ماذا يمثل السيسي للكيان الصهيوني؟
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
Ephraim Kam Egypt: The Struggles of the Sisi Regime, in: Anat Kurz and Shlomo Brom, Strategic Survey for Israel, Institute for National Security Studies, 2016-2017, pp. 119-129.
ثلاث سنوات مرت على تولي الجنرال عبد الفتاح السيسي زمام السلطة في مصر، وما زالت البلد تعاني من مشاكل حادة، بعضها قديم وجوهري أضر بمصر لسنوات طويلة، وبعضها الأخر تبلور وازداد سوءاً في السنوات الأخيرة نتيجة التغيرات الجذرية التي يشهدها الشرق الأوسط. وتكمن التحديات التي تواجه السيسي في ثلاثة أصعدة متداخلة: الصعيد السياسي، وخصوصاً حاجة النظام لتعزيز وضعه في مواجهة خصومه السياسيين، وبالأخص وبالدرجة الأولى جماعة الإخوان المسلمين؛ والأمن والنظام الداخلي، حيث تبرز الحاجة إلى محاربة الإرهاب، وخصوصاً الإرهاب الإسلامي الذي تتصاعد وتيرته في مصر؛ بالإضافة إلى الصعيد الاقتصادي والحاجة إلى تدعيم الاقتصاد الذي يؤثر على كل من الصراع السياسي والحرب على الإرهاب على حد سواء.
أولاً: نظام السيسي وجماعة الإخوان المسلمين
بعد عام على تولي جماعة الإخوان المسلمين السلطة في مصر عقب انتخابات حرة نسبياً، خسرت الجماعة ثقة الناس، واضطرت لدفع ثمن ادعاءاتها وأخطائها وقلة خبرتها، هذا بالإضافة إلى تحملها تبعة تدهور الوضع الاقتصادي والانعدام التدريجي للأمن، حيث فشلت الجماعة في السيطرة على هذين الأمرين على حد سواء. وفي خطوة لاقت دعماً شعبياً، أطيح بالإخوان من السلطة في حزيران-تموز/ يونيو-يوليو 2013، ليحل محلهم نظام عسكري بزعامة عبد الفتاح السيسي. وعلى الرغم من كون السيسي شخصية جديدة نسبياً على الساحة السياسية، إلا أن شعبيته كانت كبيرة في صفوف المصريين الذين بنوا آمالاً عريضة على قدرته على بناء نظام فعال ومستقر.
كان التهديد الذي تفرضه جماعة الإخوان المسلمين أحد أول المشاكل التي واجهت نظام السيسي. أدركت الجماعة أنها تتمتع بتأييد قاعدة شعبية واسعة، وأن الانتخابات كانت فرصتها لتقود البلاد وتكسب الشرعية من خلال عملية ديمقراطية تعكس إرادة الشعب؛ وأن هذا الأمر انتزع منها بالقوة وبطريقة غير مشروعة. طغى شعور الجماعة بأنها كانت ضحية على أي محاولات للمساومة أو التقارب بين الجيش والأطياف الليبرالية، وبالتالي، رفضت الجماعة مقترحات كلا الطرفين بالمشاركة في حكومة تكون تحت رعاية الجيش؛ واشترط الإخوان من أجل المصالحة والتعاون عودة محمد مرسي لسدة الرئاسة والاعتراف بمسودة الدستور التي وضعت قبل الإطاحة به.
لم تلق هذه المطالب قبولاً لدى الجيش، وأدى غياب أي أساس للتعاون إلى المواجهة الشاملة مع الإخوان المسلمين. وبالفعل، منذ صيف 2013، قام النظام باستعراض قوته من خلال اتخاذ سلسلة من الخطوات في مواجهة الإخوان، حيث صنفت الجماعة تنظيماً إرهابياً وعدواً للنظام، وحظرت كل أنشطتها الاجتماعية والسياسية، كما حظر حزبها السياسي، حزب الحرية والعدالة وأغلقت مقاره وفروعه وتم تجميد أمواله وممتلكاته؛ واعتقلت قيادات الجماعة بتهم التحريض على العنف وحكم على بعضهم بالإعدام (على الرغم أن الحكم لم ينفذ)، وقتل آلاف من أعضاء الحركة في مواجهات مع القوى الأمنية، فيما فر آخرون إلى المنافي.
على الرغم من أن انتخابات عام 2012 أثبتت أن جماعة الإخوان المسلمين تتمتع بدعم قاعدة شعبية عريضة نسبياً، إلا أن الخطر الذي تفرضه على النظام في الوقت الحالي واحتمال عودتها إلى السلطة ليسا كبيرين. فقد تضاءل الدعم الشعبي للحركة إلى حد ما، وأسهمت التدابير التي اتخذها النظام لمواجهة الجماعة في إضعافها وشل حركة قيادتها ونشطائها، فيما يخشى من بقي حراً من أعضاء الجماعة في مصر، من أن الكثير منهم سيتعرض للقتل فيما لو قرروا التظاهر اعتراضاً.
وقد أدى هذا الوضع المزرى للجماعة إلى نشوء حالة من عدم الرضا في أوساطها الداخلية، كما أدى إلى خلافات وانقسامات بين الجيل القديم والجيل الجديد في الحركة. فمن ناحية، يرى بعض قيادات الحركة، أن اللجوء إلى العنف سوف يلقى إدانة من عامة المصريين الذين سيحملون الجماعة مسؤولية تدهور الأوضاع، ويرون أن هناك مبرراً لقمعها بالقوة. في حين أن هناك أوساطاً أخرى داخل صفوف الإخوان تنتقد عدم لجوء الجماعة إلى العنف. وفي الواقع فإن الجماعة ليس لديها تصور واضح حول كيفية التعامل مع هذا الوضع الصعب، فانتهاج العنف سوف المزيد من الإضرار بالنظام، في حين أن انتهاج السلبية لن يؤدي إلى أي مكان.
بالإضافة إلى ذلك، فإن على الإخوان المسلمين أيضاً أن يتصدوا للدعاية المضادة التي يروج لها النظام، والتي تسعى إلى ربط أنشطة الجماعة بموجة الإرهاب التي أخذت تضرب مصر في السنوات الأخيرة، وإيجاد انطباع بأن الإخوان مشاركون في الهجمات الإرهابية أو هم المسؤولون عنها. وعملياً، فإنه من الصعب تقييم مدى تورط الإخوان المسلمين بالإرهاب وما مدى صحة اتهامات النظام لهم. ربما يكون بعض الأفراد في الجماعة متورطون في الإرهاب أو انضموا إلى التنظيمات الجهادية الناشطة في شمال سيناء والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية. وفي كل الأحوال، يمكن الافتراض أن العناصر الجهادية، وفي الأغلب تلك المرتبطة بتنظيم الدولة، تحاول أن تملأ الفراغ، وتستغل حالة الارتباك والضعف التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين من أجل تشكيل خلايا في مناطق متعددة لاستقطاب عناصر الإخوان المؤيدين للعنف ضد النظام.
ثانياً: الحرب على الإرهاب
منذ اندلاع الاضطرابات في بداية عام 2011 والإطاحة بنظام مبارك، شهدت مصر أسوأ موجة إرهاب في العقود الأخيرة. وقد أخذت موجة العنف هذه في ثلاثة اتجاهات رئيسية: النشاط الإرهابي للتنظيمات الجهادية في سيناء، وخاصة في الشمال؛ وتزايد عنف الجهاديين في مناطق أخرى من مصر، وخصوصاً في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وظهور الأنشطة الإرهابية الناتجة عن تدهور الوضع في ليبيا، والذي تصيب شظاياه مصر بشكل دوري، ومن مظاهره تهريب الأسلحة إلى المنظمات الناشطة في مصر وقطاع غزة.
ولعل الاتجاه أو البعد الأول هو الأكثر إلحاحاً وصعوبة. فشبه جزيرة سيناء منطقة صعبة ينعدم فيها القانون منذ عهد مبارك. غير أن الوضع ازداد سوءاً بسبب الصراع بين النظام والتنظيمات الإسلامية؛ وتفاقم الأمر مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية على الساحة العالمية. ويعد تنظيم أنصار بيت المقدس أهم وأعنف هذه التنظيمات، وقد بدأ يكتسب سمعته السيئة في أواخر عام 2011 بعد سقوط مبارك. حيث نفذ التنظيم هجمات استهدفت البنية التحتية، وأهدافاً عسكرية، بما في ذلك مسؤولين الأجهزة الأمنية، وخصوصاً في رفح والشيخ زويد والعريش والمواقع السياحية في سيناء.
وكان التنظيم يسعى إلى تقويض الاقتصاد والأمن في سيناء. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، بايع أنصار بيت المقدس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وأصبح اسمه ولاية سيناء. وضم التنظيم في صفوفه ناشطين من البدو، وقدماء جماعات إرهابية مصرية أخرى، وأعضاء سابقين من حركة حماس من غزة، ومتطوعين أجانب دخلوا سيناء من خارج مصر. وكان أكبر هجوم قام به التنظيم في تموز/ يوليو 2015 عندما قام مئات من عناصره باقتحام مدينة الشيخ زويد ثالث أكبر مدن شمالي سيناء، في مشهد يحاكي ولو على نطاق مصغر، استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق في سوريا والعراق.
في كانون الثاني/ يناير 2015، أنشأ نظام السيسي قيادة موحدة لمواجهة تنظيم الدولة في سيناء. غير أنه على الرغم من نشر القوات المصرية بشكل مكثف في المنطقة، وتوسيع العمليات، وقتل المئات من أعضاء المنظمة، ما زال النظام عاجزاً عن اجتثاث التنظيم واقتلاعه من سيناء. ويمكن إرجاع ذلك جزئياً إلى محدودية قدرات الجيش في الحرب على الإرهاب، حيث أن الجيش المصري غير متحمس لتنفيذ عمليات برية، كما أن نقاط تمركزه ثابتة إلى حد كبير، ويمكن التكهن بتحركاته في معظم الأحيان. وفي المقابل، فإن تنظيم ولاية سيناء سريع، إن لم نقل زئبقي، الحركة، وينجح في مفاجأة الجيش بمبادراته، ويحصل على مساعدات مالية وعينية وبشرية من داعش.
وقد بدأ النظام يفهم مؤخراً أن جزءاً من المواجهة يجب أن يكون سياسياً، إذ يجب عليه أن يكسب تأييد السكان المحليين ويحدث وقيعة بينهم وبين التنظيمات الإرهابية. غير أنه حتى يومنا هذا، مازالت القوى الأمنية تحقق نتائج عكسية لما ذكرناه، إذا إنها تدأب على القيام بما يؤلب السكان ضد الحكومة. فعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة إنشاء منطقة أمنية على طول الحدود مع قطاع غزة في منطقة رفح، وقد تطلب ذلك هدم المئات من المنازل والأنفاق وإخلاء السكان المحليين من المنطقة. هذا بالإضافة إلى إنشاء نقاط تفتيش، وإغلاق الطرقات وقطع خطوط الاتصال؛ وكلها إجراءات تؤثر سلباً على السكان المحليين. وعندما وعد زعماء القبائل بالتعاون مع القوى الأمنية وعدم مساعدة ولاية سيناء، فإنهم كانوا يتوقعون من الحكومة أن تقوم بدعم المنطقة باستثمارات أمنية كبيرة في البنية التحتية والخدمات، مما من شأنه أن يخفف من وطأة الآثار السلبية غير الضرورية التي وقعت على الناس بسبب حالة الطوارئ، ويشكل على أقل تقدير درع حماية من عمليات الجهاديين الانتقامية.
منذ منتصف عام 2013، انتشرت الهجمات الإرهابية وغيرها من مظاهر العنف في مناطق أخرى في مصر، بما في ذلك القاهرة والإسكندرية، وبدرجة أقل في غرب مصر بالقرب من الحدود الليبية. كما أعلن تنظيم الدولة/ ولاية سيناء أيضاً عن مسؤوليته عن هجمات في دلتا النيل. وعلى الرغم من أن قدرة التنظيم على شن هجمات في قلب مصر أقل منها في شمال سيناء، إلا أن هجماته صارت مؤخراً أكثر شيوعاً، وخصوصاً في القاهرة. وقد استهدفت الهجمات قوات أمنية متعددة، وممثلين حكوميين، وبنى تحتية ووسائل نقل وبنوك. وكان الهدف الذي يجمع بين هذه الهجمات هو إضعاف قدرة الحكومة على فرض القانون والنظام. وفي صيف 2016 حققت قوات الأمن المصرية نجاحات كبيرة في مواجهتها مع التنظيم، حيث قامت بسلسلة من الهجمات الدقيقة التي استهدفت العشرات من كبار قياديي التنظيم. غير أنه على الرغم من تراجع فعالية وتعقيد الهجمات المتكررة التي يشنها النظام ضد الأهداف العسكرية والشرطة المصرية، من السابق لأوانه تحديد ما إذا كان التنظيم على شفا الهزيمة.
أما بالنسبة للهجمات الإرهابية على الحدود الليبية، فهي أقل أهمية، ونطاقها أصغر بكثير من تلك التي تحدث سيناء. ومنذ منتصف عام 2015، قلت وتيرة حدوثها، خصوصاً وأن الجماعات الإرهابية أخذت تركز جهودها داخل ليبيا نفسها، حيث تتنافس حكومتان على فرض السيطرة. فمنذ عام 2014 شهدت البلد صراعاً مسلحاً بين الإسلاميين والميليشيات القومية، بما في ذلك جماعات مرتبطة بتنظيم الدولة. والمشكلة أن ليبيا هي بمثابة عمق بنيوي ولوجستي للجماعات المصرية، وذلك بفضل حالة الفراغ السياسي وكميات الأسلحة الهائلة التي تمت سرقتها من مخازن الأسلحة الضخمة التي كان القذافي يمتلكها.
ويتم الآن تهريب هذه الأسلحة عبر الحدود مع مصر والاتجار بها في سيناء وقطاع غزة. وقد أسهم في ذلك طول الحدود بين البلدين وصعوبة إحكام السيطرة عليها، وذلك على الرغم من أن القوات الجوية المصرية نفذت بمساعدة القوات الجوية الإماراتية غارات على مواقع لميليشيات إسلامية وأخرى لتنظيم الدولة داخل الأراضي الليبية مرتين خلال عامي 2014 و2015.
تولد الهجمات الإرهابية شعوراً بعدم الأمان ينعكس سلباً على هيبة الحكومة موقفها. وتعيش الحكومة المصرية هاجس القلق من تطور الهجمات وامتدادها إلى مناطق أخرى، وتركيزها على أهداف مهمة مثل قناة السويس، والسفن المارة في القناة مما قد يؤدي إلى انخفاض ثقة المجتمع الدولي في قدرة مصر على حماية ممراتها الملاحية.
ويرى النظام في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين والهجمات الإرهابية في سيناء وأماكن أخرى في مصر، بالإضافة إلى المنظمات الإرهابية في قطاع غزة والميليشيات الإٍسلامية في ليبيا كتلة متداخلة ومترابطة من التحديات. وعلى وجه الخصوص، يتهم النظام جماعة الإخوان المسلمين بتشجيع العنف في سيناء. وقد ساعدت الروابط التي قامت بين الجماعات المسلحة في شمال سيناء وليبيا من جهة وتنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى، النظام المصري على تصوير الصراع في سيناء والإجراءات التي اتخذها ضد جماعة الإخوان المسلمين على أنها جزء من حرب دولية على الإرهاب الجهادي الإسلامي وعلى اتهام الإخوان المسلمين بكل ما تمر به البلاد من معاناة.
هذه السياسة جعلت النظام يركز على استخدام القوة العسكرية وإجراءات عقابية لوقف موجات الهجمات. وفي الوقت الراهن، فإن معظم الشارع المصري يؤيد هذا النهج، نظراً لما يحدث من كوارث في كل من سوريا وليبيا، وبالأخص بسبب نمو وانتشار تنظيم الدولة المثير للقلق في سيناء. غير أن الاعتماد على الأدوات العسكرية حصراً دون أن تقرن بخطوات سياسية في مواجهة المعارضة، يجعل من الصعوبة بمكان استعادة الاستقرار والنظام. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المقاربة قد لاقت انتقادات من الولايات المتحدة وأوروبا بسبب الاستخدام المفرط للقوة، بما في ذلك عمليات القتل خارج نطاق القانون وتعذيب السجناء، وفرض القيود على حرية التعبير، وحرية الصحافة وحرية التجمع والتنظيم.
ثالثاً: المحنة الاقتصادية:
على مدى عقود، عانى الاقتصاد المصري من ضعف متأصل، غزّته عناصر متعددة من أهمها: النمو السكاني السريع، والكثافة السكانية العالية، وخصوصاً في وادي الدلتا ووادي النيل، مما أدى إلى حد أدنى من التوسع في الأراضي الزراعية وفي الإنتاج، وتدخل الحكومة الكثيف في عمليات التصنيع والتسويق، وتلكؤ الحكومة عن خفض الإنفاق، والقيام بإصلاحات بشكل عام خوفاً من إثارة الاستياء على المستوى المحلي؛ بالإضافة إلى وجود عجز شديد في الميزانية ترافق مع ارتفاع الدين الداخلي. كل هذا أدى إلى انخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم، ونضوب احتياطات العملات الأجنبية، وارتفاع معدلات البطالة نسبياً بين الشباب.
ومنذ سقوط نظام مبارك، عانى الاقتصاد المصري من ضربات عدة أهمها: الصراع السياسي الداخلي، وموجة الإرهاب التي أثرت على السياحة والخطط الاقتصادية؛ وقلة خبرة الحكومات الجديدة، بالإضافة إلى إحجام الشركات الأجنبية عن الاستثمار في مصر نظراً لعدم وضوح الأوضاع فيها وترنح الأمن الداخلي. كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2011 و2014 نحو 2.1 %، أي أقل من النمو السكاني، الذي كان بنسبة 2.2% في الفترة نفسها.
وهذا يعني أنه بسبب النمو السكاني المطرد، انخفض الإنتاج المحلي الإجمالي للفرد الواحد وارتفع معدل البطالة. واستمرت ميزانية الحكومة في تحمل عجز سنوي كبير جداً، خصوصاً مع التخوف من أن أي محاول لسد العجز في الموازنة قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية أسوأ. يذكر أن أكثر من 75% من الميزانية يصرف على الرواتب والإعانات وسدادفوائد الدين العام.
وللمرة الأولى منذ سنوات عدة، شهد عام 2015 نمواً ملفتاً، حيث ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل سنوي قدره 4.2%. وكان هذا النمو نتيجة ضخ كميات كبيرة من المبالغ النقدية والاستثمارات من دول الخليج، التي تريد الاستقرار لمصر وتعارض قيام نظام بقيادة الإخوان المسلمين فيها. فبعد أيام قليلة من الإطاحة بمحمد مرسي عام 2013، وعدت كل من المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات بمساعدات اقتصادية عاجلة لمصر بلغ مجموعها 12 مليار دولار أمريكي. واستمرت دول الخليج لاحقاً في ضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد والخزينة المصرية، وتقديم المنح النقدية والائتمانية، والاستثمار بالمليارات بالقطاع الخاص. غير أن عام 2016 شهد تصعيداً في التوتر بين مصر والمملكة العربية السعودية نتيجة التصريحات الشديدة اللهجة والإجراءات السياسية التي أضرت بالطرفين، بما في ذلك وقف ضخ النفط السعودي لمصر. غير أن التوتر بين البلدين ظل تحت السيطرة ولم يشهد تصعيداً دراماتيكياً، حيث يبذل كلا الطرفين الجهود لمنع المزيد من التدهور في العلاقات بينهما.
دعمت المساعدات الخليجية نظام السيسي، وأعطته فرصة لالتقاط الأنفاس، والجرأة على اتخاذ بعض الخطوات التي لا تحظى بالشعبية داخلياً، من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي، مثل خفض الدعم على الوقود. كما أنها زادت من احتياط مصر من العملات الأجنبية، وسمحت لها باستيراد السلع الأساسية. غير أنه على الرغم من أهمية هذه المساعدات، ظلت المشاكل الأساسية دون حل، كما ظلت بعض المؤشرات الاقتصادية السلبية على وضعها ولم تشهد تحسناً.
ومن ناحية أخرى، شهد شهر آب/ أغسطس 2015 افتتاح قناة السويس الجديدة، التي تعمل بموازاة القناة الأصلية، مما يسمح بمرور السفن بالاتجاهين. وقد وضع المصريون آمالاً كبيرة على المشروع الذي أنجزه نظام السيسي بوقت قياسي؛ حيث أن الحكومة كانت تأمل أي يؤدي وجود قناة إضافية إلى مضاعفة الدخل من رسوم الشحن ومرور السفن، وخلق مئات الآلاف من فرص العمل الجديدة، والمساعدة في تطوير المراكز الحضرية على طول ضفتي القناة. وقد تم بالفعل استعجال إنجاز بعض هذه المشاريع، لكن لا يعرف حتى الآن إذا ما كان المشروع قادراً على تحقيق الآمال العريضة التي وضعت عليه؛ وما إذا كانت مضاعفة حركة مرور السفن ومضاعفة العائدات منها سيتحقق بالفعل.
رابعاً: استقرار نظام السيسي:
حظي ظهور السيسي على المسرح السياسي، والإطاحة السريعة بالإخوان المسلمين بتأييد واسع في الأوساط الشعبية المصرية؛ فقد كان للاستياء الشعبي من نظام الإخوان الفاشل، وغياب الأمن والنظام، صدى سلبي واسع وكبير جعل السيسي يلقى ترحيباً عريضاً باعتباره المخلص الذي جاء ليخرج مصر من مستنقع المشاكل الذي غرقت فيه. وقد تمت الإطاحة بنظام الإخوان من خلال تحالف فضفاض بين الجيش والجماعات الليبرالية وقطاع الأعمال ورموز نظام مبارك. لم يكن بين هؤلاء الكثير من الأهداف المشتركة، سوى إزاحة الإخوان من السلطة، وعودة النظام والقانون، وتحسين الاقتصاد؛ ولم يكن بينهم اتفاق حول كيفية تحقيق هذه الأهداف.
وقد أوضحت المواجهة مع الإخوان المسلمين والحرب على الإرهاب للنظام ومؤيديه أنه سيكون من الضروري استخدام القوة، بما في ذلك القيام بحملات اعتقالات واسعة، وسلسلة من العمليات العسكرية في سيناء، وقمع النشاط السياسي المعادي، وغيرها من تدابير حالة الطوارئ. وقد عنى ذلك العودة إلى فترة القمع السياسي التي تميز بها نظام مبارك، وما يتطلبه ذلك من أن يعود الجيش ليكون القوة السياسية الرئيسية في البلاد، التي ستقف بقوة خلف الحكومة المدنية على الأقل لحين استعادة النظام والاستقرار. غير أن استمرار انعدام النظام، وما رافقه من موجة إرهاب ضربت البلاد، بالإضافة إلى الاقتصاد المترنح، أضرت بموقف السيسي وقدرته على كسب تأييد الآخرين إلى جانبه، بما فيهم شركاؤه في النظام وحتى داخل الجيش. كما انتقد الليبراليون أيضاً، بمن فيهم من أيدوا السيسي سابقاً، القمع السياسي الذي طالهم في بعض الأحيان، على اعتباره من وجهة نظرهم إلى حد كبير غير ضروري.
هل يواجه نظام السيسي خطر الانهيار؟
بعض العوامل تتضافر لتثبت النظام وتعينه على البقاء على قيد الحياة:
أولها: أنه جاء إلى السلطة من خلال دعم شعبي عام. وعلى الرغم من أنه فقد بعضاً من هذا الدعم، فإنه ما زال هناك أمل في مصر بأن السيسي سوف ينجح في تحسين الأوضاع. بالإضافة إلى ذلك، ليس هناك في الوقت الحالي بديل محتمل قابل للحياة على الساحة السياسية.
ثانيها: أن الجيش هو القوة السياسية الأقوى في البلاد، ورغم كل الانتقادات الموجهة للسيسي، ما زال يدعمه، على الأقل في الوقت الحالي. وفي كل الأحوال، فإن فشل الإخوان المسلمين وحّد معظم المصريين في مواجهتهم، وقلة من المصريين فقط ترغب بعودة نظام إسلامي إلى السلطة.
ثالثها: أنه على الرغم من الاقتصاد المتعثر، لا يزال هناك أمل بحصول تحسن. فالمساعدات الاقتصادية والسياسية المقدمة لمصر من قبل دول الخليج كبيرة، وفي بعض الأحيان، يركب المصريون موجة التعلق بالآمال الكبيرة، كما حدث في مشروع قناة السويس، وعند اكتشاف احتياطي للغاز الطبيعي على الساحل المصري. ورابعها، أن الرعب الذي ما زال يجري في سوريا، وبدرجة أقل في العراق وليبيا واليمن، كفيل بردع حتى معارضي النظام عن محاولة التمرد. ولذلك، فإن الشعور العام في مصر، على الأقل بين مؤيدي النظام، أميل إلى استبعاد حصول انتفاضات أو زلازل سياسية خطيرة ووشيكة.
وفي الوقت نفسه، هناك عوامل من شأنها أن تقوض النظام. فقبل كل شيء، إذا تفاقم التأزم الاقتصادي، يمكن أن تتفاقم معه المشاكل السياسية. أحد الاحتمالات التي يمكن أن يكون لها تداعيات سلبية على الاقتصاد، خفض، أو بالتأكيد وقف، المساعدات الاقتصادية من دول الخليج؛ سواء كان ذلك لأسباب اقتصادية أو سياسية. وقد يحدث هذا الأمر إذا فشلت القاهرة والرياض في التغلب على التوتر القائم بينهما. والاحتمال الآخر أن وضعية السيسي سوف تتأثر إذا ما حصل انقسام على مستوى القيادات العليا في النظام والجيش. فعملياً، قد يحفز تصاعد وتيرة الإرهاب بشكل كبير، كبار القادة في القوى الأمنية على محاولة تغيير قيادة النظام، على اعتبار أن القيادة الحالية غير قادرة على أن تكون قدر التطلعات.
في هذه المرحلة، لا يوجد ما يشير إلى انهيار النظام؛ ويبدو أن الظروف التي تعمل لصالحه، أقوى من العوامل التي تعرضه للخطر. ولكن من بين دروس الربيع العربي في 2011-2012 الجديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار، أن التدهور الداخلي، بما في ذلك في مصر، يمكن أن يحدث بسرعة ودون مقدمات. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التوقعات الكبيرة التي لم تر النور، قد تسفر عن خيبة أمل أكبر، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى حدوث اضطرابات. وإذا حدثت مثل هذه التطورات في مصر، فالغالب أن من سيقوم بها لن يكون الجماعات الإسلامية، بما فيها الإخوان المسلمون، بل ستحدث من داخل الجيش ومن الأجيال الأصغر.
خامساً: الآثار المترتبة على “إسرائيل”
تميز عهد السيسي بكونه فترة طيبة على صعيد العلاقات المصرية الإسرائيلية، حيث حصل تقارب في مصالح الدولتين أكثر من أي وقت مضى، وتقول مصادر إسرائيلية إن العلاقات مع مصر لم تشهد فترة أفضل من هذه من قبل.
1ـ لعل نقطة الانطلاق في هذا التحسن في العلاقات الثنائية هو التعاون الأمني المتزايد. ويأتي هذا التغير الكبير بشكل أساسي بسبب الهجمات الإرهابية من سيناء وفيها، وإلى حد أقل في مناطق أخرى في مصر. وتدعم “إسرائيل” بشكل فعال الجهود المصرية لكبح الإرهابيين في سيناء والقضاء عليهم؛ حيث وافقت مبدئياً على دخول الجيش المصري إلى مناطق كانت ممنوعة عليه بموجب اتفاقية السلام بين البلدين.
2ـ كما تساعد “إسرائيل” الجيش المصري أيضاً عن طريق تقديم المعلومات الاستخباراتية عن القواعد الإرهابية؛ كما يمكن أن يكون هناك أنواع أخرى غير معلنة من التعاون العسكري بين الطرفين. وفي سياق آخر، تحركت “إسرائيل” لصالح مصر في واشنطن عندما قامت إدارة أوباما بتعليق إرسال المساعدات العسكرية لمصر بعد الإطاحة بمرسي. ويُعتقد أن قيام “إسرائيل” بمساعدة مصر على تعزيز وضعها في سيناء، والقيام بجهود لتذليل العقبات التي واجهت العلاقات المصرية الأمريكية، كان محط تقدير من قبل نظام السيسي.
3ـ في هذا السياق، هناك أهمية كبيرة لموقف مصر من حركة حماس، حيث يرى نظام السيسي أن حماس، ولا سيما جناحها العسكري، منظمة إرهابية وعدو، وهم يشكلون صلة الوصل والتعاون بين جماعة الإخوان المسلمين والجماعات القبلية والجهادية المسلحة في شمالي سيناء. وقد انعكس هذا الموقف من الحركة في قرار المحكمة المصرية في شباط/ فبراير 2015 إعلان حركة حماس منظمة إرهابية. وفي حين أن القرار تغير لاحقاً عندما تحسنت العلاقات المصرية مع حماس (بالتزامن مع تدهور العلاقات بين حماس وإيران)، بقي موقف النظام المصري المبدئي تجاه الحركة كما هو. وبناء على هذا الموقف، ومن أجل عزل حماس وضرب قدراتها الإرهابية، قامت مصر بتدمير الأنفاق التي تستخدم لتهريب البضائع بين مصر وغزة، والتي تستخدم أيضاً لتهريب السلاح لداخل القطاع. كما قامت مصر بإنشاء منطقة أمنية على الحدود، وتشددت في موضوع العبور بين سيناء وغزة، بحيث تقوم بفتح معبر رفح ثلاثة أيام في الشهر فقط لمرور المساعدات الإنسانية.
4ـ كما يتجلى تحسن العلاقات بين مصر و”إسرائيل” في موقف السيسي من معاهدة السلام مع “إسرائيل”. فعلى غرار نظام مبارك، يرى نظام السيسي أن السلام مع “إسرائيل” هو كنز استراتيجي؛ غير أن السيسي يتبنى موقفاً أكثر إيجابية تجاه التطبيع، ويشدد على فوائده الكبيرة لمصر، ليس فقط على الصعيد الأمني، ولكن أيضاً في المجالين السياسي والاقتصادي.
وبالتالي، أعاد السيسي السفير المصري لـ “إسرائيل” مع بداية عام 2016، وفي تموز/ يوليو من العام نفسه، قام وزير الخارجية المصري بزيارة “إسرائيل” وهي الزيارة الأولى من نوعها خلال تسع سنوات. وبعد عودته إلى مصر، رفض وزير الخارجية المصري في لقاء له مع طلاب في المدارس الثانوية وصف ما تقوم به “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين بأنه أعمال إرهابية. ومن ناحية أخرى، أكد وزير النفط المصري أن استيراد الغاز من “إسرائيل” مقبول وقانوني. ولا يزال النظام المصري يبدي اهتماماً بتعزيز الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، وهو موقف ينبع من رغبة حقيقية في التوصل إلى تسوية، بدل الاتجاه إلى الضغط على “إسرائيل”.
5ـ بالإضافة إلى ذلك، فإن لتحسن العلاقات بين مصر و”إسرائيل” أهمية إقليمية. فلطالما كانت مصر مهتمة بالتطبيع بين “إسرائيل” والدولة العربية الأخرى، حتى لا تبقى هي الدولة العربية الوحيدة التي تقيم علاقات سلمية مع “إسرائيل” (انضم الأردن إليها عام 1994).
وفي الواقع هناك عملية تبادل هادئة للرسائل بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية، وهناك علاقات أوثق بين “إسرائيل” ودول الخليج الأخرى؛ وهو ما يراه نظام السيسي بالتأكيد على أنه أمر إيجابي. وبالنسبة لمصر، فإن هذا الأمر مهم، ليس فقط بسبب علاقتها بـ “إسرائيل” بل أيضاً لأنه يعزز وضع مجموعة الدول المعتدلة في الشرق الأوسط؛ وخصوصاً مع الصدمات الإقليمية المتتالية، وظهور منظمات إرهابية إسلامية، وفي طليعتها تنظيم الدولة، والتحدي الذي ما تزال إيران تفرضه على محور الاعتدال.
غير أن رغبة النظام المصري في تعزيز التعاون مع “إسرائيل” لا تعكس بالضرورة موقف جزء كبير من المصريين. فلا تزال هناك عناصر مثل الحركة الإسلامية، والنقابات العمالية، وجماعات اليساريين والناصريين، وبعض المجموعات الفكرية والطلابية تظهر العداء لـ “إسرائيل”.
وقد يكون من الأسباب الرئيسية لهذا الموقف صعوبة تقبل “إسرائيل” كدولة شرعية بعد توقيع معاهدة السلام، والإحساس بالإحباط من قوة “إسرائيل” العسكرية والتكنولوجية، والغضب تجاه ما يعدّ تهرباً إسرائيلياً من المسؤولية تجاه إيجاد حل للمشكلة الفلسطينية. وهذا العداء بالتحديد ما يؤكد على أهمية نظام السيسي، خصوصاً عندما يشدد على أهمية العلاقات السلمية بين مصر و”إسرائيل”. وإذا استمر النظام المصري في تسليط الضوء على هذه المزايا والتشديد على أهميتها، وإذا ما تصرفت “إسرائيل” بطريقة تثبت كلامه عملياً، فإن ذلك قد أن يؤدي إلى تغير تدريجي في موقف المصريين المعادي لها (1).
——————————
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.