادية لقوتها الفعلية والكامنة، خاصة القوة العسكرية، والتى تعد – وفقا لوجهة نظر الواقعية – البعد الأهم فى قوة الدولة، حيث تتحدد أهمية العناصر المادية الأخرى بالقدر الذي تقوى به البعد العسكرى “. (28)

فكانت القوة العسكرية عاملا رئيسيا فى دراسة قوة الدولة فى حالة كل من المكسب والخسارة، وأيضا عند تعارض مصالح الفواعل كانت بمثابة المحدد للمنتصر، كما كانت تستخدم فى حالة العمليات الدبلوماسية والتفاوضية كوسيلة ضغط وردع لتحقيق أهداف دولة ما.

كما بقيت لفترة طويلة محددا أساسيا لطبيعة الخطابات السياسية العالمية، وهيكل النظام الدولى وموقع الدول الكبرى منه. (29)

لكن هذا المفهوم الضيق للقوة- وحصره فى البعد العسكرى المادى- أخذ فى الاتساع شاملا بعض العناصر غير المادية، وذلك من خلال المدرسة الواقعية الجديدة، والتى اعتمدت بشكل أساسى على المنهجية الاقتصادية، بجانب نظريات الهيمنة والتى ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة أكدت على قضية سيطرة الدولة المهيمنة على قمة النظام الدولى، وذلك من خلال وسائل أقل تكلفة وأكثر قبولا، وأدوات بديلة عن استخدام القوة العسكرية، وإن كان ذاك لا يعنى التقليل من أهمية العنصر المادى للقوة.

 

ب- المدرسة الليبرالية ورؤيتها حول القوة الناعمة:

رفضت المدرسة الليبرالية افتراضات المدرسة الواقعية، حول فكرة أن الدولة هى المحدد الرئيسى للسياسة الدولية، مبررة ذلك بتنامى أدوار فاعلين جدد، لعبوا دوراً لايمكن تجاهله فى التأثير على سلوك الدول، بجانب تزايد أهمية العلاقات العابرة للقوميات، والتى استطاعت التأثير فى سياسات الدول الخارجية وسلوكها وذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك نتيجة الاعتماد المتبادل، أو من خلال تغيير توجهات سياستها الخارجية. (30)

 

وبتطور السياسة الدولية، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة ونتيجة للتحولات الدولية الآتية:

– ارتفاع تكاليف استخدام القوة العسكرية.

– التبادل الاقتصادى الضخم بين الدول، مما حد من استخدام القوة العسكرية والقوة الصلبة بشكل عام لمخاطرها على النمو الاقتصادى.

– ظهور فواعل أخرى أصبحت قادرة على امتلاك القوة، واستخدامها مثل الفاعلين عبر القوميين مثل المنظمات الإرهابية والشركات متعددة الجنسيات.

– انبعاث النزعات القومية، والذى أدى لصعوبة استخدام القوة، مثل: الولايات المتحدة التى وجدت من الصعوبة إخضاع العشائر الصومالية

– انتشار التكنولوجيا والأسلحة النووية، وتعادل القوى على الأرض، والآثار المدمرة للاستخدام النووى.

– ظهور قضايا جديدة لايمكن حلها باستخدام القوة العسكرية مثل الفقر والتلوث. (31)

كل ذلك أدى لطرح جوزيف ناى مفهوم القوة الناعمة، كشكل آخر للقوة فى كتابه “Bound to lead “… فعرف القوة الناعمة على أنها ” القدرة على إقناع الآخرين لجعلهم يتبعوك ويتفقون مع قيمك ومبادئك ومؤسساتك، وهي قوة تعتمد على الأفكار والثقافة والقدرة على إعداد أجندة الآخرين، لذلك حين تقوم دولة ما بتبني قيم دولية، وتشجع الآخرين على تبني تلك القيم وتعريف المصالح المشتركة بطرق متوافقة فهي تؤسس لقوة ناعمة تقوم على الجذب، لذلك على الدول التي تبني قوتها الناعمة أن يكون لديها القدرة على تحسين صورتها وحيازة الشرعية في أعين الآخرين، حتى يمكنها تحقيق أهداف السياسة الخارجية دون مقاومة (32)

 

وحدد لها ثلاثة مصادر أساسية:

– الثقافة: إذا كانت الدولة تتمتع بالحد الأدنى من الجاذبية، أو لها ثقافة عريقة.

– القيم السياسية: عندما يتم تطبيقها بشفافية في الداخل والخارج، مثل حقوق الإنسان

– السياسة الخارجية: عندما يرى الآخرون أنها شرعية ولها سلطة معنوية وأخلاقية وتقوم على أساس مراعاة مصالح الآخرين. (33)

ولكن ظهرت عدة ملاحظات على المفهوم:

– جدلية المفهوم وتداخله مع عدة مفاهيم أخرى منها: الغزو الثقافى والدبلوماسية والحرب النفسية.

– صعوبة قياس نتائج استخدامها على أرض الواقع، حيث ارتبط المفهوم منذ نشأته بالسياق الأمريكى، فى إطار مراجعة للسياسة الخارجية الأمريكية، وبالتالى فإنه تحتاج القوة الناعمة لتطبيقها فى سياقات أخرى لقوى عالمية وإقليمية أخرى “. (34)

3- لا تقدم إطارا تحليليا كاملا ومناسبا لفهم ودراسة الظواهر الدولية، فهي تقف عند نقطة الوصف. (35)

4- بالاضافة لثارة عدد من سالتساؤلات حول” هل يمكن الاكتفاء بممارسة القوة الناعمة والاستغناء عن مصادر القوة الصلبة “، وهو مارد عليه ناى بأن القوة الناعمة لاتعتمد على القوة الصلبة، بينما رأى هنتجتون أن “ممارسة القوة الناعمة تتطلب أساسا قويا من أبعاد القوة الصلبة”(36)

 

أثر الفضاء الإلكترونى على تحولات القوة:

ساعدت ثورة المعلومات على إفراز ثلاثة عناصر أساسية هى: المعلومة Information والطابع الإلكترونى Digital والفضاء الإلكترونى cyber space، وتعد كلمة cyber مقتبسة من علم cybernetics، وهو عبارة عن ” نظرية الاتصالات والتحكم المنظم فى التغذية العكسية التى تعتمد على دراسات الاتصالات والتحكم فى الحياة، وفى الآليات التى صنعها الإنسان ” وبمعنى آخر ” علم دراسة الاتصالات والتحكم الآلى فى النظم العصبية للكائنات الحية ومحاكاة الآلات منها “، وتأتى كلمة cyber مرتبطة بكلمة ” space”، لتعطى معنى ” الفضاء الإلكترونى الذي يشمل “كل الاتصالات والشبكات وقواعد المعلومات والبيانات ومصادر المعلومات “.

ولقد أضحى الفضاء الإلكترونى بفضل ثورة المعلومات والإنترنت أحد العناصر الأساسية التى تؤثر على النظام الدولى بما يحمله من أدوات تكنولوجية قادرة على القيام بعمليات حشد وتعبئة فى العالم، بجانب تأثيره فى القيم السياسية وأشكال القوة المختلفة سواء كانت القوة الصلبة أو الناعمة.(37)

فبالنسبة للقوة الصلبة ( العسكرية ) وعلاقتها بتكنولوجيا المعلومات، فإن الأخيرة أدت إلى قيام ثورة فى النظم العسكرية، وتطور نظام التسلح، وطبيعة ونوعية الأسلحة، وقدرتها التدميرية، وبالتالى التأثير على قوة الدول النسبية وقدرتها على التأثير والنفوذ والهيمنة على هيكل القوة داخل النظام الدولى (38)، ولكنها كانت بمثابة سلاح ذو حدين حيث أدت إلى اختلاف نوعية الأسلحة المستخدمة وزيادة قوتها التدميرية وتكاليفها المادية والبشرية مع استخدام القنابل والأسلحة الكيماوية، مما أدى لاتجاه الدول لتقليل الاعتماد على تلك الأسلحة، بجانب وجود رأي عام ضاغط في اتجاه تقليل الحروب والخسائر البشرية، لذلك اتجهت الدول للاهتمام بما سيتم فعله فوق إقليم دولة ما من سياسات تجارية ومالية ونفوذ سياسي واقتصادي وثقافي أيضا (39) فكان ذلك أحد التحولات الأساسية التى أدت إلى بروز مفهوم القوة الناعمة.

كما تحول العنصر الرئيسى فى بناء القوة من ” الملكية إلى المعرفة والمعلومات “، وهو مانتج عنه زيادة الوعى بأهمية الابتكار والتقدم التكنولوجى كأساس للاستحواذ على القوة، وبالتالى أهمية تطوير مفاهيم استراتيجية، والتقدم الاستخباراتى فى المجال التقنى والاقتصادى ونظم الاتصالات، ومن هنا فقد أثر الفضاء الإلكترونى فى التحول من مفهوم القوة على أساس ” الكم ” إلى القوة على أساس ” النتيجة المترتبة عليها “، والتحول بمفهوم توازن القوى على أساس ” الثقل المعادل ” إلى مفهوم ” الترابط “. (40)

 

كما يستخدم الفضاء الإلكترونى من قبل الدول لاعتبارات الأمن، حيث تُدخله ضمن حساباتها الاستراتيجية وأمنها القومى، فيما يعرف بالأمن الإلكترونى، بالإضافة إلى دور الفضاء الإلكترونى فى تحقيق الرفاهية الاقتصادية والتفوق السياسى، وزيادة معرفتها وسبقها فى مجالات العلم والبحث.

والبعض يربط بين الفضاء الإلكترونى والأمن الدولى، حيث أن المحتوى المعلوماتى العسكرى والأمنى والفكرى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى والخدمى والعلمى والبحثى يوجد فى الفضاء الإلكترونى، نتيجة توسع العديد من الدول خاصة المتقدمة منها فى تبنى الحكومة الإلكترونية، مما يعرضها لخطر الهجوم الإلكترونى، بالإضافة إلى الدعاية والمعلومات المضللة، أو الدعوة إلى أعمال تحريضية أو دعم المعارضين للنظام. (41)

 

– ظهور القوة الإلكترونية:

لما لثورة المعلومات والفضاء الإلكترونى من أثر على تحولات مفهوم القوة، فقد ظهر مفهوم القوة الإلكترونية Cyber power والذى عرفه جوزيف ناى على أنه ” القوة التى تعتمد على مصادر المعلومات والسيطرة على الأنشطة الإلكترونية والحواسيب والبنية التحتية المعلوماتية ذات الصلة بالفضاء الإلكترونى (42)

أو القدرة على الحصول على النتائج المرجوة، من خلال استخدام مصادر المعلومات المرتبطة إلكترونيا بالميدان المعلوماتى”.

ولقد ترتب على هذا الشكل الجديد للقوة ما يلى:

– تعدد شكل علاقات القوى، وتعدد الفاعلون المستخدمون لها، وقوتهم النسبية، حيث حدد ناى ثلاث أنواع من الفاعلين الذين يمتلكون ” القوة الإلكترونية: وهم الدولة، الفاعلون من غير الدول، والأفراد.

– تغير الأدوات المستخدمة فى شن الحرب، فأضحى الفضاء الإلكترونى بمثابة وسيلة للقيام بحروب غير تقليدية، كالهجمات الإلكترونية، والتجسس الإلكترونى، وإطلاق الفيروسات الخبيثة على الأجهزة الإلكترونية، مما أدى إلى نشأة مصادر تهديد غير تقليدية، والتى حددها جوزيف ناى فى أربعة تهديدات رئيسية هى ” التخريب الاقتصادى، والجريمة، والحرب الإلكترونية، والإرهاب الإلكترونى “، تلك التهديدات غير التقليدية لها تأثيرها الكبير على القوة الصلبة، نتيجة أن لصعوبة الردع فى المجال الإلكترونى، بالمقارنة بالمجالات الأخرى.

خلقت الثورة المعلوماتية مزايا جديدة ومختلفة بين الدول، أهمها: المنافسة على إنتاج المعلومات، والتى أصبحت مصدرا جديدا وهاما من مصادر قوة الدول فى السياسة الدولية، حيث يرى ناى إنه فى عصر المعلومات، ” الغلبة فيه للدولة، أو الجهات الأخرى التى تمتلك الرواية الأفضل للوقائع “. (43)

و يعد هذا تطوراً كبيراً فى ممارسة القوة والنفوذ، حيث أضحت المعلومات هى الهدف الرئيسى الذي تسعى الدول للحصول عليه وذلك بعد الثورة المعلوماتية والتكنولوجية الهائلة فى القرنين الأخيرين،” ويظل هذا التطور مستمرا، حيث اعتمدت كل مرحلة من مراحل التطور البشرى على سلطة أو قوة معينة تتناسب مع متطلبات هذه المرحلة “، وقد أثرت القوة المستخدمة فى تحديد آليات وأدوات الصراع بين المجتمعات، كما ساهمت فى إفراز مفردات ومكونات جديدة تكاملت لتنتج نظاماً دولياً تهيمن مفاهيمه لفترة محددة.

ولقد تميز العصر الحالى بانتشار الثورة المعلوماتية والتقنية، والتى أدت إلى تحييد وإزاحة التكنولوجيا لعديد من عناصر القوة من مواقعها التى تربعت عليها لفترة كبيرة، فتعرض المفهوم التقليدى للقوة لانتقادات جمة، حيث لم يعد امتلاك الدولة للأموال، والثروات، والقدرات العسكرية كافيا لبلورة دورها كقوة فاعلة ومؤثرة فى النظام الدولى.

وأضحت القوة الإلكترونية حقيقة أساسية لابد من الاعتراف بها وبأهميتها واستخداماتها الصلبة والناعمة، مثل دعمها للعمليات الحربية وتأثيراتها على تطوير القدرات العسكرية للدول، بجانب دعمها للقوة الإقتصادية والسياسية، حيث ساهمت ثورة التكنولوجيا والمعرفة فى ظهور ” مجتمع المعلومات الدولى، والإقتصاد الإلكترونى الجديد “، وهو الذي أثر بدوره على طبيعة النظام الدولى وذلك فيما يتعلق بالتقسيم الدولى للعمل، والذى يحدد آليات ومستويات النمو الاقتصادى للدول، وتوزيع الموارد الاقتصادية، وأنماط التفاعلات المختلفة بين القوى الاقتصادية الدولية، بجانب تأثيرها على القوة السياسية وذلك عن طريق التأثير على عمليات صنع القرار فى النظام الدولى. (44)

 

القوة الإلكترونية وانتشار القوة:

يعرف ناى انتشار القوة على أنها ” تزايد القضايا ومجالات التأثير والتفاعل الواقعة خارج نطاق السيطرة الكلية للدولة بما فيها الدول الأكثر قوة مع ظهور فاعلين جدد يتمتعون بصورة جديدة من القوة ”

وهناك مستويين لانتشار القوة:

  • مستوى داخلى: ( انتشار القوة السياسية ) وهو يشير إلى انتشار القوة داخل الدولة، من خلال زيادة المشاركة فى العملية السياسية، أو عملية صنع القرار وذلك إما من خلال التدخل فى صياغة القواعد الحاكمة، أو التأثير على عملية صنع القرار ذاتها.

وهناك صورتين لانتشار القوة السياسية الداخلية: تتمثل الأولى منها فى ” الانتشار المؤسسى للقوة ” مثل انتشار القوة بين المؤسسة التنفيذية والمؤسسة التشريعية،أما الصورة الثانية فهى ترتبط بموقف محدد، وهى تحدث عادة مع تزايد تأثير التغيرات التكنولوجية والاجتماعية، والذى يصاحبه تراجع لدور الدولة، وهنا يحدث انتقال للقوة السياسية للدولة لصالح: الحركات الاجتماعية، والجماعات الإثنية، ومنظمات المجتمع المدنى والقطاع الخاص، لكن هذا الانتشار يعتمد بالأساس على مدى قوة الدولة، وعلاقتها بالمجتمع، ومدى انكشافها خارجيا.

  • أما المستوى الخارجى: وهو ما يرتبط بموضوع دراستنا فهو يعنى ” انتقال القوة من التركز في الفاعل الأقوي، أو مجموعة الفاعلين الأكثر قوة في الإقليم أو العالم، إلي فاعلين آخرين، سواء كانوا من الدول أو غير الدول “، وهنا فقد ميز جوزيف ناى بين صورتين لانتشار القوة على المستوى العالمى: الأولى تتمثل فى الانتقال من ظاهرة القطب الواحد المهيمن إلى التعددية القطبية وظهور قوى جديدة من الدول، وهى ظاهرة قد تكون مألوفة وتقليدية.

بينما تتمثل الصورة الثانية فى ” Power Diffusion ” أى انتقال القوة من الدول بشكل عام إلى الفاعلين من غير الدول “، وهى ظاهرة غير تقليدية، وتفرض تحديات على الدول وسيادتها.

وبالنظر إلى العلاقة بين القوة الإلكترونية و”انتشار القوة”، فإن جوزيف ناى قد رأى أن ” انتشار القوة ” ترجع لعاملين أساسيين هما: ظهور قضايا جديدة عابرة للقومية، ويصعب على الدول مواجهتها بمفردها مثل: قضايا الإرهاب الدولى، وشبكات الجريمة المنظمة، والأزمات المالية العالمية، أما العامل الثانى ينصرف إلى تأثير ثورة المعلومات والاتصالات، وهو مايرجحه جوزيف ناى، حيث يربط انتشار القوة بشكل رئيسى بثورة التكنولوجيا والمعلومات، حيث مايراه ناى أن انتشار المعلومات يتحدى نظام القطبية الذي يعتمد على توزيع هيراركى للقوة بين الدول، ويدفع للاتجاه لنظام اللاقطبية، وانتشار القوة بين الفاعلين من غير الدول وذلك لأن انتشار المعلومات لايكون حكرا على الفاعلين الأكثر قوة وثروة، وإنما يتسم باللامركزية، والانتشار مابين مختلف الأفراد والجماعات. (45)

ومن هنا فإن الفضاء الإلكترونى ونظراً لسهولة وانخفاض تكلفة استخدامه، والسرعة فى تبادل المعلومات، مع إمكانية تخفى الفاعلين المستخدمين وعدم كشف هويتهم، أصبح بيئة مناسبة وجاذبة لمختلف الأفراد، والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والفاعلين من غير الدول، ودفعهم لاستخدامه لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، والقدرة على اختراق البيئة المعلوماتية للدول أنفسهم، من خلال القدرة على قطع أنظمة الاتصال بين وحدات عسكرية، أو اختراق قاعدة بيانات للدول وتسريب معلومات هامة، أوإرسال فيروسات خبيثة قادرة على تدمير الأجهزة الإلكترونية. (46)

وبالتالى فإن القوة الإلكترونية التى أفرزتها ثورة المعلومات والاتصالات، أدت إلى توزيع القوة بين عدد أكبر من الفاعلين، مما جعل قدرة الدولة على الهيمنة على هذا المجال موضع شك، بالمقارنة بالمجالات الأخرى للقوة، بالإضافة إلى أن القوة الإلكترونية مكنت الفاعلين الأصغر فى السياسة العالمية، من ممارسة القوة الصلبة والناعمة أكبر من ذى قبل من خلال الفضاء الإلكترونى. (47)

 

عناصر القوة الإلكترونية:

دخل المجال الإلكترونى كغيره من مجال البحر والجو والفضاء فى ميادين الصراع، حيث الصراع فى جزء كبير منه من صراع على المصالح والقيم إلى صراع ذو طابع إلكترونى، وذلك نتيجة الاعتماد المتزايد على الفضاء الإلكترونى، ( 48) ويتميز هذا النوع الجديد من الصراع بأنه، غير معلوم أطرافه فى كثير من الأحيان، ويتجاوز حدود الدول القومية وسيادتها، ويتميز بأن تدميره لا يصاحبه وفيات من الأشخاص، ويسعى كل طرف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالخصم، ويتضمن التجسس والتسلل وتدمير قواعد البيانات والمواقع الإلكترونية من خلال إرسال الفيروسات الخبيثة وغيرها من أسلحة الفضاء الإلكترونى، فيما يسمى الحرب الإلكترونية والتى تعرف كونها: ” القدرة على الدفاع عن أو الهجوم على المعلومات، من خلال شبكات الحاسب الآلى عبر الفضاء الإلكترونى، بالإضافة إلى شل قدرة الخصم على القيام بنفس هذه الهجمات “، وهى تشمل خمس عناصر وفقا لكينيث جريس هى: التجسس، الدعاية، الحرمان من خدمة الإنترنت، تعديل البيانات والتلاعب بها، التلاعب بالبنية التحتية.

 

و تشمل عناصر القوة الإلكترونية لدولة ما ستة عناصر أساسية هى:

1- بنية تحتية تكنولوجية:

متمثلة فى أجهزة الحاسب، وشبكات اتصالات مرتبطة بأجهزة الحواسيب، وعنصر بشرى مدرب ولديه مهارة استخدام هذه الأجهزة، وتستطيع من خلالها أن تمارس نوعاً من التأثير، وتتضح معالم هذه البنية التحتية فى: أنظمة الدولة المالية والمصرفية، وشبكات الكهرباء والطاقة، ونظم إدراة الخدمات، حيث تعتمد جميعاً على الشبكات الإلكترونية فى تقديم الخدمات.

 

2- الأسلحة الإلكترونية:

وهى برامج تم تصميمها بشكل معين لإلحاق الضرر وتخريب قواعد البيانات أو سرقتها، أو العمل على قطع الاتصال بالشبكة، مع العلم أنه يصعب التعرف أو اكتشاف هذه الأسلحة وهى مثل: فيروسات الحاسب، الديدان، أحصنة طراودة، القنال المنطقية، الميكروبات فائقة الصغر، والمدافع.

 

  • العمليات الإلكترونية: وتشمل

– مهاجمة شبكة البيانات والحواسيب: والتى تشمل اختراق هذه الشبكات لتعطيلها ونشر فيروسات تدمرها، أو نشر معلومات محرفة لإرباك العاملين عليها، أو قطع بمات الاتصال، وشل قدرة الطرف الآخر على النشر السريع لقوته وإمكاناته، كما تشمل قطع أنظمة الاتصال فيما بين الوحدات العسكرية، أو فقد الخصم لقدرته على الاتصال بالأقمار الصناعية التابعة له.

 

– الدفاع عن شبكات الحاسب الآلى:

وذلك عن طريق حماية الشبكات والبيانات من أى هجوم بالأسلحة الإلكترونية ومايسببه ذلك من أضرار جسيمة، بحيث يتم تأمين الشبكة، والمكون المادى لها مثل الخوادم والشرائح الإلكترونية.

 

  • استطلاع شبكات الإنترنت:

من خلال القدرة على التجسس على شبكات الخصم، بهدف الحصول على معلومات، دون أن يصاحب ذلك أى تدمير أو عطل بشبكات الحواسيب وقواعد البيانات.

 

– الردع الإلكترونى:

من خلال خلق مجموعة المحفزات المناعة لقيام أحد أطراف الصراع من القيام باعتداء أو هجوم مستقبلاً “، مع العلم أنه لايستطيع أحد الأطراف تدمير الطرف الآخر كلياً.

 

  • بنية مؤسسية وتشريعية:

تكون مهمتها تحقيق استخدام القوة الإلكترونية، فى ظل تحقيق استراتيجية الدولة، وتدريب جيوش وكتائب إلكترونية، تحقق الأمن الإلكترونى للدولة والأفراد، وأن يكون هناك هيئة تشريعية تهتم بتعريف الجرائم الإلكترونية، وتحديد جزاء مرتكبيها.

 

  • العنصر البشرى:

المدرب على استخدام أجهزة الفضاء الإلكترونى، وقادر على اختراعها وتطويرها، وهذا يعتمد على جودة التعليم المقدم، وولاء هذه العناصر للدولة.

 

  • وجود خطة استراتيجية تدعم رؤية الدولة لتعظيم قوتها الإلكترونية:

الدولة التى تسعى لامتلاك قوة إلكترونية لابد وأن تمتلك خطة استراتيجية تحدد فيها أهدافها، وآليات التنفيذ، وتحدد وظائف كل جهة، حتى لا يحدث إهدار للموارد، وتخبط فى الاختصاصات. (49)

 

أنماط استخدامات القوة الإلكترونية فى التفاعلات الدولية:

يتم استخدام القوة عبر الفضاء الإلكترونى فى التفاعلات الدولية، من خلال نمطين:

النمط الأول:ممارسة نمط القوة الصلبة عبر الفضاء الإلكترونى:

حيث يتم استخدامه فى أعمال تدميرية وتخريبية من خلال قطع كابلات الاتصال، والأقمار الصناعية بين الوحدات العسكرية، أو استخدام الأسلحة الإلكترونية المتقدمة فى سرقة المعلومات وتدمير الأنظمة المعلوماتية الشبكات لمناطق حيوية بما يهدد أمن الدولة والأفراد، مثال تعرض أستونيا لهجمات إلكترونية عام 2007، وفى الحرب بين جورجيا وروسيا فى 2008.

 

النمط الثانى: استخدام نمط القوة الناعمة عبر الفضاء الإلكترونى:

من خلال دعم دوره فى التأثير على الرأى العام، وفى العمليات النفسية، وتكوين التحالفات الدولية، وفى عمل أجهزة الاستخبارات الدولية من خلال توفيره للمعلومات، والتى لاتقتصر على وجهة النظر الرسمية فى الدولة، إنما أيضا يمتد لدور الأفراد فى إنتاج المعلومات، مع قدرته على التأثير على أفكار الأفراد، من خلال نشر المعلومات والأفكار، ودعم عمليات التغيير الثقافى، من خلال سهولة بث المنتجات الثقافية، كالأفلام والتقارير المصورة، وأيضا نشر برامج التعاطف والولاء عبر برامج تعليم اللغات الأجنبية (50)

 

خلاصة:

مما سبق تستنتج الباحثة أنه قد زاد تأثير الفاعلين العنيفين من غير الدول فى السياسة العالمية، خاصة منذ أحداث 11 سبتمبر، ويعد الفقر والفساد، وتعدد الهويات المتصارعة والسلطوية أسباباً رئيسية لظهورهم.

أما بالنسبة لمفهوم القوة، فقد طرأت عليه تغيرات عديدة وفقا لتطورات السياسة الدولية، وقد اختلفت منظورات العلاقات الدولية فى تناوله فظهر مفهوم القوة الصلبة ثم الناعمة ثم الذكية، وأخيراً القوة الإلكترونية.

وقد أثرت الثورة المعلوماتية والفضاء الإلكترونى على تحولات مفهوم القوة، وظهور مفهوم القوة الإلكترونية، كما ساعد فى انتشار القوة على المستويين الداخلى، والخارجى، وعلى الفاعلين المستخدمين لها فلم تعد حكراً على الدولة، إذ أصبحت فى متناول الفاعلين من غير الدول، بما فيهم الفاعلين العنيفين مما أدى لظهور مصادر تهديد غير تقليدية على الدولة مثل الإرهاب الإلكترونى، والتجسس الإلكترونى، وتراجع مفهوم سيادة الدولة، وهو ما جعل من الضرورى أن تمتلك الدولة أدوات وعناصر القوة الإلكترونية التى تمكنها من مواجهة هذه المخاطر المحتملة، بالدفاع أو الهجوم الإلكترونى.

————————————

الهامش

1) إيمان رجب، “،” تأثير الهوية على سلوك الفاعلين من غير الدول فى المنطقة العربية: دراسة حالتى حزب الله وحماس ” مرجع سابق، ص 25.

2) سعاد محمود، “عدم التماثل: الأطر النظرية المفسرة لدور الفاعلين العابرين للقومية”، السياسة الدولية: ملحق اتجاهات نظرية، العدد 192، (أبريل 2013)، ص 5.

3) إيمان رجب،” تأثير الهوية على سلوك الفاعلين من غير الدول فى المنطقة العربية: دراسة حالتى حزب الله وحماس”، مرجع سابق، ص 12.

4) إيمان رجب، “اللاعبون الجدد: أنماط وأدوار الفاعلين من غير الدول فى المنطقة العربية”، مرجع سابق، متاح على:http://digital.ahram.org.eg

5 Wendy Pearlman, “Non state Actors, Fragmentation, and Conflict Processes”, sage Journals, available at: http://jcr.sagepub.com/

6) سعاد محمود، “عدم التماثل: الأطر النظرية المفسرة لدور الفاعلين العابرين للقومية”، مرجع سابق، ص 6.

7) إيمان رجب، “تأثير الهوية على سلوك الفاعلين من غير الدول فى المنطقة العربية: دراسة حالتى حزب الله وحركة حماس، مرجع سابق، ص ص 37: 40.

8) Muhitin Ataman، ” The Impact of Non-State Actors on World Politics: A Challenge to Nation-States “، Alternatives: Turkish Journal of International Relations”، Vol.2، No.1، (Fall 2003)، pp 42، 43.

9) سعاد محمود، “عدم التماثل: الأطر النظرية المفسرة لدور الفاعلين العابرين للقومية “، مرجع سابق، ص 7.

10) خالد حنفى، “مابعد الدولة: متطلبات فهم الموجة الجديدة من الفاعلين من غير الدول “، السياسة الدولية: ملحق اتجاهات نظرية، العدد 192، (أبريل 2013)، ص 3.

11) إيمان رجب، القوة المنافسة: مداخل تحليل الفاعلين العنيفين من غير الدول في المراحل الانتقالية، مرجع سابق.

(12) Phil Williams، Violent non-state Actors andNational and international security،(Swiss Federal Institute of Technology Zurich، 2008)، p 5.

13) إيمان رجب، “القوة المنافسة: مداخل تحليل الفاعلين العنيفين من غير الدول فى المراحل الانتقالية، السياسة الدولية، مرجع سابق، متاح على: http://digital.ahram.org.eg/

14 (Daveed Gartenstein-Ross، Violent Non-State Actors in World Politics، (Foundation for Defendes of Democracy، August 2012).

15) إيمان رجب، ” القوة المنافسة: مداخل تحليل الفاعلين العنيفين من غير الدول فى المراحل الانتقالية “، السياسة الدولية، مرجع سابق، متاح على: http://digital.ahram.org.eg/

16) إيمان رجب، ” تأثير الهوية على سلوك الفاعلين من غير الدول فى المنطقة العربية: دراسة حالة حزب الله وحركة حماس ” مرجع سابق، ص 37، 38.

17) إيمان رجب، القوة المنافسة: مداخل تحليل الفاعلين العنيفين من غير الدول فى المراحل الانتقالية “، مرجع سابق.

18) Phil Williams، op cit، p 8، 9.

19) إيمان رجب، ” القوة المنافسة: مداخل تحليل الفاعلين العنيفين من غير الدول فى المراحل الانتقالية “، مرجع سابق.، متاح على: http://digital.ahram.org.eg/.

20) Troy S. Thomas and William D. Casebeer، Violent Systems: Defeating Terrorists، Insurgents، and Other Non-State Adversaries (USAF :Institute for National Security Studies)، p 5.

21) Phil Williams، op.cit، pp 12:14

22) خالد العبيدى، الواقع التشريعى للجريمة المنظمة عبر الوطنية، صادر برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، مارس 2004، متاح على: pogar.org http://

23) محمد الجندى، ” مسئولية الشركات الأمنية عن انتهاك حقوق الإنسان: بلاك ووتر نموذجاً “، المستقبل العربى، ص 76، متاح على: http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_422_mhmd_jamil_aljondi.pdf

24) سماح عبدالصبور، القوة الذكية فى السياسة: دراسة فى أدوات السياسة الخارجية الإيرانية تجاه لبنان 2005: 2013، (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2014)، ص 23.

25) إيمان رجب،” لماذا القوة “، السياسة الدولية: ملحق اتجاهات نظرية، العدد 188، (أبريل 2012)، ص3.

26) ريهام مقبل، ” مركب القوة: عناصر وأشكال القوة فى العلاقات الدولية “، السياسة الدولية: ملحق اتجاهات نظرية، العدد 188،(أبريل 2012)، ص ص 6، 7.

27) سماح عبدالصبور، القوة الذكية فى السياسة الخارجية الايرانية، مرجع سابق، ص 33.

28) سعاد محمود، ” ديناميكيات الانتقال من الصلبة إلى الافتراضية “، مرجع سابق، ص 13.

29) Josef.s Nye، “Is Military power Becoming Obsolete”، The Korea Times، (January 13، 2010).

30) سعاد محمود، ” ديناميكيات الانتقال من الصلبة إلى الافتراضية “، مرجع سابق، ص 14.

31) إيهاب خليفة، القوة الإلكترونية وأبعاد التحول فى خصائص القوة، مرجع سابق، ص 18.

32- Robert Keohane and Joseph Nye، Power and Interdependence In The information Age، Foreign Affairs، Vol: 77، No:5، (September- October 1998)، p 83.

33) على حسين باكير، اكتشاف القوة الناعمة الإيرانية..القدرات وحدود التأثير، (مركز الجزيرة للدراسات، 17 أبريل 2013).

34) سماح عبدالصبور، القوة الذكية فى السياسة الخارجية الايرانية، مرجع سابق، ص ص 59: 61.

35) مريم إبراهيمى،” التعاون الأمنى الأمريكى الجزائرى فى الحرب على الارهاب وتأثيره على المنطقة المغاربية “. رسالة ماجستير (الجزائر: كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2011) ص 12.

36) سعاد محمود، ” ديناميكيات الانتقال من الصلبة إلى الافتراضية “، مرجع سابق، ص15.

37) إيهاب خليفة، ” استخدام القوة فى إدارة التفاعلات الدولية: الولايات المتحدة نموذجا خلال الفترة من 2001: 2012 “، رسالة ماجستير (جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2015 “، ص ص 6 4:48.

38) عادل عبد الصادق، ” أثر الإرهاب الإلكترونى على مبدأ استخدام القوة فى العلاقات الدولية “، مرجع سابق، ص 42.

39 John Orme، The Utility of Force In a World of Scarcity، The MIT Press، Vol:22، No:3، (Winter 1997-1998)، pp139- 142.

40) عادل عبدالصادق، “أثر الفضاء الإلكترونى فى تغير طبيعة العلاقات الدولية “، مرجع سابق، ص 200.

41) إيهاب خليفة، ” القوة الإلكترونية وأبعاد التحول فى خصائص القوة “، مرجع سابق، ص 23.

42) Josef. S Nye، Cyper power، op. cit، p 4.

43) سعاد محمود، ” ديناميكيات الانتقال من الصلبة إلى الافتراضية “، مرجع سابق، ص 16 .

44) إيهاب خليفة، ” استخدام القوة فى إدارة التفاعلات الدولية: الولايات المتحدة نموذجا خلال الفترة من 2001: 2012 “، مرجع سابق، ص ص 1 5، 52.

45) على جلال، ” إعادة الانتشار: تحليل أولى لأبعاد وآثار انتشار القوة داخل وبين الدول “، السياسة الدولية: ملحق اتجاهات نظرية، العد 188،(أبريل 2012)، ص ص 18: 21.

46) إيهاب خليفة، ” استخدام القوة فى إدارة التفاعلات الدولية: الولايات المتحدة نموذجا خلال الفترة من 2001: 2012 “، مرجع سابق، ص 55، 56.

47) إيهاب خليفة، ” القوة الإلكترونية وأبعاد التحول فى خصائص القوة “، مرجع سابق، ص 27.

48) حسين باكير، ” المجال الخامس: الحروب الإلكترونية فى القرن 21 “، (مركز الجزيرة للدراسات، 2011)، متاح على: http://studies.aljazeera.net/issues

49) إيهاب خليفة، “استخدام القوة فى إدارة التفاعلات الدولية: الولايات المتحدة نموذجا خلال الفترة من 2001: 2012، مرجع سابق، ص ص 66: 74.

50) عادل عبدالصادق، “أثر الفضاء الإلكترونى فى تغير طبيعة العلاقات الدولية”، مرجع سابق، ص ص 205: 208.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى