ترجمات

فرنسوا بورجا فرنسا والاسلام السياسي

هذه ترجمة لنص شهادة المفكر الفرنسي البروفيسور “فرنسوا بورجا”، أمام البرلمان الأوربي في العاصمة البلجيكية بروكسل في 14 يناير 2016، حول الإسلام السياسي ودور فرنسا في تغذية التطرف في العالم الإسلامي (رابط الشهادة) (1).

ولد فرانسوا بورجا في إحدى مناطق جبال الألب الفرنسية عام 1948، درس القانون في جامعة (كرونوفل)، وقام بجولة حول العالم أثناء دراسته الجامعية استغرقت 16 شهراً، عمل أستاذاً للقانون في جامعة قسطنطينة في الجزائر في الفترة ما بين 73 و80 ثم عاد إلى فرنسا، وعين باحثاً في الهيئة القومية للبحث العلمي، ثم انتقل إلى مصر وأقام فيها خمس سنوات في الفترة بين عامي 89 وحتى عام 94، حيث عمل باحثاً في المركز الفرنسي للعلوم الاجتماعية. صدرت له عدة كتب من أبرزها “الإسلام السياسي صوت الجنوب” الذي صدر عام 1992، وكتاب “وجهاً لوجه مع الإسلاميين ” .

نص كلمة فرنسوا بورجا:

شكرا سيّدي الرّئيس، شكرا لحضوركم الذي يعني أنّكم مهتمّون بمسألة الحركات الإسلاميّة، تكلّمت هنا سابقا، والتقيتُ زميله قديمة لي هنا، تريدون بعض ملاحظاتي المتواضعة، وقد اِكتسبتُها بفضل المؤسّسات التي عملتُ فيها في الخارج، وأنّ آرائي التي سأشارككم بها ترتكز أساسا إلى الامتياز الذي حظيتُ به عندما عشتُ 23 عاما في 5 دول عربيّة (6 سنوات في اليمن، 5 سنوات في مصر، 7 سنوات في الجزائر، 5 سنوات في سوريا ولبنان إلى أن تمّ طردنا من سوريا سنة 2011).

كنت أنتظر منكم أسئلة، ولكن سأحدّثكم مباشرة: سأقترح عليكم ملاحظة: كلّما سمعتُ الخبراء والفاعلين السّياسيّين يدخلون أبواب التوتّرات التي نعيشها وهو باب الإسلامولوجيا، فإنّنا نسمع في فرنسا لأنّه لا بدّ أن يكون إماما راديكاليّا، راديكاليّة الإسلام، فهذا الشّاب لن يفهم السّورة، وليس له مراجع، …، أتدخّل هنا لأقول: حذارِ، فنحن في مساحة خاطئة وخطيرة جدّا، فنحن، إذا ندخل في باب المشاكل التي نحن هنا لنتجاوزها من خلال الفحص النّقدي لثقافة الآخر، فإنّنا نحرم أنفسنا من أفق تحليل مبدئي ونبدأ بخطأ فادحِ وفهم خاطئ ونحصر الأخطاء والمسؤولية في المسلمين وحدهم.

ولكن المشكلة التي نريد تجاوزها ترتبط بتفاعل ناجع واِنتبهوا أنّي لا أقول إنّ الخطأ في الظرف المقابل، أنا أقول إنّ الخطأ وتمزّق النّسيج السّياسي والتوتّرات كلّها ناتجة عن سوء عمل وعن ديناميكيّة التقديم السّياسي الذي أقحمناها فيه.

وبما أنّني راديكاليّ، فسأضيف جملة أخرى: إذا كنّا في وضع سيّء كهذا، فنحن علينا مسؤولية أكبر من تلك التي نلحّ على توجيهها للآخر، وإن كان لم يفهم إسلامه. المشكلة ليست الإسلام، المشكلة هي فرنسا. نعم، نحن جميعا، لَم نقدر على التصرّف بانسجام في ظرف من تاريخنا، ونحن هنا نتحدّث عن النّسيج الاجتماعي الفرنسيّ، وسنرى أنّنا إن كنّا نتحدّث عن سوء الأوضاع في سوريا والعراق، فالوضع الحاليّ هو نتاج مسؤوليتنا جميعا، نظرا للخلل في آليّات العمل السّياسيّ، ونحن جميعا متورّطون في هذا الخلل، نحن جميعا مسؤولون.

وسأتعرّض هنا إلى كلّ المقاربات التي تحصر السّبب بطريقة أو بأخرى في جهة واحدة، وأعني هنا ملفّ داعش، والحال أنّه يتطلّب المراجعة عبر مستويين أساسيين:

المستوي الأوّل: مراجعة موضوعيّة لطرائقنا في التفاعل مع تاريخنا الاستعماريّ مع العالم الأجمع، وتحديدا مع البلدان التي اِستعمرناها، مراجعة ما فعلنا وما لم نفعل. هذا الصّباح (يوم ألقاء فرانسوا شهادته)، قال أحد المتحدثين في مجلس الشّيوخ وكان أمريكيّا، قال جملة قويّة: “لا، لم تبدأ داعش مع حرب الخليج الأولى، بل بدأت سنة 1953 عندما وضعنا حدّا للتجربة الدّيمقراطيّة الإيرانيّة، ممّا أنتج اِستبدادا سيكون لنا معه صعوبات في التعامل وفي المصالح البترولية”. إذن، يجب القيام بمراجعة موضوعيّة، ولا أعني بها أن نتحمّل نحن 99% من المسؤوليّة. ولكن يجب أن نُقرّ أنّه منذ 1990، تمّ التّرويج للدّبلوماسيّة البتروليّة الأمريكيّة التي سهّلها اِنهيار الاتّحاد السّوفيتي، هذا ما يجب مراجعته: سياستنا الخارجيّة وطريقتنا في التّعامل مع الأنظمة الاستبداديّة.

المستوي الثّاني: الإقرار بـالخلل في كيف نعيش معا على الصّعيد العالميّ؟ وهذا ملفّ كبيرٌ: كيف نعيش معا في نسيج اِجتماعيّ فرنسيّ موحّد؟ هناك شروخ. وأنّا متشائم، لأنّ النّسيج الاجتماعيّ الوطني فيه مناطق كثيرة فيها تمزّق، ولا بدّ من علاج لإعادة الثّقة بدل ما نفعله وهو وضع “الملح على الجرح”. لماذا؟ لماذا تعمل الأحزاب السّياسيّة على تعميق هذه الشّروخ؟ لا بدّ من تصرّف جذريّ وناجع في الكتلة الإرهابيّة، فنحن قد شجّعناها على أن تكون مصدر خطرٍ.

سآخذ بعض الوضعيّات المستفزّة، ولا تسيئوا فهمي وأذكر هنا، ما قام به حزب “شارل ديغول” عندما ذهب للقيام بحملة اِنتخابيّة في المنطقة الشرقيّة، وملاحظتي لا تنخرط في جدل سياسيّ وليست تهجّما على لون سياسيّ معيّن. إنّ فرنسا عموما تنتظر القيام بتصرّفها الانتخابي النّاجع في السياسات التي تخلق التوتّر.

إنّنا في فترة من تاريخنا، خرجنا فيها من الاستعمار إلى ما بعده، يجب أن نتّخذ مكانا أكثر تواضعا بين الأمم، ويبدو لي أنّه لنا مشاكل لا بدّ من تجاوزها، ومن التّفريق بين التهديدات والمواجهات أشعر أنّ جزءا من النّخبة السّياسيّة لا يطلب الفهم، منها ما قاله الوزير الأوّل عندما صرّح بأنّ “محاولة لفهم الصّفح”. لا، لا يغفر له هذا، ومنها ما قاله صاحب إحدى القنوات “لا أريد أشخاصا في قناتي يتحدّثون عن سوريا والعراق، أو السنّة والشيعة، أو الأخيار والأشرار …”.

ما دمنا في نظرة أحاديّة، وما دمنا نُحمّل جهة واحدة المسؤولية فإنّنا سنُصعّب المشاكل أكثر، علينا القيام بتقييم جذري، كيف نعيش معا عالميّا، ووطنيّا، هل هناك طرق جاهزة وسهلة؟

هذا معناه أنّ توزيع الموارد بين مختلف مكوّنات النّسيج الاجتماعي ليس ناجعًا. هناك من له دخل عال، وهناك الفقراء. ستقولون، هل تريد التّقليل من الأثرياء؟ طبعا، ولكن الأمر صعب، ويبدو لي أنّه بإمكاننا معالجته فوريّا. أنا لا أعني الموارد الاقتصادية فقط، وإنّما الموارد الرّمزيّة، القدرة التي نعطيها أو نسلبها من كلّ مكوّنات المجتمع. وأضرب مثلا هنا: أسوأ ما فعلنا إلى الآن هو صناعة نخبة مسلمة خاطئة أعطيناها الكلمة لتنوب عن المسلمين جميعا. أتصوّر أنّه عندما نسمع الإمام الرّومي يتحدّث على لسان كلّ المسلمين، نرتاح لخطابه، ولكن ما هو النّظام الذي يجعل المسلمين يقبلون أن يتحدّث شخص باسمهم جميعا؟ نحن لا نقبل المسلمين العلماء إلاّ إذا شكّلوا تهديدا للأمن الوطني، نحن نعتبرهم مباشرة أصوليين.

ما أقوله: فرانسوا إذا تكلّم فهو على حقّ، أمّا محمّد فإذا تكلّم على نفس الشّيء فإنّنا نعامله باعتباره أصوليّا. لنتوقف عن التعامل مع مسلمي هذا البلد باعتبارهم إمّا جَهَلة أو أصوليّين، لندعهم يشاركون في الحوار الاجتماعي. أنا لا أريد أن تقولوا “بورجا” يحبّ المسلمين. لا! أنا أحبّ بلدي. وقلت منذ 20 عاماً، لو يكون عندنا مسلون جيّدون في فرنسا، فستكون فرنسا أفضل والعلاقات ستكون أحسن وسنرتكب حماقات أقل، ربّما كنّا تلافينا وضع كلّ البيض في سلّة واحدة مثلما فعلنا مع بن علي في تونس.

لقد تحدّثت عن اليسار، فالسّيدة Marie في ردّها على اِندلاع الرّبيع العربي، اقترحت ألاّ نتهجّم على النّظام التونسي، وأرى أنّه إذا كان لنا صوات مسلمة معتدلة ووطنيّة أكثر في تونس، فبإمكاننا التّقليص من توتّرات كثيرة، ولكننا للأسف لم ندرك ذلك.

وقد قلت مرّة للرّئيس الفرنسي، عندما زار مدينة المرسى التونسية (منطقة سياحيّة في الضّواحي الشمالية للعاصمة تونس تُعرف بثراء سكّانها واِنتمائهم إلى الطبقة البرجوازيّة) -وهذا جيّد – وأخبرني أنّ لنا علاقات طيّبة مع تونس، قلتُ له: المرة القادمة عليك الذّهاب إلى البلاد التونسيّة. يجب ألاّ نعقد علاقات مع جهة معيّنة، ومع خطاب معيّن، ذلك الخطاب الذي قام على: “ساعدونا على التصدّي للإسلاميّين”، بل يجب إقامة علاقات مع كلّ النّسيج الاجتماعي وقبول الاختلافات، عندها سنرى أنّ المساحة المشتركة ستنشأ وتتسع. أنا لا أطلب من الفرنسيّين أن يُسلِموا، أو أن يتنكّروا لقيمهم وإنّما أطلب ألاّ يُسيّرهم آخرون ويتبنّون مواقف خاطئة وهنا تكمن مشكلتنا.

وسنجد الأمر نفسه في التعامل مع الأزمة السّورية، لقد عجزنا عن تعريف العوامل الرئيسية فيها، هناك أربعة أنواع من العوامل، اِثنان يشتغلان بنفس المنظومة، وهما النظام الجمهوري العلماني، والمعارضة السياسية (لا نعني هنا الجهاديّة ولا الكرديّة)، واثنان يعملان بمنظومة إمّا دينيّة (داعش) أو عرقيّة (الأكراد).

مشكلتنا الكبرى في التعامل مع هذه العوامل هي في السّؤال التّالي: لِمَا ظهرت الأزمة السّورية مع “الأطراف” وليس مع المركز؟

الجواب هو: لأنّنا لم نحسن التصرّف في “المركز”؟

لماذا لم نحسن التصرّف في المركز؟

لأنّنا لن نكن قادرين على تعريف الاتّصالات.

نقول: الإسلام الجمهوريّ، لتقول الجمهوري. بالنّسبة إليّ، إذا قلت “باسم الله صباحا”، فهذا لا يهمّني، يهمّني ما تقول وما تفعل فيما بعد، هل يعمل في إطار المنظومة الوطنيّة السّورية، نحن نريد توليد منظومة سوريّة على صورتنا، ليس العلمانية الجمهوريّة، فهي كذلك رغم أنّهم يقولون “باسم الله”.

ففي قلب عدم قدرتنا على التصرّف بنجاعة في العالم العربي، نجد عجزنا على خلق علاقة منطقيّة خارج دائرة الإسلام، دون بذل جهد ثقافيّ لفهم ما أنتجوا، سنرى أنّ خطأنا هو التّالي: إنّه التّشكيك في الآخر! لقد أعطيناهم “الملعقة” ولم نعطهم “الشّوكة” خوفا من أن يطعنونا بها”.

إن فيلم “العودة إلى حمص” فيلم مهمّ، إنه يجيب عن سؤال مهم لماذا أنهى الشّاب محاولاته في الحياة بالالتحاق بداعش؟ لقد فعل ذلك لأنّ العَرب والغرب خذلوه. (أظنّ أنّي أستحقّ نقدا سأنتظره). إن مشكلتنا هي الانتماء الدّيني، ولا أتحدّث هنا الجهاديّين، إنّي أتحدّث عن الذين اِعتبرناهم غير علمانيّين.

وأختم هنا بالقول: لا بدّ من إعادة بناء علاقات ناجحة، مع الجميع لأننا إذا قمنا بالتركيز على المركز فقط، فإنّنا سنشجّع على صعود التطرّف، وانظروا ماذا فعلنا في سوريا، لقد كنا سبباً في تغذية صعود التطرّف”.

—————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

د. سماح حمدي

باحثة وأكاديمية تونسية، دكتوراه في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، 2015، عضو الفيدرالية العالمية للنساء الجامعيات، سويسرا

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى